منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

............................................

__________________

بالنقض وعدمه؟ الّذي يراد بالنقض كما عرفت هو النقض العملي ، وإطلاق النقض إنّما هو بملاحظة أنّ اليقين الآخر لو تعقّب اليقين الأول واتّحد متعلّقهما لكان ناقضا له ، فالمراد باليقين الناقض في باب الاستصحاب هو هذا الفرد من اليقين ، الّذي لو فرض تعلّقه بما تعلّق به اليقين الأول وكان متأخّرا عنه كان ناقضا له ورافعا لوجوده ، وإلا فلا نقض حقيقة في باب الاستصحاب ، وأما غير هذا الفرد من اليقين فلا يكون مشمولا لقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر ».

إذا عرفت هذا اتّضح مراده ( قده ) فإنّه اليقين الإجمالي في الفرض الأول حيث لا يصلح لنقض اليقين السابق التفصيليّ ، فلا يكون لوجوده أثر في المنع عن الاستصحاب لأنّه غير مشمول للذيل.

بخلافه في الفرضين الآخرين لأنّه صالح لنقض اليقين السابق كما عرفت. فليس مراده اعتبار اليقين السابق كما توهّم ، بل مراده هو اليقين الفعلي المتعلّق بالحدوث ، وإنّ اليقين الإجمالي المقترن معه يصلح لنقضه في بعض الصور فيكون مشمولا للحكم بالنقض في الذيل. فيكون المورد من موارد الشبهة المصداقية للذيل ، فتدبّر جيّدا.

هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به كلامه لكنّه مبنيّ أوّلا : على كون المستفاد من قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » حكما شرعيا مستقلا موضوعه اليقين بالنحو الّذي عرفته ، فيعارض الحكم الاستصحابي أو يقيّده. وأما بناء على كون المستفاد منه تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه وهو الشك كما يستفاد من قوله : « لا حتى يستيقن » فهو بيان لحكم إرشادي عقلي ، فلا يتمّ ما أفاده لأنّه لا يزيد على اعتبار الشك في جريان الاستصحاب ويكون متمّما لذلك. ومن الواضح أنّ الشك فيما نحن فيه موجود بالنسبة إلى كل من الإناءين ، فلا مانع من جريان الاستصحاب وتحقيق ذلك فيما يأتي إن شاء الله.

وثانيا : على الفرق بين الفرض الأول والفرضين الآخرين ببيان أنّ العلم في الأول لا يرتبط بالخارج بل هو متعلّق بالجامع كما تقدّم في مبحث العلم الإجمالي ، وقد تقدّم منّا بيان ارتباط مثل هذا المعلوم بالإجمال بالخارج وإمكان الإشارة إلى أحدهما واقعا بواسطة منشأ العلم ، كوقوع المطر ونحوه ، فراجع.

وثالثا : على تحقيق المراد باليقين الناقض وأنّه هل يختصّ باليقين التفصيليّ أو يعمّ غيره ، وعلى تقدير عمومه لغيره فهل يختلف الحال بين الفروض أو لا؟ وتحقيقه في محلّه إن شاء الله.

ثم ليعلم أنّ مثال اشتباه الدم بدم البق إنّما يتمّ لو علم بامتصاص البق لدمه واحتمل أن يكون الدم الّذي يراه هو ذلك الدم الممتصّ ، وأما لو لم يعلم ذلك أصلا وإنّما احتمله احتمالا فلا مجال لهذا الكلام لعدم تحقّق اليقين الناقض فلا مجال إلا لاستصحاب النجاسة.

هذا تمام الكلام في استصحاب مجهولي التاريخ ، ولا بأس في التعرّض إلى فرع ذكر في هذا المبحث وجعل من فروع المسألة وهو ما إذا علم بكريّة الماء وملاقاته للنجاسة وشك في أنّ الملاقاة سابقة على كريّة الماء فيكون نجسا ـ بناء على عدم طهارة الماء النجس المتمّم كرّا ـ أو أنّ الكريّة سابقة على.

٢٨١

...............................................

__________________

الملاقاة فيكون الماء طاهرا.

فقد ذكر أنّ هذا الفرع من مصاديق المسألة وذكر له صور ثلاثة ؛ إحداها : أن يجهل بتاريخ كل من الملاقاة والكريّة. والثانية : أن يعلم بتاريخ الكريّة دون الملاقاة ، والثالثة : أن يعلم بتاريخ الملاقاة دون الكريّة.

وإنّ حكم الصور الثلاث من حيث جريان الاستصحاب وعدمه هو ما تقدّم في مجهولي التاريخ ومختلفيهما. فمثلا تجري ـ في صورة الجهل بتاريخهما ـ أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة فيتعارضان ويتساقطان بناء على أنّ المانع من جريان الأصل في مجهولي التاريخ هو المعارضة ، كما أنّهما لا تجريان في أنفسهما بناء على أنّ المانع من جريان الأصل في المجهولين في نفسه كما ذهب إليه صاحب الكفاية.

أقول : هذه الصورة وإن كانت من موارد المجهولي التاريخ صورة لكنّها ليست منها اصطلاحا ، فإنّ موضوع البحث في مجهولي التاريخ ـ على ما تقدّم أن يكون موضوع الأثر هو عدم أحدهما في زمان الآخر بنحو الموضوع المركّب ، والأمر ليس كذلك فيما نحن فيه ، فإنّ عدم الكريّة والملاقاة موضوع مركّب للحكم بالنجاسة ، فيصحّ إجراء أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لإثبات الموضوع المركّب للحكم بالنجاسة ولكن عدم الملاقاة والكريّة ليس موضوعا للحكم بالطهارة إذ مع الكريّة لا أثر للملاقاة وعدمها فلا معنى لاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة ، نعم عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة موضوع للحكم بالطهارة.

وعليه نقول : بناء على ما حقّقناه من امتناع جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر في نفسه ، لا يصحّ جريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة الّذي يقصد به إثبات عدم الكريّة في زمن الملاقاة.

وأما استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة فقد عرفت أنّه لا أثر له ولا معنى لجريانه لأنّ الأثر يترتّب على عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة ، لا على عدم الملاقاة في زمن الكريّة. نعم يصحّ إجراء أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة بالمعنى المساوق لإثبات عدم الملاقاة في زمن عدم الكريّة بأن لا يحاول جرّ المستصحب إلى زمان الكريّة بل جرّه وينتهي بزمن الكريّة ، فيكون المقصود من « إلى زمن الكرية » الانتهاء بزمن الكريّة لا السراية إلى زمانه وإثباته فيه ، إذ بذلك يخرج عن استصحاب المجهول الاصطلاحي ولا يتأتّى فيه المحذور المتأتّي في استصحاب مجهول التاريخ.

ومنه يظهر الحال فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، فإنّه ، إن كانت الكريّة معلومة التاريخ دون الملاقاة جرى استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة ، ولا يجري استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ.

٢٨٢

........................................

__________________

وإن كانت الملاقاة معلومة دون الكريّة ، جرت أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة فيثبت بها الموضوع المركّب للنجاسة ، ولا يجري الأصل في عدم الملاقاة للعلم بالتاريخ.

فخلاصة الحكم في صور هذا الفرع هو الحكم بنجاسة الماء في صورة العلم بتاريخ الملاقاة. والحكم بطهارته في صورتي العلم بتاريخ الكريّة والجهل بتاريخهما. هذا بناء على ما التزمنا به في مجهولي التاريخ ومختلفيهما ، فراجع.

وقد ذهب المحقّق النائيني ( قده ) إلى الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور الثلاث :

أما صورة الجهل بتاريخهما ؛ فلجريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ، فيثبت بها النجاسة لإحراز الملاقاة بالوجدان وعدم الكريّة بالأصل. ولا مجال لجريان استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكريّة لعدم ترتّب الأثر الشرعي عليه ، لأنّ الحكم بالطهارة مترتّب على كون الكريّة سابقة على الملاقاة ، والاستصحاب المزبور لا يثبت كون الكريّة سابقة على الملاقاة إلاّ بالملازمة.

وأما صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكريّة ، فلعدم جريان أصالة عدم الملاقاة للعلم بالتاريخ ، مضافا إلى كونه مثبتا. وجريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ، فيثبت بها موضوع الحكم بالنجاسة.

وأما صورة العلم بتاريخ الكريّة والجهل بتاريخ الملاقاة ، فلعدم جريان أصالة عدم الكريّة للعلم بالتاريخ ، ولا جريان أصالة عدم الملاقاة لكونه مثبتا ، فيرجع في المقام إلى عموم الانفعال بالملاقاة ، لا إلى أصالة الطهارة ، لما أسّسه ( قده ) من أنّه إذا ثبت حكم إلزامي للعام واستثنى منه عنوان وجودي ، كان المدار في الحكم بالتخصيص على إحراز ذلك العنوان ، فمع عدم إحرازه يكون المرجع هو العموم ، كما لو قال المولى لعبده لا تدخل عليّ أحدا إلاّ العالم ، فإنّه لا يجوز له إدخال مشكوك العالميّة عملا بأصالة البراءة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لثبوت حكم عام بانفعال ملاقي النجس ، وقد خرج منه عنوان الكرّ ، فمع الشك في كريّة الملاقي يكون المرجع هو العموم على الانفعال بالملاقاة. هذه خلاصة ما أفاده ( قده ) في المقام.

أقول : قد يتساءل بأنّ أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة ـ في صورة الجهل بتاريخهما ـ وإن لم تكن مثبتة لورود الملاقاة على الكريّة ، لكنّها تنفع في إثبات الطهارة وعدم النجاسة ، إذ لا شك في أنّ عدم الملاقاة في زمان القلّة ينفي موضوع النجاسة وهو ملاقاة القليل ، فيكون الاستصحاب مجديا من هذه الجهة وهي نفي موضوع النجاسة وهي كافية في جريانه. فلما ذا أهملها المحقّق النائيني وحكم بعدم جريان الأصل؟ ويمكن أن يوجّه كلامه بوجوه :

التوجيه الأول : أن يقال : أنّ الحكم بطهارة الماء الأوليّة وبحسب ذاته يزول بعروض ملاقاة النجس عليه وحينئذ فإن كانت الملاقاة عارضة على الكرّ حكم بطهارة الماء وإلاّ حكم بنجاسة. فالطهارة.

٢٨٣

........................................

__________________

الثابتة بعد عروض الملاقاة حكم جديد غير الطهارة الثابتة للماء في حدّ نفسه وقبل عروض مقتضي النجاسة.

وعليه ففيما نحن فيه بما أنّه يعلم بالملاقاة ، فطهارة الماء الأولية مرتفعة قطعا ، وإنّما يشك في ثبوت الطهارة التي موضوعها ملاقاة الكرّ.

ومن الواضح أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة أو في زمان القلّة لا يثبت موضوع الطهارة فلا ينفع في إثبات الحكم بالطهارة.

وهذا التوجيه لا يمكن الأخذ به وتشكل نسبته إلى المحقّق النائيني لوجوه :

الأول : أنّه بناء عليه لا فرق بين القول باعتبار ورود الملاقاة على الكرّية وسبق الكريّة للملاقاة في تحقّق الاعتصام والحكم بالطهارة والقول بكفاية بينهما ، إذ استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة لا يجدي في إثبات ملاقاة الكرّ سواء ان اعتبر تأخّر الملاقاة عن الكريّة أو لم يعتبر. مع أنّ ظاهر كلامه بناء عدم جريان الأصل المزبور على ما التزم به من اعتبار ورود الملاقاة على الكريّة بحيث لو التزم بالقول الآخر كان الأصل مجديا ، فكيف يمكن نسبة هذا الوجه إليه ( قده ).

الثاني : أنّه بعد أن كان موضوع النجاسة هو ملاقاة غير الكر ، كان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمن الكرّية مجديا في نفي النجاسة وإن لم يجد في إثبات الطهارة ، فيترتّب عليه نفي الآثار المترتّبة على مانعيّة النجاسة. ولازم ذلك معارضته لاستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة المثبت للنجاسة ، فإنّ الاستصحاب النافي والمثبت متعارضان.

الثالث : عدم تمامية مبنى التوجيه ، فإنّ كون الطهارة المجعولة للكر الّذي لاقته النجاسة حكما آخر غير الطهارة الأصلية ، وإن كان ممكنا ثبوتا لكن مقام الإثبات لا يساعد عليه ، فإنّ ظاهر مثل قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » : إنّ الكرّ لا ينفعل بالنجاسة فهو باق على طهارته بلا عروض مزيل عليها فالطهارة السابقة على الملاقاة والمتأخّرة عنها واحدة لا متعدّدة.

التوجيه الثاني : أن إذا أخذ في موضوع الطهارة خصوصيّة سبق الكريّة أو لحوق الملاقاة وورودها على الكرّ بحيث كان موضوع الطهارة هو الملاقاة اللاحقة للكريّة أو المسبوقة بالكريّة ، فلا محالة يتقيّد موضوع الحكم العام بالنجاسة بعدم ذلك العنوان ، فيكون موضوع النجاسة هو الملاقاة غير المسبوقة بالكريّة.

ومن الواضح أنّ أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة لا تجدي في نفي موضوع النجاسة إلاّ بالملازمة.

وهذا الوجه لا يتأتّى بناء على القول بكفاية مقارنة الكريّة للملاقاة في عدم الانفعال ، إذ عليه لا يعتبر في موضوع الطهارة أزيد من ذات الأمرين الملاقاة والكريّة. فلا يكون موضوع النجاسة سوى الملاقاة والقلّة ، فيكون استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة مجديا في نفي النجاسة.

٢٨٤

........................................

__________________

ولكنّه كسابقه مما لا يمكن نسبته إلى المحقّق النائيني ( قده ) ، وذلك لأنّ لازمه عدم صحّة جريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لعدم كون موضوع النجاسة مركّبا بل مقيّدا كما عرفت. والأصل المزبور لا يثبت موضوع النجاسة إلاّ بالملازمة كما لا يخفى. مع أنّه ( قده ) التزم بجريانه وترتّب النجاسة عليه ، مما يصحّ نسبته إليه ( قده ).

التوجيه الثالث : أنّ موضوع الطهارة ـ بنظره ( قده ) ـ ليس هو الملاقاة المسبوقة بالكريّة ، بل هو ملاقاة ما كان كرّا في زمان سابق على الملاقاة ، فملاقاة الكرّ المتخصّص زمانه بهذه الخصوصيّة هي الموضوع للطهارة ولازمه أن يكون موضوع النجاسة هو ملاقاة ما ليس كرّا في زمان سابق على الملاقاة ـ أعمّ من كونه كرّا حال الملاقاة أو قليلا ـ.

وعليه فاستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة لا يجدي في إثبات الطهارة ولا نفي النجاسة إلاّ بالملازمة كما هو واضح. ولا معنى لجريان الأصل في عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة في زمان سابق على الملاقاة ، فإنّه خلف ولا محصّل له كما لا يخفى.

وأما استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لإثبات النجاسة فلا مانع منه لأنّ مرجعه إلى استصحاب عدم الكريّة في الزمان السابق على الملاقاة ، فيثبت موضوع النجاسة ، وهو الملاقاة الثابتة بالوجدان وعدم الكريّة في زمان سابق عليها الثابت بالأصل.

وهذا التوجيه متين ولا يخلو عن دقّة.

ولكنّه إنّما ينفع في الحكم بالنجاسة على مسلك المحقّق النائيني الّذي التزم بصحّة الاستصحاب في مجهولي التاريخ في نفسه.

وأما على ما حقّقناه من عدم صحّته في نفسه ـ لا من جهة المعارضة ـ فلا أثر لهذا البيان ، لأنّ غايته عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة ، إلاّ أنّه كما لا يجري هذا الأصل لا يجري الأصل الآخر المثبت للنجاسة وهو عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة. وإذا لم يجر الاستصحاب في كلا الطرفين فالمرجع قاعدة الطهارة.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما أفاده في صورة الجهل بتاريخهما.

وأما صورة الجهل بتاريخ الكريّة والعلم بتاريخ الملاقاة فقد عرفت منّا ومنه أن الحكم هو النجاسة ، فلا كلام.

وأما صورة الجهل بتاريخ الملاقاة والعلم بتاريخ الكريّة ، فقد عرفت أنّه ( قده ) حكم بالنجاسة بعد عدم جريان كلا الأصلين ، لتمسّكه بالعامّ الدال على لزوم الاجتناب على كل ما لاقى نجسا الّذي خرج منه عنوان وجودي وهو الكرّ ، للقاعدة التي أسّسها وبنى عليها كثيرا من الفروع الفقهية ، وهي أنّه إذا ورد عام يتكفّل حكما إلزاميا وخصّص ذلك العام بعنوان وجودي ، فمع عدم إحراز العنوان.

٢٨٥

........................................

__________________

الوجوديّ للخاص يكون المرجع هو العام. ولأجل ذلك بنى على حرمة النّظر إلى من يشك كونها من المحارم عملا بعموم وجوب الغضّ عن النساء. وذكر أنّ هذه القاعدة عليها بناء العرف والعقلاء.

والّذي يمكن أن يقال : هو أنّه لو سلّم تماميّة القاعدة المزبورة فهي لا تنطبق على ما نحن فيه وذلك لأنّ موضوعها كما أشير إليه هو ورود عموم يتضمّن حكما إلزاميا ثم يخصّص بعنوان وجودي.

ومن الواضح أنّ الحكم الإلزاميّ فيما نحن فيه هو لزوم الاجتناب عن الماء النجس في الشرب مثلا ، فإنّه يحرم شرب الماء النجس كما يجوز شرب الماء الطاهر.

ولا يخفى أنّ نسبة ما دلّ على جواز شرب الطاهر إلى دليل الحرمة ليس نسبة الخاصّ إلى العام إذ ليس لدينا دليل عام دال على حرمة شرب الماء بقول مطلق وخرج منه الطاهر. بل دليل الحرمة موضوعه الماء النجس رأسا ، كما أنّ دليل الجواز موضوعه الماء الطاهر ، فمع الشك في موضوع الحليّة وهو الطهارة لا معنى للتمسّك بدليل الحرمة بعد فرض عمومه لكل فرد من أفراد الماء.

وبعبارة أخرى : ليس المورد من موارد الشك في مصداق المخصّص بل الشك في مصداق كلا الدليلين. وليس الملحوظ هو الحكم الوضعي وهو الطهارة والنجاسة كي يقال بأنّ لدينا عام يدل على انفعال كل ماء يلاقي النجس وقد خرج عنه الكرّ ، فمع الشك في الكريّة يرجع إلى عموم الانفعال إذ ليس الحكم الوضعي حكما إلزاميا كما هو واضح ، وقد عرفت اختصاص القاعدة بمورد تكفّل العام الحكم الإلزاميّ. فتطبيق القاعدة على ما نحن فيه غير صحيح لما عرفت من أنّ دليل الحرمة ليس دليلا عامّا كي يرجع إليه عند الشك. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه لو فرض أنّ دليل الحرمة دليل عام خرج عنه الماء الطاهر فإنّه يجوز شربه ، فقاعدة الطهارة تعيّن كون الفرد من أفراد المخصّص فلا مجال للرجوع إلى العام حينئذ.

والخلاصة أنّه لا مانع من الرجوع في هذه الصورة إلى قاعدة الطهارة ، فتشترك مع الصورة الأولى في الحكم. وتنفرد الثانية عنهما. هذا تحقيق الكلام فيما أفاده ( قده ).

وقد نوقش ( قده ) فيما أفاده في الصورة الأولى من عدم جواز الرجوع إلى أصالة عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة بأنّ عدم الانفعال أخصّ من الطهارة. فإنّ الأول فرع وجود المقتضي للانفعال ، بخلاف الطهارة فإنّها قد تتحقّق مع عدم المقتضي رأسا كصورة عدم الملاقاة أصلا.

وعليه فالأصل المزبور وإن لم يثبت عدم الانفعال ، لعدم إثباته كون الملاقاة واردة على الكريّة ، إلاّ أنّه ينفع في إثبات الطهارة لأنّه يثبت عدم الملاقاة في زمان القلّة ، والماء القليل غير الملاقي للنجاسة طاهر.

كما نوقش ما أفاده في الصورة الثالثة من الرجوع إلى القاعدة المزبورة بأنّ القاعدة لا أساس لها إذ لا يمكن أن يفرض كون الإحراز دخيلا في الحكم الواقعي ، ضرورة عدم دوران طهارة الماء مدار.

٢٨٦

........................................

__________________

إحراز ورود الملاقاة على الكريّة. كما لا يصحّ أن يكون الدليل متكفّلا للحكم الظاهري إذ يشكل أن يكون الدليل الواحد متكفّلا لحكمين مع اختلاف الموضوع والرتبة والطولية بين الحكمين ، مضافا إلى عدم الدليل على ذلك إثباتا.

وأما ثبوت الرجوع إلى العموم في مسألة الشك في المحارم فهو بواسطة الرجوع إلى أصالة العدم الأزلي التي يلتئم بها موضوع الحكم للعام وهو حرمة النّظر ، لا من جهة تقيّد العنوان الخاصّ بالإحراز.

هذه خلاصة بعض ما نوقش ( قده ) به.

ولكن جميع ما ذكر قابل للردّ.

أما ما ذكره من جريان أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة لإثبات الطهارة ، فهو لا يخلو عن غرابة ، فإنّه بعد فرض كون موضوع الخاصّ هو الملاقاة الواردة على الكرّ ـ كما أفاده النائيني ( قده ) ـ فلا محالة يتقيّد موضوع العام بعدم ذلك ، فيكون موضوع النجاسة ، هو ملاقاة ما ليس بكرّ في زمان سابق ، من دون أن يؤخذ فيه عنوان وجودي كعنوان القليل أو نحو ذلك ، فملاقاة القليل بعنوانه ليس موضوعا للنجاسة.

وعليه فمع العلم بالملاقاة كما فيما نحن فيه تكون أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة بما لا أثر لها لا في إثبات الطهارة ولا في نفي النجاسة ، كما تقدّم توضيحه. ونفي الملاقاة بقول مطلق مما لا يصحّ للعلم بتحقّقها.

وأما مناقشة القاعدة ؛ فيمكن ردّها بالالتزام بأنّ الحكم المعلّق على الإحراز ظاهري ولا يتكفّله نفس الدليل بل الدليل عليه هو أصالة الظهور وبناء العقلاء على حجيّة العام في مثل ذلك ، فيكون التزاما بحجيّة العام في الشبهة المصداقية في خصوص هذه الموارد وهو مما لا محذور فيه.

وأما الدليل عليه إثباتا فهو السيرة العقلائية على ذلك ، فانّها لا تكاد تنكر في أنّه إذا علّق الترخيص على عنوان وجودي لم يجز الرجوع إلى أصالة الإباحة عند الشك في المصداق بل يرجع إلى دليل التحريم ، وملاحظة الشواهد العرفية خير دليل على ما نقول ، وإذا ثبتت السيرة كفى في ثبوت القاعدة ، ولو لم يحرز منشؤها ، فإنّه لا أهميّة له.

وأما دعوى الرجوع في مثال الشك في المحارم إلى أصالة العدم الأزلي فيردها :

أوّلا : أنّ أصالة العدم الأزلي ليست مما يلتفت إليها العرف ويقتنع بها كيف؟ وهي تصوّرا وتصديقا محل الكلام الدّقيق بين الأعلام ، فلا يمكن أن يكون العمل العرفي مستندا إليها ، وإن كانت جارية في نفسها.

وثانيا : إنّ المورد ليس من موارد الأصل الأزلي ، فإنّ مورده ما إذا كان هناك عام يخصّص بعنوان وجودي فيكون موضوع الحكم في العام مركّبا من عنوان العام وعدم الخاصّ ، فإذا جرت أصالة عدم.

٢٨٧

........................................

__________________

الخاصّ يلتئم الموضوع بثبوت جزئية أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل. وليس ما نحن فيه كذلك ، فإنّ آية وجوب الغضّ لا تتكفّل في نفسها حرمة النّظر إلى كل امرأة بحيث يكون خروج المحارم بالتخصيص. ولذا لم يتوقّف أحد من المسلمين عند نزول الآية عن النّظر إلى أمه وأخته حتى يرد المخصّص ، وليس ذلك إلاّ أنّ المنظور بدوا في الآية الكريمة إلى الأجانب رأسا ، فلدينا موضوعان :

أحدهما ؛ موضوع حرمة النّظر ، والآخر ؛ موضوع الجواز.

ونفي أحدهما بالأصل لا يستلزم إثبات الآخر إلاّ على القول بالأصل المثبت. فالأصل الأزلي لا يجدي في إثبات موضوع الحرمة ، فتدبّر.

ثم أنّ هذا القائل وإن التزم هنا بجريان أصالة الملاقاة إلى زمان الكرّيّة أو في زمان القلّة ، لكنّه أنكره في مباحثه الفقهية حين تعرّض لمسألة اختلاف المتبايعين في تأخّر الفسخ عن زمان الخيار وعدم تأخّره ، فإنّ الشيخ (ره) ذكر أنّ في تقديم مدّعى التأخير لأصالة بقاء العقد وعدم حدوث الفسخ في أوّل الزمان ، أو مدّعى عدمه لأصالة الصحّة ، وجهين.

وقد ذكر القائل : أنّ هذه المسألة سيّالة في كل مورد كان موضوع الحكم أو متعلّقه مركّبا من جزءين وعلمنا بتحقّق أحدهما ثم بتحقّق الآخر مع ارتفاع الجزء الأول ، ولكن لم يعلم المتقدّم منهما على الآخر.

كما لو شك في أنّ الفسخ وقع قبل انقضاء زمن الخيار أو بعده. أو شك في أنّ ملاقاة النجاسة للماء المسبوق بالقلّة هل وقع قبل عروض الكريّة أو بعده ، أو شك المصلّي المسبوق بالطهارة وعلم بصدور حدث منه في أنّ صلاته وقعت قبل الحدث أو بعده.

والّذي بني عليه في تحقيق هذه المسألة : أنّه تجري أصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ فيتمّ بها موضوع الحكم ، وهو الفسخ الثابت بالوجدان وبقاء الخيار المحرز بالاستصحاب. لأنّ الموضوع مركّب منهما ، واعتبر تقارنهما في الوجود لا أزيد. ولا يعارض هذا الأصل بأصالة عدم تحقّق الفسخ في زمان الخيار ، لأنّ الفسخ قد تحقّق خارجا في زمان حكم الشارع بكونه زمن الخيار ، فلا شكّ لنا في تحقّقه في ذلك الزمان ليحكم بعدمه ، فأصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ ترفع الشك في تحقّق موضوع الحكم فلا مجال لإجراء أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار. وإلاّ لجرى هذا الأصل في صورة الجهل بانقضاء زمن الخيار ، لا في تقدّمه وتأخّره عن الفسخ. فمثلا لو شك في بقاء الخيار وارتفاعه جرى استصحاب بقائه وبعد ذلك لو فسخ ذو الخيار ترتّب الانفساخ ، مع أنّه لو تمّ ما تقدّم من المعارضة لجرى في هذه الصورة استصحاب عدم تحقّق الفسخ في زمن الخيار ، وهو مما لا يلتزم به.

والكلام بعينه يجري في سائر الموارد. ففي مورد الشك في تقدّم الكريّة على الملاقاة تجري أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ويترتّب عليها الحكم بالنجاسة ، ولا تعارض بأصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة ، وإلاّ جرت المعارضة مع الشك في أصل عروض الكريّة.

٢٨٨

........................................

__________________

كما أنّه في مورد الشك في تقدّم الحدث على الصلاة تجري أصالة الطهارة إلى زمن الصلاة ويترتّب عليها صحّة الصلاة ، ولا تعارض بأصالة عدم الصلاة في زمن الطهارة ، وإلاّ جرت المعارضة مع الشك في أصل عروض الحدث.

هذا ما ذكره « حفظه الله تعالى » مما يرتبط بما نحن فيه. والّذي يظهر منه أنّه نفي الاستصحاب الجاري لنفي الموضوع ومعارضته للاستصحاب في إثباته لوجهين :

أحدهما : حلّي ، وهو زوال الشك بجريان الأصل في إثبات جزء الموضوع مع إحراز الجزء الآخر بالوجدان.

والآخر : نقضي وهو النقض بصورة الشك في أصل بقاء أحد جزئي الموضوع لا في تقدّمه وتأخّره كما هو مورد الكلام ، ولكن كلا الوجهين مردودان.

أما الأول : فلأنّ زوال الشك المانع من جريان الاستصحاب إما أن يكون تكوينا ووجدانا وإما أن يكون تعبّدا ، ولا زوال للشك تكوينا ، إذ الشك في تحقّق الموضوع موجود بالوجدان حتى بعد جريان الاستصحاب كما لا زوال له تعبّدا ، إذ زوال الشك تعبّدا إنما يتحقّق فيما كان مجرى الاستصحاب موضوعا شرعيا للمشكوك ، فالاستصحاب نفيا أو إثباتا يتكفّل التعبّد بزوال الشك في الحكم ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، فإنّ الشك في تحقّق الجزء الآخر للموضوع وهو الفسخ في زمن الخيار مثلا ، ليس مسببا شرعا عن الشك في الجزء الآخر وهو الخيار في زمن الفسخ ، فلا يكون الاستصحاب في أحدهما رافعا للشك في الآخر تعبّدا.

وإلاّ لأمكن أن نعكس الكلام فنقول إنّ أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار ترفع الشك في تحقّق الموضوع ، فلا تعارض بأصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ.

وبالجملة : لا سببيّة ومسبّبية شرعيّة بين الشكّين ( بل لا سببيّة بينهما أصلا ) كما لا يخفى.

وأما الثاني : فلأنّ الفرق بين موارد النقوض التي ذكرها وبين ما نحن فيه موجود ، وذلك لأنّه فيما نحن فيه يعلم بتحقّق كلا جزئي الموضوع بذاتهما كالفسخ والخيار ، لكن يشك في تقارنهما أو ارتفاع أحدهما قبل حصول الآخر. فكما يمكن إجراء أصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ فيتمّ الموضوع ، كذلك يمكن أن يجري أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار فينفي الموضوع بنفي أحد جزئية.

وبعبارة أخرى : إنّ الشك في ارتفاع الخيار قبل حصول الفسخ يلازم الشك في تحقّق الفسخ في زمن الخيار فلدينا شكّان ولا مانع من جريان الاستصحاب فيهما ، فيتحقّق التعارض.

وهذا بخلاف موارد النقض ، فإنّ المشكوك فيها أصل تحقّق الجزء الآخر مع إحراز أحدهما وتاريخه كالشك في الخيار مع إحراز الفسخ وتاريخه ، فمع استصحاب الخيار يثبت كلا الجزءين ويترتّب الأثر ، ولا معنى لاستصحاب عدم الفسخ في زمن الخيار ، لأنّ الفسخ يعلم تحقّقه في زمن الخيار التعبّدي وهو يكفى.

٢٨٩

التنبيه الحادي عشر : حول الاستصحاب في الأمور الاعتقادية ، وانه هل يجري أو لا؟.

وقد أفاد المحقق الخراسانيّ قدس‌سره في الكفاية : ان الأمور الاعتقادية ..

تارة : يكون المطلوب والمهم فيها شرعا هو الانقياد ؛ وعقد القلب وأمثال ذلك من الأعمال القلبية الاختيارية.

وأخرى : يكون المطلوب فيها هو تحصيل اليقين والعلم بها.

امّا على الأول ، فلا مانع من جريان الاستصحاب مع تمامية أركانه حكما وموضوعا ، فإذا شك في بقاء وجوب الاعتقاد أمكن استصحابه ، وكذا لو شك في بقاء موضوعه أمكن استصحابه ، لصحة التنزيل وعموم دليل الاستصحاب ، لعدم اختصاصه بالاحكام الفرعية. ولا مانع منه الا ما يتصور من ان الاستصحاب من الأصول العملية. ولكن ذلك لا يصلح للمانعية ، لأن التعبير بالأصل العملي ليس له في دليل الاستصحاب أو غيره عين ولا أثر كي يدعى انصرافه إلى عمل الجوارح دون عمل الجوانح. وانما هو تعبير اصطلاحي عبّر به الأصوليون عما كان وظيفة للشاك تعبدا ، لجعل الفرق بينه وبين الأمارات الحاكية عن الواقع.

__________________

في ترتّب الأثر. والخيار الواقعي لا يعلم بثبوته كي يستصحب عدم الفسخ في زمانه. فمرجع الاستصحاب المزبور إلى استصحاب عدم المجموع ، وقد تقدم أنّه مع استصحاب الجزء لا مجال لاستصحاب عدم المجموع المركّب ، لأنّ المركّب الموضوع للأثر هو عين الاجزاء وليس شيئا وراءها ، والمفروض أنّه لا شك لدينا سوى الشك في الجزء الّذي يجري الاستصحاب فيه ، فلا مجال لاستصحاب عدم المركّب ، وهكذا الكلام في سائر موارد النقض.

فخلاصة الفرق بين ما نحن فيه وبين موارد النقض ، أنّ الاستصحاب النافي فيما نحن فيه الّذي يفرض معاضدته للاستصحاب المثبت يجري في نفي الجزء في زمان الجزء الآخر ، وأما في موارد النقض فهو يجري في نفي المجموع المركّب ، وفرق واضح بينهما من ناحية المعارضة وعدمها ، إذ في ما نحن فيه لدينا شكّان وفي موارد نفي المجموع لدينا شك واحد هو مورد الأثر وهو الشك في وجود الجزء الّذي يجري فيه الأصل المثبت لا النافي ، فتدبّر ولا تغفل.

٢٩٠

وعليه فيعم عمل الجوارح والجوانح معا.

وامّا في الثاني ، فالاستصحاب في الحكم جار ـ فلو شك في بقاء وجوب اليقين بشيء بعد اليقين بالوجوب يستصحب البقاء ، ولا مانع منه ، ويترتب عليه لزوم تحصيل اليقين بذلك الشيء والعلم به ـ دون الموضوع ، لأنّ المفروض كون المطلوب تحصيل اليقين به والاستصحاب لا يجدي في ذلك ، لعدم رفعه الشك إلاّ تعبدا ، كما لا يخفى. هذا ما أفاده المحقق الخراسانيّ قدس‌سره في المقام (١).

وهو ناظر إلى ما أفاده الشيخ رحمه‌الله من عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية بقول مطلق ، بتقريب : ان الاستصحاب ان اعتبر من باب الاخبار والتعبد ، فمع الشك يزول الاعتقاد ، فلا يصح التكليف به. وان اعتبر من باب الظن ، ففيه :

أو لا : ان الظن في أصول الدين غير معتبر.

وثانيا : ان الظن غير حاصل ، لأن الشك في العقائد الثابتة بالطريق العقلي أو النقلي القطعي انما ينشأ من تغير بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب (٢).

والّذي يقصده الشيخ من زوال الاعتقاد مع الشك بالشيء الّذي يتعلق به فلا يصح التكليف به حينئذ : ان الاعتقاد مع الشك يزول قهرا وتكوينا ، فلا يمكن تحصيله ، لا انه يزول فعلا فيمكن الأمر بتحصيله بواسطة الاستصحاب.

وما ذكره رحمه‌الله في عدم إفادة الاستصحاب الظن ناظر إلى الشبهة الحكمية دون الموضوعية ـ كما لا يخفى ذلك من كلامه ـ ، لأن حصول الظن انما يكون لأجل غلبة بقاء المتيقن السابق ، فانها توجب الظن ببقائه ، وهذا انما يتأتى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٢٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٩١

في الموضوعات الثابتة تكوينا ، لكون الشك فيها في بعض الموارد شكا في الرافع مع العلم بقابلية المقتضي للبقاء فيظن ببقائه نوعا. امّا الأحكام الشرعية فلا غلبة فيها ، لأن الشك دائما في قابلية المقتضي للبقاء ، ومعه لا يظن ببقائه ـ كما لا يخفى ـ ، لأن الشك في ارتفاع الحكم انما ينشأ من تغير بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في الموضوعية وعدمه ، لأنّه مع بقاء موضوعه بخصوصياته لا يرتفع جزما للزوم الخلف.

ولا يخفى عليك الفرق بين ما أفاده قدس‌سره وبين ما أفاده المحقق الخراسانيّ قدس‌سره حيث انه أطلق الحكم بعدم جريان الاستصحاب حكما وموضوعا. مع ان المحقق الخراسانيّ فصلّ الكلام بما عرفته وحكم بعدم جريانه موضوعا في خصوص ما كان المهم فيه تحصيل اليقين والمعرفة.

إلاّ انه لا يخفى ان مركز الخلاف بينهما قدس‌سرهما هو متعلق الاعتقاد لا الأعم منه ومن الحكم ـ أعني : وجوب الاعتقاد ـ. وذلك لأن كلام الشيخ رحمه‌الله يدور حول جريان الاستصحاب في متعلق الاعتقاد وغرضه نفيه فيه لا غير ، ويشهد لذلك أمران :

الأول : ان جريان الاستصحاب في الحكم لا منشأ للإشكال فيه ولا يتوهم أحد في صحة جريانه ، فهو جار بلا إشكال.

الثاني : ان التنبيه المذكور عقده في الرسائل لنفي التمسك باستصحاب النبوة.

وعليه ، فمراده من قوله : « الشرعية الاعتقادية » متعلقات الأحكام الاعتقادية المعبر عنها بالأمور الاعتقادية لا نفس الأحكام الاعتقادية ، كما فسره بذلك المحقق الخراسانيّ في الحاشية (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٢١ ـ طبعة الأولى.

٢٩٢

ومن هنا يظهر الوجه في تعرض المحقق الخراسانيّ للاستصحاب في الأحكام الاعتقادية وإثباته ، مع ما عرفت من عدم المنشأ للإشكال في جريانه ، فالتفت.

ولعل الوجه (١) في حكم الشيخ بعدم جريان الاستصحاب في الأول ـ

__________________

[١] تحقيق الكلام في المقام بنحو يتّضح فيه الحال في كلمات الاعلام : أنّ الشك في مورد الأمور الاعتقادية تارة يكون في بقاء الحكم كما لو علم بوجوب الاعتقاد بحالة من حالات البرزخ أو القيامة ثم شك في بقائه. وأخرى يكون في بقاء الموضوع المترتّب عليه وجوب الاعتقاد أو اليقين.

ففي الأول : لا إشكال في جريان الاستصحاب لإطلاق أدلّته وعدم الموهم لعدم جريانه سوى التعبير عنه بالأصل العملي ، وقد عرفت دفعه بما أفاده في الكفاية ، لكن لا يخفى أنّ ذلك مجرد فرض لا واقع له إذ ليس لدينا من الأمور الاعتقادية ما يشك في بقاء وجوب الاعتقاد به ، ولعلّه إلى ذلك أشار في الكفاية بقوله : « وكذا موضوعا فيما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ».

وأما الشك في بقاء الموضوع فلا فرض له بحسب الظاهر سوى الشك في حياة الإمام عليه‌السلام. وإلاّ فسائر الأمور الاعتقادية استقبالية لم تحدث كي يشك في بقائها بالشبهة الموضوعية.

ولا يخفى أنّ الشك في حياة الإمام عليه‌السلام فيها بالنسبة إلينا مجرد فرض لا واقع له.

ولكن لا بأس بإيقاع الكلام فيه على سبيل الفرض فنقول : إنّ الأثر الملحوظ في حياة الإمام تارة يكون هو وجوب الاعتقاد. وأخرى يكون وجوب اليقين به.

ويقع الكلام في جريان الاستصحاب بلحاظ كلا الأثرين ..

أما جريان الاستصحاب بلحاظ ترتيب وجوب الاعتقاد فتحقيقه : أنّ الاستصحاب تارة يجري في حياة زيد مثلا ـ خاصة ، وأخرى في إمامته ، وثالثة في حياته وإمامته بنحو المجموع المركّب.

أما جريان الاستصحاب في إمامته : فهو ممنوع للشك في موضوعها وهو الحياة ، إذ الإمامة متقوّمة بحياة الإمام فمع الشك في الحياة كيف نستصحب الإمامة.

وأما جريان الاستصحاب في المجموع المركّب من الحياة والإمامة : فمع قطع النّظر عن الإشكال في جريان الاستصحاب في المجموع المركّب بقول مطلق ، يمنع بأن المراد ترتيبه على ذلك هو وجوب الاعتقاد ، وهو لا يترتّب إذ الاعتقاد والإيمان بالشيء وإن كان من الأمور القلبية الاختيارية لكنها لا تحصل مع الشك ، بل هي تتوقف على اليقين ، فمع عدمه لا يمكن تحقّقه. ومن الواضح أنّ الاستصحاب لا يرفع الشك ، فلا يجب الاعتقاد لعدم اليقين الّذي يتقوم به. وذلك لأنّ اليقين إما أن يكون من قبيل شرائط الوجوب وإما أن يكون من قبيل شرائط وجود الاعتقاد الواجب.

فعلى الأول : يكون عدم وجوب الاعتقاد مع الشك واضحا لعدم حصول موضوعه فلا ينفع

٢٩٣

........................................

__________________

الاستصحاب.

وعلى الثاني : فقد يتخيّل أنّ وجوب الاعتقاد يترتّب على الاستصحاب وهو يدعو إلى تحصيل اليقين كسائر مقدمات الواجب. ولكن يندفع بأنّ الاستصحاب لأجل وجوب الاعتقاد يكون لغوا لأنّ ظرف داعوية الوجوب وتأثيره هو ظرف العمل الواجب ، ومن الواضح أنّه بعد تحصيل اليقين لا مجال للاستصحاب.

وعليه فالوجوب الثابت بالاستصحاب في ظرف تأثيره وداعويته لا بقاء له وفي ظرف حدوثه لا داعوية له لعدم القدرة على متعلّقه. ومثل ذلك يكون لغوا محضا.

وأما جريان الاستصحاب في الحياة خاصة ليترتّب عليها الإمامة وهي أمر شرعي ، فيترتّب وجوب الاعتقاد بها. ففيه :

أولا : أنّه يتوقّف على كون الإمامة عبارة عن نفس السلطنة والولاية ويترتّب عليها نفوذ التصرّفات بحيث يمكن الحكم بفعليتها مع الشك الوجداني في الحياة ، وأما لو كانت الإمامة عبارة عن نفس الحكم بنفوذ التصرّفات فمن الواضح أنّ مثل ذلك يتوقّف على إحراز الحياة لكي يحرز صدور التصرّف أو قابليّته لصدور التصرّف منه.

وأما مع الشك في حياته فلا معنى للحكم بنفوذ تصرفاته. فما نحن فيه نظير وجوب الإطعام الثابت لزيد ، فإنّه مع الشك في حياته لا ينفع استصحابها في ترتيب وجوب إطعامه لأنّ متعلّق الحكم لا يجوز إلاّ بإحراز الحياة. وليس نظير وجوب التصدّق على الفقراء على تقدير حياة زيد.

وثانيا : لو فرض كون الإمامة عبارة عن أمر وضعي يترتّب عليه نفوذ التصرفات ، وغضّ النّظر عن الإشكال في جريان الاستصحاب بناء عليه أيضا فإنّ له مجالا آخر ، فلا يجري الاستصحاب أيضا ، للشك المانع من تحقّق الاعتقاد.

نعم لو بنى على أنّ الاعتقاد بالواقع يحصل مع الشك به ، يمكن إجراء الاستصحاب ليترتّب وجوب الاعتقاد ، لكنّه لا مجال للالتزام به كما أشرنا إليه.

وأما جريان الاستصحاب في الحياة بلحاظ وجوب المعرفة واليقين. فالملحوظ في الاستصحاب تارة حدوث هذا الأثر وأخرى سقوطه. يعني : تارة يراد باستصحاب حياة الإمام ترتيب وجوب معرفته فيلزم على المكلّف تحصيل اليقين به وأخرى يراد به سقوط هذا التكليف من باب قيام الاستصحاب مقام اليقين والاستصحاب لا يجري بكلا اللحاظين ، أما لو كان الملحوظ هو حدوث التكليف بالمعرفة فلأنّ موضوع وجوب معرفة الإمام بعينه يترتّب على أصل العلم بأصل ثبوت الإمام وجعله من قبله تعالى ولا يترتّب على حياة زيد بعنوانه أو عمرو. فإجراء الاستصحاب في حياة زيد ليس إجراء له في موضوع الحكم الشرعي.

٢٩٤

..............................................

__________________

وببيان آخر نقول : أنّ وجوب معرفة الإمام ثابت مع الشك ومع قطع النّظر عن الاستصحاب ، فلا أثر للاستصحاب في ترتيبه وحدوثه.

وأما لو كان الملحوظ هو سقوط التكليف فلأنّ اليقين بالإمام مأخوذ بما هو صفة لا بما هو طريق ولذا يعبّر عنه بالمعرفة ، ومثله لا يقوم الاستصحاب مقامه.

والخلاصة ؛ إنّ الاستصحاب الموضوعي في باب الإمامة لا مجال له على جميع تقاديره وفروضه. وبعد ذلك يحسن بنا التنبيه على بعض الجهات الواردة في كلمات الاعلام وهي متعدّدة :

الأولى : ما أفاده الشيخ في نفي الاستصحاب لأجل عدم الاعتقاد مع الشك ، وما أفاده قد يبدو غامضا لأنّ مجرد عدم الاعتقاد مع الشك لا يمنع من ترتّب وجوب الاعتقاد المستلزم لوجوب مقدماته ومن جملتها اليقين. ولكن يتّضح كلامه بما ذكرناه في نفي الاستصحاب لترتيب وجوب الاعتقاد سواء كان اليقين من مقدمات الوجوب أو الواجب.

الثانية : ما أفاده صاحب الكفاية في نفي الاستصحاب الموضوعي في مورد يطلب فيه اليقين ، وعلّله بوجوب تحصيل اليقين. فهل هو ناظر ـ في جريان الاستصحاب نفيا أو إثباتا ـ إلى ترتيب وجوب تحصيل اليقين أو إلى إسقاطه؟ والصحيح أنّه ناظر إلى إسقاط التكليف لا حدوثه كما يدلّ عليه قوله :

« بل يجب تحصيل اليقين بموته ... » فإنّه لا معنى له لو كان الملحوظ في جريان الاستصحاب حدوث التكليف بوجوب تحصيل اليقين لأنّه هو الأثر المقصود بالاستصحاب فلا معنى لنفي الأصل وتعليله بلزوم تحصيل اليقين كما لا يخفى. ويدلّ عليه أيضا ما ذكره بعد ذلك من الاكتفاء بالاستصحاب إذا كان المورد من الموارد التي يكتفي فيها بالظن وكان الاستصحاب من باب الظن.

وعليه فلا وجه لما ارتكبه المحقّق الأصفهاني من حمل كلامه على نظره إلى ثبوت التكليف ، فتدبّر.

نعم قوله : « فلا يستصحب لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه » ظاهر في كون النّظر إلى مرحلة الثبوت لكن بعد صراحة ما بعده فيما ذكرناه لا بدّ من الالتزام بأنّ مراده من هذه العبارة « لأجل ترتيب أثر لزوم المعرفة » فلا تنافي ما بعدها.

الثالثة : قد عرفت الإشارة إلى أنّ الشك في الاعتقاديات من حيث الحكم مجرد فرض لا واقع له.

ولكن ذكر المحقّق الأصفهاني أنّه يتمّ في طرف الوجود لا في طرف العدم. كما لو شك في حدوث تكليف اعتقادي بشأن من شئون المحشر ، فينفي بالاستصحاب لعدم ثبوته قبل الشريعة أو في أوائلها.

وأنت خبير أنّ الاستصحاب الّذي يختلف الحال فيه وجودا وعدما هو استصحاب نفس التكليف لا عدمه ، إذ استصحاب العدم يتّفق مع أصالة البراءة فلو لم يجر الاستصحاب لا يختلف الحال من الناحية العملية لجريان البراءة. فما أفاده لو تمّ علميّا فلا أثر له عمليّا.

هذا مع ما عرفت من منع الاستصحاب في عدم التكليف تبعا للشيخ (ره) ، فانتبه.

٢٩٥

............................................

__________________

الرابعة : ذكر المحقّق الأصفهاني (ره) عند تعرّضه لما أفاده صاحب الكفاية في المورد الّذي يطلب فيه اليقين ، وأنّ الاستصحاب لا ينفع في ذلك ، ذكر أنّ استصحاب الأمور المجعولة شرعا كالإمامة يرجع إلى جعلها بجعل مماثل للواقع واعتبار آخر غير الواقع وليس مجرد الإلزام بترتيب الأثر ، وعليه فمع جريان الاستصحاب يحصل اليقين بالإمامة الظاهرية المجعولة ، فيكون الاستصحاب مجديا إذا فرض أنّ المعتبر لو تعلّق إليه بالإمامة أعمّ من وجودها والواقعي.

وأما جريان الاستصحاب لأجل لزوم تحصيل اليقين فهو ممنوع لأنّ اليقين بالإمامة ( بالحياة ) رافع لموضوع الاستصحاب ، فيلزم أن يقتضي الاستصحاب ما يرفع موضوعه ويستلزم عدمه فيكون مما يلزم من وجوده عدمه وهو محال. وما أفاده ( قده ) صدرا وذيلا لا يرد على ناحية واحدة. فإنّ محطّ النّظر في الصدر إلى الجدوى في جريان الأصل من ناحية سقوط التكليف بوجوب تحصيل اليقين إذ مع حصول اليقين قهرا لا معنى للأمر بتحصيله. ومحطّ النّظر في الذيل إلى ناحية حدوث التكليف وبتحصيل اليقين مع أنّ ظاهر كلامه هو أنّ ما نفاه في الذيل عين ما أفاده في الصدر ، فيكون خلطا بين المقامين.

ثم أنّ ما أفاده في نفي جريان الاستصحاب لأجل ترتيب لزوم تحصيل اليقين من استلزام وجود الاستصحاب لعدمه غير تام ، إذ يرد عليه أنّه لا إشكال في جواز أمر الشاك بشيء بتحصيل اليقين به ورفع شكّه فيقال : إذا شككت في وجود زيد وجب عليك تحصيل اليقين به. والسرّ فيه : أنّ المترتّب على الاستصحاب ليس هو اليقين بل الأمر به وهو لا ينفي الشك ، نعم امتثاله ينفي الشك ولكنه متأخّر عن الأمر ، وارتفاع الشك بقاء لا يمنع من جريان الاستصحاب حدوثا. نعم لو كان الاستصحاب يقتضي ارتفاع الشك حدوثا جاء المحذور ولكن الأمر ليس كذلك بل المرتفع هو الشك في مرحلة البقاء وهو خال عن المحذور كيف ، وكثير من موارد الاستصحاب كذلك ، كما لو استصحب عدم الإتيان بالواجب فجاء به أو استصحب الحدث فتطهّر ، فإنّ الشك يرتفع بعد امتثال الحكم الظاهري ، فانتبه.

الخامسة : أنّ السيد الخوئي نفي الاستصحاب في الأمور الاعتقادية لأجل تقيّد الموضوع بالعلم فلا يلزم الاعتقاد والمعرفة إلاّ بالأمر المعلوم.

ولا يخفى أنّ ما أفاده لو فرض تسليمه لا يرتبط بأيّ ارتباط بموضوع الكلام بين الاعلام في المقام نفيا أو إثباتا. نعم هو التزام مستقل يترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب. هذا مع أنّه كان ينبغي أن يتنبّه على عدم قيام الاستصحاب في المقام مقام العلم المأخوذ في الموضوع ، وإلاّ فمجرد كون العلم مأخوذا في الموضوع لا ينفي جريان الاستصحاب إذا كان يقوم مقام العلم ، فتدبّر.

وكيف كان فقد عرفت منع جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها الاعتقاد أو المعرفة ، كالإمامة ومنه يظهر الحال في النبوة.

وتحقيق ذلك : إنّ المقصود بالنبوة التي يراد استصحابها إما نفس المزيّة الخاصة النفسيّة الثابتة

٢٩٦

أعني ما كان المهم فيه هو الاعتقاد الّذي هو محل الخلاف بينهما ـ هو : ان الاعتقاد بالشيء لا ينفك عن اليقين به ، فمع الشك فيه أو اليقين بعدمه لا يمكن تحقق الاعتقاد. وان انفك اليقين عن الاعتقاد ، فيمكن حصول اليقين ولا يحصل الاعتقاد ، كما تدل عليه الآية الكريمة : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )(١).

فاليقين منفك عن والاعتقاد غير منفك عن اليقين.

وإذا كان الاعتقاد ملازما لليقين ، فلا يجدي استصحاب متعلقه في صحة الاعتقاد به لعدم رفعه الشك إلا تعبدا.

وقد ذكر المحقق الخراسانيّ في الحاشية وجها لإجراء الاستصحاب في المتعلق ـ على تقدير القول بعدم انفكاك الاعتقاد عن اليقين ـ تقريبه : انه يمكن

__________________

لشخص النبي ، وأما المقام المجعول للنبي وهو مقام تبليغ الأحكام والرسالة ، نظير مقام الإمامة ، وأما مجموع الأحكام التي جاء بها النبي.

ولا يخفى أنّ النبوة بالمعنى الأول لا يشك في بقائها لعدم زوالها بعد اتّصاف النبي بها. وبالمعنى الثاني يعلم بارتفاعها بالموت ، إذ لا محصّل لجعل المنصب المزبور شرعا بعد الموت.

نعم هي بالمعنى الثالث قابلة للاستصحاب لإمكان تعلّق الشك بها ، لكن نقول أنّ المتيقّن هو الأحكام المحدودة بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث تكون خصوصية التحديد مأخوذة في متعلّق اليقين ، ومثله لا يشك في بقائه بل يعلم بارتفاعه ، فليس المتيقّن أحكام الشريعة السابقة على الإجمال بل الأحكام الخاصة وهي المحدودة بالحدّ الخاصّ فلا تثبت بعد الحدّ جزما ، فيمتنع التمسّك بالاستصحاب.

ولعلّه إلى ذلك يرجع ما ذكره بعض أفاضل السادة في ردّ الكتابي الّذي تمسّك بالاستصحاب ، فهو لا يريد أن المتيقّن أحكام شريعة موسى وعيسى المحدودة.

وتنكر الأحكام غير المحدودة ، فيرجع التحديد إلى الأحكام التي يراد استصحابها ، لا إلى نفس موسى وعيسى كي يقال إنّهما فردان جزئيان لا كليّان فلا يقبلان التقييد الموجب للتفرّد والتخصّص لأنّه شأن المفاهيم الكليّة لا الجزئية.

وأما ما ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق فهو لا يرتبط بالاستصحاب لا سؤالا ولا جوابا ويمكن أن يكون منظوره « سلام الله وصلواته عليه » إلى ما قلناه من كون المتيقّن أمرا خاصّا ، فتدبّر. والأمر سهل كما لا يخفى ، والله سبحانه العالم.

(١) سورة النمل ، الآية : ١٤.

٢٩٧

الاعتقاد بالشيء على تقدير ثبوته واقعا ، فيمكن استصحابه والاعتقاد به على هذا النحو (١).

وفيه ما لا يخفى ، فان التعليق ان كان في جانب المتعلق بان كان الاعتقاد فعليا والمتعلق تقديريا ـ فانا اعتقد فعلا بشيء على تقدير ثبوته ـ ، فهو ممنوع ، لأن الاعتقاد الفعلي مساوق لليقين بالمقدر ، والمفروض عدم اليقين به. وان كان في جانب الاعتقاد ، بان كان معلقا على ثبوت الشيء. ففيه : ان التعليق انما يكون في المفاهيم التي يعرض عليها الوجود ، ولا يكون في الوجودات ، لعدم قبولها التعليق ، لأن الوجود اما متحقق أو ليس متحقق. والاعتقاد من الوجودات فلا يقبل التعليق.

وقد وجّه المحقق العراقي قدس‌سره استصحاب المتعلق مع الشك فيه : بان الانقياد والتسليم هاهنا بالإمامة ـ مثلا ـ الظاهرية أو النبوة الظاهرية ، لأنه بعد التعبد بها تثبت ظاهرا فيسلم بها بهذا النحو ، لا على طريق الجزم واليقين ، كي يورد عليه بتنافيه مع الشك في أصل الإمامة أو النبوة (٢).

إلاّ ان ما ذكره ممنوع على إطلاقه ، فانه انما يتم لو كانت الإمامة من المناصب المجعولة للشارع ، فيمكن التعبد بها بقاء لكونها من الأحكام الشرعية كالطهارة والملكية وغيرهما. اما لو كانت من الأمور التكوينية غير المجعولة فلا يتم ما ذكره ، لأنّ التعبد بالأمر التكويني لا معنى له إلاّ ثبوت حكمه ، فالتعبد بحياة زيد معناه ثبوت وجوب التصدق ـ مثلا ـ ، فالتعبد بالإمامة لا معنى له إلا ثبوت حكمها الشرعي ، وليس هو إلاّ وجوب الاعتقاد ، وهو غير ممكن لعدم اليقين بمتعلقه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم حاشية فرائد الأصول ـ ٢٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٢٢٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٩٨

واما ما ذكره المحقق الخراسانيّ قدس‌سره في الكفاية من عدم جريان الاستصحاب موضوعا لو كان المهم وجوب المعرفة (١) ، فهو يحتمل وجهين :

الأول : ان يكون وجوب المعرفة متوقفا على الاستصحاب ، لتوهم ترتب وجوب المعرفة على وجود الإمام الواقعي ، فالشك في وجوده يوجب الشك في وجوب المعرفة ، فالاستصحاب يجري ليترتب عليه وجوب المعرفة ، كما يجري استصحاب حياة زيد ليترتب عليه وجوب التصدق. وعليه فهل يجري الاستصحاب أم لا؟.

الوجه الثاني : ان يكون وجوب المعرفة ثابتا على كل تقدير ، ولكن الكلام في الاكتفاء عن المعرفة بالاستصحاب وعدمه ، فيقع الكلام في جريانه وعدمه.

ومراده الوجه الثاني ويشهد له أمران :

أحدهما : ان الكلام في نفسه لا بد أن يكون حول ذلك ، لعدم تعليق وجوب المعرفة على حياة الإمام ، بل هي واجبة فعلا علم بحياة الإمام أو لم يعلم.

والآخر : ظهور ذلك واضحا من قوله : « بل يجب تحصيل اليقين بموته وحياته ». ومما ذكره من كفاية الاستصحاب لو اعتبر من باب الظن في بعض الموارد ، فان الظاهر من هذين الموردين كون الكلام حول الاكتفاء بالاستصحاب وعدمه ، فتأمّل.

إذ قد يتوهم كفاية باعتبار ما قرّر في محله من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

وحيث ان المستفاد بمناسبة الحكم والموضوع كون القطع الموضوع هاهنا مأخوذا بنحو الصفتية ـ أعني : بما انه صفة ـ لا بنحو الطريقية والحجية لم يقم الاستصحاب مقامه بل لا بد من تحصيله.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٢٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٩

ولكن الظاهر من العبارة وجه آخر غير هذين الوجهين ، وهو كون وجوب المعرفة مترتبا على اليقين بالحياة لا على الوجود الواقعي ، كما ـ هو مقتضى الوجه الأول. ولا مطلقا كما هو مقتضى الوجه الثاني وان الكلام في الاكتفاء باستصحاب الحياة عن اليقين بها. وظاهر المحقق الخراسانيّ أخذ اليقين بها بما أنه صفة ، ولذلك أوجب تحصيله وعدم كفاية الاستصحاب عنه إلا في مورد يكتفي فيه بالظن ـ كما لو أخذت المعرفة بمعنى أعم من القطع والظن ـ وكان الاستصحاب من باب الظن. فالتفت.

وقد فسر المحقق الأصفهاني قدس‌سره العبارة بالوجه الأول. وأورد على جريان الاستصحاب : بان استصحاب حياة الإمام إذا كان يترتب عليه لزوم المعرفة ، فمع تحصيلها يرتفع موضوع الاستصحاب ، فيلزم من وجود التعبد عدمه وهو محال (١).

وفيه : ان المعرفة توجب رفع موضوع الاستصحاب بقاء ولا محذور فيه ، وانما المحذور لو استلزمت رفعه ابتداء وحدوثا ، ولكنه غير حاصل.

وقد تبين مما ذكرنا حال الاستصحاب في الإمامة والنبوة.

فان الإمامة ، اما أن تكون من الصفات النفسانيّة التي وهي عبارة عن درجة خاصة من الكمال. واما أن تكون من المناصب المجعولة ، وهي إمارته على الناس ونفوذ حكمه فيهم وما شابه ذلك. والشك في الإمامة ينشأ عن الشك في الموت وعدمه.

والإمامة بالمعنى الأول لا تزول بالموت ولا بغيره ، فلا شك فيها أصلا ، بل يحرز بقائها. ولكنها بالمعنى الثاني تزول بالموت ، لأن أداء الأحكام والأمارة على الناس يتقوم بالحياة ، فمع الشك في بقاء الحياة يشك في بقاء في بقاء الإمامة بهذا

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١١٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٠