منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

....................................................

__________________

الّذي لا وجود له فيمكن فرضه بالفعل وقبل وجوده الّذي هو الشرط.

وإنّما موضوعه هو وجود الطبيعة فإنّه هو الّذي يكتفي به في مقام الامتثال ، فقبل وجود الأجزاء ليس لدينا ما يقال إنّه كان يكتفي به في مقام الامتثال على تقدير والآن كذلك. وعند وجودها يكون الاكتفاء مشكوك الحدوث رأسا ، فلا مجال للاستصحاب المدّعى.

وأما الصحة من حيث موافقة الأمر ، فالكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الصحة بلحاظ مقام الامتثال من عدم الشك في البقاء لو أريد صحة الأجزاء السابقة وعدم اليقين بالحدوث لو أريد بها صحة المجموع المركّب ، وكونه من الاستصحاب التعليقي الّذي عرفت إشكاله لو أريد صحة الأجزاء السابقة.

هذا مع أنّ موافقة الأمر ليست من الأمور الشرعية بل هي تنتزع عن مطابقة المأتيّ به للمأمور به وليست مجعولة بل تتحقّق بتحقّق أمرين والعمل الخارجي المطابق.

ومن الواضح إنّها تبتني على وجود الأمر في مرحلة سابقة على العمل ، إذ لا يتعلّق الأمر بما هو موجود كي يكون المأتي به قبل الأمر مطابقا للمأمور به بعد الإتيان.

ومن هنا اتّضح أنّ الأمر الشرعي وإن كان دخيلا في انتزاع عنوان الموافقة لكنّ ذلك لا ينفع في قابلية الموافقة للجعل والرفع ولو بلحاظ منشأ انتزاعه ، لأنّ الأمر لو كان هو الجزء الأخير من العلّة لأمكن الالتزام بذلك ، لكن عرفت أنّه أسبق من الجزء الآخر وهو العمل الخارجي ، فالجزء الأخير لانتزاع عنوان الموافقة هو عمل المكلّف وهو ليس بشرعي ، فتدبّر.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما أفاده المحقّق العراقي من جريان استصحاب الصحة بمعنى موافقة الأمر ببيان أنّها شرعية لشرعية منشأ انتزاعه وهو أمر الشارع وتكليفه ، وقد عرفت منع كونها شرعية ، كما أنّ ما أفاده في تقريب جريانه بان الموافقة من الأمور التدريجية بتدرّج الأجزاء ، فمع الشك في مانعية الموجود يجري استصحاب الموافقة على نحو جريانه في سائر الأمور التدريجية ، يرد عليه أن جريان الاستصحاب في الأمر التدريجي إنّما ينفع في إثبات الأمر التدريجي بمفاد كان التامة كبقاء النهار والكلام والجريان ولا ينفع في إثبات اتّصاف الموجود بالوصف التدريجي ، فلا يثبت باستصحاب النهار نهارية الموجود.

وعليه فاستصحاب الموافقة التدريجية لا يثبت سوى بقائها وأما اتّصاف المأتيّ به بالموافقة فهو لا يثبت بالاستصحاب. ومحل الأثر هو كون المأتيّ به موافقا له ، فلاحظ.

وأما الصحة من حيث بقاء الأمر بالعمل وعدم سقوطه فتحقيق الحال فيها : إنّ الأمر الّذي يتعلّق بالمركّبات التدريجية كالصلاة إما أن يلتزم بأنّه موجود دفعة من حين العمل ، غاية الأمر أنّ داعويّته واقتضاءه تدريجيّ الحصول بتدرّج العمل فعند أوّل جزء يكون داعيا إليه وبعد إتيانه يدعو للجزء الآخر

٣٢١

والكلام في مقامين :

المقام الأول : في استصحابها مع الشك في مانعية الموجود أو اعتبار المفقود.

المقام الثاني : في استصحابها مع الشك في طرو القاطع المعبر عنه باستصحاب الهيئة الاتصالية.

امّا الكلام في المقام الأول : فتحقيقه : انه قد يتمسك عند الشك في أحدهما باستصحاب صحة العبادة.

وقد نفي الشيخ في مبحث الاشتغال جريان الاستصحاب المذكور.

بتقريب : ان المستصحب إن كان صحة مجموع العمل ، فهو بعد لم يتحقق ، فلا معنى لاستصحابه. وان كان صحة الاجزاء السابقة ، فالمراد بصحتها لا يخلو امّا

__________________

وهكذا.

وإما أن يلتزم بأنّه موجود تدريجا بتدرّج العمل ، فيحصل جزء منه عند أوّل جزء ثم يحصل جزء آخر منه عند الجزء الآخر من العمل وهكذا ، ومبنى هذا القول هو الالتزام باستحالة الواجب المعلّق ، فيستحيل الحكم الفعلي من الآن بجميع أجزاء العمل التدريجي لأنّ تعلّقه بغير الجزء الأول يكون من قبيل الواجب المعلّق.

فعلى المبنى الأول ، إذا تخلّل مشكوك المانعية يحصل الشك في سقوط اقتضاء الأمر بالنسبة إلى الجزء اللاحق لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل الإتيان بمشكوك المانعية ، فقد يقال باستصحاب اقتضاء الأمر بالنسبة إلى الجزء اللاحق ويترتّب عليه لزوم إتيانه ، ولكن لا يخفى أن اقتضاء الأمر ليس أمرا شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي فلا مجال للاستصحاب.

وأما على المبنى الثاني ، فتخلّل مشكوك المانعية يوجب الشك في سقوط الأمر المتعلّق بالجزء اللاحق لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل إتيان المشكوك. والأمر مما يمكن استصحابه ويترتّب عليه لزوم الإتيان به عقلا ويحصل الامتثال.

لكن المبنى نفسه مما لا نلتزم به كما حقّق في محلّه.

فتلخّص : أنّ استصحاب الصحة بجميع احتمالاته لا مجال له إلاّ على فرض واحد لا نلتزم بمبناه ، فتدبّر.

وبملاحظة هذه الشقوق في استصحاب الصحة تعرف القصور في كلمات الشيخ والمحقّق النائيني لعدم استيعابها لجميع هذه الشقوق ، والأمر سهل.

هذا تمام الكلام في استصحاب الصحة عند طروء مشكوك المانعية.

٣٢٢

ان يكون موافقتها للأمر الضمني أو الغير المتعلق بها. وامّا ان يكون ترتب الأثر عليها ، وهو حصول المركب بها مع انضمامها إلى باقي الاجزاء والشرائط.

وهي بكلا معنييها مقطوعة البقاء ، لأنها حين الإتيان بها وقعت مطابقة للأمر المتعلق بها فلا تنقلب عما وقعت عليه ، كما انها بنحو لو انضم إليها تمام الاجزاء والشرائط لحصل الكل. فعدم حصول الكل الناشئ من عدم انضمام تمام ما يعتبر فيه إليها لا يوجب الإخلال بصحتها بهذا المعنى. كما هو الحال في المركبات الخارجية مثل : « الإسكنجبين » ، فانه لا يضرّ في صحة « الخل » ـ بما انه جزء ـ عدم انضمام باقي الاجزاء إليه.

وعليه ، فلا معنى لاستصحاب الصحة.

وبعد ان ذكر هذا التقريب أورد على نفسه بما محصله : انه بناء على ما ذكر يمتنع عروض البطلان على الاجزاء إلى الأبد ، مع انا نرى وقوع التعبير ببطلانها في النصوص والفتاوى ، وهو ينافي ما ذكر.

وأجاب عنه : بأنه لا ضير في الالتزام بعروض البطلان عليها ، ومعناه عدم الاعتداد بها في حصول الكل (١). ومن هنا كان في كلامه مجال لتوهم جريان الاستصحاب ، لأنه بعد التزامه بإمكان عروض البطلان والصحة على الاجزاء بهذا المعنى ، فمع الشك فيه يمكن إجراء الاستصحاب. وهو لم يتعرض لمنع جريانه. ولكنه أشار إلى منعه بما ذكره من تعليله لعدم الاعتداد بعدم التمكن من ضم باقي الاجزاء إليها.

وتقريب منعه بوجهين :

الأول : ان المتعبد به شرعا لا بد ان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي أو أمرا منتزعا عن حكم شرعي ، ويمثل للأخير ـ وهو مركز الاستشهاد

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٨٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٣

بالتعبد بالصحّة ، بمعنى موافقة الأمر ، وبمعنى الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال. فان الشك في صحة العمل.

تارة : يكون سابقا على الإتيان ـ وهو المراد بها بمعنى موافقة الأمر ـ ، بمعنى انه حين إرادة الامتثال يشك في ان مجموع هذا العمل موافق للأمر أو لا.

وأخرى : يكون بعد الإتيان به ـ وهو المراد بها بمعنى الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال ـ ، بمعنى انه بعد الإتيان بالعمل يشك في الاكتفاء به في الامتثال وسقوط الأمر وعدمه. وموافقة الأمر ليست حكما شرعيا ، ولا موضوعا لحكم شرعي ، بل هي انما تنتزع عن تعلق الأمر بما يطابق المأتي به وهو أمر شرعي. وكذلك الاكتفاء به في الامتثال ، فانه أمر عقلي يدور مدار سقوط الأمر وعدمه ـ وان خالف في ذلك بعض الأعاظم ، فجعله بيد الشارع (١) ـ ، ولكنه ينتزع عن بقاء الأمر وعدم بقائه وهو أمر شرعي ، كما لا يخفى. والصحة بكلا هذين المعنيين وان لم تكن من الأحكام الشرعية ولا من موضوعاتها ، ولكنها منتزعة عن أمر شرعي. فالتعبد بها بلحاظ منشأ انتزاعها. وما نحن فيه ليس كذلك ، لأن الصحة والبطلان بالمعنى المذكور ـ وهو الاعتداد بها وعدمه ـ تنتزعان عن التمكن من ضم باقي الاجزاء إليها وعدم التمكن ، وهو ليس بأمر شرعي. وان كان منتزعا عن أمر شرعي ، فلا يجري الاستصحاب فيها لأنها تنتزع عن أمر غير شرعي بل انتزاعي.

الوجه الثاني : ان المشكوك على تقدير مانعيته نسبته إلى الأجزاء السابقة واللاحقة على حد سواء ، فكما يمنع عن الاعتداد بالأجزاء السابقة كذلك يمنع عن الاعتداد باللاحقة ، فاستصحاب بقاء الاعتداد بالأجزاء السابقة لا يجدي. في إثبات الاعتداد بالاجزاء اللاحقة وصحتها بهذا المعنى ، إلاّ بنحو الأصل

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٢٤١ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٢٤

المثبت.

وقد اعترض المحقق الهمداني رحمه‌الله على الشيخ رحمه‌الله في جوابه المذكور : بأنه التزام منه باتصاف الاجزاء بالصحّة والبطلان. ثم التزم بجريان الاستصحاب بتقريبين.

الأول : انه يجري استصحاب صحة الاجزاء السابقة لنفي وجوب الإعادة ، ويترتب عليه وجوب المضي في العمل ، وهو حكم شرعي وبذلك دفع الإشكال عليه بكونه مثبتا.

التقريب الثاني : انه يجري استصحاب تنجز وجوب الاجزاء اللاحقة ، لأنه بعد الإتيان بالجزء السابق يتنجز وجوب الجزء اللاحق ، فعند الإتيان بمشكوك المانعية يشك في بقاء تنجز الوجوب وارتفاعه فيستصحب.

ولكن كلا تقريبيه غير تامين :

امّا التقريب الثاني : فلأنه امّا ان نقول : بان وجوب المركب التدريجي فعلي قبل الإتيان به. أو نقول : بان فعلية الأمر وتنجزه تدريجية أيضا بتدريجية الاجزاء. فعند حصول كل جزء والإتيان به يتنجزه الأمر بالجزء الآخر. وهكذا ـ كما عليه المحقق المذكور على ما هو ظاهر كلامه في المقام ـ.

وعلى كلا القولين لا يصح ما ذكره.

فعلى القول الأول : فلا مجال للاستصحاب أصلا ، لأن الحكم الشرعي بخصوصياته المرتبطة بالشارع ثابت قبل الإتيان بها وباق ولا شك فيه. وإمكان الإتيان بالجزء اللاحق وعدمه أمر عقلي ناشئ من حكم العقل بالتمكن من الإتيان به عند الإتيان بما سبقه وعدم التمكن منه عند عدم الإتيان بسابقه.

٣٢٥

وعلى القول الثاني (١) : فلأنه وان أمكن تصور الاستصحاب النسبة إلى وجوب الجزء اللاحق الأول حيث كان منجزا فيستصحب ، ولكنه لا ينفع بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى اللاحقة. وقد عرفت ان الشك فيها موجود للشك في طرو المانع.

وتوهم : ان تنجز وجوب الجزء اللاحق بامتثال الجزء السابق ، فمع الإتيان به بعد استصحاب تنجز وجوبه يتنجز وجوب الجزء اللاحق الآخر.

مندفع : بأنه انما يتم لو كان امتثال الجزء السابق موضوعا لتنجز وجوب الجزء اللاحق ، ولكنه ليس كذلك ، لأن المفروض ان الأجزاء متلازمة في مقام الامتثال ومترابطة ، ولا امتثال لكل منها مستقلا وعلى حدة ، والموضوعية تقتضي استقلال كل منها بالامتثال. وانما تنجز وجوب الجزء اللاحق ملازم لامتثال الجزء السابق ـ والملازمة عقلية واقعية ـ ، فتحققه بامتثال الجزء السابق يتوقف على القول بالأصل المثبت ، لأنه امتثال ظاهري بمقتضى الاستصحاب لا واقعي.

وامّا التقريب الأول : فوضوح الإشكال عليه يتوقف على بيان ان وجوب الإعادة هل هو أمر عقلي أو شرعي؟. وما علاقة وجوب المضي به؟.

وتحقيق ذلك : انه قد اختلف في كيفية تعلق الأمر بالمركب الاعتباري التدريجي إلى مسالك ثلاثة :

الأول : انه متعلق بالاجزاء مع لحاظ عنوان زائد عليها ، وهو سابقية الجزء

__________________

(١) لم يرتض سيّدنا الأستاذ هذا الإشكال في هذه الدورة ولذا تقدّم التزامه بجريان الاستصحاب بناء على الالتزام بتدريجية الوجوب ، وإنّما منع أصل المبنى ، وعلّله بأنّ الأمر إذا كان تدريجيّا ، أمكن استصحاب بقائه بمجرد حصوله وتعلّقه بالجزء اللاحق الأول ، فعند وصول النوبة إلى الجزء اللاحق الثاني يستصحب بقاء الأمر ، لأنّه واحد تدريجي لا متعدّد.

ولكن في النّفس منه شيء ، فإنّ استصحاب بقاء الأمر بالصلاة لا ينفع في إثبات تعلّق الأمر بهذا العمل وهذا الجزء ، كما التزم به في سائر الأمور التدريجية ، فتدبّر.

٣٢٦

على الآخر ولا حقية الآخر له. فالامر الضمني المتعلق بالجزء لا يسقط إلاّ مع الإتيان به وحفظ عنوانه من السبق أو اللحوق ، فمع عدم الإتيان بالجزء اللاحق لا يسقط الأمر بالجزء السابق ، بل يبقى على ما كان عليه من اقتضاء الإتيان به بعنوانه ، ومع الشك في الإتيان بالجزء اللاحق وعدمه ، يشك في كون الإتيان بالجزء السابق بعنوانه المأخوذ فيه وعدمه. فيشك في صحته وموافقته للأمر من أول الأمر. ومعه تجري أصالة عدم الصحة. ولا مجال لاستصحاب الصحة لعدم تحققها ، بل هي مشكوكة التحقق والحدوث.

وعليه ، تجب إعادة هذا الجزء لبقاء أمره على اقتضائه.

المسلك الثاني : انه متعلق بذوات الأجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على ذواتها ، وانه امر واحد متعلق بالجميع ويسقط بالإتيان بالكل. وغاية الأمر ان فيه اقتضاءات متعددة بتعدد الأجزاء يحكم العقل بها ، فعند الإتيان بكل جزء يسقط اقتضاء الأمر الخاصّ بذلك الجزء وهكذا ، فإذا طرأ المانع في الأثناء تجدد اقتضاء الأمر للإتيان بالاجزاء السابقة بنظر العقل ، فتجب إعادتها حينئذ ووجوب الإعادة بهذا المعنى عقلي.

المسلك الثالث : انه متعلق بذوات الاجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على ذاتها ، وانه أمر واحد ولكنه يسقط الإتيان بكل جزء بقدره. فإذا طرأ المانع في الأثناء ثبت أمر آخر يتعلق بالمجموع بنفس الملاك الّذي اقتضى الأمر أولا ، لغرض بقاء الملاك مع عدم الإتيان بالمركب ، فتجب إعادة الأجزاء السابقة حينئذ. ووجوب الإعادة بهذا المعنى شرعي.

ولا يخفى ان الصحة على كلا المسلكين الأخيرين معلومة التحقق ، فيمكن تصور الشك في بقائها عند الشك في طرو المانع. بخلاف المسلك الأول فانها عليه مشكوكة التحقق عند الشك في طرو المانع ، لأن مرجع الشك في المانعية إلى أخذ عدمه جزءا ، فيشك في أن الأجزاء السابقة هل انحفظ فيها

٣٢٧

عنوان السبق على الجزء الآخر أولا؟ ، فيشك في أصل الصحة.

وإذا تبين ما ذكرنا ، تعرف انه لا مجال للكلام في استصحاب الصحة ـ على المسلك الأول ـ ، كي يبحث في صحة ترتب عدم وجوب الإعادة عليه ، لغرض عدم اليقين بها أصلا في صورة الشك في طرو المانع. وقد عرفت ان الأصل عدم الصحة.

نعم ، يتأتى الكلام فيه على المسلكين الأخيرين لتحقق موضوعه.

إلاّ انه حيث كان وجوب الإعادة المدعى المترتب على استصحاب الصحة عقليا ـ على المسلك الثاني ـ لا شرعيا ، لأنه يكون ـ عليه ـ عبارة عن اقتضاء الأمر الإتيان بهذا الجزء بنظر العقل ، لم يجري الاستصحاب لعدم ترتب عدم وجوب الإعادة عليه كما ادعي.

نعم ، بناء على المسلك الثالث يكون وجوب الإعادة شرعيا ، لأنه عبارة عن ثبوت امر آخر يشمل هذا الجزء ، فيترتب على استصحاب الصحة عدم وجوب الإعادة.

إلاّ ان الغرض من استصحاب الصحة وعدم وجوب الإعادة ليس هو إلاّ إثبات صحة الاجزاء اللاحقة ـ لما عرفت من ان نسبة الشك إليها نسبته إلى الأجزاء السابقة ـ ، ولا طريق إليه إلا إثبات ترتب وجوب المضي على عدم وجوب الإعادة ، وهو ممنوع ، لأن وجوب المضي أمر عقلي ينتزعه العقل من أمر شرعي ، وهو الوجوب الشرعي المتعلق بالاجزاء اللاحقة ، وأمر تكويني ، وهو الإتيان بالاجزاء السابقة ، فان الوجوب المتعلق بالاجزاء اللاحقة محفوظ وثابت لا يرتفع بحال اما في ضمن الكل أو بنفسها بعد الإتيان بسابقها ، فوجوب المضي ينتزع عقلا عنه وعن الإتيان بالاجزاء السابقة ، وإلاّ فهو مما لا أثر له في لسان الشارع ، وعليه فلا يترتب على عدم وجوب الإعادة.

نعم ، لو كان وجوب المضي بمعنى وجوب الإتمام وحرمة الابطال ، وسلمنا

٣٢٨

بثبوت وجوب تكليفي للإتمام آخر غير الأمر بالعبادة. كان وجوب المضي حكما شرعيا ، لأنه عبارة أخرى عن وجوب الإتمام. لكن لا يجدي ترتبه على الاستصحاب في الاكتفاء بالعمل في مقام امتثال الأمر بالعبادة ، لأن المضي والإتمام انما يكون امتثالا للأمر بالإتمام ، لأنه حكم تكليفي مستقل ـ كما هو المفروض ـ ويشك في كونه امتثالا للأمر بالعبادة.

نعم ، لو قلنا : ان وجوب الإتمام ليس حكما تكليفيا آخر غير وجوب نفس العمل ، وانما يرجع إلى تعيين امتثال الأمر الطبيعي في خصوص هذا الفرد. كان الاستصحاب مجديا ، فانه يستصحب صحة الأجزاء السابقة ، فيترتب عليها وجوب الإتمام وهو حكم شرعي معين لامتثال ذلك الأمر بهذا الفرد. فإذا جيء بباقي الأجزاء امتثل الأمر بالطبيعي.

وقد نقل السيد الخوئي ـ كما في بعض تقاريره ـ عن الشيخ ـ بعد ما نقل عنه : ان استصحاب الصحة بمعنى تمامية مجموع الاجزاء والشرائط لا يجري ، لأنها بهذا المعنى مشكوكة الحدوث ـ : أن صحة الاجزاء السابقة التي هي عبارة عن الصحة التأهلية ، بمعنى كونها قابلة لانضمام الاجزاء إليها ، لا تكون محتملة الارتفاع بل هي باقية يقينا ، فلا مجال لجريان الاستصحاب الا على نحو التعليق ، بان يقال : ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر الاجزاء قبل حدوث هذا الشيء لحصل الامتثال فالآن كما كان.

ثم حكم بعد نقل هذا : بمتانة ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب ، وانه لا يمكن جريانه الا على نحو التعليق ، وهو غير حجة لا سيما في الموضوعات ، كما في المقام (١).

ولا يخفى ان ما ذكره حكاية عن الشيخ من عدم جريان الاستصحاب

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢١١ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٩

الا على نحو التعليق يبتني على أمرين :

الأول : ان يكون الملحوظ في قابلية الاجزاء السابقة الانضمام إلى الاجزاء الأخرى المعينة بنحو القضية الخارجية ، لأنه إذا لوحظت الاجزاء الأخرى بنحو القضية الحقيقية ، وان الانضمام إلى باقي الاجزاء لا إلى هذه الاجزاء المعينة الباقية ، لا يكون هناك شك أصلا لليقين بحصول الامتثال واستمراره ـ حتى بعد طرو المانع ـ مع انضمام الاجزاء السابقة إلى باقي الاجزاء المعتبرة. فالشك انما يتحقق إذا لوحظت الاجزاء الأخرى بالنحو الأول.

الأمر الثاني : ان يلحظ الأثر المترتب على الكل ـ وهو حصول الامتثال ـ ، فانه إذا أضيف إلى بعض الاجزاء اقتضى تعليقها على انضمام البعض الآخر إليها.

وإلاّ فلو لوحظ الأثر المترتب عليها فلا معنى للتعليق ـ كما لا يخفى ـ.

ومن الواضح ان هذين الأمرين لا أثر لهما في كلام الشيخ ، لأنه لاحظ الاجزاء الأخرى بنحو القضية الحقيقية لا بنحو القضية الخارجية ، لما عرفت من كلامه من ان الصحة ، بمعنى ترتب الأثر تتصور على نحوين :

أحدهما : ان الاجزاء السابقة لو ضم إليها تمام ما يعتبر في الكل لالتأم الكل ، وهي مقطوعة البقاء حتى مع العلم بطرو المانع.

النحو الثاني : ان الاجزاء السابقة معتد بها في الكل المعبر عنها بعدم لغوية الاجزاء ، وهي التي كانت مجالا للإيراد كما عرفت.

ولا أثر ـ في كلا النحوين ـ لهذا الوجه الّذي نقله عن الشيخ من لحاظ الاجزاء السابقة منضمة إلى الاجزاء الأخرى بنحو التعيين.

كما ان الشيخ ـ بصريح كلامه ـ لاحظ الأثر المضاف إلى الاجزاء أثرها الخاصّ المترتب عليها.

٣٣٠

ثم (١) ما ذكره من متانة حكم الشيخ بعدم الاستصحاب لعدم جريان الاستصحاب التعليقي لا سيما في الموضوعات. لا وجه له ، لأن المستصحب أمر شرعي ، فان حصول الامتثال ـ على رأيه ـ بيد الشارع. والشيخ يقول بجريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام وان نفاه في الموضوعات.

والمحقق العراقي قدس‌سره بعد ما بين ـ أن سبب الشك في الفساد والصحة يتصور على وجوه. وأجرى الأصل في بعض الموارد في نفس السبب دون المسبب. ومنع جريانه في نفس السبب في بعض الموارد الأخرى ، وانه على تقدير جريان الأصل فيها ، فهو انما يجري في المسبب وهو الصحة وانه قد وقع الخلاف فيه ـ أفاد : بان الشيخ اختار المنع عنه بتقريب : ان المراد بالصحّة المستصحبة للأجزاء ان كان هو الصحة الشأنية فهي مقطوعة البقاء ، فلا مجال لاستصحابها. وان كان هو الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية فلا مجال لاستصحابها لعدم اليقين بحدوثها ، لأنها انما تكون عند الإتيان بالكل من الاجزاء والشرائط والمفروض الشك في ذلك.

وأورد عليه : بأنه انما يتم لو كان ترتب الأثر عليها دفعيّا عند حصول تمام اجزاء المركب. اما مع فرض تدريجية حصوله بتدريجية الأجزاء ، فكل جزء يؤثر في مرتبة من مراتبه حتى يتم المركب ، فلا وجه لمنع الاستصحاب ، فانه بعد تحقق جزء أو جزءين يعلم بتحقق الصحة التدريجية ، أو بعد طرو المشكوك يشك في بقائها بتلاحق بقية الاجزاء والشرائط فتستصحب.

__________________

(١) بينا في دفتر الاستدراكات انه لا مجال للاستصحاب التعليقي هاهنا. فراجع.

ثم ان ما ذكرناه كان بالنسبة إلى الحكم التعليقي الثابت للاجزاء اللاحقة ، ومحل الكلام هنا هو الحكم التعليقي الثابت للاجزاء السابقة. والفرق بينهما موجود ، لوجود الاجزاء السابقة ، فيرتفع الإشكال الّذي بيناه. ولكن نقول : ان الحكم التعليقي لا يثبت للاجزاء السابقة وحدها ، فلا يصح ، بل هي منضمة إلى سائر الاجزاء ، فلا يصح ان يقال : ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر ما يفيد لتحقق الامتثال بها ، بل يتحقق الامتثال بها وبغيرها من الاجزاء فانتبه ولا تغفل.

٣٣١

ثم استظهر من ذلك إمكان جريان استصحاب الصحة ، بمعنى موافقة الأمر ، فانها أيضا تدريجية الحصول ، فمع طرو المشكوك يشك في بقاء هذه الموافقة التدريجية فتستصحب. كما يستصحب غيرها من الأمور التدريجية (١).

ولكن يرد على استصحاب الصحة بمعنى المؤثرية التدريجية ـ مع الإغماض عن مثبتيته التي تتضح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ :

أولا : ان المؤثرية ليست من الأمور الشرعية ، بل هي من الأمور التكوينية اللازمة للأجزاء.

وثانيا : ان هذه المؤثرية المترتبة على الجزء ليست هي ملاك تعلق الأمر ، وإلاّ للزم الأمر بكل جزء مستقل ، مع ان المفروض ارتباطيتها وتلازمها ، فلا كلام في استصحابها وعدمه أصلا.

واما استصحاب الموافقة التدريجية ، فيدفعه : ان الأجزاء متلازمة في مقام الامتثال وسقوط الأمر ، فالإتيان بالجزء لا تحصل به الموافقة الا مع ملحوقية غيره له وسابقيته على غيره ، اما بنحو الشرط المتأخر أو أخذه بوصف الملحوقية ، فمع احتمال طرو المانع يشك في أصل الموافقة ، فلا مجال لاستصحابها لأنها مشكوكة الحدوث والتحقق.

ويتحصل من جميع ما ذكرناه : ان لا مجال لاستصحاب الصحة عند الشك في طرو المانع بأي معنى من المعاني أخذت. وان ما ذكره الشيخ قدس‌سره متين وتام ومسلم.

يبقى الكلام في :

المقام الثاني : وهو استصحاب الهيئة الاتصالية.

وقد بين الفرق بين القاطع والمانع ، بان كليهما وان كانا يشتركان في ان

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٢٣٩ ـ ٢٤١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٣٢

عدمهما مما لا بد منه في الصلاة ، إلاّ ان عدم المانع مأخوذ متعلقا للأمر بنحو القيدية أو الجزئية. بخلاف عدم القاطع ، فانه غير متعلق للأمر ، وانما هو مانع من تحقق الجزء الصوري المعتبر في الصلاة ، المعبر عنه بالهيئة الاتصالية. فانه قد يستفاد من التعبير بالقاطع وجود جزء صوري للصلاة مضافا إلى الجزء المادي ـ الّذي هو أجزاؤها التي تأتلف منها.

ومن هنا يعلم انه لا بد من الكلام في جهتين :

الجهة الأولى : في صحة استصحاب الهيئة الاتصالية وعدمها.

والجهة الثانية : في تحقيق انه هل يوجد فرق بين القاطع والمانع ، بحيث يختلفان في الآثار أم انهما شيء واحد ، والاختلاف بينهما اصطلاحي لا أكثر.

أمّا الكلام في الجهة الأولى : فقد أفاد الشيخ رحمه‌الله في مبحث الاشتغال انه يمكن إجراء الاستصحاب على نحوين :

الأول : ان يستصحب الهيئة الاتصالية الحاصلة بوجود بعض اجزاء الصلاة ، لأن الهيئة الاتصالية من الوجودات التدريجية التي تحصل بحصول بعض اجزائها ، وهي وجود واحد عرفا وان كان متعددا عقلا وذاتا ، فيمكن استصحابها عند الشك في بقائها.

الثاني : ان يستصحب قابلية الأجزاء السابقة للاتصال بالاجزاء اللاحقة ، فانه قبل طروء محتمل القاطعية كانت القابلية متحققة فيها ، وبعد طروه يشك في بقائها فتستصحب.

ثم أورد على النحو الأول : بان المراد من الهيئة الاتصالية المستصحبة ، ان كان طبيعي الهيئة الاتصالية ، فهو لا يجدينا نفعا. وإن كان الهيئة الاتصالية الحاصلة بين الأجزاء السابقة ، فهي مقطوعة البقاء. وان كان الهيئة الاتصالية بين الأجزاء السابقة واللاحقة فهي مشكوكة الحدوث.

وأورد على النحو الثاني : بان استصحاب القابلية لا يبعد ان يكون من

٣٣٣

الأصول المثبتة.

وأجاب عن الإيراد على الأول : بان الاجزاء السابقة واللاحقة وجود واحد بنظر العرف ـ كما يظهر من تشبيهه له باستصحاب الكربة ـ ، فيمكن استصحاب الهيئة الاتصالية فيه عند تحقق بعض إجزاءه (١).

وفيه :

أولا : ان الأجزاء متباينة ذاتا ، ووحدتها بالاعتبار ، بمعنى اعتبار الاتصال بينها الّذي تحققه هاهنا محل الكلام ، فكيف تستصحب الهيئة الاتصالية باعتباره!.

وثانيا : ان المستصحب في الأمور التدريجية انما هو الأمر التدريجي بمفاد كان التامة فلا يتكفل الاستصحاب ثبوت الوجود التدريجي بمفاد كان الناقصة.

وعليه ، فاستصحاب الهيئة الاتصالية انما يجدي لو كان المعتبر وجود طبيعي الهيئة الاتصالية ، مع انه ليس كذلك ، لأن المعتبر انما هو الاتصال بين اجزاء الصلاة المأتي بها ، والاستصحاب لا يثبته وانما يدل على بقاء الهيئة الاتصالية. اما انها متحققة في هذا الفرد الخاصّ فلا يدل عليه إلاّ بالملازمة.

وقد تقدم الكلام مع المحقق العراقي في ذلك في مبحث استصحاب الأمور التدريجية. وبيّنا ان الوصف التدريجي إذا كان معروضه تدريجيا ـ كالنهارية لذات النهار ، والهيئة الاتصالية لاجزاء الصلاة وغير ذلك ـ لا يتكفل الاستصحاب سوى إثبات الوصف بمفاد كان التامة ، فلا يجدي فيما إذا كان الأثر مترتبا على مفاد كان الناقصة ، فراجع تعرف. وان كانت جميع الإيرادات في استصحاب النهارية لا تتأتى فيما نحن فيه ، فلاحظ.

وأجاب عن الإيراد على النحو الثاني : بأنه لما كان المقصود الأصلي من ثبوت القابلية عدم وجوب استئنافها ، كان الحكم بثبوتها في قوة الحكم بعدم

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٤

وجوب استئنافها.

ولا يخفى ان هذا ـ على تقدير تماميته ـ لا يمنع من كون الأصل مثبتا ، لأنه لا ينافي وجود الواسطة العرفية بين المستصحب والحكم الشرعي ، وان كان الحكم الشرعي وهو المقصود الأصلي من المستصحب.

فتبين مما ذكرنا عدم صحة جريان استصحاب الصحة بمعنييه عند الشك في طروء القاطع.

واما الكلام في الجهة الثانية : فهو تارة يكون في مرحلة الثبوت والإمكان. وأخرى في مرحلة الإثبات والوقوع.

واما الكلام في مرحلة الثبوت : فقد نفي المحقق الأصفهاني إمكان اعتبار الهيئة الاتصالية. بتقريب : ان الهيئة الاتصالية بمعنى محال وبمعنى آخر لا يجدي ، إذ لا يكون في البين فرق بين القاطع والمانع.

لأنه ان أريد من الهيئة الاتصالية الهيئة الاتصالية الواقعية التي هي عبارة عن الحركة من محل إلى آخر ، المعبر عنها بالحركة من المبدأ إلى المنتهى ، فهو محال ، لأنها ـ على تقدير كونها في جميع المقولات ـ انما تكون في مقولة واحدة لا بين مقولات متعددة ، كالهيئة الاتصالية الحاصلة بين المشي أو الكلام أو أمثالهما.

ـ والصلاة ـ كما لا يخفى ـ مؤلفة من مقولات متعددة ، فلا يمكن تحقق الهيئة الاتصالية الواقعية فيها.

وان أريد منها الهيئة الاتصالية الاعتبارية ، بمعنى اعتبار الشارع الاتصال بين هذه الاجزاء على نحو يؤخذ عدم القاطع موضوعا لهذا الاعتبار : فهو لا يجدي ، لأنه مع تحقق القاطع في الأثناء تنفي الهيئة الاتصالية من أول الأجزاء ، لانتفاء اعتبارها مع تحققه ، لانتفاء موضوعه ، وهو عدم القاطع ، لا انه يكون هناك اتصال بين الأجزاء السابقة وينتفي استمراره. وعليه فمع طرو مشكوك القاطعية لا يجري استصحاب الهيئة الاتصالية للشك في تحققها

٣٣٥

وحدوثها.

فلا يكون هناك فرق بين القاطع والمانع حينئذ ، لأن المانع ما كان وجوده مخلا بالعمل بكامله ورافعا لأثر الكل (١).

ولكن ما ذكره قدس‌سره من عدم اعتبار الهيئة الاتصالية ثبوتا غير تام ، لإمكان تصوير الهيئة الاتصالية بمعنى ثالث ممكن ومجد. وهو ان يقال : بان المراد من الهيئة الاتصالية هو توالي الاجزاء وتعاقبها بنحو يعد مجموعها واحدا بنظر العرف ، وهو معنى واقعي لا اعتباري ، كي يقال انه مقيد بعدم القاطع ، كما انه ليس بمحال كما لا يخفى. وعليه فمع تحقق القاطع لا ينتفي الاتصال من رأس ، بل انما ينتفي استمراره ودوامه ، فيمكن استصحابه عند طرو مشكوك القاطعية ، ويتحقق الفرق بين القاطع والمانع.

وهذا المعنى مما يمكن استفادة إرادته من حكم الفقهاء ببطلان الصلاة بالفعل الماحي لصورتها كالسكتة الطويلة أو الأكل والشرب ، مما لم يصرح الشارع باعتبار عدمه ، فانه يكشف عن وجود هيئة صورية للصلاة عرفية يعتبرها الشارع ، بحيث يرى العرف انقطاعها عند السكوت الطويل أو الأكل في الأثناء ، ويكون حكم الشارع بقاطعية الحدث وأمثاله مما لا يدرك العرف قاطعيته كالسكتة والأكل ، تنبيها على انه مثلهما في محو صورة الصلاة وقطعه لها باعتبار ذلك منه.

وامّا الكلام في مرحلة الإثبات ؛ فقد نفي المحقق النائيني اعتبار الهيئة الاتصالية بوجهين :

الأول : انه لم يثبت لدينا اعتبار هيئة اتصالية وجزء صوري في الصلاة ، بل ليس الثابت الا اعتبار عدم بعض الأمور فيها.

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٦

ـ ووافقه المحقق الأصفهاني. فقد أفاد : ان الالتزام بالقاطع بالمعنى المقابل للمانع بلا ملزم ، بل القاطع سنخ من المانع ، وانما يطلق عليه القاطع إذا وقع في الأثناء ، لأنه رافع لما سبق ودافع لما لحقه ، ولذا لو وقع في أول العمل كان دافعا محضا ، كما انه إذا وقع بعد العمل كان رافعا محضا ، فالحدث المقارن للصلاة مانع دفاع والواقع في أثنائها قاطع ، والواقع بعد الوضوء ناقص ورافع لأثره (١) ـ.

الوجه الثاني : انه على تقدير استفادة اعتبار هيئة اتصالية في الصلاة ، إلا انه يحتمل أيضا أن يكون هذا القاطع مما قد اعتبر عدمه بنفسه ، فيكون مانعا كما يكون قاطعا. وحينئذ فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا يجدي في نفي مانعية الموجود إلاّ بالملازمة ، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول من براءة أو اشتغال على الخلاف في مسألة الأقل والأكثر (٢).

ولكن الوجه الأول غير تام ، فان التعبير بالقاطع والنهي عنه بما هو كذلك يستفاد منه اعتبار جزء صوري في الصلاة المعبر عنه بالهيئة الاتصالية ، ومن ذلك حكم الفقهاء بإبطال الفعل الماحي لصورة الصلاة ، ولا أظن ان المحقق النائيني لا يلتزم بذلك.

هذا ولكن الإنصاف ان يقال : ان القطع وان كان يتوقف على ثبوت الاتصال للشيء فعلا أو شأنا ، بان يكون من شأنه أن يتصل بأجزاء لاحقة فلا يتصل ، إلا أنه كما يصدق على مجرد الفصل بين الأجزاء وإزالة الجزء الصوري كذلك يصدق على ما يمنع من لحوق الاجزاء السابقة ، ولذا يقال ان زيدا قطع كلام عمرو إذا منعه من الاستمرار في الكلام. وعليه فاعتبار القاطع في مثل الصلاة كما يمكن ان يكون مضرا بالهيئة الاتصالية المعتبرة ـ لاعتبار الموالاة في

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول ٤ ـ ٢٣٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٣٧

الصلاة ـ كذلك يمكن أن يكون لأجل امتناع تحقق الأجزاء اللاحقة عند تحققه لاعتبار عدمه في الاجزاء. والمفروض ان مشكوك القاطعية لا يقطع الهيئة الاتصالية تكوينا ، وإلاّ لم يحصل شك فيه. بل كان نظير الحدث. وعليه فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا ينفع في نفي الشك ، فتدبر جيدا.

وقد قرب السيد الخوئي اعتبار عدم القاطع في الصلاة ، بحيث يكون له حيثيتان : حيثية القاطعية وحيثية المانعية. بأنه اما ان لا يعتبر عدمه في العمل أو يعتبر. والأول خلف لأنه مساوق لعدم اعتبار الهيئة الاتصالية والمفروض اعتبارها. وعلى الثاني يثبت المدعى (١).

ولكنه أولا : منقوض بلوازم الواجب من إعدام ووجودات غير متعلقة للأمر.

وثانيا : ان هذا التقريب ، وهو الترديد بين الإطلاق والتقييد انما يتأتى في صورة ما إذا كان الإتيان بالقيد وعدمه ممكنا ، لا في صورة ما إذا كان تحققه قهريا ، كما في ما نحن فيه ، باعتبار الهيئة الاتصالية وتوقفها على عدمه ، فالالتزام بثبوت حيثية المانعية للقاطع بنحو الجزم بلا وجه. نعم احتمالها ـ كما أفاده النائيني ـ لا مدفع له. وعليه فلا يكون الاستصحاب مجديا للاحتياج إلى أصالة البراءة في نفي المانعية ، ومع جريان البراءة لا حاجة إلى الاستصحاب ، فلاحظ.

بقي (٢) في المقام شيء وهو : انه كثيرا ما يعبّر في النصوص بالناقض ، فهل هو قسم آخر على حدة غير المانع والقاطع ، أم انه يرجع إلى أحدهما؟.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ١٢٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) خلاصة الكلام في الناقض ، إنّ الظاهر من لفظ الناقض كونه رافعا للأثر السابق الموجود.

وعليه فالشك في ناقضية الموجود في الأثناء ملازم للشك في ارتفاع الأثر السابق بعد تحقّقه.

وعليه فكلّما كان الأثر السابق من الأمور الشرعية أو موضوع الحكم الشرعي كان مجرى الاستصحاب. وإلاّ فلا مجال لاستصحابه ، فتدبّر.

٣٣٨

والظاهر من كلام المحقق الهمداني رحمه‌الله ان فيه جهة القطع ، ولكنه يفترق عن القاطع في أنه يرفع مؤثرية الاجزاء السابقة في الأثر المترتب عليها على تقدير انضمام سائر الاجزاء إليها.

ومن ذلك جزم بجريان الاستصحاب عند الشك في طرو الناقض ، وانه مما لا يتأتى عليه الإشكال كما يتأتى على غيره. بتقريب : انه عند الشك في طروه ، كالشك في ناقضية الحدث الأصغر للغسل ، يشك في خروج الأجزاء السابقة عن صفتها التي كانت عليها ، وهي تأثيرها في الأثر لو انضم إليها سائر الأجزاء ، فيستصحب هذا الحكم الشرعي التعليقي. ويترتب عند حصول المعلق عليه ، وهو انضمام الأجزاء السابقة (١).

وما ذكره قدس‌سره بظاهره غير تام لوجهين :

الأول : انه لا فرق بين الناقض والمانع أصلا ، بل كل منهما اعتبر عدمه في العمل وأخذ متعلقا للأمر ، ولم يلحظ في اعتبار عدم الناقض رافعيته للأثر المترتب على الأجزاء ، بدليل التعبير به في نقض بعض الآثار الاعتبارية كالطهارة ، مما يكشف عن اعتبار عدمه بالخصوص في تحقق الطهارة.

الوجه الثاني : ان المراد من الحكم الشرعي المستصحب تعليقيا ، ان كان نفس الأثر المترتب كالطهارة في المثال ، فهذا الاستصحاب جار في جميع موارد الشك في طرو المانع ، وقد تقدم الإشكال فيه مفصلا. وان كان تأثير هذه الأجزاء في الأثر كما هو الظاهر ، فالتأثير ليس من الأحكام الشرعية ، لم تقرر في محله من ان السببية ليست من المجعولات الشرعية. كما انه ليس بموضوع لحكم شرعي ، لأن الأمر انما تعلق بذوات الأجزاء ولم يتعلق بها بما هي مؤثرة ، كي تكون المؤثرية موضوعا لحكم شرعي فتستصحب.

__________________

(١) المحقق الهمداني هامش. فرائد الأصول ـ ٢٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٩

وعلى تقدير تعلق الأمر بها بما هي مؤثرة ، فهي حينئذ وان كانت مما يصح استصحابها لكونها موضوعا لحكم شرعي ، إلا أنه كما أخذت المؤثرية في موضوع الأمر بالأجزاء السابقة كذلك أخذت في الأجزاء اللاحقة. وهي مشكوكة عند طرو مشكوك الناقضية ، لما عرفت من ان نسبة الشك إلى جميع الأجزاء السابقة واللاحقة على حد سواء ، فاستصحاب مؤثرية الأجزاء السابقة لا يجدي في ترتب الأثر للشك في مؤثرية الأجزاء اللاحقة ، وهي مشكوكة التحقق.

والمتحصل ، من جميع ما ذكرنا : عدم صحة جريان استصحاب الصحة عند الشك في طرو المانع أو القاطع أو الناقض.

وامّا التنبيه الثاني (١) ـ من التنبيهات التي ذكرها الشيخ في الرسائل ـ فالكلام فيه حول استصحاب الوجوب عند تعذر بعض اجزاء المركب ، وأساس الشك في الوجوب هو تردد أخذ الجزء في المركب بين أن يكون في خصوص حال الاختيار والإمكان. وان يكون بنحو مطلق : فيسقط الوجوب عند تعذر الجزء على الثاني لتعذر المركب دون الأول.

فمع الشك في بقاء الوجوب عند تعذر بعض الأجزاء هل يصح جريان استصحابه أو لا يصح؟. باعتبار كون الوجوب الثابت للاجزاء الباقية قبل التعذر غير الثابت لها بعده ـ على تقدير ثبوته واقعا ـ ، فالمتيقن ثبوته سابقا مقطوع الارتفاع ، والّذي يراد إثباته بالاستصحاب مشكوك الحدوث.

وقد ذكر الشيخ قدس‌سره في رسائله وجوها ثلاثة لجريان الاستصحاب في المورد :

الوجه الأول : ان يستصحب مطلق المطلوبية الثابتة في السابق لهذه الأجزاء ولو في ضمن مطلوبية الكل ، لكون أهل العرف لا يرونها مغايرة في

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٠