منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

الخارج لمطلوبية الاجزاء في نفسها ، فيكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

وقد أورد عليه أولا : بأن الأمر بالجزء ليس أمرا غيريا.

وثانيا : ان استصحاب كلي الوجوب لا يجدي نفعا ما لم يثبت به انه الوجوب النفسيّ ، لأن الوجوب الغيري لا تجب موافقته ، والغرض من إثبات الوجوب هو الامتثال والإطاعة.

وثالثا بان الوجوب الغيري فرد مباين للوجوب النفسيّ ، وليس اختلافهما من قبيل الاختلاف في المراتب كي يصح الاستصحاب (١).

ولكن الإيرادين الأوليين انما يردان لو ثبت كون مراده من مطلق المطلوبية القدر المشترك بين الوجوب النفسيّ والغيري.

إلاّ انه وان كان ظاهرا من كلامه في مبحث الاشتغال ، غير انه غير ظاهر منه في مبحث الاستصحاب ، فيمكن ان يريد القدر المشترك بين الوجوب النفسيّ الاستقلالي والضمني ـ كما لعله الظاهر من كلامه ـ فيتعين الوجه الثالث في الإيراد عليه ، وهو كون هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، والوجوبان متغايران عرفا ، فلا يصح الاستصحاب.

الوجه الثاني : ان يستصحب الوجوب النفسيّ المتعلق بالباقي بنحو المسامحة العرفية ، حيث يرى العرف ان موضوع الوجوب النفسيّ باق على حاله ، ووجود الجزء وفقده من قبيل الحالات المتبادلة للمستصحب ، نظير استصحاب بقاء كرية الماء الناقص منه شيء.

والإشكال فيه يتضح إن شاء الله تعالى فيما سيأتي من بيان اعتبار بقاء

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٤٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٤١

الموضوع في صحة الاستصحاب ، وان هذه المسامحة فيما نحن فيه وفي استصحاب الكرية مجدية أو لا فانتظر.

الوجه الثالث : ان يستصحب الوجوب النفسيّ الثابت سابقا ، ليثبت به وجوب هذه الاجزاء الباقية ، نظير استصحابه وجود الكرّ في الإناء لإثبات كرية الموجود فيه (١).

وقد يتوهم : بان هذا من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، لأن الوجوب النفسيّ سابقا متعلق بمجموع الأجزاء ، فمع فقد أحد الأجزاء يشك في اتصاف الباقي بوجوب نفسي ، وهو فرد آخر غير ذلك الفرد الثابت سابقا ، فاستصحاب كلي الوجوب النفسيّ بلحاظ الشك في بقائه لاحتمال حدوث فرد آخر منه يكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

ولكنه يندفع : بان الشك في كون الواجب بالوجوب النفسيّ هو هذه الأركان مع ما يتمكن من باقي الأجزاء أو مع باقي الأجزاء مطلقا ، فالشك في بقاء كلي الوجوب النفسيّ انما هو لتردد الفرد المحقق له بين ما هو باق قطعا وما هو مرتفع قطعا ، لا من جهة احتمال حدوث فرد آخر له مع العلم بارتفاع الفرد السابق ، فيرجع هذا الوجه من الاستصحاب إلى القسم الثاني من استصحاب الكلي.

ولكن الإشكال فيه واضح ، لأنه من الاستصحابات المثبتة كما لا يخفى.

تذييل : قد يفرق في جريان استصحاب الوجوب ـ على تقدير جريانه ـ بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف فيجري الاستصحاب المذكور. بين تعذره قبله فلا يجري لعدم ثبوت الوجوب واليقين به ، بل الشك في أصل حدوثه وتحققه لا في بقائه.

وقد نفي الشيخ رحمه‌الله الفرق بين الحالين ، لأن المستصحب هو

__________________

(١) هذا الوجه ذكره المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٢

الوجوب النوعيّ المنجز على تقدير اجتماع الشرائط لا الوجوب الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا (١).

والمراد من استصحاب الحكم الكلي ، ما كان إجراءه من وظيفة المجتهد فقط ، وهو لا يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا.

نعم ، لا بد فيه من تحقق الموضوع وتحقق الشرائط واختلال بعضها ليحصل الشك في البقاء ، كاستصحاب المجتهد نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير ، فانه لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا ، بل يكفي فيه فرض وجود الماء المتغير بهذا النحو فيجري فيه الاستصحاب ، فاستصحاب الوجوب مثله يفرض فيه وجود الموضوع وتحقق الشرائط.

إلاّ انه لا وجه لقياس ما نحن فيه باستصحاب نجاسة الماء المتغير ، لأن المجتهد حين يفرض الموضوع فيه يحصل لديه اليقين والشك فيصح إجراؤه الاستصحاب. بخلاف ما نحن فيه ، فانه مع فرض الموضوع فيه لا يحصل اليقين بحدوث الوجوب لما عرفت من الشك فيه. وقد وجّه المحقق النائيني قدس‌سره ـ كما في تقريرات الكاظمي ـ جريان الاستصحاب فيه قياسا على الاستصحاب في الماء المتغير : بان فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار منه ، فان المفروض ان التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع ، وإلاّ لم يجر الاستصحاب رأسا (٢) ...

ولكن كلامه لا يخلو عن خلط ، فان الموضوع الّذي يجب فرضه هو الموضوع العقلي الّذي هو عبارة عن كل ما له دخل في الحكم من جزء وشرط.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٩٤ ـ الطبعة الأولى. حيث يظهر من إطلاق كلامه نفى الفرق.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد على. فرائد الأصول ٤ ـ ٥١٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٤٣

والموضوع الّذي يعتبر بقائه في إجراء الاستصحاب هو معروض الحكم ، فتخرج عنه الشرائط والقيود. ولا يخفى ان التمكن من الجزء المتعذر وان لم يكن من مقومات الموضوع بالمعنى الثاني ـ بنظر العرف ـ ، إلاّ انه من مقوماته بالمعنى الأول ، وقد عرفت ان الموضوع المفروض وجوده انما هو الموضوع بالمعنى الأول.

وبالجملة : فما ذكر من التفصيل لا إشكال عليه ، فلا بد من الالتزام به.

إلى هنا ينتهي بنا الكلام عن تنبيهات الاستصحاب.

٣٤٤

خاتمة : في شروط الاستصحاب

قد ذكرت للعمل بالاستصحاب شروط :

الأول : بقاء الموضوع.

وفسر الشيخ قدس‌سره الموضوع : بأنه معروض المستصحب ولعله لدفع ما قد يتوهم من : ان الالتزام ببقاء الموضوع في باب الاستصحاب ينافي ما ذكر في بيان الموضوع في غير هذا الباب من انه جميع ما أخذ مفروض الوجود في مقام فعلية الحكم ، بإرجاع كل قيد وشرط أخذ في الخطاب إليه ، فانه إذا اعتبر بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب لا يتحقق الشك أصلا ، لأن الشك انما يكون مع تغير حالة أو صفة من صفات الموضوع ، فمع اعتبار بقائه بخصوصياته وقيوده لا يحصل الشك في بقاء الحكم ، بل يعلم ببقائه قطعا.

ويندفع هذا التوهم : بما ذكره الشيخ من : ان المراد بالموضوع في هذا الباب المعتبر بقاؤه معروض الحكم المستصحب ، بمعنى ما كانت نسبته إلى المستصحب نسبة المعروض إلى العارض ، وهو غير ذلك الموضوع ، فالزوال مثلا

٣٤٥

غير دخيل في موضوع الوجوب في هذا الباب ، لأن الوجوب لا يعرض عليه ، كما لا يخفى. بل انما يعرض على الموضوعات الخارجية ، مع انه دخيل فيه في ذلك الباب.

كما فسر بقائه : بتحققه حال الشك على نحو ثبوته ، وتحققه حال اليقين من وجوده الخارجي أو وجوده الذهني التقرري. وبذلك يندفع الإشكال على كلية اعتبار بقاء الموضوع بالنقض بموارد الشك في نفس الوجود ، فانه لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه مع عدم إحراز الوجود ، فانه ناشئ عن توهم إرادة بقاء الموضوع بوجوده الخارجي والغفلة عن إرادة الأعم ، وان المراد تحققه في اللاحق بنحو الّذي كان معروضا للمستصحب في السابق. هذا محصل ما أفاده قدس‌سره في بيان المراد من بقاء الموضوع (١).

وظاهره يدل على ان المعتبر في استصحاب المحمولات الثانوية تحقق المعروض ووجوده خارجا ، فمع الشك فيه يمتنع جريان الاستصحاب.

وهذا يقتضي عدم جريان الاستصحاب عند الشك في بقاء صفة كانت متقومة بموضوع يشك في بقائه الآن إذا كان الأثر مترتبا على بقاء الصفة بمفاد كان التامة ، لا بقاء اتصاف الموصوف بمفاد كان الناقصة ، كالشك في بقاء قيام زيد أو عدالته مع الشك في وجود زيد. مع ان الشيخ وغيره لا يلتزمون بعدم جريانه ، بل لا مقتض للالتزام به. فظاهر العبارة يستلزم الإيراد عليه بما عرفت.

والّذي يظهر من الشيخ : انه جعل اعتبار بقاء الموضوع من فروع اعتبار وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة.

وقد خالفه صاحب الكفاية في البيان ، فذكر : ان المعتبر هو بقاء الموضوع ، بمعنى اتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة ، بمعنى ان ما كان متعلق اليقين

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٣٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٦

سابقا لا بد أن يكون هو متعلق الشك ، فإذا كان المتيقن قيام زيد فلا بد ان يكون هو المشكوك لا قيام عمرو. واما بقاؤه في الخارج فغير معتبر في الاستصحاب ، وانما هو معتبر في مقام ترتب الأثر إذا كان الوجود الخارجي دخيلا فيه (١).

ولا يتوجه عليه الإيراد المذكور على الشيخ ، لأن المعتبر من اتحاد المشكوك مع المتيقن متحقق في الموارد المذكورة ، فان المشكوك هو قيام زيد أو عدالته ، وهو عين المتيقن ، فيجري الاستصحاب وان شك في بقاء المعروض.

ولكنه قدس‌سره في حاشيته على الرسائل ، أرجع عبارة الشيخ إلى ما ذكره في الكفاية ، فجعله تفسيرا لعبارته لا وجها آخر (٢).

وحينئذ لا يرد عليه ما عرفت ، ولكنه خلاف الظاهر من العبارة جدا. فانه لا حاجة معه إلى ما ذكره من اعتبار الوجود الخارجي أو التقرري دفعا للإشكال على كلية اعتبار بقاء الموضوع بالانتقاض بموارد الشك في نفس الوجود. فان المعتبر في الاستصحاب ـ على هذا التفسير ـ متحقق في هذه الموارد ، لأن المشكوك وهو وجود زيد ـ مثلا ـ عين المتيقن في السابق ، فالإشكال على هذا مندفع بنفسه.

وامّا ما ذكره في ذيل كلامه من استصحاب العدالة على تقدير الحياة. فهو لا يؤيد حمل المحقق الخراسانيّ ، لعبارته على ما ذكره في الكفاية ، لما ستعرفه من تفسير العبارة بشكل لا يتنافى مع إحراز الحياة ، بل بتكفل هذه الجهة فانتظر.

وبعد كل هذا اتضح : بان المعتبر هو اتحاد متعلق الشك واليقين موضوعا ومحمولا ، والدليل على اعتبار هذا واضح ، لأنه مما يتوقف عليه صدق النقض والإبقاء المعتبر في الاستصحاب ، فإن رفع اليد عن الحالة السابقة انما. يعد نقضا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٢٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٢٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٧

إذا كان متعلق الشك عين متعلق اليقين ، كما ان عدم رفع اليد حينئذ. يعد إبقاء.

امّا مع اختلاف متعلقهما ، فلا يعد رفع اليد نقضا ولا عدمه إبقاء ، كي يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب ، فإذا كان المتيقن سابقا قيام زيد والمشكوك قيام عمرو ، فالحكم بقيام عمرو لا حقا لا يعد إبقاء للقيام السابق ، كما ان عدم الحكم به لا يعد نقضا له.

وهذا مما لا إشكال فيه ، وانما الإشكال فيما ذكره الشيخ رحمه‌الله من : الدليل العقلي على اعتبار بقاء الموضوع الّذي محصله : انه عدم بقاء الموضوع اما ان يبقى العرض بلا موضوع وهو محال كما لا يخفى. واما ان يكون له موضوع آخر وهو أيضا محال ، لاستحالة انتقال العرض من معروضة لتقومه به (١).

ويرد هذا البرهان : بان مفاد الاستصحاب جعل حكم مماثل للحكم السابق بحسب الظاهر ، ولكنه مغاير له واقعا ، إلاّ انه معنون بعنوان كونه إبقاء لذلك الحكم لا أكثر ، وحينئذ فعلى تقدير كون الموضوع المستصحب لاحقا غيره سابقا لا يكون ذلك من نقل العرض من موضوع إلى آخر ، بل من إثبات حكم آخر لموضوع آخر فالتفت.

وقد تصدى المحقق العراقي لدفع الإيراد على الشيخ بتأويل كلامه ، الّذي محصله : استحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول ، وذلك بإرجاعه إلى كون المورد من موارد الشك في استعداد المستصحب للبقاء وقابليته للاستمرار ، فلا يجري الاستصحاب حينئذ لاختصاص مسلك الشيخ بمورد يكون الشك فيه من جهة الشك في الرافع. ومحصل ما ذكره في هذا المقام : ان عدم بقاء العرض بلا معروضه الأول لأجل امتناع بقائه بلا موضوع أو انتقاله من موضوعه إلى

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٨

موضوع آخر ، مرجعه إلى عدم استعداد العرض القائم به للبقاء وقابليته للاستمرار عند عدم موضوعه. وحينئذ فمع الشك في بقاء الموضوع يشك في استعداد العرض القائم به للبقاء ، فلا يكون المورد مشمولا لأدلة الاستصحاب على رأي الشيخ (١) ، فجعل الدليل العقلي الّذي ساقه الشيخ مقدمة لبيان صيرورة المورد حينئذ من موارد الشك في المقتضى الّذي لا يجري فيه الاستصحاب ، فيرتكز توجيهه على أمرين :

الأول : عدم إمكان بقاء العرض بلا موضوعه الأول المستحصل من استحالة بقائه بلا موضوع أو في موضوع آخر.

الثاني : ان نتيجة هذا هو الشك في قابلية العرض للبقاء وعدم إحراز استعداده للاستمرار عند الشك في بقاء الموضوع.

والأول مسلم لا كلام لنا فيه. وانما الكلام في الأمر الثاني ، فإنه لا نسلم كونه نتيجة ذلك أو مرجعه إلى كون الشك في بقاء الموضوع يلازم الشك في استعداد العرض القائم به للبقاء مطلقا ، بل الأمر يختلف باختلاف منشأ الشك في بقاء الموضوع ؛ فان كان من جهة عدم إحراز استعداده للبقاء ، بان كان الموضوع بحيث لو خلي وطبعه غير باق إلى هذا المقدار ـ الّذي يفسر به عدم إحراز المقتضي في المقام ـ ، كان الشك في بقاء العرض من جهة الشك في استعداده للبقاء طبعا. وان كان من جهة احتمال وجود الرافع ، بان كان الموضوع بحيث لو خلي وطبعه يستمر في وجوده لو لا حدوث حادث زماني ، كان الشك في بقاء العرض من جهة وجود الرافع أيضا لإحراز قابليته للبقاء بإحراز قابلية موضوعه له ، فلا بد من ملاحظة موارد الشك في بقاء الموضوع ، وانه على أي نحو ، فانه يختلف كما عرفت.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٤ ـ القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٤٩

بالجملة : فاستحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول لازم أعم لعدم استعداده للبقاء ، لأنه قد يكون ناشئا عن وجود الرافع.

وبهذا تبين عدم ارتباط ما ذكره الشيخ هاهنا بما ذكره هناك. ولو سلمنا ارتباطه وتماميته في نفسه ، فلا يمكننا حمل كلام الشيخ عليه ، ضرورة ان مرجعه إلى عدم صدق : « لا تنقض » على المورد ، لعدم صدق النقض ، فالأدلة قاصرة عن شمولها له ، وهذا هو ما ذكره في الشق الثاني من التردد الّذي ظاهره كونه قسيما للشق الأول من حيث المحذورية في قوله : « اما لاستحالة انتقال العرض ، وامّا لأن المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق ».

فالعبارة تأبى حمل الشق الأول على ما ذكره المحقق العراقي ، لأنه حينئذ يشترك مع الشق الثاني في المحذورية ، مع ظهورها في كونه محذورا مستقلا وبرأسه.

وبالجملة : ما ذكره قدس‌سره في مقام تصحيح ما أفاده الشيخ غير تام.

وعليه (١) ، فيتجه ما أوردناه على الشيخ.

__________________

(١) يمكن دفع الإشكال المزبور وتصحيح استدلال الشيخ (ره) بتقريب : أن إذا فرض أنّ المأخوذ هو العرض المتقوّم بمعروضه بنحو مفاد كان الناقصة كعدالة زيد ـ لا ذات العرض بوجوده التام كالعدالة فإنّه لا يفرض لها موضوع خاص كي يجب إحرازه ، بل الاستصحاب يجري في وجودها فهي معروض المستصحب نظير وجود زيد ـ كان مقتضى ذلك ملاحظة النسبة بين العرض ومعروضه واتّصاف المعروض بالعرض الخاصّ ، ومن الواضح إنّ النسبة من المعاني الحرفية التي تقوم بالطرفين وحقيقتها كيفية من كيفيّات الطرفين ـ كما تقدم بيانه مفصّلا في محلّه وهي مما لا يكاد يتعلّق بها اللحاظ مستقلاّ بل أخذها مستلزم لملاحظة الطرفين بشكل خاص كما أنّه لا بدّ فيها من فرض تحقّق الطرفين. فأخذ عدالة زيد في الموضوع مرجعه إلى ملاحظة زيد العادل ، فلا يمكن أن تتحقّق عدالة زيد بلا فرض وجود زيد ، وعلى هذا البيان تقوم دعوى أنّ الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحلّه فلا بدّ أن يكون العرض مأخوذا بنحو الاتصاف ومفاد كان الناقصة لا التامّة.

وعليه : فعدالة زيد في ظرف الشك ـ بعد فرض ضرورة فرض الموضوع للعدالة بحيث يشار إليه.

٣٥٠

واعلم ان الشيخ قدس‌سره بعد ما اعتبر العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب. تعرض [١] إلى بيان حكم بعض الصور التي يشك فيها ببقاء الموضوع من جريان الاستصحاب في الحكم أو الموضوع وعدم جريانه.

وقد تعرض لهما الآخرون ممن لم يعتبروا سوى اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة.

وهي فروض ثلاثة :

الفرض الأول : ما إذا كان الشك في العرض غير مسبب عن الشك في

__________________

ويقال إنّه مشكوك العدالة ـ إما أن تفرض بلا موضوع وهو محال لما عرفت من كونها ملحوظة بمفاد كان الناقصة لا التامّة. وإما أن يفرض لها موضوع آخر وهو من انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، إذ المفروض أنّ المشكوك هو نفس عدالة زيد ففرض كون تلك العدالة لغير زيد هو فرض الانتقال المزبور. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى : إنّ الشك في عدالة غير زيد ليس شكّا في بقاء عدالة زيد فلا يصدق النقض على رفع اليد عن الحالة السابقة.

وبهذا البيان ظهر أنّ محطّ نظر الشيخ هو مقام الشك في الّذي هو موضوع التعبّد الاستصحابي ، لا مقام التعبّد الطارئ على الشك ، كما حمل عليه كلامه وأورد عليه بأن الوجود التعبّدي غير الموجود الواقعي ، فتنبّه.

[١] تعرّضه كان بعنوان الجواب عن الإشكال الّذي أورده على نفسه بعنوان : « إن قلت ... » ولا يخفى أنّ كيفيّة السؤال والجواب لا تخلو عن إجمال ، لأنّ المراد بالموضوع الّذي يريد المستشكل إجراء الاستصحاب فيه :

إن كان هو موضوع الحكم الشرعي فالسؤال يكون غير مرتبط بما قبله لأنّ البحث فيما قبله عن إحراز معروض المستصحب. والمفروض فيه أن لا يكون موضوعا للأثر الّذي يترتّب على عرضه وإلاّ كان هو مجرى الاستصحاب لا عرضه. وكان هو مستصحبا لا معروضه.

وإن كان المراد به هو معروض المستصحب فالسؤال يرتبط بما قبله لكن الجواب بتفصيله لا يرتبط به بل كان ينبغي أن يكون الجواب إنّ الاستصحاب في المعروض لا يجدي لعدم كون الاستصحاب في العرض المترتّب عليه من الآثار الشرعية.

ولعلّه ( قده ) ذكر الإشكال بهذا العنوان تمهيدا لبيان الأقسام الثلاثة من موارد الشك في المعروض ، والأمر سهل.

٣٥١

موضوعه ، كالشك في عدالة زيد المجتهد مع الشك في حياته.

وقد أفاد الشيخ بأنه لا نحتاج في إجراء استصحاب العدالة إلى إحراز الحياة ، لأن المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة ، لكون الموضوع هو زيد على تقدير الحياة. هذا مجمل ما ذكره الشيخ (١).

وقد وقع الكلام بين الأعاظم في مقام تفسيره.

ومنشأ ذلك أمران :

الأول : ما يتراءى من مخالفة ما ذكره هنا لما ذكره أولا من اعتبار بقاء الموضوع ، حيث ذكر انه لا يحتاج إلى إحراز الحياة في استصحاب العدالة.

الأمر الثاني : انه إذا كان الأثر مترتبا على إحراز العرض وموضوعه ، كجواز الائتمام ـ مثلا ـ ، فاستصحاب العدالة على تقدير الحياة لا يجدي في ترتب الأثر ما لم تحرز الحياة ، وإحرازها بالاستصحاب لا يجدي في ترتب العدالة ، لأن ترتبها عقلي تكويني لا شرعي.

والظاهر من العبارة بدوا : ان المستصحب أمر على تقدير بان يستصحب فعلا العدالة على تقدير الحياة ، نظير استصحاب نجاسة الماء المتغير فعلا على تقدير زوال تغيره.

وقد حمل المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل كلام الشيخ على تقدير زوال تغيره.

إرادة استصحاب عدالة الحي الفعلية ولو لم تحرز الحياة فعلا ـ بناء على تفسيره بقاء الموضوع باتحاد متعلق الشك واليقين ، وهو متحقق فعلا ، لأن متعلق الشك عدالة زيد الحي وهو عين المتيقن ـ.

هذا إذا كان الأثر مترتبا على مجرد إحراز العدالة ، فانه يترتب حينئذ بالاستصحاب المذكور.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٢

واما إذا كان ترتبه متوقفا على إحراز الحياة أيضا ، فيجري استصحاب الحياة ، وينضم أحدهما إلى الآخر. ويترتب الأثر.

وانما لم يحمله على ما يظهر منه بدوا من إرادة استصحاب أمر على تقدير ، لما يرد عليه فيما إذا توقف ترتب الأثر على إحراز الحياة من : انه باستصحاب الحياة لا يثبت التقدير المذكور إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، لأن ترتب الأمر المقدر على ما علق عليه ترتب عقلي لا شرعي. فلا تحرز العدالة باستصحاب الحياة (١).

ولكن ما ذكره في تفسيره لكلام الشيخ مردود لوجهين :

الأول : ان كلام الشيخ كالصريح في ان المعتبر هو إحراز بقاء الموضوع عند إرادة استصحاب عرضه ومحموله.

الثاني : انه إذا كان ترتب الأثر متوقفا على إحراز الحياة أيضا ، فلا يجدي استصحاب الحياة في ترتبه ، لأن مرجع ذلك إلى كون الأثر يترتب على ثبوت الحي العادل ، فالعدالة والحياة مأخوذتان في موضوع الحكم بنحو التوصيف لا التركيب ، كما هو شأن كل عرض ومحله إذا أخذا في الموضوع للحكم ، فحيث ان الحياة موضوعها الجسم الموجود ، فيمكن استصحاب حياة هذا الجسم الخاصّ. ولكن استصحاب العدالة على ما قرره ـ أعني : استصحاب عدالة الحي ـ لا يثبت اتصاف الموجود بالعدالة بضم استصحاب الحياة إلاّ بنحو الأصل المثبت كما عرفت.

واستصحابها بمفاد كان الناقصة ـ أعني استصحاب عدالة هذا الموجود ـ غير ممكن ، لعدم إحراز بقاء موضوعه وهو الحياة.

ولعل المحقق النائيني في كلامه ناظر إلى هذه الجهة وتصحيحها. ولا بد في

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣١ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٣

توضيح كلامه من بيان شيء وهو : انه قد أشكل على الاستصحاب في الموضوعات بان الحكم لا يترتب عليها مباشرة وانما يترتب على عنوان مضاف إلى الموضوع ، فاستصحاب الموضوع لا يثبت تحقق العنوان المذكور ، مضافا إلى موضوعه ، كي يترتب عليه الحكم إلاّ بنحو الأصل المثبت ، مثلا الحرمة مترتبة على شرب الخمر وليست على الخمر نفسه ، فاستصحاب خمرية الخمر لا يثبت ان شرب المستصحب شرب للخمر الا على القول بالأصل المثبت.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة لا تخلو من نظر.

وعمدة الجواب : هو الالتزام بان موضوع الحكم مركب من الوصفين وهما : الشرب والخمرية ـ مثلا ـ ، وهما وصفان عرضيان يتواردان على موضوع واحد وهو المائع ، فلم يؤخذ في موضوع الحرمة الشرب المتصف بالخمرية ، بل شرب مائع وخمريته ، فإذا أحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل ، التأم الموضوع وترتب الحكم.

إذا اتضح هذا ، فمحصل ما ذكره النائيني ان الموضوع فيما نحن فيه قد أخذ مركبا ، فالعدالة والحياة أخذا بنحو التركيب في الموضوع لا بنحو التوصيف.

وشأن كل الموضوعات المركبة ان يكون الحكم مترتبا على أحد الجزءين على تقدير الجزء الآخر ، فإذا أحرز الجزء الآخر تمّ الموضوع وثبت الحكم. وهذا هو معنى استصحاب العدالة على تقدير الحياة (١).

وبهذا التوجيه لكلامه يتوجه ان يكون تفسيرا لكلام الشيخ. إلا انه لا يخلو عن نظر لأمرين :

الأول : ان الملحوظ في كلام الشيخ هو إحراز الموضوع ، وكلامه دائر حول هذا الأمر وما ذكره خارج عن ذلك.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٥٧٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٥٤

الأمر الثاني : انه لا يمكن ان يلتزم بما ذكره ، لأنه قد بنى على ان الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحله كانا مأخوذين بنحو التوصيف لا التركيب. وليست العدالة عارضة على الذات كي تكون في عرض الحياة ـ كما ذكره قده ـ ، بل العدالة في طول الحياة ، لأن موضوعها الذات الحية لا مطلق الذات ، كما لا يخفى.

وحينئذ فالذي ينبغي ان يقال في توجيه كلام الشيخ : ان بقاء الموضوع انما يعتبر إحرازه فعلا إذا كان ترتب الحكم متوقفا على إحرازه وإثباته ، كما إذا كان دخيلا في موضوع الحكم ، امّا مع عدم توقفه على ذلك فلا يعتبر إحراز الموضوع.

وحينئذ ففي صورة ما إذا كان زيد على تقدير مماته جائز التقليد ، وعلى تقدير حياته يشك في عدالته ، فيمكن استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بان يؤخذ ظرف الحياة ظرفا للمستصحب ، فالاستصحاب فعلا للعدالة في فرض الحياة.

فان كان حيا واقعا فهو. وان كان ميتا جاز تقليده كما هو مقتضى الفرض. فكلام الشيخ ناظر إلى هذه الصورة وهذا الفرض ، وهو ما إذا لم يكن ترتب الأثر متوقفا على إحراز الموضوع ، ويكون هذا من قبيل الاستدراك على كلية اعتبار بقاء الموضوع. ويكون المراد من العبارة ما هو الظاهر منها من كون المستصحب امرا على تقدير.

بل يمكن ان يقال : ان الّذي يعتبر هو بقاء الموضوع في ظرف المستصحب وفعلية التعبد الاستصحابي ، فلو فرضنا ان ظرف المتعبد به غير ظرف التعبد ، كان اللازم بقاء الموضوع في ظرف المتعبد به. وعليه ففيما نحن فيه بما ان الاستصحاب انما هو للعدالة في ظرف الحياة وعلى تقديرها ، ففعلية التعبد الاستصحابي انما تكون على تقدير الحياة ، فلو كان زيد ميتا فلا استصحاب ولا

٣٥٥

مستصحب. اذن فالموضوع محرز في ظرف فعلية التعبد ، غاية الأمر لا تحرز بالفعل فعلية التعبد لعدم إحراز الحياة ، ولكن على تقدير الحياة يكون هناك تعبد ومعه يكون هناك موضوع ، فلا يكون هذا الفرض استدراكا كما بيّن لعدم تخلف الشرط فيه. فتدبر.

وهذا التفسير سالم عن الإشكال كما لا يخفى ، إلاّ انه لا يجدي فيما إذا كان الأثر متوقفا على إحراز الموضوع كالحياة في المثال ، لأن استصحاب الحياة لا يجدي في إثبات اتصاف زيد بالعدالة كي يترتب الأثر ، لأن استصحاب اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة انما يثبت تحقق الاتصاف في ظرف تحقق الحياة واقعا ، فمفاده من قبيل جعل الملازمة من الاتصاف بالعدالة والحياة الواقعية. فإحراز الحياة ظاهرا بالاستصحاب لا يترتب عليه ثبوت الاتصاف إلا على القول بالأصل المثبت.

وبتقريب أوضح : ان التعبد بالموضوعات مفاده التعبد بحكم مماثل للحكم الواقعي المترتب عليه ، فالتعبد بالعدالة في ظرف الحياة مرجعه إلى التعبد بالحكم المماثل في ظرف الحياة. ولكن ترتبه على الحياة بواسطة العدالة وهي أمر غير شرعي. وحينئذ فباستصحاب الحياة لا يترتب الحكم المماثل المتعبد به ، لأن ترتبه بواسطة غير شرعية ، فيبتني على القول بالأصل المثبت ، فالتفت.

وتحقيق الكلام في هذا الفرض بإجمال : إن الأثر ..

تارة : يكون مترتبا على مجرد وجود الوصف والحكم بمفاد كان التامة من دون لحاظ اتصاف الموضوع به.

وأخرى : يكون مترتبا على وجوده النعتيّ الّذي هو مفاد كان الناقصة بان يلحظ اتصاف الموضوع به.

وعلى الثاني أما أن يكون ترتب الأثر متوقفا على وجود الموضوع الفعلي بحيث لا يترتب إلاّ إذا كان الموضوع متحققا في الخارج. وامّا أن لا يكون

٣٥٦

كذلك ، بل يكفي في ترتبه فرض وجود الموضوع وتقديره ، وذلك كالمثال السابق ..

فان كان الأثر على النحو الأول ـ أعني : مترتبا على الوصف ، بمفاد كان التامة وبوجوده النفسيّ ـ فلا إشكال في جريان استصحاب بقاء الوصف كاستصحاب العدالة ويترتب عليه الأثر. وان كان على النحو الثالث ، فلا كلام في جريان استصحاب الوصف ـ بوجوده النعتيّ ـ على تقدير الموضوع ، ويترتب عليه الأثر فعلا ، كاستصحاب عدالة زيد على تقدير الحياة. وبعبارة أصح : كاستصحاب اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة.

لكنه لا يجري إذا كان على النحو الثاني ، لأن الاستصحاب على تقدير لا يثبت الموضوع ، واستصحاب الموضوع معه لا يستلزم فعلية التقدير لأن الترتب عقلي لا شرعي كما عرفت.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي ـ كما في بعض تقريراته (١) ـ. من جريان الاستصحاب في الاتصاف في بعض فروع الفرض : بان يستصحب تحقق العدالة لزيد أو زيد المتصف بالعدالة. ونظّر له بما إذا شك في بقاء الزوجية. بين امرأة وزوجها الغالب لاحتمال موته ، فانه يجري استصحاب بقاء الزوجية. فان الشك في بقاء زيد العادل مرجعه إلى شكوك ثلاثة : تعلق أحدها ببقاء زيد. والآخر ببقاء العدالة. والثالث ببقاء الاتصاف ، واستصحابه غير ممكن لعدم إحراز بقاء موضوعه المتقوم به.

واما ما ذكره من التنظير ، فهو خارج عن محل الكلام ، لأنه فيما إذا كان الشك في الموضوع التكويني المستصحب لا الشرعي ، وترتب الزوجية على حياة الزوج ترتب شرعي لا عقلي. وحينئذ فمع وجود الموضوع والشك فيها تستصحب ، كاستصحابها بالإضافة إلى المرأة ، ومع الشك فيه يستصحب بقاؤه

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٣١ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٧

وتترتب عليه الزوجية ، كما يستصحب بقاء الزوج وتترتب عليه أحكام زوجيته.

الفرض الثاني : ما إذا كان الشك في الحكم ناشئا ومسببا عن الشك في بقاء الموضوع مع العلم بحدود الموضوع. نظير ما لو علم بان الموضوع للنجاسة هو التغير وشك في بقاء تغير الماء وعدمه. ففي مثل هذه الصورة يجري الاستصحاب في الموضوع ويترتب حينئذ الحكم بلا كلام ، ولا مجال لاستصحاب الحكم مع عدم جريانه في الموضوع بعد الفراغ ، من كون الوصف مقوما.

الفرض الثالث : ما إذا كان الشك في العرض مسببا عن الشك في بقاء الموضوع للشك في مفهوم الموضوع وتردده بين ما هو باق ومرتفع.

وقد مثل له الشيخ بمثالين : أحدهما : ما إذا تردد موضوع النجاسة بين ان يكون هو الماء المتغير ولو آناً ما أو المتغير فعلا. والمثال الثاني : ما إذا تردد موضوع النجاسة بين أن يكون هو الكلب بوصف انه كلب ، بأن يكون الموضوع متقوما بالصورة الشرعية ، أو المشترك بين الكلب وما يستحال إليه من الملح أو غيره ، بان يكون الموضوع هو الجامع بين الحالتين (١).

ولكن المثال الأول خارج عن مورد الشبهة المفهومية ، لأن الشك ليس في مفهوم التغير ولا في مفهوم الماء ، بل انما هو في كون الوصف ـ أعني : التغير ـ هل هو من قبيل الحالات للموضوع أو من المقومات له؟ ، فيندرج تحت الشبهة الحكمية. بخلاف المثال الثاني فان الشك في مفهوم الكلب وانه ما هو؟.

وعلى كل فقد حكم الشيخ في هذا الفرض بعدم جريان الاستصحاب لا في الموضوع ولا في الحكم.

اما استصحاب ذات الموضوع ، فهو لا يثبت انه هو الموجود الخارجي المشكوك ، نظير استصحاب الكرية في عدم إثبات كرية الموجود.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٨

وامّا استصحاب الموضوع بما هو موضوع فهو من قبيل استصحاب الحكم ، لأن وصف الموضوعية انما يصح استصحابه مع إحراز معروضه وهو الذات.

وامّا استصحاب الحكم ، فهو لا يجري ، لعدم إحراز موضوعه فلا يعلم كون رفع اليد عن اليقين السابق نقضا كي تشمله أدلة الاستصحاب.

وقرب آخرون المنع عن الاستصحاب في الموضوع : بأنه ليس لدينا شك راجع إلى الموجود الخارجي ، ففي مثال الكلب الصورة النوعية مقطوعة الزوال ، والجسم بدونها مقطوع التحقق ولا شك فيه. ومع عدم تعلق الشك بالموجود الخارجي فما هو الّذي يستصحب حينئذ؟ ، وانما الشك في نفس المفهوم ، وهو لا يصحح الاستصحاب (١).

ولكن ما ذكره الشيخ وغيره من عدم جريان الاستصحاب في الموضوع غير تام بهذا التقريب ، فان الّذي يراد استصحابه هو انطباق المفهوم على هذا الموجود الخارجي ، يعني كلبية هذا الجسم ، فانه قبل زوال الصورة النوعية كان المفهوم منطبقا على هذا الجسم ، وبعد زوالها يشك في بقاء انطباقه عليه فيستصحب. وتوضيح ذلك : ان اللفظ لا يوضع بإزاء الوجود الخارجي ولا الوجود الذهني ، وانما يوضح بإزاء المفهوم والماهية المنطبق على الموجود. فلفظ الكلب ـ مثلا ـ المأخوذ في موضوع الحكم موضوع للمفهوم المردد بين ما يكون متقوما بالصورة النوعية وما لا يكون ، بل كان هو الجامع بين الحالتين. وهذا المفهوم المأخوذ في موضوع الحكم كان منطبقا على هذا الجسم وهذا الموجود الخارجي حين اتصافه بالصورة النوعية. وبعد زوال الصورة النوعية يشك في بقاء انطباقه على هذا الموجود فيستصحب ويترتب الحكم عليه ، فيقال : كان هذا كلبا والآن

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٣٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٩

كما كان وبهذا التقريب لجريان الاستصحاب لا يبقى مجال لما ذكره الشيخ في مقام المنع من ان استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود إلاّ بنحو الأصل المثبت ، لأن المستصحب ليس هو ذات الموضوع ، بل انطباق الموضوع ـ وهو الكلبية ـ على هذا الموجود.

كما ان ما ذكره غيره من عدم الشك في نفس الموجود ، لا وجه له حينئذ ، لأن الّذي يراد استصحابه هو الانطباق وهو متعلق للشك وليس بمعلوم.

فكلا الوجهين في تقريب المنع لا يرتبط بأصل المدعى.

ولكن هذا التقريب أيضا غير تام ، لأن الخصوصية إذا كانت مأخوذة في مقام التسمية والموضوع له كانت من مقومات الموضوع ، فإذا كانت الصورة النوعية مأخوذة عند وضع اللفظ لمفهوم الكلب ، بمعنى ان المفهوم كان هو المتقوم بالصورة النوعية فعند انتفائها ينتفي موضوع الانطباق ، لأنه يكون حينئذ الوجود بصورته النوعية. فمع الشك في دخل هذه الخصوصية ـ أعني الصورة النوعية مثلا ـ في المفهوم المسمى والموضوع له اللفظ ، يشك عند انتفائها في بقاء موضوع الانطباق ومعروضه ، لاحتمال ان يكون هو الوجود المتقوم بالصورة النوعية لا الأعم. فلا يصح استصحاب الانطباق لعدم العلم ببقاء موضوعه ، فلا يعلم انه إبقاء للحالة السابقة ، بل يحتمل ان يكون إسراء للمستصحب من معروض إلى آخر.

وبتقريب آخر يقال : بعد فرض كون الخصوصية إذا كانت دخيلة في المسمى والموضوع تكون مقومة للمسمى بحيث ينتفي انتفائها. كان المفهوم مرددا بين المتباينين واجد الخصوصية والأعم ، لأن التردد بين العام والخاصّ تردد بين المتباينين ، فالواجد مباين للأعم مباينة الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا ، وحينئذ فالمفهوم المردد يرجع إلى الفرد المردد. ويكون المورد من

٣٦٠