منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

...................................................

__________________

عن الحكم بحدوث المتيقّن ، ولا يمكنه أن يلحظه مقيّدا ومجردا ، فليس مراده من عدم تعدّد فرد اليقين والشك عدم تعدّده في الخارج ، فإنّه مما يكذّبه الوجدان خصوصا إن لوحظ ذلك بالنسبة إلى شخصين فكان الشك في الحدوث حاصلا عند غير من حصل عنده الشك في البقاء ، بل مراده عدم التعدّد في مقام الحكم والتعبّد وإن الحاكم إما أن يلحظ الشك مجردا أو مقيّدا ، فقوله ( قده ) : « والشك ليس له هنا فردان » يقصد به ليس له في مقام الحكم ، لا في الواقع كما حملت عليه عبارته ووجّهت ببعض التوجيهات المردودة ، فراجع تقريرات الكاظمي.

وما أفاده الشيخ (ره) بهذا التقريب قابل للمناقشة ، وذلك لما تقدّم من أنّ وحدة متعلّق اليقين والشك تتحقّق بتقيّد متعلّق الشك بكل ما هو مقوّم لمتعلّق اليقين وهو ما كان له إضافة إليه وارتباط به فيصدق عند ذلك حقيقة الشك في نفس ما تعلّق به اليقين.

ومن الواضح أنّ الزمان ليس من مقومات متعلّق اليقين إذ لا إضافة له بالنسبة إليه بل هو ظرف لتحقّقه ، فاليقين يتعلّق بذات العدالة ، فوحدة متعلّق الشك مع متعلّق اليقين لا. تقتضي أكثر من تعلّق الشك بذات العدالة مع قطع النّظر عن الزمان السابق أو اللاحق. فلا مقتضى للحاظه مجردا أو مقيّدا بالزمان حتى يتأتّى المحذور السابق ، فإذا تعلّق الشك بالعدالة حدوثا أو بقاء ، يصدق حقيقة قول القائل : « إذا تيقّنت بشيء وشككت فيه ».

وعليه فإطلاق الدليل يمكن أن يكون شاملا لكلا الموردين.

وتحقيق الحال في أصل المسألة أن يقال : إنّ الملحوظ في قاعدة اليقين ـ بحسب اصطلاح الاعلام ـ وإن كان هو الحدوث لكن من المعلوم أنّ ذلك بلحاظ ترتيب الأثر بقاء وفي حال الشك ولذا لو لم يكن للأمر المتيقّن الحدوث أثر شرعي بقاء فلا جدوى في التعبّد بالحدوث بل يكون لغوا.

وإذا فرض أنّ محل البحث هو مورد ترتّب الأثر بقاء ، كما لو تحقّق الطلاق في حضور من يقطع بعدالته ثم بعدم مدة شك في عدالته حال الطلاق ، فإنّ ثبوت العدالة في حال الطلاق له أثر بقاء وفي حال الشك وهو زوال الزوجية فعلا بخلاف ما لو لم يكن عادلا فإنّ أثره بقاء الزوجية بالفعل ، وهكذا لو تيقّن بأداء الصلاة الصحيحة وترتّب عليه جواز الاكتفاء بها ، ثم شك بعد ذلك في صحة صلاته ، فإنّ لصحة الصلاة في ظرفها أثرا بالفعل وهو جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ـ أمكن أن يقال : بأنّ الأثر الشرعي يشك في بقائه فعلا بعد اليقين بحدوثه وشكّه في البقاء وإن كان مصحوبا بالشك في الحدوث لكون المفروض سراية الشك إلى الحدوث ـ إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من صدق الشك في البقاء.

نعم موضوع الأثر قد لا يكون له بقاء كمثال الصلاة أو يكون له ولكن أثره الشرعي بالمشكوك أثر الحدوث لا أثر البقاء كمثال الطلاق.

إلاّ أنّ هذا ليس بمهم بعد أن كان الأثر مشكوك البقاء في جميع الفروض.

٣٨١

.....................................................

__________________

وإذا كان الأمر بالنسبة إلى الأثر كذلك أمكن أن يقال بتطبيق الأخبار المتضمنة للتعبّد بالبقاء على الأثر نفسه ، فهو متيقّن الحدوث سابقا ، ويشك في بقائه فعلا ، فيكون مشمولا للتعبّد بالبقاء مع غضّ النّظر عن حدوثه.

وبعبارة أخرى : إنّ الاخبار تتضمّن التعبّد بالمشكوك في ظرف الشك إذا كان مسبوقا باليقين ، وهي بذلك كما تنطبق على موارد الاستصحاب تنطبق على موارد قاعدة اليقين بالبيان الّذي عرفته فإنّ الأثر متعلّق للشك بالفعل بعد أن كان متعلّقا لليقين فتتكفّل الأخبار التعبّد به.

نعم لا تشمل الموارد التي لا يكون الأثر مقارنا لحدوث الموضوع بل يكون متأخّرا عنه وجودا كما لو فرض أنّ عدالة زيد يوم الجمعة موضوع لوجوب التصدّق يوم الأربعاء ، فإنّه إذا شك يوم الأربعاء في عدالة زيد يوم الجمعة بعد أن كان متيقّنا بها ، فليس لديه شك في بقاء وجوب التصدّق بل في حدوثه ولا يكون التعبّد به تعبّدا بالبقاء.

ولكن مثل هذا المورد نادر الوقوع فلا يضرّ الالتزام بخروجه.

هذا مع أنّه بناء على جريان الاستصحاب في الحكم التطبيقي ، يمكن أن يلتزم بنظيره هنا فإنّه باليقين سابقا بالعدالة يوم الجمعة حصل لديه يقين بالوجوب التعليقي للتصدّق ، فيشك يوم الأربعاء في العدالة ، يحصل لديه الشك في بقاء الوجوب التعليقي فيصحّ التعبّد به ، كما يتعبّد به في موارد الاستصحاب ، ويصل إلى مرحلة الفعلية عند حصول المعلّق عليه.

وجملة القول : إنّه لا إشكال في شمول الأخبار لموارد قاعدة اليقين مع الاستصحاب لا من ناحية الموضوع وهو الشك ولا من ناحية الحكم وهو التعبّد فيها يمكن أن يكون بالبقاء من دون تعرّض لحال الحدوث فلا يلزم اجتماع لحاظين ونحو ذلك.

هذا ، ولا يخفى عليك أنّ المعتبر في موارد قاعدة اليقين وهو اليقين السابق والشك اللاحق بحيث لا يجتمع الوصفان في زمان واحد.

وعلى هذا فقد يشكل شمول الأخبار لتلك الموارد بان ظاهر الأخبار ثبوت اليقين الفعلي كسائر الموضوعات المأخوذة في الأحكام فإنّ دليلها ظاهر في موضوعية الوجود الفعلي للحكم ، فقوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشك » ظاهر في أخذ فعليّة اليقين كالشك في حرمة النقض وهذا يختص بموارد الاستصحاب لوجود اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي في البقاء.

والجواب عن هذا الإشكال : إنّ ظاهر الاخبار أنّ المعتبر هو اليقين السابق بالشيء والشك اللاحق به سواء كان الشك متعلّقا بالبقاء خاصّة أو ساريا إلى الحدوث ، فيعتبر أن يسبق اليقين الشك زمانا فلا عبرة باليقين المتأخّر عن الشك أو المقارن له حتى في موارد الاستصحاب ، ومقتضى ذلك اختصاص

٣٨٢

.....................................................

__________________

الاستصحاب بموارد يكون اليقين بالحدوث فيها سابقا على الشك في البقاء ، فتكون الأخبار دالة على قاعدة عامة وهي إلغاء الشك المتأخّر عن اليقين وهذه القاعدة ليست بقاعدة اليقين بالمعنى المصطلح عليه الرابع إلى التعبّد بالحدوث لما عرفت من كون التعبّد بالبقاء. وليست بالاستصحاب بالمعنى المتداول لدى الأصحاب ، بل هي شاملة لبعض موارد قاعدة اليقين والاستصحاب بمعناهما الاصطلاحي وموارد الأخبار لا تأبى من الحمل على هذا المعنى لتحقّق اليقين السابق والشك اللاحق فيها. والقرينة على ما ادّعيناه من الظهور أمران :

أحدهما : التعبير في بعض نصوص الباب بقوله : « لأنك كنت على يقين » أو : « من كان على يقين فشك » فإنّ هذا التعبير صريح في كون الموضوع هو اليقين السابق لا اليقين الفعلي.

والآخر : إسناد النقض إلى الشك ، فإنّه ظاهر في فرض كون الشك مما يحتمل فيه أن يكون ناقضا لليقين حتى يصحّ النهي عنه. ومن الواضح أنّ هذا إنّما يتأتّى في الشك اللاحق لليقين لأنّه رافع لاستمرار اليقين وقاصم لوحدته الاستمرارية. وأما الشك المقارن لليقين فلا موهم. لكونه ناقضا كيف؟

والمفروض اجتماعهما في آن واحد ، وبعبارة أخرى : إنّ اجتماع اليقين والشك لا يمكن تعقله إلاّ بتقيّد متعلّق اليقين بالزمان السابق فيتيقّن بالعدالة السابقة بما هي كذلك ويشك في العدالة الفعلية ، ولا يخفى أنّ الشك المزبور لا يتوهّم كونه ناقضا لليقين المزبور لاختلاف المتعلّقين ، وبواسطة ذلك ترفع اليد عن ظهور لفظ « اليقين » أو قوله : « فإنّه على يقين من وضوئه » في كون المدار على اليقين الفعلي قياسا على سائر الموضوعات.

والخلاصة : إنّ الأخبار ظاهرة في تقوّم التعبّد بسبق اليقين ولحوق الشك ولا صارف لظهورها في ذلك.

ونتخلص بذلك عن اللجوء إلى دعوى إرادة المتيقّن من لفظ اليقين التي يشكل تصويرها وإثباتها لأنّها متفرّعة على اعتبار اليقين الفعلي الّذي لا يصحّ إسناد النقض عليه ـ فراجع ما تقدّم في صحيحة زرارة الأولى تعرف ـ.

ومن هنا يظهر اندفاع إشكال المعارضة بين القاعدة والاستصحاب الّذي بنى عليه الشيخ ، فإنّه متفرّع عن اعتبار اليقين الفعلي في باب الاستصحاب فيتحقّق موضوعه بالفعل لليقين بالفعل بعدم عدالته في الزمان السابق على اليقين به مع تحقّق موضوع القاعدة كما هو المفروض فيتعارضان.

أما على ما اخترناه من اعتبار اليقين السابق في الاستصحاب والشك الّذي يتوهّم نقضه به فلا موضوع له لأنّ انتقاض اليقين السابق بالشك يتقوّم باتّصال زمان اليقين بزمان الشك ، والمفروض عدمه لتخلّل اليقين بالعدالة بينهما ، فيكون ناقضا لليقين السابق بعدم العدالة ، فلا يكون الشك الفعلي ناقضا لليقين الأسبق بعدم العدالة بل يكون ناقضا لليقين بالعدالة فيكون المورد من موارد قاعدة اليقين فقط.

نعم الشك الفعلي مجتمع مع اليقين الفعلي بعدم عدالة زيد سابقا ، ولكن عرفت أنّه ليس موضوع

٣٨٣

.................................................

__________________

الاستصحاب.

ويتّضح من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا إشكال على ما قرّرناه من دلالة الأخبار على القاعدتين بالشكل الّذي عرفته لا من ناحية الثبوت ولا من ناحية الإثبات.

وهذا الوجه لم يعهد من أحد الالتزام به بل التنبه إليه ، فتدبّره فإنّه بالتدبّر حقيق.

ثم إنّه قد يشكل ما قرّرناه بأنّه يقتضي سدّ باب الاستصحاب في كثير من موارد الشبهات الحكمية بالنسبة إلى المجتهد ، بيان ذلك : إنّ سيرة المجتهدين قائمة على إجراء الاستصحاب عند الشك في سعة الحكم الكلّي الإلهي وضيقه سواء تعلّق الحكم به أم بمقلّديه كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتعيّن إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو شك في استمرار خيار الغبن أو فوريّته ، ونحو ذلك ، من غير فرق بين أن يكون موضوع الحكم فعليّا كما لو كان لديه ماء متغيّر أو لم يكن فعليّا بل فرضيا ، فإنّه يجري الاستصحاب ويفتي على طبقه بالفعل ، ويعمل به مقلدوه ، ولو لم يحصل لديهم يقين وشك في ظرفه.

وقد وجّه ذلك بأن يقينه وشكّه بمنزلة يقينهم وشكّهم وهذا التنزيل تقتضيه أدلّة الإفتاء.

وقد تعرّضنا لبيان الإشكال وحلّه ـ بصورة مفصّلة ـ في أوّل مبحث القطع.

ولا يخفى أنّ هذا يبتني على فرض موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي فإنّ المجتهد يحصل لديه يقين بالفعل بنجاسة الماء عند تغيّره وشك في بقائها على تقدير زوال التغيّر ، فهو يجري الاستصحاب بلحاظ حالة التغيّر وزوالها.

وأما بناء على اعتبار اليقين السابق والشك اللاحق ، فيشكل الأمر في مثل هذه الاستصحابات ، لعدم الترتّب الزماني بين اليقين والشك بالنسبة إلى المجتهد ، بل اليقين والشك يحصلان دفعة بل قد يتقدّم الشك على اليقين ، وأما المقلّد فالمفروض أنّه غافل عن هذه الخصوصيات. فكيف يفتي المجتهد له بل لنفسه بنجاسة الماء المتغيّر إذا زال عنه التغيّر استنادا إلى الاستصحاب؟ مع عدم تحقّق موضوعه لا عنده ولا عند مقلّده.

وهذا الإشكال لا محيص عنه ولكنه لا يختص بالمبنى الّذي قرّبناه بل يعمّ المبنى الآخر ، فلا يصح إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم الكلّي إذا لم يتحقّق موضوعه. بالفعل حتى على الالتزام بأنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك في البقاء لوجوه :

الأول : إنّ اليقين بالحكم على تقدير حصول موضوعه كاليقين بالخيار على تقدير تحقّق البيع الغبني ، مرجعه في الحقيقة إلى اليقين الفعلي بالملازمة بين الموضوع والحكم ، وأما الحكم فليس بمتيقّن بالفعل لا بوجوده المطلق ولا بوجوده الخاصّ المقيّد بالموضوع ، إذ قد لا يحصل الموضوع بل قد يكون ممتنعا ـ كما في مثل : لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا ـ فكيف يكون الحكم متيقّنا؟ والملازمة ليست مجرى الاستصحاب لأنّهما غير مشكوكة البقاء وإنّما الشك في سعة اللازم ـ وهو الحكم ـ وضيقه ، مع أنّها ليست

٣٨٤

الوجه الأول : ما أفاده المحقق النائيني ـ كما في تقريرات الكاظمي ـ من :

ان في الاستصحاب والقاعدة جهات أربعة : جهة اليقين. وجهة المتيقن. وجهة النقض. وجهة الحكم. ولا يمكن الجمع بين القاعدتين في اللحاظ من جميع

__________________

بأمر شرعي.

الثاني : إنّ الحكم الاستصحابي كسائر الأحكام له مقام جعل ومقام فعلية. والأول : متحقّق بإنشائه ، والثاني : يتحقّق بفعلية موضوعه وهو اليقين والشك ، ومقتضى ذلك أنّه لو حصل اليقين والشك لزم أن يكون الحكم الاستصحابي فعليا ، وبعبارة أخرى : إنّ الاستصحاب في مقام تطبيقه يلزم أن يكون فعليا.

وعليه نقول : إنّ مؤدّى الاستصحاب هو استمرار الحكم الثابت ، ومن الواضح أنّ فعلية الاستمرار فرع فعلية الحدوث ، ففي ظرف تطبيق المجتهد الاستصحاب لتحقّق موضوعه لديه لا يكون الحكم فعليا إذ لا معنى للحكم الفعلي بالاستمرار فلا معنى لفعلية الاستصحاب ، وفي الظرف القابل للاستمرار قد يكون المجتهد غافلا بل قد يكون ميتا فلا يقين ولا شك حينئذ. فلا يصحّ جريان الاستصحاب.

الثالث : إنّ الاستصحاب يعتبر في تطبيقه الاستمراري استمرار موضوعه أعني : اليقين والشك ـ فلا يكفي حدوثهما في إجراء الاستصحاب إلى الأبد ، وعليه يقال : إنّ اليقين والشك الحاصلين للمجتهد عند تصدّيه للاستنباط إما أن لا يستمر إلى ظرف فعلية الحكم أو يكونا مستمرين. وعلى كلا التقديرين لا جدوى في الاستصحاب الفعلي.

أما على الأول : فواضح لأنّ انتقاض اليقين والشك في ظرف العمل يستلزم انتفاء الحكم الاستصحابي حينئذ ويكون الحكم الاستصحابي السابق لغوا محضا سواء كان دليل الاستصحاب يتصدّى لجعل المنجزية والمعذورية أو يتصدّى لجعل الحكم المماثل ، إذ لا معنى للتنجيز السابق للحكم الّذي يرتفع في ظرف العمل ومثله الحكم المماثل السابق لأنّه بلحاظ الطريقية إلى الواقع. فيكون المورد من قبيل جعل الحكم الفعلي قبل ظرف العمل ثم رفعه في ظرف العمل. فإنّ ذلك لغو محض.

وأما على الثاني : فلا مقتضى لإجراء الاستصحاب من حين حدوث اليقين والشك بل يجري في ظرف العمل ، لعدم الفائدة في إجرائه السابق. وبعبارة مختصرة : إنّه لا أثر عملي للتنجيز السابق على ظرف العمل ، بل المدار على ظرفه فأما أن يكون موضوع الحكم الظاهري متحقّقا فهو أو غير متحقّق فيتعبّد به على الأول دون الثاني.

وبهذه الوجوه : تعرف أنّ إشكال امتناع المجتهد عن إجراء الاستصحاب في موارد عدم فعلية الموضوع لا يختصّ بالمبنى الّذي قرّبناه بل يعم المبنى المشهور المعروف ، فالتفت.

وعلى هذا فلا نرى وجها صالحا لرفع اليد عن ظهور النصوص فيما عرفت وهو سبحانه وليّ التسديد في القول والعمل.

٣٨٥

الجهات.

امّا من جهة اليقين ، فلأن اليقين في باب الاستصحاب ملحوظ بما هو طريق وكاشف عن المتيقن ، وفي القاعدة ملحوظ من حيث نفسه لبطلان كاشفيته بعد تبدله بالشك.

واما من جهة المتيقن ، فلان المتيقن في الاستصحاب لا بد وان يكون معرى عن الزمان غير مقيد به ، وفي القاعدة لا بد وان يكون مقيدا به.

وامّا من جهة النقض ، فلأن نقض اليقين في الاستصحاب باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن ، وفي القاعدة باعتبار نفس اليقين.

وامّا من جهة الحكم ، فلأن الحكم المجعول في القاعدة انما هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين ، وفي الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك.

فالقاعدة تباين الاستصحاب من كل جهة من الجهات الأربعة ، فلا يمكن ان تعمهما أخبار الباب (١).

ولكن ما ذكره قدس‌سره غير تام بشقوقه الأربعة :

امّا الشق الأول : فلأن لحاظ اليقين في القاعدة بما هو صفة لا بما هو طريق بخلافه في الاستصحاب ، إذا كان لأجل عدم اليقين الفعلي في القاعدة حال التعبد ، فلا كاشفية له ووجود اليقين الفعلي في الاستصحاب فيرد عليه :

أو لا : ان الملحوظ في القاعدة هو اليقين الّذي كان سابقا ، وهو كما كان يشتمل على جهة الصفتية كذلك كان مشتملا على جهة الطريقية والكاشفية ، فيمكن حينئذ لحاظه بهذه الجهة ـ أعني : جهة الطريقية ـ ، كما ادعى لحاظه بجهة

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٥٨٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٨٦

الصفتية.

وثانيا : ان مقام الجعل والإنشاء لا يرتبط بمقام فعلية المجعول ، فالجاعل في مقام الجعل انما يلاحظ مفهوم اليقين لا واقعه ووجوده ـ إذ قد لا يكون هناك يقين أصلا حال الجعل ـ ، وهو ـ أعني : مفهوم اليقين ـ يشتمل على الخصوصيّتين خصوصية الصفتية وخصوصية الطريقية ، فيمكن لحاظه حينئذ بخصوصية الطريقية.

وفي مقام الخارج والمجعول ، وان كانت الطريقة غير ثابتة لعدم اليقين الفعلي ، إلاّ انه أجنبي عن مقام الجعل ولحاظ الجاعل ، وإلاّ فلا يمكن أخذه بما هو صفة أيضا لعدم ثبوت الصفتية لأجل عدم اليقين. فما ذكره قدس‌سره خلط بين مقام الجعل ومقام المجعول.

وامّا الشق الثاني : فلان أخذ الزمان في المتيقن في القاعدة وعدم أخذه وإلغائه في الاستصحاب.

ان كان لأجل تقوم الشك في البقاء الّذي هو ملاك الاستصحاب بإلغاء الزمان ، والشك في الحدوث الّذي هو ملاك القاعدة بملاحظته. فذلك يمكن استفادته من إطلاق الشك ، فيراد الأعم من الشك في البقاء والشك في الحدوث ، بلا احتياج للحاظ الزمان وعدمه ، فلا حاجة إلى أخذ هذا القيد.

وان كان لأجل توقف صدق النقض في الاستصحاب على إلغاء خصوصية الزمان ، لأنه مع لحاظها يكون المشكوك مباينا للمتيقن ، فلا يصدق النقض ، لأنه مبني على تحقق الاتحاد بينهما. فهو ممنوع كما ستعرفه قريبا ـ عند بيان ما أفاده المحقق الخراسانيّ ـ ، من عدم تأثير اعتبار الزمان في صدق النقض ، وانه لا يحتاج فيه إلى إلغاء الزمان. فانتظر.

وامّا الشق الثالث : فلأنه ..

ان كان المراد من كون النقض في باب الاستصحاب مستندا إلى اليقين

٣٨٧

بلحاظ الجري العملي على طبق المتيقن ، ان النقض حقيقة مستند إلى المتيقن ، واليقين قد لوحظ مرآة له.

فهذا خلاف ما التزم به قدس‌سره من كون النقض في هذا الباب مسندا إلى نفس اليقين دون المتيقن.

وان كان المراد من اسناد النقض إلى اليقين في باب الاستصحاب لا محصل له ولا معنى إلاّ بلحاظ الأثر العملي والجري العملي على طبقه ، من جهة انه لا معنى لجعل الشارع لليقين تكوينيا ، وانما هو جعل تعبدي ، والجعل التعبدي انما يكون بلحاظ الجري العملي على طبق المجعول ، كما هو شأن جميع المجعولات والاعتبارات الشرعية ، فلو لم يكن للجعل أثر عملي فلا معنى له ولا محصل.

فهذا الأمر مما تشترك فيه القاعدة والاستصحاب ، لأن الملاك في اعتبار الجري العملي في جعل اليقين في باب الاستصحاب ، متحقق بالنسبة إلى جعل اليقين في القاعدة ، وهو ما تسالم عليه الكل من ان كل جعل واعتبار شرعي لا بد وان يكون بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار العملية ، وإلاّ فلا معنى له ، فلا معنى لجعل الشارع ملكية زيد للقمر أو النجوم ـ مثلا ـ.

وان كان المراد من اعتبار الجري العملي في الاستصحاب هو كون السر في توقف صدق النقض على ذلك ، باعتبار انه مع لحاظ كل من الشك واليقين مستقلا لا يكون لأحدهما ارتباط مع الآخر ، لأن الشك متعلق بالبقاء واليقين بالحدوث ، فيتوقف صدق النقض على ملاحظة ما يقتضيه السابق من الجري العملي في الآن اللاحق ، فمع الشك وعدم العمل على طبق الحالة السابقة في حاله يكون ذلك نقضا لليقين السابق ، لاقتضائه الجري العملي لا حقا ، فعدم النقض حينئذ يكون بلحاظ الجري العملي. وهذا بخلاف القاعدة ، لأن الشك تعلق بما تعلق به اليقين حدوثا ، فلا يحتاج في صدق النقض إلى اعتبار الجري

٣٨٨

العملي الّذي هو مقتضى اليقين السابق.

فيرد عليه : انه قد حققنا في محله ان صدق النقض لا يحتاج إلى أكثر من نحو ارتباط بين متعلق الشك واليقين ، وإلاّ فاليقين السابق لا يقتضي الجري العملي الا في حال تحققه وهو حال الحدوث. امّا في حال الشك ، فهو لا يقتضي الجري العملي على طبق المتيقن السابق كما لا يخفى.

وامّا الشق الرابع : فلأنه من الممكن استفادة الحكم بالبقاء والحكم بالحدوث من إطلاق النهي عن النقض وإلغاء الشك ، فانه يشمل الشك في الحدوث والشك في البقاء ، ويختلف بحسب الشك ، فان كان الشك في الحدوث فالإلغاء عبارة عن الحكم بالحدوث. وان كان في البقاء فهو عبارة عن الحكم به.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل ومحصله : انه بعد لحاظ اتحاد متعلقي الشك واليقين ـ لتوقف صدق النقض والإبقاء على ذلك ـ لا بد من إلغاء خصوصية الزمان في الاستصحاب ، وحينئذ ففي الاستصحاب يلحظ المتيقن بدون الزمان ، وفي القاعدة يلحظ المتيقن مع الزمان فاللحاظان في القاعدتين مختلفان ، وبذلك يختلف المؤدى في إحداهما عن المؤدى في الأخرى. وحينئذ ..

فان أفيد هذان المؤديان بمفهوم اسمي يعمهما ، بحيث يكشف عن اللحاظين المذكورين ـ كما إذا قيل : « لا تنقض اليقين بالشك الّذي له تعلق بما تعلق به اليقين » ـ. فهو. وإلاّ فلا يمكن أداء هذين المؤديين بمعنى حرفي لا يكاد يراد منه إلا أحدهما ، لعدم إمكان اجتماع اللحاظين المتنافيين في إنشاء واحد.

ولا يخفى ان أخبار الباب كذلك ، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يعم المؤديين بلحاظهما المتنافيين ، فلا يستفاد منها إلا الاستصحاب (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٣٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٩

ويرد عليه :

أولا : انه لا وجه للحاظ المتيقن بدون الزمان في الاستصحاب ، بل لا يعتبر سوى تعلق الشك بفعلية الشيء على حد تعلق اليقين به الملازم لصدق الشك في البقاء ـ كما ستعرفه ـ لا ان يؤخذ الزمان في متعلق أحدهما لا أنه يلحظ عدم الزمان.

وثانيا : انه على تقدير اعتبار هذين اللحاظين في القاعدتين ، فالحاكم حين إنشائه الحكم وجعله إياه امّا ان يجتمع في نفسه هذان اللحاظان أو لا يجتمعا وبعبارة أخرى : اما ان يلحظ المتيقن باللحاظين أو لا والثاني خلف ، لأن المفروض اعتبارهما والأول لا يحتاج في الدلالة عليه في مقام الإثبات إلى وجود مفهوم اسمي ، بل يكتفي فيه بالقرينة الحالية أو بعض خصوصيات الكلام ، كإسناد النقض وشبهه.

وبعد كل هذا نقول : الحق هو امتناع استفادة كلتا القاعدتين من الأخبار لوجوه :

الأول : ان القطع واليقين حين يتعلق بشيء ، فهل يتعلق به بذاته الملازم للزمان ، أو انه يتعلق به بما هو مقيد بالزمان ، بمعنى انه يتعلق بالحصة الخاصة منه ، وهي المقيدة بالزمان الخاصّ؟. لا ينبغي الإشكال في انه يتعلق بذات الشيء. مع عدم ملاحظة الزمان ـ وان لازم الزمان ـ ، بل كثيرا ما يكون الزمان مغفولا عنه. وهذا أمر عرفي وجداني لا يحتاج في إثباته إلى إقامة برهان.

ثم إذا تعلق اليقين في زمان ما كيوم الجمعة بفعلية شيء كعدالة زيد ..

فقد يحصل الشك في يوم السبت في فعلية ذلك الشيء ـ أعني : بذات العدالة بلا تقيد بالزمان ـ ، فيلزمه كونه شكا في البقاء.

وقد يتعلق الشك بذلك الشيء حدوثا ، بمعنى انه يتعلق بالعدالة التي

٣٩٠

تعلق بها اليقين ، فلا بد حينئذ من لحاظ الزمان في متعلقه ، لأن المفروض أخذ الزمان السابق ـ وهو زمان اليقين ـ في متعلق الشك ، فانه متعلق بفعلية العدالة في يوم الجمعة. وبهذا الاعتبار يكون الشك في الحدوث.

فالشك تارة يتعلق بما تعلق به اليقين سابقا بلا لحاظ الزمان فيه ، بل انما يتعلق بفعلية الشيء كما تعلق بها اليقين. وأخرى يتعلق به بلحاظه.

والأول : مورد للاستصحاب. والثاني مورد القاعدة.

ولا يخفى ان سنخ ارتباط الأول مع اليقين يختلف عن سنخ ارتباط الثاني ، نظير ارتباط الأوصاف بالذوات ، فالضرب ـ مثلا ـ الصادر من زيد يختلف ارتباطه بزيد سنخا عن ارتباط الضرب الواقع عليه به ، فان الأول يرتبط به بنحو الصدور ، والثاني بنحو الوقوع عليه.

فارتباط الشك مع اليقين السابق المتعلق بذات الشيء إذا كان متعلقا بفعلية الشيء بلا لحاظ الزمان ، يختلف سنخا عن ارتباط الشك معه إذا كان متعلقا بفعليته بلحاظ الزمان السابق فيه. وهذا مما لا إشكال فيه أيضا.

وعليه ، فإذا كان في الدليل المتكفل لإلغاء الشك مفهوم اسمي يعبّر به عن ارتباط الشك باليقين ـ كما إذا قيل : لا تنقض اليقين بالشك المرتبط به ـ ، كان ذلك الدليل متكفلا لأداء القاعدتين بلا إشكال ، لأن المفهوم الاسمي بإطلاقه يعم نحوي الارتباط وسنخيه.

واما إذا لم يكن فيه مفهوم اسمي ، بل دلل على ارتباط الشك باليقين بواقع الارتباط الّذي هو معنى حرفي ، وهو النسبة ـ مثلا ـ ، كان الدليل متكفلا لإحدى القاعدتين ، لأنه لا يمكن لحاظ بالشك حينئذ بكلا الارتباطين حينئذ ، بل لا بد من لحاظه بأحدهما اما بالأول أو بالثاني ، فيكون متكفلا لأحد القاعدتين بحسب الارتباط الملحوظ في الشك ، لأن واقع الارتباط سنخ وجود فلا يصلح للانطباق على أنحائه ، بل يختص بنحو واحد يوجد به ـ كما قرر ذلك في بيان

٣٩١

المعنى الحرفي ـ ، فالتعبير عن الضرب المرتبط بزيد ارتباط الصدور والضرب المرتبط به ارتباط الوقوع عليه انما يصح معا إذا عبّر عن الارتباط بمفهومه الاسمي ، كما إذا قيل : « الضرب المرتبط بزيد ». امّا إذا دلل عليه بواقعه ، وهو النسبة ، كما إذا قيل : « ضرب زيد » ، فلا يشمل كلا الضربين ، بل يشمل أحدهما بحسب ما هو الملحوظ من الارتباط الصدوري أو الوقوعي.

والّذي ينبغي ان يعلم : ان الأمر الّذي يرتكز عليه ما ذكر هو عدم لحاظ الزمان في متعلق اليقين في قاعدة اليقين ، وانه متعلق بذات الشيء بلا لحاظ الزمان أصلا ، وإلاّ فمع لحاظ الزمان كان ارتباط الشكين به بسنخ واحد ، لأن كلا منهما تعلق بما تعلق به اليقين ، فارتباطهما باليقين بسنخ واحد كارتباط الشك باليقين بعدالة زيد واليقين بعدالة عمرو ، فيمكن أداء هذا الارتباط بواقعه. ولكنك عرفت ان متعلق اليقين هو الذات بلا لحاظ الزمان. فاليقين في كلتا القاعدتين سنخ واحد لا سنخان.

وبالجملة : فوحدة سنخية اليقين تستلزم تعدد سنخية الارتباط ، وتعدد سنخيته تستلزم وحدة سنخية الارتباط. وقد عرفت ان التحقيق وحدة سنخية اليقين.

وإذا تقرر انه لا بد من لحاظ الدليل المتكفل للحكم. فان كان التعبير فيه عن الارتباط بمفهوم اسمي ، كان متكفلا لأداء القاعدتين. وان كان بواقعه الّذي هو معنى حرفي تكفل أداء إحداهما ، فلا بد من ملاحظة اخبار الباب ، وان التعبير فيها عن ارتباط الشك باليقين هل هو بمفهومه الاسمي أو بمعناه الحرفي؟ ، فنقول : ان اخبار الباب من قبيل الثاني ، فان ارتباط الشك باليقين فيها انما هو بواقعه ، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يكشف عنه ، فتمتنع استفادة كلتا القاعدتين منها ، بل المستفاد هو خصوص الاستصحاب ، لأنها واردة في موارده ـ أعني : الشك في البقاء ـ.

٣٩٢

ودعوى : انه ليس في اخبار الباب في مقام الإثبات ما يدل على لحاظ ارتباط الشك باليقين بمفهومه الاسمي أو الحرفي ، لأنه مطلق ، واستفادة اشتراط الارتباط انما كانت من اسناد النقض وتعلقه به ، فيمكن ان يريد مطلق الارتباط ، فيتمسك بإطلاق الشك في إثبات ذلك.

مندفعة : بان ما ذكر من عدم الدلالة في مقام الإثبات على أخذ الارتباط بأحد النحوين ، وان كان تاما في نفسه ، إلاّ انه لا يجدي في التمسك بإطلاق الشك ، لأن التقييد دائر بين المتباينين. توضيح ذلك : انه إذا لوحظ عند الجعل مطلق الارتباط بين الشك واليقين ، فلا بد من لحاظه بمفهومه الاسمي ، فحينئذ يحتاج إلى وجود ارتباط يربطه مع اليقين والشك ، كما هو شأن المفاهيم بعضها مع بعض ، فانه لا ارتباط بينها الا بواقع الربط المعبر عنه بالوجود الرابط ، وهو لحاظ هذا المفهوم مرتبطا بذلك الّذي ليس له ما بإزاء في الخارج ، وهو المعبر عنه بالمعنى الحرفي. أما إذا لوحظ سنخ واحد من الارتباط ، فلا يحتاج إلى لحاظ مفهوم الارتباط الاسمي ، بل يقيد اليقين والشك بواقع الارتباط.

فعلى الأول : يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك والارتباط.

وعلى الثاني : يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك فقط فيكون الربط جزئيا واقعا اما على نحو الربط في الاستصحاب أو في القاعدة.

فيدور الأمر حينئذ بين المتباينين ، فيكون الكلام مجملا بالنسبة إلى مورد الشك ، وهو غير الارتباط المعتبر في الاستصحاب ، فالتفت وتدبر جيدا.

الثاني : وهو الّذي أشار إليه الشيخ في آخر كلامه ـ : قصور المقتضي للشمول ، فانه بعد تسليم إمكان إرادة كلتا القاعدتين من الاخبار ثبوتا ، يقال : بان الاخبار ظاهرة في الاستصحاب دون القاعدة ومنصرفة إليه دون الأعم ، وذلك لأن ظاهر القضايا في الأحكام إرادة الموضوع الفعلي منه ، فإذا قيل ـ مثلا ـ : « أكرم العالم » فظاهره وجوب إكرام العالم الفعلي لا من كان عالما أو يكون.

٣٩٣

وعليه ، فظاهر اليقين في الاخبار هو اليقين الفعلي كظهور الشك فيه ، وذلك انما ينطبق على مورد الاستصحاب ، لأن اليقين بالعدالة سابقا موجود حال الشك. بخلاف مورد القاعدة ، فان اليقين ارتفع ، وليس بموجود فعلا ، لسراية الشك إلى متعلقه بخصوصية الزمان ، فتخصص الاخبار ظهورا بالاستصحاب.

ومحصل الوجه : دعوى ظهور وانصراف الاخبار إلى خصوص الاستصحاب.

الثالث ـ وهو الّذي أفاده الشيخ ـ : لزوم التعارض في مدلول الرواية ، لأنه كما يكون لدينا يقين بوجود الحادث ـ كالعدالة ـ ، كذلك يكون لدينا يقين بعدمه لأنه حادث والحادث مسبوق بالعدم ، فالشك فيما تيقن به من وجود الحادث ينتسب إلى فردين من اليقين ويعارضهما اليقين السابق بالعدالة واليقين الأسبق بعدم العدالة ، ومقتضى الاستصحاب عدم نقض اليقين بعدمها بهذا الشك والحكم بعدمها في زمان اليقين بها. ومقتضى القاعدة عدم نقض اليقين بالعدالة به والحكم بها في زمان اليقين بها. فيحصل التعارض بين القاعدتين ، ولا يمكن ان يتكفل دليل واحد لأداء قاعدتين متعارضتين ، لأن جعل الحجية للمتعارضين بجعل واحد ممتنع.

هذا تمام الكلام في بيان إمكان أداء القاعدتين بدليل واحد ثبوتا وإثباتا ـ الّذي سبق تحت عنوان الشرط الثاني ـ ، وقد عرفت الامتناع إثباتا والتفصيل ثبوتا بين الدليل المتكفل للمفهوم الاسمي الدال على مطلق الارتباط والمتكفل للمعنى الحرفي الّذي هو واقع الارتباط.

الثالث من شروط الاستصحاب ان يكون البقاء مشكوكا.

اما مع العلم به أو بعدمه ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب ، سواء كان إحراز البقاء أو الارتفاع وجدانيا أو تعبديا ، كما إذا قام الدليل الاجتهادي على وفق الحالة السابقة أو خلافها ، وان كان قيامه غير رافع للشك الوجداني ،

٣٩٤

ولكنه لا كلام في تقديمه على الاستصحاب.

وانما الكلام في انه ـ أعني : التقدم ـ بأي نحو من الأنحاء ، هل هو من باب التخصيص. أو التخصص. أو الحكومة. أو الورود؟. ولا بد في بيان ذلك من بيان المراد بكل من هذه الأمور ، وبيان الوجه في تقدم الدليل المتضمن لأحدها على الدليل المقابل له ، كتقدم الحاكم على المحكوم ونحوه.

فالكلام يقع في جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في بيان المراد من هذه الأمور :

فأمّا التخصص ، فهو خروج الفرد عن الموضوع العام حقيقة تكوينا وذاتا ، كخروج الجاهل عن دليل : « أكرم العالم ».

وامّا التخصيص ، فهو كون الدليل متضمنا لعدم ترتب الحكم على بعض افراد العام الّذي ثبت له الحكم بدليل آخر ، كنسبة « لا تكرم زيدا العالم » إلى : « أكرم العلماء ».

وامّا الورود ، فهو كون الدليل متضمنا لخروج هذا الفرد عن الموضوع العام حقيقة ، ولكن لا تكوينيا بل بواسطة التعبد الشرعي ، فهو يشترك مع التخصص في الجهة الأولى ـ أعني : الخروج الحقيقي ـ ، ولكنه يختلف عنه في الجهة الثانية ـ أعني : كونه ببركة التعبد لا ذاتيا ـ ، وذلك كنسبة الدليل الاجتهادي إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية ، فانه بقيام الدليل في المورد يرتفع موضوع القاعدة وهو « لا بيان » فيه حقيقة لأنه بيان جزما ، ولكن كونه بيانا كان بجعل الشارع ، إذ لو لا اعتباره له لما كان بيانا حقيقة.

وكون هذه الأمور بالمعنى الّذي ذكرناه مما لا إشكال فيه ولا خلاف ، وان كان قد يظهر من المحقق الخراسانيّ في الكفاية إرادة معنى آخر من الورود (١)

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٥

كما سيتضح في بيان ما ذكره من الوجه في تقديم الدليل الوارد على المورد.

وامّا الحكومة ، فقد وقع الكلام في بيان ضابطها وتعريفها.

والّذي ذكره الشيخ في هذا المقام : ان معنى الحكومة ـ على ما سيجيء في باب التعادل والترجيح ـ ان يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم. أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم. وحاصله : تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة الموضوع في ترتيب أحكامه عليه ، أو داخل في موضوع منزلة الخارج منه في عدم ترتيب أحكامه عليه (١).

وامّا ما ذكره في مبحث التعادل والترجيح فهو : ان ضابط الحكومة ان يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض افراد موضوعه فيكون مبينا لمقدار مدلوله ، مسوقا لبيان حاله مفرعا عليه ـ يعني : إنه لو لا الدليل المحكوم لكان الدليل الحاكم لغوا (٢) ـ.

ولا بد في بيان المراد من هذه العبارة من بيان ما تحتمله العبارة ، وهو وجهان :

الأول : ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى الدليل الآخر في مقام دلالته على المراد ، فيكون تارة مضيقا لدائرة دلالته. وأخرى موسعا لها. كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « أعني : بالعلماء الفقهاء ». فان الدليل الثاني ناظر إلى مقام دلالة الدليل الأول ومضيق لها.

الثاني : ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى نفس الحكم مع قطع النّظر عن دلالة الدليل عليه ومقدارها ، فيكون النّظر إلى المدلول بذاته لا بما انه مدلول للدليل.

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٢ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٦

فهل يراد من العبارة الوجه الأول ـ أعني كون الدليل ناظرا إلى الدليل في مقام دلالته بتعبير ، أو المدلول بما هو مدلول بتعبير آخر ـ أو الوجه الثاني ، وهو كونه ناظرا إلى المدلول بذاته من دون نظر إلى دلالة الدليل عليه؟.

الظاهر من صدر العبارة ـ وهو ما ذكرناه ـ هو الأول. فان التعبير بالنظر إلى الدليل وبيان حاله ورفع الحكم الثابت بالدليل ظاهر في كون النّظر إلى مقام الدلالة والإثبات والمدلول بما هو مدلول لا نفس المدلول وذاته ، وان المنظور إليه هو الدليل ، كما لا يخفى.

ولكن هناك امرين قد يدعى صلاحيتهما للقرينة على كون المراد بالعبارة المذكورة هو الوجه الثاني :

الأمر الأول : ما ذكره بعد هذا مثالا للحكومة من حكومة الدليل الدال على أنه لا شك لكثير الشك على الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الشك ، بتعليل ذلك ـ أعني : الحكومة ـ بأنه لو فرض انه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لم يكن مورد للدليل النافي لحكم الشك. فان التعليل بورود حكم المشكوك يظهر منه ان الدليل النافي ناظر إلى نفس الأحكام الثابتة للشك ونفيها لا إلى الدليل الدال عليها وتعيين مقدار دلالته ، وإلاّ لكان الأولى التعليل بورود الأدلة على حكم الشك وكون النّظر إليها.

الأمر الثاني : جعله الدليل الدال على التنزيل الموجب لتوسعة الموضوع من موارد الحكومة ـ كما هو صريح عبارته الأولى ـ ، مع انه ناظر إلى ثبوت الحكم للمنزّل لا إلى دلالة الدليل الآخر ـ كما سيتضح ـ.

إلا ان الأمر الأول لا يصلح للقرينة لعدم تماميته ، وذلك لأن التنزيلات المتكفلة لتضييق دائرة الموضوع ، سواء في الموضوعات التكوينية أو الموضوعات الشرعية انما تصح فيما إذا كان للموضوع التكويني أو الشرعي أثر ما. فتنزيل : « زيد » منزلة الإنسان انما يصح لو كان هناك أثر يترتب على الإنسان وإلاّ لكان

٣٩٧

لغوا. ومثله في الموضوعات الشرعية ، فحين يقول ـ مثلا ـ : « الفقاع ليس بخمر » انما يصح لو كان للخمر أثر شرعي يترتب عليه ، ومع عدمه يمتنع التنزيل للغويته.

وترتب الأثر الّذي يكون التنزيل بلحاظه ليس هو ترتبه الواقعي ـ أعني : وجود الأثر وتحققه ـ ، فان نفيه بالتنزيل ممتنع. وبعبارة أخرى : ان التنزيل لا يكون بلحاظ الأثر الثابت الموجود حقيقة ، وانما هو الترتب الاعتقادي باعتبار وجود المقتضي ظاهرا لذلك ـ أعني : لشمول الفرد ـ ، فينشأ منه تخيل واعتقاد شمول الأثر لهذا الفرد لأنه من الموضوع ، فيكون دليل التنزيل مانعا من تأثير المقتضي ومحددا لشموله ومضيقا لدائرته ، ومفيدا لكون هذا المقتضي الّذي يتخيل انه مقتض لشمول الحكم لهذا الفرد قاصرا عن ذلك ، وان الشمول غير مراد جدا.

وهذا المقتضي في التكوينيات عبارة عن العوارض الخارجية والصفات العارضة على الكائن الموجبة لترتب الحكم عليه.

وامّا في الشرعيات ، فهو عبارة عن العمومات والمطلقات ، فإنها هي التي تقتضي الشمول والاستغراق ، فإذا كان دليل التنزيل ناظرا إلى الأثر الاعتقادي الناشئ من اقتضاء الدليل العام أو المطلق لشمول الفرد ، فمفاده عرفا هو النّظر إلى نفس دلالة العام أو المطلق بتضيق دائرة دلالته.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الدليل النافي للشك انما يتكفل تنزيل شك كثير الشك بمنزلة عدمه ، فهو ينظر لدلالة العام الموضوع للحكم على شمول هذا الفرد ، لأنه هو المقتضي للشمول ، فيضيق مدلوله والمراد الجدي منه.

فإثبات نظر الدليل المتكفل لإلغاء الشك عرفا إلى أدلة أحكام الشك ، وبيان الجهة التي بها يرى العرف نظر هذا الدليل بمدلوله اللفظي إلى تلك الأدلة في مقام دلالتها ، يبتني على شيئين :

٣٩٨

أحدهما : كون التنزيل بلحاظ ترتب الأثر.

والآخر : كون الملحوظ في الأثر هو الأثر الاعتقادي التصوري الناشئ من وجود المقتضيات.

وهذا انما يتم في الدليل المتكفل للتضييق. اما المتكفل للتوسعة فلا يتم ، لأنه يمكن ان يكون بلحاظ ترتيب الأثر الواقعي عليه ، بان يكون بلحاظ ثبوت الحكم لهذا الفرد واقعا ، بلا لحاظ التنزيل فلا يكون ناظرا إلى دلالة الدليل المنزل عليه ، بل إلى ثبوت الحكم لهذا الفرد.

وعلى كل فالأمر الأول لا يصلح للقرينة التي قد تدعى.

واما الأمر الثاني : فقد تقرب تماميته في نفسه : بان الدليل الثابت به توسعة موضوع الحكم لا يخلو في مقام اللّب والواقع من أحد أحوال أربعة :

الحال الأول : ان يكون متكفلا لبيان فردية أمر حقيقة لعنوان ما مأخوذ في موضوع الحكم الشرعي ، كما لو كانت فرديته لذلك العنوان أمرا مجهولا لدى العرف ، فيتكفل هذا الدليل كشفها.

ولعل قوله عليه‌السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس » (١). من هذا النحو ، فانه بلسان بيان ان الفقاع فرد حقيقي للخمر وان لم يعدّه الناس من افراده لاستصغاره.

الحال الثاني (٢) : ان يكون بلسان فردية شيء ادعاء لا حقيقة ، بان يدعى دخول هذا الشيء في جنس العنوان المأخوذ في موضوع الحكم مع دخوله فيه حقيقة ، ثم يستعمل اللفظ الموضوع لذلك المعنون فيه ويكون الاستعمال حقيقيا ، لأن التصرف في أمر عقلي وهو التطبيق لا في أمر لغوي وهو الاستعمال.

الحال الثالث : ان يكون متكفلا لبيان اعتبار شيء بأنه ذلك العنوان التي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ ـ ٢٩٢ باب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرمة حديث ١.

(٢) استشكل السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في الدورة الثانية في مجرد الفرد الادعائي ولم يبين وجهه ( منه عفي عنه ).

٣٩٩

ترتب عليه الحكم أو منه ، وصحة الاعتبار متوقفة على أن يكون الأثر مترتبا على الفرد الاعتباري اما بخصوصه أو مع الفرد الحقيقي ، ومع عدم العلم بذلك يستكشف ترتب الأثر على الفرد الاعتباري بدلالة الاقتضاء بعد ورود دليل الاعتبار.

الحال الرابع : ان يكون متكفلا لتنزيل شيء منزلة آخر في ثبوت الحكم الثابت لذاك بلا بيان انه فرد حقيقي أو ادعائي أو اعتباري.

وليعلم ان هذه الأحوال تتأتى في دليل التضييق أيضا.

ولا يخفى ان الدليل على كل حال من الأحوال الثلاثة الأول ناظر إلى الدليل المحكوم في مرحلة دلالته وإثباته وللمدلول بما هو مدلول ، لأنه يتكفل التوسعة في مدلوله ، فانه بعد ان يكشف عن ان هذا الشيء فرد حقيقي للموضوع ، أو انه قد ادعى فرديته أو اعتبره منه ، يكون العنوان المأخوذ موضوعا في الدليل المحكوم أوسع دلالة ، لأنه حينئذ يعم الفرد الحقيقي المغفول عنه أو الادعائي أو الاعتباري ، فلا محالة يكون الدليل الوارد على أحد هذه الأنحاء الثلاثة ناظرا إلى دلالة الدليل الآخر موسعا لها ، لأن مفاده ان المراد من العنوان العام الأعم.

اما دليل التنزيل ، فليس هو ناظرا إلى الدليل المحكوم في مرحلة دلالته ، بل إلى المدلول بذاته ، لأنه لا يتكفل سوى تنزيل هذا منزلة ذاك. والتنزيل انما يكون في ثبوت الحكم له وبلحاظه ، وهذا لا يوجب التوسعة في مدلول ذلك العنوان ، فلا نظر إلى مدلوله بما هو مدلول ، فلا يكون مفاد دليله تعميم دلالة ذلك العنوان لهذا الفرد.

وبهذا تعرف خروج دليل التنزيل المتكفل لتوسعة موضوع الحكم عن مورد الحكومة بتفسير الشيخ ، بناء على حمله على ما ذكر ، مع ان صريح كلامه قدس‌سره عدّه من مواردها.

ولكنه لا يخفى ان دليل التنزيل ناظر عرفا بمدلوله اللفظي إلى الدليل

٤٠٠