منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

مصاديق الفرد المردد. وقد حقق في ذلك الباب عدم جريان الاستصحاب فيه ، فلا يجري في المفهوم المردد الّذي هو محل الكلام.

ولعل هذا مراد ما ذكره المحقق النائيني في أجود التقريرات من : انه لا يجري الاستصحاب لأن الأمر دائر بين ما هو معلوم البقاء وما هو معلوم الارتفاع. وان لم يكن بمكان من وضوح المراد.

وعليه ، يتجه القول بالمنع عن جريان استصحاب الموضوع في الشبهات المفهومية ، إلاّ انه بالنسبة إلى استصحاب الوجود مسلم لا إشكال فيه. وامّا بالنسبة إلى استصحاب العدم فيمكن ان يقال بجريانه في موارده ، كما فيما إذا شك في تحقق المغرب عند سقوط القرص لتردد مفهومه بين ذهاب الحمرة المشرقية وبين سقوط القرض ، فانه يستصحب عدم تحققه بأي مفهوم كان ، لأنه قبل سقوط القرص ، كان معلوم العدم وبعده يشك في تحققه فيستصحب عدمه (١).

ولكن بعد ما عرفت من رجوع المفهوم المردد إلى الفرد المردد وكونه من مصاديقه ، وعرفت سابقا عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد مطلقا وبأي وجه كان ، فلا مجال لهذا القول خصوصا فيما ذكره من المثال ، فان المغرب من أوضح مصاديق الفرد المردد لتردده بين المتباينين.

كما يظهر مما عرفته عدم صحة القول بجريان الاستصحاب في المفهوم المردد إذا كان الأثر مترتبا على وجوده بمفاد كان التامة ، لا وجود في ضمن الموجود الخارجي ، حيث انه كان متيقن الحدوث والآن مشكوك البقاء فيستصحب ويترتب الأثر ، لأن المحذور في عدم جريان الاستصحاب فيه ليس ما ذكره الشيخ من ان استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود الّذي مرجعه جعل المورد من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي ، كي يقال

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٤٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٦١

بان هذا لا يمنع إذا كان الأثر مترتبا على الذات بمفاد كان التامة. وانما هو كون المورد من موارد استصحاب الفرد المردد ، وهو ممنوع الجريان مطلقا كما حقق في محله.

وبالجملة : ما يذكر ويحقق في مسألة الفرد المردد من عدم جريان الاستصحاب فيه مطلقا أو في الجملة بعينه جار هنا ، لأن المورد من مصاديق تلك المسألة.

ويتحصل مما ذكرناه : عدم جريان الاستصحاب موضوعا في المفهوم والعدم وجودا وعدما.

وإذا لم يجر الاستصحاب في الموضوع ، فهل يجري في الحكم أولا؟. ظاهر الاعلام المحققين إطلاق الحكم بعدم جريانه.

ولكن مقتضى التحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الخصوصية المنتفية المقومة للمسمى بحيث لا يوجب انتفاؤها انتفاء معروض الحكم وموضوعه بنظر العرف ، وان كانت دخيلة في المسمى والموضوع له ، بان كانت في نظره دخيلة بنحو العلة لثبوت الحكم ، وحصول الشك من جهة التردد في كونها علة حدوثا وبقاء للحكم أو حدوثا فقط. وبين ما إذا كانت بحيث يوجب انتفاؤها انتفاء الموضوع بنظره. فيجري على الأول دون الثاني ، وسيتضح هذا عند بيان المراد من الموضوع العرفي. إن شاء الله تعالى فانتظر.

وبعد كل هذا نقول : ان الشك في الحكم لا يتحقق إلاّ من جهة تبدل بعض الحالات التي كان عليها الموضوع ، حيث يشك في ان أخذ هذه الحالة والصفة في موضوع الخطاب والحكم هل هو من جهة كونه من المقومات له فينتفي الموضوع بانتفائها ، أو ليس إلاّ لكونها من الحالات المتبادلة فلا ينتفي الموضوع بانتفائها؟. فلا بد من وجود ما يعين الموضوع ويكون هو الحكم في هذا المضمار. وهو أحد أمور ثلاثة :

٣٦٢

الأول : العقل (١) ، ومقتضاه رجوع جميع القيود المأخوذة أو الواردة في

__________________

[١] هذا ما أفاده الشيخ (ره) وتقريبه بوجهين :

الأول : ما أشير إليه في المتن المأخوذ من كلام الشيخ (ره) وتوضيحه : من أنّ القضية ذات أجزاء ثلاثة : الموضوع والمحمول والنسبة ، والقيود لا يمكن أن ترجع إلى النسبة لأنّها معنى حرفي ، وهي غير راجعة إلى الحكم لأنّ خلاف المفروض إذ المفروض أنّ الحكم غير مشروط ، وقد يمتنع رجوع بعضها إليه ، فيتعيّن أن تكون راجعة إلى الموضوع.

وفيه : أنّ من القيود ما يكون سببا لعروض العرض على معروضه من دون أن يكون مقوّما للمعروض ، كالعلل الغائية ، فعدمه يوجب تخلّف عدم العروض من دون مساس بنفس المعروض ، وقس على ذلك العوارض والمعروضات الخارجية من الأجسام ونحوها.

الثاني : ما ذكره المحقّق الأصفهاني (ره) من أن جميع القيود والجهات بنظر العقل جهات تقييدية لا تعليلية ، فيتعيّن أن تكون قيودا للموضوع.

وفيه : أنّ هذا لو سلّم فإنّما يسلّم في الأحكام العقلية المبتنية على التحسين والتقبيح لا في الأحكام الشرعية الصرفة غير المبتنية على الأحكام العقلية أصلا.

مع أنّه غير مسلّم في الأحكام العقلية أيضا كما تقدّم البحث في ذلك في بعض مباحث مقدّمة الواجب ، فراجع.

إذن فما أفيد من رجوع جميع القيود إلى الموضوع غير مسلّم.

ولو سلّم ذلك فهل يمتنع الاستصحاب في مطلق الأحكام ـ كما اخترناه في المتن ـ أو يختصّ بغير مورد الشك في الرافع كما هو ظاهر الشيخ؟ ولذا أورد عليه بأنّ ما ذكره بعنوان اللازم الباطل لتحكيم النّظر العقلي في الموضوع مما التزم به فيما سبق. وبعبارة أخرى أنّه لا ثمرة ـ على مبناه ـ في الترديد بين النّظر العقلي وغيره بعد الالتزام باختصاص الاستصحاب حتى بناء على غير النّظر العقلي بمورد الشك في الرافع.

وقد حمل المحقّق النائيني (ره) ـ كما في تقريرات الكاظمي ـ مراد الشيخ بالرافع هنا على غير مراده بالرافع هناك وإنّ المراد به هنا أخصّ من المراد به هناك ، فراجعه تعرف. وعلى ذلك لا يتوجّه عليه الإيراد المزبور.

لكن يرد على المحقّق النائيني ..

أولا : أنّه لا قرينة على ما ذكره أصلا وهو لم يذكر وجها يقرّبه ، فهو جمع تبرّعي.

وثانيا : إنّ الرافع بالمعنى الّذي ذكره يكون عدمه أيضا مأخوذا في الموضوع ولأيّ سبب لا يكون من قيود الموضوع؟.

ولكن الّذي يبدو لنا أنّ مراد الشيخ (ره) من الرافع هاهنا ما كان عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم

٣٦٣

الخطاب إلى الموضوع بحيث ينتفي بانتفائها ، لأنه ليس في القضية الشرعية سوى المحمول والموضوع ، فترجع القيود إلى الموضوع فمع الشك في دخل قيد أو حال في الحكم ، فحيث يرجع إلى الموضوع لو كان في الواقع دخيلا ، فعند انتفائه يشك في بقاء الموضوع.

ولازم هذا عدم جريان الاستصحاب في مطلق الأحكام ، لأن الشك فيها لا يكون إلاّ من جهة الشك في ان القيد الزائل دخيل في ترتب الحكم أو ليس بدخيل ـ إذ لو علم بعدم دخله لا يحصل الشك ويعلم ببقاء الحكم ، وكذا إذا علم بدخله فانه يعلم بارتفاعه ـ ، ومعه يشك في بقاء الموضوع. ويختص جريانه بالموضوعات ، لأن الشك فيها قد يحصل على ما هي عليه من الخصوصيات التي كانت عليها حدوثا.

وإن ألحق الشيخ بها ما إذا كان الشك في الحكم الشرعي من جهة الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود ، لأن الشك فيه لا يرجع إلى الشك في بقاء الموضوع ، كما إذا كان الحكم بالطهارة مترتبا على ما غسل بالكر ، وغسل ثوب

__________________

ـ لا الموضوع مثل الملاقاة التي يكون عدمها مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم بالطهارة ، والطلاق الّذي يكون عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الزوجية وهكذا ، فإنّ بعض الأحكام حين تحصل بأسبابها تستمر حتى يحصل ما يرفعها بلا أن يكون عدم الرافع مقوّما وقيدا للموضوع بل قد يكون الموضوع متصرّم الوجود كالعقد في الزوجية والملكيّة ونحوهما.

وفي قبال ذلك القيد الّذي يكون راجعا للموضوع نظير العلم الّذي يكون عدمه قيدا لموضوع الأحكام الظاهرية الثابتة بالأصول العملية.

وعليه ففيما إذا كان القيد من قيود استمرار الحكم فمع الشك في ارتفاعه لا شك في بقاء الموضوع ، بل الموضوع لم يتغيّر وإنّما الشك في بقاء الحكم فيستصحب.

وقد رأينا ما أفاده المحقّق النائيني في أجود التقريرات يشير إلى ما ذكرناه من عدم تقيّد الموضوع بعدم الرافع وإنما هو قيد الحكم لكن بيانه لا يخلو عن إجمال.

ومن الغريب أنّ السيد الخوئي نقل عنه ما جاء في تقريرات الكاظمي وردّ عليه بما مرّ.

وكيف كان فما ذكره الشيخ بالتوجيه الّذي عرفته لا إشكال فيه ، فتدبّر.

٣٦٤

به ، ثم شك في ملاقاته للنجس أو في كون ملاقيه نجسا ، فان الموضوع باق على ما كان ، فتستصحب طهارة الثوب (١).

ولكنه غير تام ، لأن مرجع جعل مانعية شيء ، أو شرطيته إلى تقييد الموضوع به وأخذه في موضوع الحكم وجودا أو عدما ، فموضوع الطهارة هو ما غسل بالكر ولم يلاق نجسا ، فمع الشك في الملاقاة يشك في بقاء الموضوع.

الأمر الثاني : الدليل ، بان يكون الميزان ما يفهمه العرف من الدليل وان الموضوع هو هذا ، فيفرق بين ما إذا أخذ الوصف بنحو الشرط ، نحو : « الماء إذا تغير ينجس ». وما إذا أخذ بنحو النعت ، نحو : « الماء المتغير ينجس ». فيكون الموضوع في الأول هو ذات الماء ، فيجري الاستصحاب مع الشك في مدخلية التغير. وفي الثاني هو الماء المتلبس بالتغير فينتفي الحكم بانتفائه.

الأمر الثالث : العرف ، والمراد به ما يفهمه العرف بحسب مرتكزاته من قياسات الأحكام والموضوعات في قبال ما يفهمه بحسب متفاهم الألفاظ وفي مقام المحاورة الّذي هو مفاد تحكيم الدليل ، فقد ، يفهم العرف بحسب لفظ الدليل كون الموضوع للحكم هو الأمر الكذائي ، ولكن بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه ، يرى عدم تبدل الموضوع عند زوال بعض صفاته المقومة بحسب الدليل ، وان الحكم ثابت للأعم ، فهو يرى بحسب الدليل ان الحنطة هي موضوع الحلية ، ولكنه بحسب مرتكزاته يرى ان عروض الحلية لا يختص بالحنطة بل يعمها ويعم الدّقيق ، كما يرى بحسب مرتكزاته ان موضوع النجاسة هو ذات الماء وان التغير يؤثر فيه بنحو العلية. ويشترط ان لا يكون الفهم العرفي المذكور من القوة بحيث يكون من القرائن المتصلة أو المنفصلة الموجبة لانقلاب ظهور اللفظ من معناه وانعقاده في المفهوم العرفي ، أو المانعة عن

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٦٠ ـ ٣٦١ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٥

حجيته في ما هو ظاهر فيه ، وإلاّ رجع إلى الأمر الثاني ـ أعني : لسان الدليل ـ وبما ذكرنا (١) يندفع ما قد يقال : من انه ما المراد من جعل النّظر العرفي

__________________

(١) تحقيق الكلام في هذا المقام أن يقال : إنّ الحكم الشرعي بناء على ما هو الصحيح من كونه غير الإرادة والكراهة ، بل هو أمر اعتباري يتحقّق بالإنشاء القولي أو الفعلي لا واقع له سوى مقام الإنشاء والدليل بمعنى أنّ الإنشاء والدليل في مقام الإثبات ليس كاشفا عن الحكم بوجوده الواقعي بل هو محقّق للحكم وسبب لتحقّق الاعتبار ، فنسبة الإنشاء إلى الحكم ليست نسبة الدالّ إلى المدلول بل نسبة السبب إلى المسبّب ، وليس له وجود واقعي منفصل عن الإنشاء ويكون الإنشاء طريقا إليه كما يظهر من بعض التعبيرات ، كالتعبير بمقام اللب والواقع ومقام الإنشاء والإثبات فإنّ ذلك ليس بسديد. وإذا كان الأمر كذلك فلا محصّل لدعوى تشخيص موضوع الحكم بطريق العقل أو العرف قبالا للدليل ، بل الحكم يدور مدار الإنشاء وما قصده المنشئ بإنشائه لا يتعدّاه بتاتا وأيّ دخل للعقل في ذلك؟ وكيف يتصوّر حكم العقل بان موضوع الحكم كذا إذا فرض أنّ الإنشاء على خلافه؟ بل حكم العقل يناط بكيفيّة الإنشاء الّذي هو سبب الحكم. فإنّه يدرك المسبّبات من طريق أسبابها.

ولا سبيل له لإدراك مناطات الأحكام كي يستطيع للحكم بدخالة قيد وعدم دخالة آخر ومثل ذلك يقال في نظر العرف ، فإنه لا أساس له ، إذ ليس الحكم من أحكام العرف كي يكون له نظر فيه ، فلا معنى لأن يكون له نظر في الحكم الشرعي يخالف الدليل.

نعم قد يكون له نظر خاص في باب الألفاظ أو من ناحية ارتكازاته بنحو يكون موجبا لتغيير ظهور الدليل البدوي إذا كان بمنزلة القرينة المتّصلة ، أو موجبا لعدم حجيّته إذا كان بمنزلة القرينة المنفصلة المانعة عن الحجية أو الكاشفة عن عدم الظهور كما في المقيّد المنفصل على التحقيق ، لكنّه نظر يرجع إلى تشخيص المراد والمقصود بالدليل لا أنّه في قبال الدليل وما يراد به.

ومثله يقال في بعض أحكام العقل التي يقيّد بها الدليل كتقييد الأحكام بالقدرة أو الشعور والتمييز ، فإنّه يرجع إلى تشخيص أنّ المراد بالدليل رأسا هو المقيّد.

وبالجملة : كل ما يقصده المنشئ هو المتّبع والكاشف عنه الدليل الإنشائي ولو بضميمة حكم العقل أو العرف وقرينتهما المتّصلة أو المنفصلة.

وأما غير ذلك فلا محصّل له ، بل عرفت أنّ العقل والعرف لا معنى لأن يكون له نظر في قبال ما يحكيه الدليل عن قصد المنشئ ، فالمقابلة غير سديدة.

وإذا عرفت ما بيّنا فنقول : ليس المراد بالموضوع الّذي يعتبر بقاؤه بكل ما يكون دخيلا في تحقّق الحكم ، بل ما كان معروضا للحكم فإنّ بقاؤه هو المحقّق لوحدة القضيّتين وصدق البقاء والنقض.

ولا نريد بالمعروض هو المعنى المصطلح له ، وذلك لأنّ معروض الحكم ـ بالمعنى المصطلح ـ هو خصوص متعلّقه كالإكرام في مثل « أكرم زيدا » أما متعلّق المتعلّق كزيد في المثال فليس معروضا للحكم.

٣٦٦

في مقابل النّظر بحسب لسان الدليل؟ ـ هذا السؤال الّذي يقرب صورته المحقق النائيني كما في أجود التقريرات : بأنه ـ.

ان أريد من الظهور بحسب الدليل ما يفهمه العرف من لفظ الدليل ، ولو كان الظهور التصديقي الحاصل من ضم اجزاء الكلام بعضها إلى بعض وملاحظة ما يكتنف به من القرائن المقالية أو الحالية ، بحيث يكون المراد من النّظر العرفي حينئذ هو المسامحات العرفية في مقام التطبيق ، فلا مجال لتوهم

__________________

الّذي يراد استصحابه ، فلو أريد من المعروض هو المعنى المصطلح لزم أن لا يعتبر بقاء زيد في استصحاب وجوب الإكرام وهو واضح البطلان. إذن فالمراد بالمعروض كل ما كان الحكم مرتبطا به وله إضافة إليه وتعلّق به ولو لم يكن مجعولا عليه.

فمثل زيد يكون كذلك فإنّ الحكم يضاف إليه بتوسّط إضافة متعلّقه ، وعلى هذا الأساس يعتبر بقاؤه ويكون انتفاؤه مخلا بصدق البقاء والنقض. وتشخيص ارتباط الحكم وإضافته.

تارة : يكون بواسطة ظهور اللفظ نظير المثال المزبور.

وأخرى : قد يكون بواسطة العرف القطعي وإن لم يظهر من الدليل كما لو قال : « أطعم زيد الفقير » فإنّ العرف بمرتكزاته يفهم أنّ المراد رفع حاجة الفقير ، فيكون المطلوب رفع حاجته ، فإذا زال الفقر عن زيد انتفى الموضوع فينتفي الحكم لأنّ الحكم مرتبط بالحاجة والفقر ومضاف إليها لأنّها متعلّق المتعلّق على الفرض ، وإن كان الظهور البدوي ليس كذلك.

وليس الأمر كذلك لو قال : « أطعم زيدا العالم » فإنّ العلم ليس كالفقر بنظر العرف فإذا زال أمكن استصحاب الحكم مع الشك لبقاء موضوعه وهو ذات زيد ، والعلم يعدّ من الحالات الطارئة عليه لا من مقوّماته المأخوذة في مقام ارتباط الحكم.

نعم في مثل ما إذا قال : « قلّد زيدا العام » يكون زوال العلم موجبا لزوال الحكم ، لأنّ العلم مما يضاف إليه الحكم ، إذ التقليد هو أخذ الرّأي واتّباع العلم فإذا زال العلم فقد زال المعروض.

وثالثة : قيد يكون بواسطة حكم العقل القطعي ، لتقوم التكليف بالتمييز والشعور ، لأنّه التحريك والبعث وهو يرتبط بالمميّز والشعور ، وليس كذلك الحال في عدم البلوغ. ولذا يصحّ استصحاب عدم التكليف الثابت في ظرف عدم البلوغ ، بخلاف العدم الثابت في ظرف عدم التمييز كالجنون.

ولا يخفى أنّ اتّباع العرف أو العقل في تشخيص ما يرتبط به الحكم إنّما هو فيما كان نظره قطعيّا أو يوجب الوثوق والاطمئنان بحيث يوجب التصرّف في ظهور الدليل ، وفيما عدا ذلك لا عبرة به إذا كان للدليل ظهور في شيء معيّن ، بل يتّبع ما هو ظاهر الدليل. ومع إجماله يشكل جريان الاستصحاب لأنّه يستلزم الشك في بقاء الموضوع. هذا تحقيق القول في هذه المسألة ، فلاحظ.

٣٦٧

اعتبار النّظر العرفي في قبال النّظر بحسب لسان الدليل ، لعدم الاعتبار بالعرف في مقام التطبيق ، بل العرف معتبر في مقام تعيين المفهوم.

وان أريد من النّظر بحسب الدليل هو خصوص الظهور التصوري الحاصل بمجرد سماع اللفظ ، ومن النّظر العرفي الظهور التصديقي ، فلا مجال لتوهم اعتبار النّظر الدليلي بهذا المعنى ، لما قرر من ان الظهور التصوري لا يمكن نسبته إلى المتكلم والقول بان المتكلم اراده (١).

والّذي يقرب صورته المحقق العراقي ـ كما في نهاية الأفكار ـ : بأنه ..

ان أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في مقام تعين مفهوم اللفظ ، فهذا يرجع إلى تحكيم الدليل وليس قسما آخر.

وان أريد منه الرجوع إليه في مقام التطبيق وصدق المفهوم على مصاديقه ، فلا عبرة بالعرف في هذا المقام كي يحتمل انه المحكم والمرجع في تعين الموضوع (٢).

فانه بعد ان عرفت ان للعرف نظرين :

أحدهما : بما هو من أهل المحاورة وفي مقام التفاهم.

والآخر : بحسب ما يرتكز لديه من مناسبات الأحكام وموضوعاتها.

وانه قد يختلفان في تعيين الموضوع وقد يتفقان ، وان المراد من تحكيم الدليل هو تحكيم العرف بنظره الأول ، ومن تحكيم العرف تحكيمه بالنظر الثاني ، يتضح الجواب عن السؤال المذكور ولا يبقى له مجال.

ثم انه قد يرد إشكال آخر على المقابلة المذكورة ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ومحصله : ان موضوع الحكم له مرحلتان : مرحلة الواقع

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٠ ـ القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٦٨

واللب. ومرحلة الإنشاء والدلالة. وهو باعتبار الأولى عقلي دقي ، وباعتبار الثانية موضوع دليلي. ولا يكون الطلب متعلقا بشيء في غير هاتين المرحلتين. ونظر العرف في الموضوع انما هو طريق محض إلى ما هو الموضوع عند الشارع ـ لعدم كون الموضوعية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالاعتبار ، كي يصح للعرف اعتبارها حقيقية ـ ، وبعد فرض كون الموضوع لا ثبوت له الا في مرحلة اللب واللفظ ، فنظر العرف في كون هذا الشيء موضوعا للحكم مرجعه إلى المسامحة في الموضوع في قبال العقل والنقل ، ولا يصح أخذه مقابلا ، لأن المسامحة في الموضوع تقتضي المسامحة في الحكم ـ بمقتضى التضايف ـ ، فلا يقين بثبوت الحكم لهذا الموضوع شرعا كي يحرم نقضه ورفع اليد عنه (١).

ويمكن تقرير هذا الإشكال بشكل أوضح ، بيانه : ان الحكم المجعول لا واقع له الا مقام الإنشاء واللفظ.

وعليه ، فلا بد من لحاظ الموضوع في هذه المرحلة ـ وهذا المقام ـ ، لأنه مرحلة موضوعيته وترتب الحكم عليه ، فالمحكم هو لسان الدليل ، وما يراه العرف يرجع إلى التسامح في التعيين ، وهي غير معتبرة قطعا في مقابل الدليل ، فلا مجال للمقابلة.

والجواب عن هذا الإشكال : ان الحكم ـ سواء قلنا : انه عبارة عن امر واقعي حقيقته الإرادة والكراهة. أو قلنا : بأنه أمر اعتباري يتقوم باعتبار كل معتبر بنفسه. أو انه أمر اعتباري عقلائي ، والإنشاء تسبيب للاعتبار العقلائي ـ له واقع اما الإرادة أو الكراهة واما الاعتبار ، والإنشاء كاشف عن ذلك الواقع فللموضوع في مقام ترتب الحكم واقع متحقق. وحينئذ يقع الكلام في ان تعيين الموضوع في واقعه هل يكون بنظر العقل ، أو بنظر العرف بحسب ما يفهمه من

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٩

الدليل ، أو بنظره بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه ، فتصح المقابلة المذكورة.

إذا عرفت هذا ، فلا بد من بيان المختار من الطرق في مقام التعيين.

وقد أفاده المحقق الأصفهاني : ان موضوع الكلام في التقابل ليس هو نفس النقض ، وان المعتبر هو النقض الحقيقي أو النقض المسامحي العرفي ، إذ لا شك في عدم اعتبار النقض المسامحي إذا دار الأمر بينه وبين إرادة النقض الحقيقي ، كما انه ليس الموضوع هو الاتحاد وعدمه الّذي به قوام صدق النقض ، لأنه لا إشكال في اعتبار الاتحاد الحقيقي ، لأنه مع الوحدة المسامحية لا يصدق النقض حقيقة ، بل يكون مسامحيا فلا يشمله النهي. وانما الموضوع هو موضوع الحكم المستصحب ، بمعنى ان الموضوع الّذي رتب عليه الحكم ، هل المرجع في تعيينه العقل أو النقل أو العرف؟.

مع إرادة الاتحاد الحقيقي والنقض الحقيقي ، إلاّ ان صدق النقض حقيقة يختلف باختلاف الأنظار المعينة للموضوع.

والمشهور بين المحققين هو الرجوع إلى العرف في تعيين الموضوع.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في مقام إثبات ذلك ما بيانه : انه كما ان حجية الظاهر عند الشارع تستفاد من كونه كأحد أهل العرف في مقام المحاورة والتفهيم ، فكذلك إذا كان للظاهر مصاديق حقيقية ، وكان بعضها مصداقا له بنظر العرف ، فانه باعتبار كون مخاطبته للعرف كأحدهم يستفاد ان هذه المصاديق الحقيقية بنظر العرف متعلقة لإرادته الجدية ـ كما لو كان ملقي الكلام أحد أهل العرف ـ ، ما لم ينصف قرينة على تعيين مراده الجدي من المصاديق ، لأنه إذا لم يكن له اصطلاح خاص به ، فلا بد ان يكون قد أراد ما هو عند العرف مصداق حقيقي ، مع عدم نصب قرينة على العدم.

وعليه ، ففيما نحن فيه يكون مراد الشارع الجدي ـ حيث لم ينصب قرينة

٣٧٠

على تعيينه ـ من مصاديق النقض مصاديقه العرفية الحقيقية ، ومرجع صدق النقض حقيقة عرفا إلى تعيينه الموضوع ، فانه بعد ما يرى ان الموضوع هو كذا يرى ان رفع اليد عن الحالة السابقة نقض حقيقة ، فإذا اعتبر نظره في صدق النقض يكشف عن اعتبار نظره في التعيين (١).

ويشكل ما ذكره : بان نظر العرف في تعيين موضوع الحكم ان بلغ بحد يقطع بأنه المراد للشارع ، فهو يوجب التصرف في حجية لسان الدليل ، لأن الظاهر انما يكون حجة فيما إذا لم يحصل القطع بخلافه ، أو كان بمنزلة القرينة الحالية ، فهو يوجب التصرف في ظهور الدليل.

وكلا الفرضين خارجان عن محل الكلام ، لأن محل الكلام في الأخذ بالنظر العرفي مع بقاء لسان الدليل على ظهوره وحجيته كما عرفت. وان لم يبلغ حد القطع بل كان ظنيا ، فلا دليل على اعتبار هذا الظن لا شرعا ولا عقلائيا ، فلا يصح التمسك بالإطلاق والرجوع إلى العرف في مصداق النقض ، إذ لا دليل على اعتبار العقلاء للنظر العرفي في المصداق المبتني على الظن في تعين الموضوع.

وقد أفاد المحقق العراقي في المقام ما محصله : انه لا إشكال في احتياج إعمال الاستصحاب إلى نحو من المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى القضية المتيقنة ، لأن الإرجاع الحقيقي يستلزم تعلق الشك بما تعلق به اليقين ، وهو مفاد قاعدة اليقين لا الاستصحاب. ثم ان استفادة البقاء والاتحاد تارة : يكون من جهة انتزاعهما عن اعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، وكون متعلق الشك هو اليقين بالشيء ، فانه يقتضي نحوا من الاتحاد بين القضيتين كي ينتزع عنوان البقاء عنه. وأخرى : يكون من جهة إطلاق النقض في المقام المقابل للبقاء الصادق حقيقة على مجرد اتحادهما بأحد الأنظار.

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٧١

فعلى الأول : يكون الخلاف في ان المسامحة المحتاج إليها هل هي بمقدار إلغاء خصوصية الزمان مع التحفظ على باقي الخصوصيات بالدقة. أو انها ملحوظة من سائر الجهات.

فعلى الوجه الأول : لا بد من جعل مركز البحث في اختلاف الأنظار هو موضوع الحكم الّذي به قوام البقاء والاتحاد ، لأن الكبرى المذكورة ـ أعني : كبرى : « لا تنقض اليقين » المستفاد منها اعتبار الاتحاد والبقاء ـ من المفاهيم المحرزة ولا خلاف فيها ، ولا بد من تطبيق عنوانهما على المورد بالدقة العقلية لا بالمسامحة العرفية ، والتطبيق الحقيقي يختلف باختلاف الأنظار في الموضوع للحكم. فلا بد من تعيين النّظر المحكم لإحراز تحقق الاتحاد والبقاء.

وعلى الوجه الثاني ـ أعني : ما لوحظت المسامحة من سائر الجهات ـ : يكون محل الخلاف ومركزه هو نفس البقاء والإبقاء التعبدي لا في كبرى المستصحب.

وقد اختار الثاني ، وان المسامحة ملحوظة في الجهات الأخرى غير خصوصية الزمان.

وعلى الثاني ـ أعني : إذا كانت استفادة البقاء من حرمة النقض ـ : فان قيل : بان النقض حقيقة يصدق بمجرد وحدة القضيتين بأحد الأنظار ، فلا شبهة في شموله لجميع الأنظار. وامّا ان قيل : بان النقض الحقيقي لا يصدق إلاّ مع وحدة القضيتين دقة ، فلا يشمل النقض الادعائي المسامحي ، بل شموله يحتاج إلى دليل خاص ، لعدم الجامع بين النقض الحقيقي والادعائي. إلا أن يتمسك بالإطلاق المقامي الّذي مقتضاه شمول النقض لما كان نقضا بنظر العرف ، لأن القضية مسوقة على طبق الأنظار العرفية ، ويكون مقدما على الإطلاق اللفظي الدال على اعتبار النقض الحقيقي. هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي ـ مع

٣٧٢

تصرف منا (١) ـ.

ولسنا بصدد تحقيق ما أفاده قدس‌سره ، فانه لا أثر له مهم بعد ما عرفت من تحقيق الحال ، الا إنا نود ان ننبهه على ما يظهر لنا بالنظر البدوي من التهافت في كلامه. فانه بعد ان فرض في صدر كلامه لزوم المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى القضية المتيقنة ، وبنى على المسامحة في إلغاء خصوصية الزمان ، كيف يذهب بناء على اختصاص المسامحة بإلغاء خصوصية الزمان إلى لزوم تطبيق عنوان البقاء والاتحاد بالدقة العقلية لا بالمسامحة!. فانه لا يخلو من منافاة لصدر كلامه. هذا ما بدا لنا عاجلا ولعل التأمل في كلامه يرفع ذلك فلاحظ.

والّذي ينبغي ان يقال في المقام : انه بعد ما عرفت سابقا من تعذر حمل النقض على معناه الحقيقي لاستلزامه كون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين بجميع خصوصياته ، وهو غير ممكن للاختلاف بين الشك واليقين ، لأن أحدهما متعلق بالحدوث والآخر بالبقاء ، فلا بد من ان يحمل على المعنى المسامحي للنقض ، ولا بد حينئذ من حمله مطلقا على المعنى المسامحي لعدم إمكان حمله على المعنى الحقيقي ، فيتمسك بدليل الاستصحاب في كل مورد يصدق فيه النقض ولو مسامحة ، بل النقض الحقيقي متعذر كما لا يخفى.

وتوهم : ان المسامحة في بعض الخصوصيات لا تقتضي المسامحة بالنسبة إلى جميع الخصوصيات ، والحمل على المعنى المسامحي فيما نحن فيه انما كان بالإضافة إلى خصوصية الزمان ، فلا يقتضي ذلك المسامحة في غيرها من الخصوصيات المعتبرة في صدق النقض الحقيقي.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١١ ـ القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٧٣

مندفع : بان هذا انما يتم لو كان اعتبار بقاء الخصوصيات وعدم إلغائها مستفادا من إطلاق في المقام ، فانه إذا تعذر الالتزام ببعضها يتسامح بمقدارها ويبقى الإطلاق محكما في الأخرى.

امّا إذا استفيد ذلك من ظهور الكلام في المعنى الحقيقي ، وتوقف تحققه على الالتزام والمحافظة على جميع الخصوصيات ، فإذا تعذر الحمل عليه انتفت إرادة المعنى الحقيقي بتاتا لعدم تعدد المراتب في الحقيقة ، فيتعذر تحققه وحينئذ ، فيحمل اللفظ على معناه المسامحي مطلقا.

ومن هنا يظهر انه لا حاجة لما تكلفه المحقق العراقي من الالتزام بالإطلاق المقامي.

كما انه يعلم حينئذ بأنه لا فائدة في الكلام عن ان الميزان في تعين الموضوع أي الأنظار ، لأنه انما يبحث عنه بعد التسليم بان المراد من النقض معناه الحقيقي.

امّا مع الالتزام بإرادة المسامحي منه ، فلا تصل النوبة إلى ذلك.

وبذلك يتبين عدم الوجه فيما ذكره المحقق الأصفهاني في تعيين محل النزاع من : انه لا وجه للكلام عن ان المراد بالنقض معناه الحقيقي والمسامحي. لأنه لا إشكال في تقديم المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة. إذ قد عرفت إمكان تحقق الكلام فيه ، فتدبر جيدا.

وامّا ما ذكره السيد الخوئي ـ كما عرفت في بعض تقريراته ـ ناهجا به على ما ذكره شيخه النائيني ـ كما في أجود التقريرات (١) ـ في دفع الإشكال المذكور على المقابلة بين الأنظار الّذي قرره بما محصله : ان المراد من نظر العرف ان كان ما يفهمه من الدليل الشرعي بمعونة القرائن ، فهو المراد من لسان الدليل. وان كان المراد ما يتسامح به في تطبيق الكلي على مطابقة الخارجي ، فلا ريب في عدم الاعتماد عليه من ..

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٤٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٤

ان هذا الإشكال في نفسه صحيح ، ولكنه خارج عن محل الكلام ، إذ ليس الكلام في تعيين موضوع الحكم الشرعي ، بل الكلام في بقاء الحكم في ظرف الشك المستفاد من أدلة الاستصحاب التي مفادها حرمة النقض من حيث توقف جريان الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عن الحالة السابقة ، وصدقه متوقف على بقاء الموضوع ووحدته في القضية المتيقنة والمشكوكة. فيقع الكلام في ان المرجع في البقاء هل هو الدليل الأول الدال على ثبوت الحكم للموضوع ، فبقاء الموضوع المأخوذ في لسان الدليل هو الشرط في جريان الاستصحاب. أو يكون المرجع هو الدليل الثاني الدال على الإبقاء عند الشك ، فيتبع جريان الاستصحاب صدق موضوعه في نظر العرف ـ وهو النقض والمضي ـ بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدليل الأول؟. فالمراد من أخذ الموضوع من العرف كون جريان الاستصحاب تابعا لصدق النقض عرفا باعتبار ما يفهمه من النقض. والمراد من أخذه من الدليل هو الرجوع إلى الدليل الأول في جريان الاستصحاب.

ثم بعد توضيح ذلك وبيان إمكان الاختلاف بين النّظر العرفي والدليلي بالمعنى الّذي ذكره ، اختبار كون الموضوع مأخوذا من العرف ، بمعنى ان جريانه تابع لصدق النقض عرفا ، أخذا بالدليل الثاني المتكفل للحكم في مرحلة البقاء ، لأن الكلام فيها دون الدليل الأول المتكفل لمرحلة الحدوث (١). ففيه (٢) :

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٣٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) والعمدة في الإشكال هو : أنه لا إشكال في كون البقاء والاتحاد والنقض من المفاهيم المعلومة المحدودة التي لا نزاع فيها ولا يشك في المراد بها. كما لا نزاع في لزوم اتحاد القضيتين ، وان الاتحاد يتقوم بوحدة الموضوع ، وانه يلزم ان يكون الموضوع بقاء عين الموضوع حدوثا ، فانه مفروغ عنه في كلماتهم.

فينحصر الكلام في تشخيص الموضوع حدوثا ، كي يعتبر بقاءه في مرحلة الشك ، فلا بد من البحث عن الموضوع وتحديده ، فالدوران بين الأنظار انما هو في مقام تشخيص الموضوع ، ولا محصل للدوران بين الدليل الأوّل والدليل الدال على الاستصحاب. ومن الغريب انه بعد هذا البيان ، وفي مقام بيان صدق البقاء عرفا يمثل لما تكون الخصوصية غير مقومة عرفا بما يرجع إلى تشخيص الموضوع للحكم حدوثا ويرتبط بالدليل الأول ، فلاحظ كلامه وتدبر. وقد عرفت تحقيق الحال في أصل المسألة.

٣٧٥

أولا : ان التسليم بصحة الإشكال في نفسه في غير محله ، بعد ما عرفت من وجود نظر للعرف في الموضوع بحسب مرتكزاته في مقابل نظره بحسب كونه من أهل المحاورة ، وقد التزم به السيد الخوئي في غير المقام وثانيا : ان دليل حرمة النقض دليل آخر غير الدليل المتكفل لثبوت الحكم حدوثا ، ويتبع فيه نظر العرف في مقام تشخيص موضوعه كالدليل الأول ، وحينئذ فترجع المقابلة إلى انه هل المرجع هو لسان الدليل أو لسان الدليل؟. ولا تخفي ركاكة هذا التعبير واستهجانه ، كما انه يرجع إلى المقابلة بين الدليلين لا بين الدليل والعرف.

وثالثا : ان الدليل الأول متكفل لبيان حكم مرحلة الحدوث ، والدليل الثاني متكفل لحكم مرحلة البقاء. فلا دوران بينهما لعدم المنافاة بينهما بنفسهما ، فيمكن الأخذ بكليهما. نعم التنافي بينهما باعتبار كون صدق النقض يبتني على فهم العرف كون الخصوصية ليست مقومة للموضوع ، وان كانت بحسب ظاهر الدليل الأول مقومة ودخيلة فيه ، فالدوران بينهما انما يكون بهذا الاعتبار.

وعليه ، يقال : ما هو السر في اعتبار الفهم العرفي المذكور في قبال لسان الدليل الظاهر في خلافه؟. فالكلام يرجع بالآخرة إلى بيان الوجه في جعل الفهم العرفي مقابلا لظاهر الدليل ، والأخذ به وطرح ظاهر الدليل.

وقد عرفت إشكال ذلك ، كما انه لم يلتزم به. فما ذكره من تقديم الدليل الثاني في غير محله بعد تصريحه في كون صدق النقض عرفا يبتني على كون الخصوصية غير مقومة. نعم لو كان صدق النقض عرفا يستلزم ذلك لا انه يبتني عليه ، لكان لما ذكره وجه ولكنه خلاف ما صرح به.

يبقى في المقام شيء : وهو ما نقله الشيخ عن بعض المتأخرين من التفريق بين استحالة نجس العين والمتنجس ، بالحكم بطهارة الأول ، لأن

٣٧٦

الموضوع للنجاسة فيه متقوم بالصورة النوعية والحكم محمول على النوع ، وبالاستحالة يزول الموضوع ، فمع الشك في طهارة المستحال إليه ونجاسته تحكّم قاعدة الطهارة فيه. دون الثاني ، لأن موضوع النجاسة فيه ليس متقوما بالصورة النوعية ، كالخشبية أو الثوبية ـ مثلا ـ ، وانما الموضوع هو الجسم ، وهو لم يزل بالاستحالة ، فمع الشك في بقاء النجاسة في المستحال إليه تستصحب.

وقد خالفه الشيخ رحمه‌الله ، وحكم : بان دقيق النّظر يقتضي خلافه ، وأفاد في تحقيق ذلك : انه لم يعلم بان النجاسة في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية وهي الجسم.

وامّا ما اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات من ان كل جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس. فهو لا يدل على ما ذكره المفصل ، لأن التعبير بالجسم ليس من جهة تقوم الحكم بالجسمية وإناطته بها ، بل من جهة أداء عموم الحكم لجميع افراده وشموله لمصاديقه كلها ، لكونه مشيرا إليها وكاشفا عنها ، فلا ينافي ان يكون ثبوت الحكم لكل فرد من حيث خصوصيته المتقوم بها.

واستشهد لذلك بما إذا قال القائل : « كل جسم له خاصية وتأثير » ، فان التأثير والخاصية من عوارض الأنواع لا الأجسام. فما نحن فيه نظير هذا القول في كون التعبير بالجسم من جهة تعميم الحكم لجميع الافراد من دون كون الحكم منوطا بالجسمية.

ثم ذكر قدس‌سره : انه لو أبيت الا عن ظهور معقد الإجماع في تقوم النجاسة بالجسم ، فالإجماع لا اعتبار به ، لأن مستنده الأدلة الخاصة الواردة في الأنواع الخاصة ، كالثوب والبدن والماء وغير ذلك ، فاما ان نقول ان استنباط القضية الكلية المذكورة من هذه الأدلة انما كان للإشارة إلى ما تحدث فيه النجاسة وبيان ظرفها لا إلى ما تتقوم به النجاسة وتناط به وإلاّ فلا بد من طرح الإجماع والعمل بمقتضى الأدلة الواردة في مواردها من إناطة النجاسة بالعنوان

٣٧٧

المذكور في الدليل (١).

ولكن ما ذكره لا يمكن ان يلتزم به قدس‌سره لوجوه (٢) :

الأول : ان ظاهر معقد الإجماع كون الحكم ـ وهو النجاسة ـ منوطا بالجسم من دون وجود ما يصرف هذا الظهور عن ظاهره وحجيته ، فلا مسوغ لترك العمل به.

وما ذكره من التنظير بقولهم : « كل جسم له خاصية وتأثير » يفترق عما نحن فيه ، لوجود الدليل القطعي على كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع ، وهو استحالة تأثير الواحد في المتعدد ، فانه يدل على ان مصدر التأثير هو كل جسم بنفسه ونوعه ، لا الجهة الجامعة بين الأنواع ـ وهي الجسمية ـ ، وإلاّ لزم تأثير الواحد في المتعدد ، فالدليل القطعي المذكور يوجب التصرف في الظهور ، لأنه يكون بمنزلة القرينة الحالية.

الوجه الثاني : انه يلتزم كغيره من الفقهاء بان الحكم إذا رتب على أمور متخالفة في موارد متعددة ، تلغى حينئذ الخصوصيات ، وان الحكم ثابت للجهة الجامعة بين هذه الأمور.

وعليه ، فإذا ورد في النصوص ترتب النجاسة على الثوب والبدن والماء وغيرها ، يستكشف من ذلك إلغاء الخصوصيات المفرقة وكون الحكم منوطا بالجهة الجامعة بين هذه الأمور وهو الجسم ، فلا وجه لما ذكره أخيرا من الالتزام بمقتضى الأدلة الواردة في الموارد الخاصة.

الوجه الثالث : انه قد بنى على استفادة الموضوع من فهم العرف ونظره المقابل لظاهر الدليل ، والعرف يرى ان موضوع النجاسة هو الجسم لا الصورة

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) يضاف إلى هذه الوجوه انه قد ورد الحكم في بعض النصوص على العنوان الجامع بين الأنواع كقوله عليه‌السلام في رواية عمار الساباطي : « واغسل كل ما أصابه به ذلك الماء » ، فانه ظاهر في كون موضوع النجاسة هو الجسم بلا دخل لخصوصيته وقد اقتصر السيد الأستاذ في الإشكال على الشيخ في هذه الدورة على هذا الوجه والوجه الثاني ...

٣٧٨

النوعية ، لأنه يرى ان النجاسة من العوارض الخارجية التي يكون معروضها الجسم لا الصورة النوعية له.

ومن هنا تعرف ان ما ذكره المفصل من قيام الحكم بالجسم في المتنجس دون النجس ثابت لا مجال للمناقشة فيه. ولكنه مع هذا لا يمكن إجراء الاستصحاب في المستحال إليه ـ وان كان الظاهر من الشيخ تسليم جريانه لو ثبت بان المعروض الجسم ـ ، لأن عروض النجاسة ليس على كلي الجسم ، بل انما هو على الافراد وعلى الموجود الخارجي بما هي جسم ـ فلا ينافي ان يكون معروض النجاسة هو الجسم ـ ، وحيث ان الافراد متباينة ومتغايرة عرفا ، فالعرف بعد استحالة الفرد وتبدله إلى فرد آخر للجسم لا يرى عدم ترتب الحكم ـ هو النجاسة ـ عليه نقضا للحالة السابقة ، لمغايرة هذا الفرد للفرد الّذي كانت النجاسة ثابتة له ، فلا يستطيع الحكم بان هذا الفرد كان نجسا ، فلا يصدق النقض بما له من المفهوم العرفي كي يشمله النهي.

وبالجملة : كما يعتبر بقاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم حدوثا ، كذلك يعتبر بقاء وجود الموضوع ، ولذا لا يسري الحكم من جسم إلى آخر ، لأن الحكم انحلالي متعدد الافراد ، فكل فرد بما هو فرد له حكم مستقل ، لكنه لم يثبت له بخصوصيته ، بل بما هو جسم. ومن الواضح انه مع تبدل الفرد لا يتحد الموضوع في القضيتين وان اتحدا عنوانا ، فلا يصدق النقض والابقاء.

فمنع الاستصحاب يرتكز على أمرين :

الأول : كون النجاسة عارضة على افراد الجسم لا كليّة.

الثاني : ان صدق النقض بلحاظ ما هو المفهوم منه عرفا ونظر العرف فيه ولو مسامحة.

وهذا الوجه في منع جريان الاستصحاب أفاده الفقيه الهمداني رحمه‌الله

٣٧٩

في حاشيته على الرسائل (١).

الثاني من شروط الاستصحاب : كون الشك متعلقا بالبقاء وبقاء اليقين بالحدوث. لأن تعلق الشك بالحدوث انما هو ملاك قاعدة اليقين. ولا إشكال في أخذ هذا الشرط ولا خلاف فيه. وانما تعرض لذكره الأعلام لبيان انه هل يمكن استفادة القاعدة من اخبار الاستصحاب مضافا إلى الاستصحاب أو لا؟. وقد (٢) ، أفيد في منع استفادة ـ كلتا القاعدتين من اخبار الباب وجوه :

__________________

(١) الفقيه الهمداني. هامش فرائد الأصول ـ ٤٠٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) مما أفيد في منع شمول الاخبار لكلتا القاعدتين ما ذكره الشيخ (ره) : من أنّ المناط في القاعدتين مختلف بحيث لا يجمعهما مناط واحد ، فإنّ مناط الاستصحاب اتّحاد متعلّق الشك واليقين مع قطع النّظر عن الزمان لتعلّق الشك في بقاء ما تيقّنه سابقا ، ولازم ذلك كون القضية المتيقّنة ـ كعدالة زيد يوم الجمعة ـ متيقّنة حال الشك أيضا من غير جهة الزمان. ومناط قاعدة اليقين اتّحاد المتعلّقين من جهة الزمان ، ومعناه أنّه شاك في نفس ما تيقّنه سابقا بوصف وجوده السابق.

وعلى هذا فإلقاء الشك في الاستصحاب يرجع إلى التعبّد ببقاء المتيقّن في السابق من غير تعرّض لحال حدوثه. وإلغاؤه في القاعدة يرجع إلى التعبّد بحدوث ما تيقّنه سابقا من غير تعرّض لبقائه واختلاف مؤدّى القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد بأن يقول : « وإذا حصل شك بعد يقين فلا عبرة به سواء تعلّق بحدوثه أم ببقائه والحكم بالبقاء في الثاني وبالحدوث في الأول » لكنّه مانع من إرادتها من مثل قوله : « فليمض على يقينه » فإنّ المضي على اليقين في الاستصحاب يغاير المضي عليه في القاعدة فإنّه فيه يرجع إلى الحكم بعدالته بقاء ، وفيها يرجع إلى الحكم بعدالته حدوثا من دون تعرّض لما بعده ، وإرادة كلا المعنيين من اللفظ الواحد ممتنع ثم إنّه (ره) أورد على نفسه بأنّ المضي على اليقين معناه عدم التوقّف لأجل الشك وفرض الشك كعدمه ، وهذا يختلف تطبيقا باختلاف متعلّق الشك ، فإن تعلّق الشك بالحدوث ، فإلغاؤه يرجع إلى الحكم بالحدوث ، وإن تعلّق بالبقاء ، فإلغاؤه يرجع إلى الحكم بالبقاء ، فلا تعدّد في معنى المضي وإنّما التعدّد في المصداق.

وأجاب عنه بجواب لا تخلو عبارته من إجمال والّذي نستظهره منها هو : إنّ ظاهر النصوص اتّحاد متعلّق اليقين والشك ، وإنّ الشك لا بدّ وأن يكون متعلّقا بما تعلّق به اليقين.

وعليه ففي مقام الحكم إما أن يلاحظ الحاكم الشك المتعلّق بما تعلّق به اليقين مجردا عن الزمان فالمضي عليه عبارة عن الحكم باستمرار المتيقّن ، وأما أن يلاحظه مقيّدا بزمان اليقين فالمضي عليه عبارة

٣٨٠