منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

كذلك.

والاستصحاب التعليقي وان كان مثار خلاف ، لكن ذلك في الاستصحاب الحكمي ، اما الموضوعات فلا يلتزم بصحة الاستصحاب التعليقي فيها بالاتفاق ، فمن يقول بالاستصحاب التعليقي في الأحكام لا يقول به في الموضوعات.

وقد أطال المحقق العراقي قدس‌سره في بيان كلام الشيخ ومناقشته (١). وأنت إذا لاحظت ما ذكرناه تعرف ان ما أفاده قدس‌سره أجنبي عن كلام الشيخ فراجع تعرف.

الوجه الرابع : ان المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ذهب إلى منع جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستفاد من حكم العقل ، لكن ببيان آخر غير ما أفاده الشيخ رحمه‌الله بالتوجيه الّذي عرفته.

فقد أفاد قدس‌سره : انه مع الشك في الخصوصية يقطع بزوال الموضوع ، وهو مستلزم للقطع بزوال الحكم ، بيان ذلك : ان الحكم العقلي بالقبح ليس متعلقه هو الفعل مع الخصوصية بوجودها الواقعي ، بل بوجودها العلمي ، فالصدق المضر المعلوم إضراره قبيح ، لا ذات الصدق المضر وان لم يعلم إضراره ، والوجه فيه : ان القبح لا يتعلق إلاّ بالفعل الاختياري الصادر عن التفات وعمد وقصد ، فلا يثبت الا في مورد العلم.

وعليه ، فمع الشك في بقاء خصوصية الإضرار يقطع بعدم موضوع القبح ، وهو العلم بالضرر ، فيعلم بعدم القبح العقلي ويتبعه عدم الحكم شرعا لانتفاء مناطه (٢).

ويتوجه عليه قدس‌سره أمور :

الأمر الأول : ظاهر كلامه اختصاص الكلام في الشبهة الموضوعية ، وقصر

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٩ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية. ٣ ـ ٩ ـ ١٠ ـ الطبعة الأولى.

٢١

الكلام على الشبهة الموضوعية دون الحكمية بلا وجه. والوجه الّذي ذكره لا يتأتى في الشبهة الحكمية ، بل يختص بالشبهة الموضوعية ، إذ ليس منشأ الشك في الشبهة الحكمية هو الشك في بقاء الخصوصية كي يقال ان العلم بالخصوصية دخيل وهو مفقود مع الشك ، بل يعلم بزوال الخصوصية ، وانما يشك في بقاء الحكم لاحتمال ان الخصوصية تأثر بحدوثها في بقاء الحكم ، فلا بد في نفي الاستصحاب في الشبهة الحكمية من الالتزام بأن الخصوصية علة حدوثا لا بقاء.

وبالجملة : الملاك الّذي ذكره في الاستصحاب في الشبهة الموضوعية لا يتأتى في الشبهة الحكمية. كما لا يخفى ، فلاحظ.

الأمر الثاني : ان ما أفاده من زوال الموضوع جزما عند الشك في الخصوصية غير تام ، إذ إناطة القبح بالفعل الاختياري مسلم لكن الاختيار والقصد لا يتوقف على العلم ، بل يتوقف على مجرد الالتفات المتحقق عند الشك ، فمثلا لو رأى شخص شبحا وتردد انه إنسان أو جدار فوجه إليه بندقته ورماه برصاصة فتبين انه إنسان وقتل بتلك الرمية ، فانه يترتب على فعله آثار الفعل الاختياري العقلية والشرعية مع عدم علمه بأنه قتل وظلم.

وعليه ، فمع الشك في ان الصدق مضر أو لا ، لا يقطع بزوال الموضوع لتحقق الالتفات والقصد معه. فتدبر.

الأمر الثالث : سلمنا أخذ العلم في الموضوع وزواله عند الشك ، لكن لا بد من تحقيق ان هذه الخصوصية الزائلة هل هي مقومة بنظر العرف أو ليست مقومة ، ومجرد دخلها في موضوع الحكم العقلي لا أثر له من هذه الناحية ، ولا يستلزم منع الاستصحاب مع الشك في بقاء الحكم والحالة هذه. فالتفت.

ثم ان الشيخ رحمه‌الله ذكر : ان لا فرق في عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستندة إلى الأحكام العقلية بين ان تكون وجودية أو عدمية ، مع استناد العدم إلى القضية العقلية ، كعدم وجوب الصلاة على ناسي

٢٢

السورة ، فانه لا يجوز استصحابه عند زوال النسيان ، ولا وجه للتمسك به في إثبات الاجزاء (١) كما صدر عن بعض.

نعم لو لم يكن العدم مستندا إلى القضية العقلية ، وان كان في موردها ، فلا بأس باستصحابه كاستصحاب البراءة والنفي.

كما ان المحقق الأصفهاني ( قده ) بعد ان ذكر ما تقدم منه ، واختار التفصيل بين أحكام العقل النظريّ فيجري الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إليه ، وأحكام العقل العملي فلا يجري الاستصحاب للبيان المتقدم ، قال :

« ثم انه لا فرق فيما ذكرنا منعا وجوازا بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم إذا كانا مستندين إلى القضية العقلية التي مفادها حكم العقل العملي ، كاستصحاب الوجوب والحرمة المستندين إلى حسن الفعل وقبحه. واستصحاب عدم الوجوب والحرمة إذا استند إلى قبح تكليف غير المميز إيجابا وتحريما ... » (٢).

أقول : يرد على الشيخ رحمه‌الله ان استصحاب عدم الوجوب المترتب سابقا على النسيان يختلف عما أفاده سابقا ، فانه وان كان مورد النسيان يشترك مع ما تقدم في ثبوت الحكم بالقبح ، إلاّ ان القبح هناك متعلق بفعل المكلف ، وقد عرفت ان الخصوصية الدخيلة في القبح اما من قيود الفعل المتعلق واما هي نفس المتعلق. والقبح هنا متعلق بفعل المولى الشارع ، ولا يخفى ان المكلف بالإضافة إلى التكليف من قبيل الموضوع لا من قبيل المتعلق. اذن فالنسيان مأخوذ في موضوع عدم التكليف لا في متعلقه.

وعليه ، فلا يتأتى الوجهان السابقان في منع الاستصحاب هاهنا ، لأنهما يتفرعان عن كون الخصوصية المقومة للقبح العقلي ، اما نفس المتعلق أو دخيلة فيه. وليس النسيان كذلك.

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٢٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهانيّ المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١١ ـ الطبعة الأولى.

٢٣

ومن هنا يظهر انه لا يظهر عدم جريان الاستصحاب في مورد النسيان مما ذكره سابقا ، بل لا بد من تحقيق ان النسيان مقوم للموضوع عرفا أو لا؟.

ومن هنا يتبين الإشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ، فان الحكم بقبح تكليف الناسي وان كان من حكم العقل العملي ، لكن ما تقدم يرتبط بما إذا كان حكم العقل العملي يرتبط بعمل المكلف نفسه. وقد عرفت ان متعلق القبح هاهنا هو فعل المولى ، ولا يتأتى فيه ما تقدم ، إذ أي معنى لأن يقال هاهنا انه مع الشك في الخصوصية يعلم بزوال الموضوع لتقومه بالعلم ومع الشك لا علم؟ ، فانه لا يتصور الشك بالنسبة إلى الله سبحانه.

نعم ، نحن نشك فيما هو فعل الله سبحانه من التكليف وعدمه عند الشك في الخصوصية.

وما أفاده قدس‌سره أجنبي عن عدم جريان الاستصحاب في ذلك ، فتدبر ولا تغفل.

ثم انه يمكن الالتزام بجريان استصحاب عدم التكليف في مورد النسيان ولو مع فرض خصوصية النسيان خصوصية مقومة للموضوع أو للمتعلق ، مع قطع النّظر عما تقدم في البراءة من المناقشة في استصحاب عدم التكليف بقول مطلق ولو لم يستند إلى القضية العقلية.

وذلك بوجهين :

الأول : استصحاب عدم الجعل بلحاظ حال ما قبل الشرع بتقريب : انه قبل الشرع لم يكن هناك جعل بالنسبة إلى هذا الموضوع الخاصّ وهو الشخص بعد زوال نسيانه ، وبعد الشرع يشك في ثبوت الجعل بالنسبة إليه فيستصحب عدمه.

وقد تقدمت الإشارة إليه في مبحث الأقل والأكثر (١) وسيجيء تحقيقه في

__________________

(١) راجع ٥ ـ ٢٣٠ من هذا الكتاب.

٢٤

مبحث جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، حيث ادعى : معارضتها باستصحاب عدم الجعل.

الثاني : استصحاب عدم المجعول بالنسبة إلى الموضوع الخاصّ بمفاد ليس التامة بتقريب : ان هذا الموضوع الخاصّ وهو المكلف بعد زوال نسيانه لم يكن الحكم الفعلي في حقه ثابتا قبل تحققه ، فالحكم الفعلي للمتعلق له منتف لانتفاء موضوعه ، وبعد وجوده وتحققه يشك في ثبوت حكم فعلي له ، فلا يمكن ان يقال : هذا الشخص لم يكن التكليف في حقه ثابتا فالآن كذلك ـ بمفاد ليس الناقصة المعبر عنه بالعدم النعتيّ ـ ، إذ لا حالة سابقه له ولكن يمكن ان يقال : الوجوب المتعلق بهذا الشخص لم يكن ثابتا فالآن كذلك ـ بمفاد ليس التامة المعبر عنه بالعدم المحمولي ـ نظير إجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية المتقدم بيانه في مبحث العموم والخصوص (١) ، وان لم يكن منه اصطلاحا. ويترتب على هذا الأصل عدم لزوم الامتثال عقلا. فتدبر.

والمتحصل : ان استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح لا نلتزم بجريانه تبعا للشيخ ، لكن في غير ما كان من قبيل حكم العقل بقبح تكليف الناسي ، بل في غير الحكم العدمي مطلقا ، لإمكان إجراء الاستصحاب في العدمي بالتقريبين المتقدّمين ، ولا إشكال فيه من ناحية استناده إلى الحكم العقلي.

وورود الإشكال فيه من ناحية أخرى لو ثبت ، كلام آخر أجنبي عما نحن فيه.

هذا تمام الكلام في هذا التفصيل.

واما باقي التفصيلات فسيأتي البحث فيها بعد أدلة الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) راجع ٣ ـ ٣٦٥ من هذا الكتاب.

٢٥

الأمر السادس : لا يخفى ان المعتبر في الاستصحاب هو الشك في البقاء. وقد تعرض الشيخ رحمه‌الله إلى بيان ان المراد : هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات ، فلو لم يكن ملتفتا لم يجر الاستصحاب وان فرض حصول الشك له على تقدير الالتفات.

وفرع على ذلك فرعين :

الفرع الأول : ان المتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق وشك في بقاء الحدث وعدمه جرى الاستصحاب في حقه ، فلو غفل عن ذلك وصلى بطلت صلاته لسبق الأمر بالطهارة ، ولا تجري في حقه قاعدة الفراغ المصححة للعمل ، لكون مجراها الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل.

الفرع الثاني : ان المتيقن للحدث لو غفل عن حاله وصلى ثم التفت بعد الصلاة وشك في انه تطهر قبل الصلاة أو لا؟ ، تجري في حقه قاعدة الفراغ ، لأن الشك حادث بعد العمل لا قبله ، كي يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول في الصلاة بدونها.

نعم ، هذا الشك المتأخر يوجب الإعادة بحكم الاستصحاب ، لكنه محكوم لقاعدة الفراغ (١).

وهذا المطلب بعينه ذكره في الكفاية في التنبيه الأول ، ولكنه في الفرض الأول حكم ببطلان الصلاة لكونه محدثا بحكم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي (٢).

ولم يتعرض لقاعدة الفراغ فيه بقليل ولا بكثير ، فكان عدم جريانها فيه مفروغ عنه لديه.

أقول : لا بد من التنبيه على أمور ثلاثة يتضح بها ان ما أفاده الشيخ في غير محله.

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦

الأمر الأول : ان اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب وعدم الاكتفاء بالتقدير له طريقان :

أحدهما : عرفي ، وهو دعوى ان ظاهر دليل الاستصحاب اعتبار الشك في موضوعه ، وظاهر كل امر مأخوذ في الموضوع إرادة الفرد الفعلي منه ، فإذا قال : « أكرم العالم » ، كان ظاهره عرفا إكرام المتصف بالعلم فعلا لا فرضا وتقديرا. ولذا قيل أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه.

وعليه فالظاهر من دليل الاستصحاب عرفا إرادة الشك الفعلي.

ثانيهما : عقلي ، وهو دعوى ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل حكم ظاهري أصولي يقصد به رفع الحيرة في مقام العمل ، وما كان كذلك ، لا يثبت إلاّ مع الالتفات ، إذ بدون الالتفات لا حيرة في التكليف ولا معنى لتنجيز الواقع عليه أو التعذير عنه.

وعليه ، نقول ان كان نظر الشيخ ، وصاحب الكفاية في اعتبار فعلية الشك إلى الوجه الثاني العقلي. فيرد عليهما : ان الاستصحاب لا يجري مع زوال الالتفات ، بل لا بد في استمرار جريانه من استمرار الالتفات. وعليه فلا فرق بين الفرضين في عدم كون المكلف مجريا لاستصحاب الحدث حال الصلاة ، لأنه غافل عن الحدث حالها. فالتفرقة بينهما في غير محلها.

وان كان نظرهما إلى الوجه الأول العرف ـ كما هو الظاهر لالتزامهما بجريان الاستصحاب مع الشك ثم الغفلة عنه وقد عرفت ان هذا لا يتم على الوجه الثاني مع ان الجهة الثانية راجعة إلى الشرائط العامة للتكليف ، فان من الشرائط العامة عدم الغفلة ، وهو أجنبي عن خصوص الاستصحاب ، فلا يناسب تخصيص الكلام به ـ ، فالفرق بين الفرضين وان كان موجودا ببيان انه في الفرض الأول وان عرضت الغفلة بعد الشك ، لكن ذلك لا ينافي استمرار الشك بوجود ارتكازي ، كسائر الصفات النفسيّة من الإرادة والعلم التي يكون لها وجود ارتكازي يجامع الغفلة بعد حدوثها عن التفات ، فيكون الشك موجودا

٢٧

ارتكازا ، فيكون مجرى الاستصحاب حال الصلاة.

لكن يرد عليهما ـ على هذا التقدير : ـ ان هذه الدعوى تتم بناء على الالتزام بموضوعية اليقين والشك بما هما وصفان في باب الاستصحاب ، بحيث يتعلق الجعل بوصف اليقين.

اما بناء على الالتزام بان المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل ، أو الملازمة بين الحدوث والبقاء ـ كما يظهر من صاحب الكفاية ـ (١) المعبر عنها في كلام البعض بان الحادث يدوم ، بحيث لا يكون لليقين والشك موضوعية ، بل هما طريقان للمتيقن والمشكوك. فلا يتم هذا الكلام ، لأن اليقين والشك لا موضوعية لهما ، بل يكون الاستصحاب حكما ظاهريا ثابتا في الواقع للحادث عند حدوثه ، مع قطع النّظر عن اليقين والشك. نعم ، اليقين طريق إليه كسائر الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها.

وبالجملة : لا موضوعية للشك حتى يبحث في ان المراد به الشك الفعلي أو التقديري.

الأمر الثاني : انه قد وقع الكلام في انه هل تجري قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة عن المشكوك حال العمل ، أو يختص جريانها بصورة الشك في عروض الغفلة له؟.

فنقول : انه بناء على الثاني وعدم جريانها في صورة العلم بالغفلة لا مجال لقاعدة الفراغ في كلا الفرضين ، إذ المفروض فيهما معا غفلة المكلف حال العمل ، ومعه ، لا تجري قاعدة الفراغ جرى الاستصحاب في حقه أو لم يجر فلا يكون التفريع المزبور متجها على هذا المبنى الّذي لا يخلو من قوة.

الأمر الثالث : انه من المسلم لدى الكل ان قاعدة الفراغ انما تجري في مورد الشك الحادث بعد العمل ، اما إذا حدث قبل العمل فلا تجري فيه قاعدة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨

الفراغ لقصور دليلها كما يبين في محله.

وعليه ، نقول : ان قاعدة الفراغ في الفرض الأول لا تجري لأجل حدوث الشك قبل العمل بلا ارتباط بجريان الاستصحاب وعدمه ، فالحكم ببطلان الصلاة استنادا إلى الاستصحاب السابق على العمل وعدم جريان قاعدة الفراغ بسببه غير سديد ، بل الصلاة باطلة بمجرد عدم جريان القاعدة سواء جرى الاستصحاب قبلها أم لا؟. إما لأجل قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب اللاحق.

هذا ولكن التحقيق يقتضي ان الشك الحادث بعد في الفرض الأول شك بعد العمل لا قبله ، وذلك لأن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة الناشئ من الشك في اختلال بعض ما يعتبر في العمل من الاجزاء والشرائط.

ولأجل هذه الجهة منع البعض من كون قاعدة الفراغ قاعدة برأسها في قبال قاعدة التجاوز ، فانه ما من مورد يشك في صحة العمل فيه الا وكان السبب فيه الشك في إتيان الجزء والشرط في محله ، وهو مجرى قاعدة التجاوز ، فلا تصل النوبة إلى قاعدة الفراغ ، لأن الشك فيها مسبب عما هو موضوع لقاعدة التجاوز (١).

وقد حاول آخرون تصحيح تعدد القاعدة (٢) والبحث موكول إلى محله.

والمهم بيان : ان موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل ، لا الشك في وجود الجزء أو الشرط.

وعليه ، نقول : انه إذا التفت إلى انه محدث أو متطهر ـ قبل العمل ـ وأجرى الاستصحاب ، ثم غفل عن ذلك ودخل في العمل ، فهو في أثناء العمل ليس شاكا في صحة العمل ، لغفلته ، وشكه الارتكازي حال الغفلة انما هو في

__________________

(١) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٦٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٧٩ الطبعة الأولى.

٢٩

حدثه وطهارته ، وهو غير الشك في صحة العمل ومطابقته للمأمور به ، فإذا التفت بعد الفراغ ، فشكه في صحة العمل شك حادث بعد العمل لا في أثنائه ، فيكون مقتضى القواعد مجرى لقاعدة الفراغ ، ولا فرق بين الفرضين على هذا البيان.

فتعليل عدم جريان قاعدة الفراغ بكون الشك حادثا أثناء العمل ـ كما أفاده الشيخ (١) ـ في غير محله. فالوجه الصحيح في نفي جريان قاعدة الفراغ والحكم ببطلان العمل في الفرض المزبور هو ان يقال : ان الشك الّذي يكون مجرى لقاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل ، بمعنى الشك في مطابقة ما أتي به للمأمور به واما مع العلم بعدم مطابقته لما هو الوظيفة الفعلية عليه ولما هو متعلق الأمر ، فلا مجال لقاعدة الفراغ للعلم ببطلان العمل بحسب الوظيفة الفعلية. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه بعد ما التفت وأجرى استصحاب الحدث كان مأمورا بالطهارة ، وكان محكوما ببطلان صلاته لو جاء بها بحالته التي هو فيها بلا وضوء. وعليه فإذا التفت بعد العمل إلى ذلك فلا شك لديه في صحة العمل ، بل يعلم بمخالفة عمله لما هو مقتضى الوظيفة الفعلية عليه ، ومثله يكون باطلا.

ولعل هذا هو مراد صاحب الكفاية ، من التزامه ببطلان العمل للحدث الاستصحابي (٢).

وأما دعوى : ان الحكم الظاهري مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير ، وذلك غير معقول مع الغفلة. إذن فلا يمكن أن يجري الاستصحاب في حال غفلته عن الحدث (٣).

فهي قابلة للدفع ، ببيان : ان المستصحب لو كان من الأحكام التكليفية امتنع أن يجري الاستصحاب حال الغفلة ، لعدم قابليته للدعوة والتحريك

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٣٥١ ـ الطبعة الأولى.

٣٠

والتنجيز. وليس الحال كذلك في الأحكام الوضعيّة ، فانها يمكن ان تحصل في حال الغفلة. والحدث حكم وضعي ، فكما ان الحدث الواقعي يثبت في حق الغافل عنه ولا يزول بغفلته ، كذلك الحدث الظاهري لا مانع من ثبوته في حق الغافل ، إذ لا تنجيز بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه في حال الغفلة ، ويترتب عليه عملا ثبوت المانع للصلاة المأتي بها بحيث لا تكون مطابقة ، للأمر الواقعي ، أعني ما هو متعلق الإرادة ومورد الغرض وان لم يكن أمر فعلي في حق الناسي الغافل ، كما هو الحال لو كان محدثا واقعا ، ولكنه كان غافلا ، فانه يحكم ببطلان عمله ، لعدم مطابقته للمأمور به ، ولا يراد به الأمر الفعلي لعدم ثبوته في حق الغافل ، بل يراد به الأمر الواقعي الاقتضائي ، أو نفس الإرادة الواقعية.

وهذا المعنى الّذي ذكرناه يكفي مصححا لجريان الاستصحاب ولو كان غافلا عن الحدث ، فانه أثر عملي معتد به. فتدبر جيدا ولا تغفل ، والله سبحانه العالم العاصم.

٣١
٣٢

( أدلة الاستصحاب )

ويقع الكلام بعد ذلك في أدلة الاستصحاب.

الدليل الأول : دعوى استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ، وبضميمة عدم الردع عنه شرعا ، يثبت إمضاء الشارع له بل ادعي قيام سيرة ذوي الشعور من أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة.

وناقشه صاحب الكفاية بوجهين :

الوجه الأول : ان المطلوب إثبات بناء العقلاء على ذلك تعبدا ، وهو غير ثابت ، بل يمكن ان يكون بناؤهم رجاء واحتياطا في مورد موافقة العمل للاحتياط ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا نوعيا ، أو غفلة عن احتمال الزوال كما هو الحال في الحيوانات وفي الإنسان في بعض الأحيان. اما بناؤهم على ذلك في غير مورد الاطمئنان والظن ومخالفة العمل للاحتياط فلم يثبت.

الوجه الثاني : انه لو سلم ثبوت بناء العقلاء التعبدي على العمل بالحالة السابقة ، فهو ليس بحجة ما لم يثبت الإمضاء شرعا ، وهو غير ثابت ، لكفاية ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم في الردع عن مثل ذلك (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣

أقول : تقدم منه في مبحث حجية خبر الواحد الاستدلال بالسيرة على حجية الخبر. ومناقشة دعوى ثبوت الردع عنها بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم : بان رادعية الآيات للسيرة يستلزم الدور ، لأن الأخذ بعموم الآيات يتوقف على عدم تخصيصه بالسيرة ، وعدم تخصيصه بها يتوقف على ثبوت الردع عنها.

وذكر هناك : ان الالتزام بتخصيص العموم بالسيرة أيضا دوري ، لأنه يتوقف على عدم الردع عنها ، وهو يتوقف على تخصيص السيرة للعموم. لكنه ذكر : بان الدور وان تحقق من كلا الطرفين ، لكنه يكفي في الإمضاء عدم ثبوت الردع ولا يعتبر ثبوت عدمه (١).

وقد نسب إليه وجه آخر ذكره في الحاشية على قوله : « فتأمل » هناك. ملخصه : انه يمكن الرجوع في إثبات الإمضاء وعدم الردع إلى الاستصحاب ، إذ العمل بخير الواحد قبل نزول الآيات كان موردا للإمضاء ، فكان حجة ، فمع الشك في رادعية الآيات يستصحب حجيته (٢).

والخلاصة : ان له هناك وجهين لنفي رادعية الآيات وإثبات حجية السيرة :

أحدهما : عدم ثبوت الردع عنها بعد ثبوت الدور في تخصيص السيرة للعموم ، وفي عموم الآيات للسيرة لتوقف كل منهما على عدم الآخر.

والآخر : الرجوع إلى استصحاب الحجية الثانية قبل نزول الآيات الكريمة.

ولا يخفى ان التزامه بحجية السيرة القائمة على العمل بالخبر استنادا إلى الوجه الثاني لا ينافي عدم التزامه بحجية السيرة في باب الاستصحاب ، إذ لا يمكن الاستناد إلى الاستصحاب مع الشك في رادعية الآيات عن السيرة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) هامش كفاية الأصول ٢ ـ ١٠١.

٣٤

القائمة عليه ، لأنه هو موضوع الشك في الإمضاء ومحل الكلام فعلا. وهو واضح جدا.

نعم ، قد يرد عليه : انه كما لا يمكن التمسك بالاستصحاب هنا لا يمكن التمسك به هناك ، إذ مستند الاستصحاب لديه ليس إلا الأخبار وهي لا تخرج عن كونها اخبار آحاد ، فيرجع إلى الاستدلال على حجية الخبر بما لم يثبت إلا بخبر الواحد.

واما الوجه الأول : فهو مما يمكن تطبيقه هنا ، إذ إشكال الدور يتأتى بعينه هنا ، ونتيجته عدم ثبوت الردع ، وهو مما يكتفي به في الإمضاء.

هذا ، ولكنك عرفت فيما تقدم تقريب رادعية الآيات عن السيرة وعدم صلاحية السيرة للتخصيص ، وان المخصص ليس هو السيرة بعنوانها ، بل هو القطع بالإمضاء المنتفي مع احتمال الردع بالآيات ، فليس هناك ما يعارض عموم الآيات وما يتوقف الردع بها على عدمه كي يلزم الدور ، لأن المخصص معلوم العدم.

وتقدم نفي جميع ما قيل في نفي صلاحية الآيات للردع من دعوى الانصراف والحكومة فراجع تعرف (١).

وعليه : فبناء العقلاء على العمل بالاستصحاب لو تم صغرويا ، فهو غير حجة. للردع عنه بالآيات الناهية عن العمل بغير علم. فتدبر.

الدليل الثاني : ان الثبوت في السابق يوجب الظن بالثبوت في الزمان اللاحق ، فيجب العمل به.

وقد ناقشه صاحب الكفاية بوجهين :

الوجه الأول : منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء ، سواء أريد الظن

__________________

(١). ٤ ـ ٢٩٩ من هذا الكتاب.

٣٥

الشخصي أو النوعيّ. فانه لا وجه لهذه الدعوى سوى دعوى غلبة البقاء فيما يثبت ، وهي غير معلومة.

الوجه الثاني : انه لو سلم اقتضاء الثبوت للظن بالبقاء فلا دليل على اعتباره بالخصوص ، فلا يكون حجة ، بل الدليل على عدم اعتباره لعموم ما دل على النهي عن العمل واتباع الظن (١).

أقول : الّذي يبدو للنظر ان دعوى حصول الظن بالبقاء بواسطة الغلبة لا ترجع إلى محصل فضلا عن عدم ثبوتها.

وذلك لأن الشك في البقاء اما ان ينشأ من الشك في مقدار اقتضاء المقتضي وقابليته. واما ان ينشأ من الشك في وجود الرافع مع إحراز المقتضي واستعداد ذات الثابت أولا للبقاء.

اما في الأول : فلان غاية ما يمكن ان يقال : ان الثابت في ماله مقتضي البقاء هو بقاؤه بمقدار استعداد مقتضية واقتضائه مع اجتماع سائر اجزاء علته. وأي ربط لهذا في إثبات الظن في بقاء ما لا يعلم كيفية اقتضاء مقتضية وأنه بأي نحو؟. مثلا : إذا ثبت ان المقتضي للدار المبنية بالإسمنت يقتضي بقاءها خمسين سنة ، والمقتضي للدار المبنية بالطين يقتضي بقاءها خمس سنوات ، ولم يعلم مقدار اقتضاء مقتضي الدار المبنية بالجص ، وأنه هل يقتضي بقاءها عشرين سنة أو عشر سنين؟.

فإذا علم ببناء دار من الجص وبعد عشر سنوات شك في بقائها للشك في مقدار استعدادها للبقاء ، فهل هناك محصل لأن يقال : ان ما ثبت يدوم بملاحظة غلبة استمرار ثبوت ما له اقتضاء الاستمرار؟ ، وأي ربط لذلك بعد ملاحظة اختلاف الأمور والموجودات في مقدار استعدادها للبقاء طولا وقصرا؟.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦

وأما في الثاني : فلان دعوى الظن بالبقاء ترجع إلى دعوى الظن بعدم الرافع ، وهي تبتني على دعوى غلبة عدم الرافع في موارد تحقق الموجودات ، وهذه الدعوى لا وجه لها ولا مستند تستند عليه ، فهي دعوى جزافية ، مع انها لا تتأتى في ما إذا كان الشك في رافعية الموجود ، الّذي هو من أقسام الشك في الرافع.

الدليل الثالث : الإجماع فقد حكي عن المبادي انه قال : « الاستصحاب حجة لإجماع الفقهاء على انه متى حصل حكم ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بان الاستصحاب حجة لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح » (١) ، كما نقل عن غيره.

والإشكال في هذا الوجه واضح كما في الكفاية (٢).

إذ الإجماع ـ ويراد به اصطلاحا الاتفاق المستكشف منه قول المعصوم عليه‌السلام ، لا مجرد الاتفاق الحاصل بين الفقهاء ـ اما محصل أو منقول ، وكلاهما لا أساس له هاهنا.

أما المحصل : فتحققه ممنوع في مثل هذه المسألة مما اختلفت فيها المباني والوجوه ، فانه لا يكون تعبديا كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام ، مع تحقق الخلاف من كثير ، حيث ذهبوا إلى منع حجيته.

وأما المنقول : فهو مضافا إلى عدم حجيته في نفسه ، غير تام للعلم بثبوت الخلاف كما عرفت.

والمتحصل : ان جميع هذه الوجوه لا تنهض لإثبات حجية الاستصحاب.

والعمدة في الاستدلال عليه هو النصوص المتعددة :

منها : صحيحة زرارة قال : « قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟. فقال عليه‌السلام : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧

والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء. قلت : فان حرك على جنبه شيء ولم يعلم به؟. قال عليه‌السلام : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فانه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وانما ـ لكن ( التهذيب ) ـ ينقضه بيقين آخر » (١).

وقد اتفق الأعلام على عدم كون الإضمار مخلا بالاستدلال ، للعلم بان المراد من الضمير هو الإمام عليه‌السلام ، لأن الراوي هو زرارة ، وهو من الجلالة والقدر بمكان بحيث يعلم انه لا يسأل من غير الإمام عليه‌السلام.

ولا يخفى ان سؤاله الأول عن إيجاب الخفقة والخفقتين للوضوء سؤال عن شبهة حكمية ، إما لاشتباه مفهوم النوم لديه وتردده بين الأقل والأقل والأكثر وشموله للخفقة والخفقتين. واما للشك في كون الخفقة أو الخفقتين ناقضا مستقلا.

وعلى أي حال ، فليست هذه الفقرة محل الاستدلال بالرواية ، وانما محل الاستدلال بها هو قوله : « وإلاّ فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ... » الواقع في مقام الجواب عن السؤال عن حكم ما إذا حرك في جنبه شيء ولم يعلم به ، الظاهر في كونه سؤالا عن شبهة موضوعية للشك في تحقق النوم الناقض ، وهو نوم الاذن والقلب.

ولتحقيق الحال في مفاد هذه الفقرة ودلالتها على الاستصحاب لا بد من التعرض لمحتملات مفادها وتشخيص ما هو الأصح منها ، فنقول : المحتملات التي أشار إليها الشيخ رحمه‌الله. وتبعه صاحب الكفاية ثلاثة :

الاحتمال الأول : ما قربه قدس‌سره من ان الجزاء لقوله : « وإلاّ » محذوف ، وقوله : « فانه على يقين ... » علة للجزاء قامت مقامه لدلالته عليه ، فالتقدير : « وإلاّ فلا يجب عليه الوضوء ، لأنه على يقين من وضوئه ولا ينقض

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ١٧٤ ، حديث : ١.

٣٨

اليقين أبدا بالشك ».

وذكر قدس‌سره : ان قيام العلة مقام الجزاء لا يحصى كثرة في القرآن وغيره مثل قوله تعالى : ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى )(١) وقوله : ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ )(٢) وغيرهما.

الاحتمال الثاني : ان يكون قوله : « فانه على يقين من وضوئه » هو الجزاء بان يكون جملة خبرية أريد بها الإنشاء جدا ، ككثير من الجمل الخبرية الواقعة في مقام الإنشاء.

الاحتمال الثالث : ان يكون الجزاء هو قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » ويكون قوله : « فانه على يقين من وضوئه » توطئة وتمهيدا لذكر الجزاء ، فيكون المراد : « وان لم يستيقن أنه نام ، فحيث أنه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك » (٣).

وهنا احتمال رابع قربه المحقق الأصفهاني ، وهو ان يكن قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جزاء مع التحفظ على ظهوره في مقام الاخبار جدا ، فيكون خبرا محضا مع كونه جزاء بنفسه (٤).

إذا عرفت هذه المحتملات في الرواية فلا بد من معرفة ما هو الصحيح والمتعين منها ، ثم معرفة مقدار ارتباطه بالاستصحاب. فنقول :

اما الأول : فقد عرفت تقريب الشيخ له وبنى عليه صاحب الكفاية رحمه‌الله. وهو في حد نفسه معقول وليس ببعيد عن مقتضى التركيب الكلامي ، إلاّ انه انما يتعين الأخذ به إذا لم يكن في المحتملات الأخرى ما هو أرجح منه

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٧.

(٣) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٢٩ ـ الطبعة الأولى.

الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٤) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٩

بلحاظ الموازين في باب الاستعمال. وسيتضح ذلك إن شاء الله تعالى بعد قليل.

واما الثاني : فقد حكم الشيخ رحمه‌الله بأنه يحتاج إلى تكلف. وأفاد صاحب الكفاية رحمه‌الله انه إلى الغاية بعيد.

ولعل السر فيه : ما أشار إليه في الكفاية من انه لا يصح إلاّ بأن يراد منه لزوم العمل على طبق يقينه بوضوئه. وهو تكلف واضح وبعيد عن ظهور الكلام.

ولكن المحقق الأصفهاني رحمه‌الله لم يستبعد ذلك ، ونفي التكلف فيه ، بأنه كسائر الموارد التي تستعمل فيها الجملة الخبرية في مقام الإنشاء ، كقوله : « يعيد » أو : « يغتسل » أو نحو ذلك في مقام بيان وجوب الإعادة أو الغسل ، كما يبين ذلك في مباحث الأصول اللفظية (١).

والّذي نراه عدم صحة ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ، إذا الثابت في محله جواز استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء إذا كانت فعلية ، وهو المعهود خارجا ، دون ما إذا كانت اسمية ، فلا يصح ان يقول في مقام إيجاب الإعادة : « هو معيد » ، ولم يعهد ذلك في الاستعمالات العرفية أصلا.

ولعل السر فيه : ان الجملة الفعلية تحكي عن النسبة الصدورية ، فيمكن ان يقال بان إبراز النسبة الصدورية وكأنها متحققة في مقام الإنشاء ، يصح ان يجعل كناية عن إرادة الصدور ، ويستعمل في مقام البعث نحو تحقيق الفعل وإيجاده.

وليس كذلك الجملة الاسمية ، فانها تتكفل الحكاية عن اتصاف الذات بالوصف ، وذلك لا يصلح ان يكون كناية عن إرادة الصدور والإيجاد ، ويستعمل في مقام البعث نحو إيجاد الفعل فلاحظ.

وبما ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جملة اسمية ، فلا تصلح ان

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ـ ٣ ـ ١٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٠