منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

الحكم لذات العنب قبل الغليان ، لأنه مضاف إلى العنب المغلي ، والعنب ليس محكوما بالحرمة لا الإنشائية ولا الفعلية. وفي التقدير الثاني يجري ، لأن الحكم ثابت لذات العنب ومضاف إليه وان أخذ الغليان شرطا له ، لكنه مضاف إلى ذات العنب لا العنب المغلي ، فيقال : يحرم العنب إذا وجد وإذا غلا ، فقد أضيفت الحرمة إلى ذاته ، فمع وجوده تثبت له الحرمة فتستصحب عند تبدل الوصف إلى الزبيبية (١) ما أفاده قدس‌سره غير متجه ، لأنه مبني على كون الحكم الإنشائي ثابتا للافراد الخارجية رأسا ، وهو ما عرفت نفيه ، وان الحكم لا يثبت للفرد الخارجي ، بل يضاف إليه من باب انه مصداق للموضوع الكلي ، وهذه الإضافة ليست من الأمور الشرعية كي تستصحب.

والّذي يتحصل : ان الاستصحاب في الحكم التعليقي لا مجال له على هذا المسلك في جعل الأحكام.

وأما على المسلك الثاني : وهو الالتزام بفعلية المجعول من زمان الجعل وعدم إمكان انفكاكهما ، فقد يفصل بين صورة أخذ التقدير المعلق عليه الحكم غير الحاصل بالفعل قيدا لمعروض الحكم ، وصورة أخذه قيدا لنفس الحكم.

توضيح ذلك : ان الغليان المأخوذ في حرمة العنب ..

تارة : يلتزم بأنه دخيل في معروض الحكم بحيث يكون المعتبر بالفعل هو الحرمة المطلقة للعنب المغلي.

وأخرى : يلتزم بأنه دخيل في نفس الحكم ، بمعنى ان المعتبر بالفعل هو الحرمة المقيدة بالغليان والموضوع ذات العنب ، فالمعتبر حصة خاصة من الحرمة هي الحرمة على تقدير الغليان وهي ثابتة بالفعل ومعروضها هو العنب.

ففي الصورة الأولى : لا يجري استصحاب الحرمة. لأنها وان كانت ثابتة بالفعل : ان موضوعها هو العنب المغلي ، فالعنب قبل غليانه لا تثبت له تلك

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٨٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٠١

الحرمة ، فمع تبدله إلى الزبيب لا يمكن استصحاب الحرمة لعدم ثبوتها له سابقا بل هي ثابتة للعنب الخاصّ.

وفي الصورة الثانية : يجري الاستصحاب ، لأن العنب كان معروضا للحرمة الخاصة ، فتستصحب عند تبدله إلى الزبيب ، ويترتب عليها الأثر عند حصول الغليان.

ولكن يشكل هذا التفصيل ، لأجل الإشكال في مبناه ، وهو اعتبار الحرمة على تقدير متأخر ، فانه قد مر الإشكال فيه ، وانه يستحيل ان تعبر بالفعل الحرمة على تقدير متأخر بحيث يكون لها وجود فعلي قبل حصول التقدير ، فراجع مباحث الواجب المشروط. ولا حاجة إلى إطالة الكلام فيه فعلا.

واما على المسلك الثالث ـ الّذي قرّبه المحقق العراقي ـ : وهو الالتزام بان حقيقة الحكم التكليفي ليست إلاّ الإرادة والكراهة المبرزتان بالإنشاء ، وليست هي حقيقة جعلية كحقيقة الحكم الوضعي بل هي حقيقة واقعية.

فقد قرب المحقق العراقي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، ببيان : ان الإرادة بما انها من الأوصاف الوجدانية التي تعرض على الصور الذهنية لا من الأمور الخارجية ، لم يكن وجودها منوطا بحصول الشرط في الخارج ، بل الشرط هو الوجود الفرضي اللحاظي ، وهو حاصل بالفعل ، فالإرادة متحققة فعلا بلا ان يعلق وجودها على وجود الشرط خارجا ، وانما يكون وجود الشرط دخيلا في فاعلية هذه الإرادة ومحركيتها. وإذا كان الحكم فعليا دائما كان مجرى الاستصحاب عند تبدل حالة الموضوع ، ولم يكن فيه إشكال.

ولكن ما أفاده قدس‌سره مردود من وجهين :

الأول من جهة أصل المبنى ، وهو الالتزام بان الحكم حقيقته الإرادة وليس هو من الأمور الجعلية فانه غير صحيح ، فان المرجع في تشخيص ذلك هو الأحكام العرفية المنشأة من قبل الموالي. ومن الواضح ان المحسوس ان المولى

٢٠٢

يقوم بجعل الحكم لا مجرد إبراز الإرادة ، كيف؟ ولازمه عدم صحة الحكم في مورد تكون المصلحة فيه نفسه لا في متعلقه ، إذ في مثل ذلك لا تكون هناك إرادة متعلقة بالفعل لأنها تتبع المصلحة فيه ، مع ان ثبوت الأحكام في مثل هذا المورد لا يقبل الإنكار.

هذا مع انه يستلزم عدم قابلية الحكم للجعل الظاهري والتعبد به ظاهرا ، لأنه امر واقعي لا يقبل الجعل ، كما انه يستلزم عدم قابليته لرفعه منّة ، إذ ارتفاع الإرادة الارتفاع المصلحة لا منّة فيه. فما أفاده إنكار لما هو المسلم المعروف ولا يمكننا الأخذ به.

الوجه الثاني : من جهة البناء ، فانه لو سلم بان الحكم حقيقته الإرادة ، فالالتزام بفعلية الإرادة قبل تحقق الشرط لا نسلمه ، بيان ذلك : ان القيود الدخيلة في المصلحة على قسمين :

أحدهما : ما كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وكونه ذا مصلحة ، نظير المرض بالنسبة إلى الدواء ، فان الدواء لا مصلحة فيه إذا لم يحصل المرض.

والآخر : ما كان دخيلا في فعليه المصلحة وترتبها على الفعل ، كجعل الدواء مدة معينة على النار الدخيل في تأثيره في رفع المرض وترتب المصلحة.

ولا يخفى ان القسم الأول من القيود يعبّر عنه بقيود الموضوع ، لأخذها في موضوع الحكم ، بحيث يترتب الحكم على وجودها. بخلاف القسم الثاني ، فانهما قيود المتعلق ، ولذا تؤخذ في المتعلق ويكون للحكم تحريك ودعوة نحوها.

ومن الواضح ان القسم الأول دخيل في تحقق الإرادة بحيث انه لا تتحقق الإرادة قبل وجوده خارجا ، فلا شوق لاستعمال الدواء قبل حصول المرض ، ولا شوق للأكل قبل حصول الجوع وهكذا ، وهذا آمر لا يكاد ينكره الوجدان. وكون متعلق الإرادة هو الوجود الذهني لا ينافي ما قلناه ، لأن هذه القيود ليست مأخوذة في المتعلق ، بل هي دخيلة في تحقق أصل الإرادة لا انها

٢٠٣

معروضة للإرادة. اذن فكون الحكم التكليفي هو الإرادة لا يلازم تحققه بالفعل ، وقبل تحقق موضوعه بشرائطه.

ما أفاده لا يبعد ان يكون خلطا بين قيود المتعلق المعروض للإرادة بوجوده الذهني وقيود الموضوع الدخيل في نشوء الإرادة وعروضها على متعلقها.

ودعوى : ان الإرادة موجودة فعلا ، وانما هي متعلقة بالفعل على تقدير الموضوع.

منافية للوجدان الّذي لا يحس بالشوق قبل حصول الموضوع ، بل قد يحس بالفعل بعكس الشوق ، فلاحظ.

وبالجملة : ما أفاده قدس‌سره ممنوع مبنى وبناء. فتدبر.

والّذي يتضح لدينا من جميع ما ذكرناه : انه لا مجال لجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي.

ثم انه لو سلمنا تمامية المقتضي لجريان الاستصحاب فيه. فقد يشكل : بأنه محفوف بالمانع دائما ، وهو المعارض ، وذلك لأن المحكوم بالحرمة التعليقية ـ مثلا ـ محكوم بالحلية التنجيزية قبل حصول المعلق عليه بالحرمة ، فبعد حصوله يستصحب الحكم التنجيزي ، فيتحقق التعارض بين الاستصحابين دائما ، ففي مثال الزبيب إذا حكم بحرمته على تقدير الغليان بواسطة الاستصحاب ، يعارض ذلك باستصحاب حليته المنجزة الفعلية المتيقنة قبل الغليان ، فيكون مقتضاه الحلية بعد الغليان ، ومقتضى استصحاب الحرمة التعليقية هو الحرمة بعد الغليان ، فيتعارضان.

وقد تصدى الاعلام قدس‌سرهم لدفع هذا الإشكال. وعمدة ما قيل في دفعه وجهان :

الوجه الأول : ما أفاده في الكفاية من : أن الحلية الثابتة للعنب ليست حلية مطلقة ، بل هي حلية مغياة بالغليان ، فالغليان كما هو شرط للحرمة كذلك

٢٠٤

هو غاية للحلية. وعليه فمع تبدل حالة العنب إلى الزبيب ، فكما يستصحب الحرمة التعليقية الثابتة أولا كذلك يستصحب الحلية المغياة ولا تعارض بين هذين الاستصحابين لعدم التنافي بين الحكمين ، كما كانا ثابتين في حالة القطع ، ومقتضى الاستصحاب انتفاء الحلية عند حصول الغليان لحصول الغاية.

وجملة القول : ان الحلية الثابتة للزبيب قبل الغليان حلية خاصة لا تتنافى مع الحرمة المعلقة بوجه من الوجوه وهي الحلية المغياة (١).

وتحقيق الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية : أن الغاية الثابتة للحلية اما ان تكون عقلية ، واما ان تكون شرعية.

وعلى الثاني : اما ان يكون مفاد دليل الغاية نفي الحكم بعدها لا أكثر ، فيرجع الدليل الدال على الحكم المغيا إلى بيان امرين : أحدهما : ثبوت الحكم مستمرا إلى الغاية. والآخر : نفيه بعد حصولها.

واما ان يكون مفاد دليل الغاية بيان خصوصية وجودية لازمها الانتفاء فيما بعد الغاية ، ونظير هذا الترديد ما يقال في أداة الاستثناء. وان انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى منه عن المستثنى هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فراجع.

وعليه ، نقول : انه لا شك في ان استصحاب الحلية المغياة لا يجري بلحاظ ما بعد الغاية للقطع بارتفاع تلك الحلية عند حصول الغاية. وانما الملحوظ في جريان الاستصحاب هو زمان ما قبل حصول الغاية. ومن الواضح ان أصل الحلية قبل حصول الغاية لا يشك فيها للقطع بثبوتها ، وانما المشكوك هو خصوصية كونها مغياة وعدمه بعد ان كانت ثابتة ، فالاستصحاب انما يجري في بقاء هذه الخصوصية للحلية فالمستصحب هو ثبوت كون الحلية مغياة.

وحينئذ يقال :

ان الغاية ان كانت عقلية فلا مجال لاستصحابها ، لأن الاستصحاب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٢ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٠٥

يجري في الأمور الشرعية.

وان كانت شرعية ، فان كان مرجعها إلى عدم ثبوت الحكم فيما بعدها لا أكثر بلا ان تكون هناك خصوصية وجودية ، فمرجع الشك فيها إلى الشك في بقاء الحلية بعد حصول الغاية وعدم بقائها ، والمفروض ثبوت الحلية قبل الغاية فلا مجال الا لاستصحاب الحلية بعد الغاية لا عدمها. نعم ان كان مرجعها إلى ثبوت خصوصية وجودية تلازم عدم الحكم فيما بعدها ، فالشك فيها شك في بقاء تلك الخصوصية فتستصحب ، ولازمها انتفاء الحكم عند حصولها.

اذن فاستصحاب المغياة بالنحو الّذي أفاده انما يأتي على التقدير الأخير ، وهو غير ثابت ، وذلك لأن ثبوت أخذ الغليان ـ مثلا ـ غاية للحلية شرعا انما هو بدليل العقل ، باعتبار ان الحرمة الثابتة بعد تحققه لا يمكن ان تجتمع مع الحلية للتضاد ، فالدليل الدال على الحرمة بعد الغليان يقتضي بحكم العقل انتفاء الحلية بعده. ومن الواضح ان مفاد هذا ليس إلاّ ارتفاع الحلية عند الغليان ، فيكون مرجع الغاية هاهنا إلى نفس عدم الحلية بعد الغليان لا إلى خصوصية وجودية تلازم ارتفاع الحلية ، فالمشكوك رأسا هو ارتفاع الحلية وعدمه لا بقاء الخصوصية وعدمه.

وبالجملة : دليل الغاية ليس دليلا شرعيا لفظيا كي يستفاد منه خصوصية وجودية تلازم الانتفاء فيما بعد الغاية ـ لو سلم ذلك في نفسه ـ ، بل هو دليل عقلي ومرجعه إلى ما عرفت من الحكم بالانتفاء فيما بعد الغاية رأسا. فتدبر.

فالمتحصل : ان ما أفاده قدس‌سره لا يمكن الموافقة عليه.

ثم انه لو فرض جريان هذا الاستصحاب بالنحو الّذي قربناه من كون مرجع الغاية إلى تقيد الحكم بخصوصية وجودية ، فيستصحب ذلك التقيد ولازمه انتفاء الحكم فيما بعد تحقق الغاية. فلا مجال لما أورد عليه من معارضته باستصحاب الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان بنحو استصحاب الكلي ، للعلم

٢٠٦

بثبوت كلي الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان ، ويشك في ارتفاعه بعد الغليان للشك في خصوصية الفرد الحادث فتستصحب الحلية ، ويكون من مصاديق القسم الثاني من استصحاب الكلي.

والوجه في عدم ورود هذا الإيراد : ان استصحاب الحلية المغياة بالنحو الّذي ذكرناه لا يبقي مجالا لاستصحاب كلي الحلية ..

اما على الالتزام بان العلم التفصيليّ بثبوت فرد معين مع احتمال انطباق الكلي المعلوم بالإجمال عليه يستلزم انحلال العلم الإجمالي تكوينا. فهو واضح لو قلنا بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين الواقع لا فرد آخر مماثل له. وذلك لأنه باستصحاب الحلية المغياة نعلم بثبوت الحلية المغياة فعلا ، ونحتمل ان تكون هي الحلية الواقعية المتعلقة للعلم الإجمالي ، ونحتمل ان لا تكون هي لاحتمال كون الحلية الواقعية مطلقة.

وعليه ، فينحل العلم الإجمالي تكوينا ، فلا يقين لدينا الا بفرد معين دون الجامع ، فلا مجال للاستصحاب ، لعدم اليقين بحدوث الكلي المردد بين فردين بعد فرض الانحلال حقيقة.

وأما لو لم نقل بالانحلال الحقيقي باحتمال الانطباق على الفرد المعلوم بالتفصيل ، أو لم نقل بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين الواقع ، بل فرد مماثل له غيره ، فلا ينحل العلم بكلي الحلية المردد بين انطباقه على الحلية المغياة والحلية المطلقة حقيقة ، لكنه ينحل حكما باستصحاب الحلية المغياة ، ويترتب على الانحلال الحكمي نظر المورد نفسه عدم جريان الاستصحاب فيه كمورد الانحلال الحقيقي. نعم لو لم نقل بتأثير الانحلال الحكمي إلا في رفع منجزية العلم الإجمالي ، فلا تأثير له في استصحاب الكلي بقاء ، لكنه خلاف ما يلتزم به المورد نفسه. فهذا الإيراد لا يصلح صدوره من مثله.

فالتحقيق في الإيراد على صاحب الكفاية ما ذكرناه.

٢٠٧

الوجه الثاني : ما أفاده الشيخ رحمه‌الله من : ان استصحاب الحرمة المعلقة حاكم على استصحاب الحلية المطلقة ، وعلل ذلك : بان الشك في الحلية مسبب عن الشك في الحرمة المعلقة ، فيكون الاستصحاب في الحرمة سببيا والاستصحاب في الحلية مسببا ، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي (١).

وقد ذكر هذا الوجه المحقق النائيني رحمه‌الله وقد أورد عليه في بعض الكلمات : بأنه لا سببية ومسببية بين الحرمة المعلقة والحلية المطلقة ، بل هما حكمان متضادان يعلم إجمالا بثبوت أحدهما ، فهما في مرتبة واحدة. هذا مع انه لو سلمت السببية والترتب بينهما فهو ليس بشرعي بل عقلي ، فان ثبوت الحرمة المعلقة لازمها عقلا عدم الحلية على تقدير الغليان ، لا بحكم الشارع (٢).

والتحقيق : ان استصحاب الحرمة المعلقة وان لم يكن سببيا بلحاظ استصحاب الحلية لما ذكر ، إلاّ انه مقدم عليه بنفس ملاك تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي.

وتوضيح ذلك : ان ملاك تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي هو ما أشير إليه في الكفاية (٣) وأوضحناه في محله من : ان العمل بالأصل السببي لا يلزم منه محذور ، إلاّ ان الأخذ بالأصل المسببي ورفع اليد عن السببي اما ان يكون بلا وجه أو بوجه دائر ، لأن الأخذ به مبني على عدم جريان الأصل السببي الرافع لموضوعه ، وهو متوقف على تخصيص دليله بواسطة العلم بالأصل المسببي فيلزم الدور.

وهذا الملاك يجري فيما نحن فيه ، فان استصحاب الحرمة التعليقية الجاري قبل الغليان يلزمه ترتب الحرمة عند الغليان ، وهذه الملازمة وان كانت

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٨٠ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤٧٣ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٠٨

عقلية ، لكن اللاّزم لازم أعم للحرمة المعلقة الواقعية والظاهرية ، فان المجعول يثبت بثبوت الجعل ظاهرا.

وعليه ، فالاستصحاب المزبور يبين حكم الشك في الحرمة والحلية بعد الغليان ويتكفل إثباته ، فهو ينظر إلى مؤدى استصحاب الحلية الجاري بعد الغليان.

وأما استصحاب الحلية ، فهو لا يتكفل بيان حكم الشك في الحرمة المعلقة ولا يترتب عليه نفيها ، فالأخذ به وطرح استصحاب الحرمة المعلقة اما ان يكون بلا وجه أو بوجه دوري ، يعني يكون متوقفا على الأخذ باستصحاب الحلية المتوقف على سقوط استصحاب الحرمة ، إذ لا يمكن الأخذ بهما معا ، وليس الأمر كذلك لو أخذ باستصحاب الحرمة المعلقة ، فان طرح استصحاب الحلية يكون بواسطة تكفل استصحاب الحرمة المعلقة لحكم الشك فيها ، لأنه كما عرفت يتكفل بيان حكم فردين من الشك ، فلا يكون بلا وجه أو بوجوه دائر. فتدبر جيدا.

وبعبارة أخرى : ان لدينا شكين : أحدهما : الشك في الحرمة المعلقة وثانيهما الشك في الحلية الفعلية بعد الغليان. واستصحاب الحرمة المعلقة يتكفل بيان حكم كلا الشكين ، واما استصحاب الحلية الفعلية ، فهو لا ينظر إلى الشك في الحرمة المعلقة ولا يتكفل بيان حكمها.

وعليه ، فالأخذ به يستلزم طرح استصحاب الحرمة المعلقة بلا وجه. بخلاف الأخذ باستصحاب الحرمة ، فان عدم العمل باستصحاب الحلية يكون بسب تصدي استصحاب الحرمة لبيان حكم الشك ، فلا يكون رفع اليد عن مقتضى استصحاب الحلية بلا وجه.

والمتحصل : ان إشكال المعارضة مندفع. نعم العمدة في الإشكال في استصحاب الحكم التعليقي هو دعوى قصور المقتضي كما مر بيانه وتقريبه.

٢٠٩

هذا كله في جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام.

ولا بأس بإلحاقه بالتكلم في جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ـ على تقدير الالتزام بجريانه في الأحكام ـ وهو لا يخلو عن فائدة عملية ، كما لو شك في كون اللباس من مأكول اللحم أو لا ، فانه يقال ، كانت الصلاة قبل لبس هذا الثوب المشكوك لو وجدت ليست في ما لا يؤكل لحمه ، والآن هي كذلك ونحو هذا المثال كثير.

وقد مرّ في الكلام في التدريجيات إجراء استصحاب كون الإمساك نهاريا ، والتنبيه على انه من الاستصحاب التعليقي ـ بلحاظ بعض تقاديره ـ.

والتحقيق : انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيها أصلا ، إذ ليس هنا امر شرعي يكون مجرى الاستصحاب أو يكون إجراء الاستصحاب بلحاظه. وذلك لأن الحكم الشرعي متعلق بالطبيعة الخاصة بلحاظ وجودها.

اما الفرد الخارجي الموجود ، فهو مسقط للتكليف وليس متعلقا له ، فما يترتب على الفرد الخارجي هو سقوط التكليف ، وهو من آثار الوجود الفعلي للطبيعة وما هو متعلق الأمر هو نفس الطبيعة على تقدير وجودها.

ولا يخفى ان ما شك في واجديته للشرط الّذي يراد استصحابه أجنبي عن متعلق الأمر ، إذ لا شك في مقام تعلق الأمر ، وانما الشك في مرحلة انطباق الطبيعي وتحققه في الخارج وهذا لا يرتبط بالشارع ولا أثر له شرعا ، لأن الحكم الشرعي مرتب على الطبيعة لا الفرد الخارجي. كما انه أجنبي عن مرحلة سقوط الأمر لأن سقوط الأمر يتحقق بالفرد الموجود فعلا لا تقديرا. اذن فمجرى الاستصحاب لا يرتبط لا بمقام تعلق الأمر ولا بمقام سقوطه ، فأي أثر شرعي يترتب على جريان الاستصحاب فيه. نعم لازم الاستصحاب انّ الفرد المتحقق في الخارج يكون من مصاديق المأمور به ، وهذا ليس بلازم شرعي كما لا يخفى.

وبالجملة : الاستصحاب التعليقي في الأمور الخارجية من متعلقات

٢١٠

الأحكام أو موضوعاتها لا أساس له ولا يمكن الالتزام به فلاحظ.

التنبيه الخامس : في استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة وبالنسبة إلى أحكام هذه الشريعة الثابتة في صدر الإسلام (١).

وقد ذكر لهذا المبحث ثمرات أشار إليها الشيخ رحمه‌الله.

التنبيه السادس : في الأصل المثبت.

وتحقيق الكلام : ان مجرى الاستصحاب تارة يكون حكما شرعيا. وأخرى يكون موضوعا شرعيا لحكم شرعي. وثالثة لا يكون حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي ، وانما هو ملازم لما هو موضوع للحكم الشرعي بالملازمة غير الشرعية.

ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم ، فيبحث في ان الاستصحاب هل يجري لإثبات الآثار الشرعية غير المترتبة شرعا على المستصحب وانما تترتب على ما يلازمه أو لا يجري؟.

وبتعبير آخر : الكلام في ثبوت الآثار غير الملازمة شرعا للمستصحب.

والمتجه ان يقال : ان دليل الاستصحاب على اختلاف المباني في المجعول فيه من كونه المتيقن أو الموصول والطريقية أو اليقين بلحاظ الجري العلمي أو لزوم الالتزام ، لا يتكفل سوى التعبد في حدود اليقين السابق ، فما كان على يقين منه هو مجرى الاستصحاب وهو موضوع التعبد ، فلا يتصدى إلى أكثر من ذلك. وعليه فلا يتعبد باللازم العقلي أو العادي للمستصحب ، لأنه ليس مورد اليقين السابق ـ لفرض كونه ملازما بقاء وإلاّ كان هو مجرى الاستصحاب نفسه ـ ، كما

__________________

[١] وبما ان السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ لم يزد على ما جاء في الكفاية من النقض والإبرام لعدم الضرورة في الإطالة ، أهملنا كتابة ما أفاده اتّكالا على الكفاية نفسها ، فان فيها غنى وكفاية. والله سبحانه الموفق العاصم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٢١١

لا يتعبد بأثره ، لأنه ليس من أحكام المستصحب ، بل من أحكام لازمه الّذي لم يتحقق التعبد به.

وبعبارة أخرى : ان دليل الاستصحاب يتكفل النهي عن نقض اليقين بالشك ، فمفاده ليس إلاّ التعبد في حدود المتيقن والمشكوك لا أزيد من ذلك ، فما ليس متعلقا لليقين والشك لا نظر لدليل الاستصحاب إليه.

وقد يقرب شمول التعبد للآثار المترتبة على لوازم المستصحب بوجهين :

الأول ان دليل الاستصحاب يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن السابق معاملة البقاء بحيث يفرض الشاك نفسه متيقنا بالمشكوك ، ولازم ذلك العمل بكل ما ينشأ من يقينه به أعمّ من ان يكون ترتبه بواسطة عقلية أو عادية أو غير واسطة.

ولعل هذا الوجه هو ما يشير إليه في الكفاية من : انّ التعبد بالشيء تعبد بلوازمه ، لاتحاد جوابه عنه مع جواب الشيخ قدس‌سره (١).

فقد أجاب عنه الشيخ رحمه‌الله : بان دليل الاستصحاب وان كان يتكفل ذلك ، لكنه يتكفل لزوم العمل بكل عمل ينشأ من تيقنه بالمشكوك خاصة دون العمل الناشئ من اليقين بملازمته. ومن الواضح ان آثار الواسطة تترتب بلحاظ اليقين بالواسطة لا اليقين بذي الواسطة ، والمفروض ان التعبد انما كان باليقين بذي الواسطة خاصة لأنه هو مورد اليقين السابق ولا ينفع في ترتب آثار الواسطة (٢).

الوجه الثاني : ان أثر الواسطة أثر لذي الواسطة ، فإذا كان التعبد بالمستصحب بلحاظ اثره ـ كما هو المفروض ـ ترتبت الآثار المترتبة بواسطة لأنها من آثاره عرفا.

وهذا الوجه باطل ، وذلك لأنه لم يرد في دليل التعبد لفظ الأثر وعنوانه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٨٣ ـ الطبعة الأولى.

٢١٢

كي يقال ان أثر الأثر أثر ، بل التعبد بالموضوع انما هو بلحاظ التعبد بحكمه العارض عليه صونا للتعبد عن اللغوية ، لأن الموضوع لا يقبل التعبد. ومن الواضح ان الحكم الثابت للواسطة لا معنى لأن يقال انه ثابت لذي الواسطة ولا محصل له ، فان نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العارض إلى معروضه لا نسبة المعلول إلى علته والأثر إلى مؤثره. ومن الواضح ان العارض على اللازم لا يكون عارضا على الملزوم ولو قيل بان أثر الأثر أثر.

وبالجملة : الوجه المزبور مبنى على الخلط بين الأثر بمعنى المسبب والمعلول ، والأثر بمعنى الحكم العارض على المستصحب. وما يكون التعبد بلحاظه هو الثاني ، ولم يؤخذ عنوان التعبد بالأثر في دليل الاستصحاب وانما لوحظ واقع التعبد به وهو راجع إلى التعبد بحكم المستصحب القابل للتعبد ، وحكم الواسطة ليس حكما لذيها.

هذا مع اختصاص هذا الوجه بما كانت الواسطة مترتبة على المستصحب ولازمة له ، فلا يشمل ما إذا كانت ملزومة له أو كانا لازمين لملزوم واحد ، إذ لا تكون الواسطة في هذين الموردين أثر للمستصحب كي يكون أثرها أثر له.

وجملة القول : ان عمدة إنكار الأصل المثبت هو ما ذكرناه. ونبه عليه الشيخ وتبعه غيره من : ان الّذي يتكفله الاستصحاب هو التعبد في حدود ما كان على يقين منه ، ولا يتعداه لغرض كون المنهي عنه نقض اليقين بالشك ، فالمنظور هو اليقين السابق ، فلا يتكفل التعبد بما ليس متعلقا لليقين السابق من اللوازم ولا بآثارها ، لعدم ثبوت موضوعهما ، والمفروض انها ليست أحكاما للمستصحب.

ولا يخفى ان ما ذكرناه لا يختلف الحال فيه باختلاف المجعول في باب الاستصحاب ، بل يتأتى على جميع المباني ، لأن مرجعه إلى ضيق موضوع التعبد بمقتضى دليله أي شيء كان المتعبد به من اليقين أو المتيقن أو غير ذلك. ومنه

٢١٣

يظهر التسامح الواقع في كتابي الرسائل والكفاية من ظهور بناء مسألة الأصل المثبت على جعل الحكم المماثل لذكر ذلك تمهيدا للبحث الظاهر في ارتباطه به ، إذ لو لا ارتباطه به لما اتجه ذكره كما لم يذكره في سائر التنبيهات.

ثم انه يؤاخذ صاحب الكفاية بأمرين آخرين :

أحدهما : ما ذكره في مقام بيان حجية الأصل المثبت من : ان التعبد بالمستصحب تعبد به بلوازمه العقلية والعادية ، كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات (١).

فان هذا هو عين الدعوى ، وكان ينبغي ان يذكر وجه ذلك ، واما الاكتفاء بمجرد الدعوى فهو بعيد عن الأسلوب العلمي.

هذا مع انه سيأتي منه إنكار ذلك حتى في الأمارات ، وإرجاع التعبد بلوازم المؤدى فيها إلى جهة أخرى.

ثانيهما : ما ذكره من انّ أثر الأثر أثر ، ونفاه بقصور مقام الإثبات لعدم إطلاق دليل الاستصحاب ، والمتيقن منه التعبد بالمستصحب بلحاظ آثار نفسه لا آثار لازمه (٢).

فانك عرفت انّه لا وقع لهذا الكلام ـ أعني أثر الأثر أثر في هذا المقام ـ ، وانه أجنبي عنه بالمرة فلا وجه لتسليمه هاهنا وردّه بقصور الدليل. فانتبه.

وقد تصدى المحقق النائيني رحمه‌الله إلى تحقيق أصل المطلب ، فذهب إلى عدم حجية الاستصحاب المثبت لقصور مقام الثبوت دون مقام الإثبات.

وذكر في وجه ذلك : ان دليل الاستصحاب يتكفل التعبد باليقين بلحاظ الجري العملي بلا نظر إلى الواقع ، فلا يثبت به سوى الجري العملي بالمقدار الثابت من التعبد ، وهو مقصور على مورد اليقين والشك لأخذه في موضوعه ، فلا يلزم سوى ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على نفس المتيقن لعدم اليقين والشك

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٤ ـ ٤١٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٤ ـ ٤١٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٤

بلوازمه وملزوماته.

ثم تعرض لوجه تعميم التعبد إلى آثار الواسطة ببيان : ان أثر الأثر أثر.

ورده : بان الأثر المترتب على الأثر إذا كان من سنخه ، كما إذا كانا تكوينيين وتشريعيين ، فلا ريب ان أثر الأخير أثر لما يترتب عليه الأثر الأول ، اما في التكوينيات فظاهر لأن معلول المعلول معلول للعلة الأولى. واما في التشريعيات ، كما لو ترتب على ملاقاة ـ النجس ـ نجاسة اليد ، وترتب على ملاقاتها نجاسة الثوب وهكذا ، فانّ الآثار الطولية مترتبة بأجمعها على الملاقاة الأولى ومن أحكامها ، فإذا جرى الاستصحاب وثبت به نجاسة شيء ترتب عليه نجاسة ملاقيه ولو بألف واسطة.

واما إذا لم يكونا من سنخ واحد ، كما إذا ترتب حكم شرعي على معلول تكويني لشيء ، فلا يصح القول بان أثر الأثر أثر ، لأن الأحكام الشرعية لا تترتب على موضوعاتها ترتب المعلول على العلة ، فلا يكون الحكم الثابت للمعلول حكما ثابتا للعلة. هذا خلاصة ما أفاده في المقام (١).

أقول : اما ما أفاده في إنكار الأصل المثبت الراجع إلى بيان قصور التعبد ثبوتا ، فهو مستقى مما أفاده الشيخ رحمه‌الله الّذي تقدم ذكره.

واما ما أفاده في رد القول بان أثر الأثر أثر ، فيرد عليه ان الملحوظ ان كان عنوان الأثر المساوق للمعلول ، فهذه القاعدة تامة سواء كانت الآثار الطولية من سنخ واحد أو من سنخين ، فان المعلول الشرعي للمعلول التكويني معلول للعلة الأولى لا محالة وان كان الملحوظ هو الحكم العارض على موضوعه ، فهو غير مسلم حتى مع كون الآثار من سنخ واحد ، كما في مسألة الملاقاة ، لما عرفت ان حكم اللازم لا يكون حكما للملزوم.

نعم جميع هذه الأحكام الطولية تترتب لكن بواسطة التعبد بموضوعاتها

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤٨٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢١٥

لا بواسطة التعبد بالملاقاة الأولى فقط ، فتسليمه القاعدة مع وحدة النسخ دون اختلافه مبني على الخلط بين الأثر بمعنى المعلول والأثر بمعنى الحكم.

وقد تقدم منا الكلام في تطبيق هذه القاعدة في المقام وانه لا محصل له أصلا.

ثم ان الشيخ رحمه‌الله استثنى من عدم حجية الأصل المثبت ما لو كانت الواسطة خفية بنظر العرف ، بحيث يعد العرف الأثر المترتب على الواسطة مترتبا على المستصحب مباشرة ومن أحكامه ، فيكون عدم ترتيبه نقضا لليقين بالشك. ومثّل له باستصحاب الرطوبة في الملاقي ـ بالفتح ـ لإثبات نجاسة ملاقيه ، مع ان النجاسة من آثار السراية عرفا لا مجرد رطوبة الملاقي ، والسراية والتأثر برطوبة الملاقي من لوازم رطوبته ، لكنها من اللوازم الخفية (١).

وقد تابعة على ذلك صاحب الكفاية وأضاف عليه صورة جلاء الواسطة ووضوحها بنحو يمتنع التفكيك عرفا بين المستصحب والواسطة تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، ويكون التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، ومثل له بمثالين :

الأول : العلة التامة والمعلول ، فان التعبد بالعلة مستلزم للتعبد بالمعلول.

والثاني : المتضايفان كالأبوة والبنوة ، فان التعبد بالأبوة تعبد بآثار البنوة أيضا ، لوضوح الملازمة بينهما (٢).

واستشكل المحقق النائيني قدس‌سره في ذلك ببيان : ان العرف انما يكون متبعا في تعيين مفاد الدليل ، فقد يفهم العرف من دليل الحكم ثبوته للأعم أو الأخص ، كما يكون متبعا في تشخيص ما هو مقوم للموضوع وما هو من حالاته ومن الجهات التعليلية بحسب مرتكزاته ، وما يراه من مناسبات الحكم والموضوع ، ليتحقق بقاء الموضوع عند زوال تلك الخصوصية على الثاني دون الأول ، ويكون الرجوع إلى العرف في ذلك باعتبار انه الرجوع إليه في تعين مفاد لفظ النقض الوارد في أدلة الاستصحاب.

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٨٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٦

واما في غير هذين الموردين فلا يكون نظر العرف متبعا ، لأن العرف لا يرجع في مقام التطبيق والتشخيص.

وعليه ، فان كان المراد من خفاء الواسطة ان الحكم ـ بنظر العرف بحسب فهمه من الدليل أو بحسب مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة لديه ـ ثابت وعارض على ذي الواسطة ، وتكون الواسطة من علل ثبوت الحكم ، فهو راجع إلى إنكار الواسطة لكون معروض الحكم هو ذو الواسطة رأسا. وان كان المراد به ان الحكم ثابت للواسطة ، لكن لخفائها يرون ان انه أحكام ذيها من باب التسامح في التطبيق ، فهو لا عبرة به كما عرفت (١).

واما أفاده قدس‌سره متين بل نقول : ان ما أفيد من ان العرف عند خفاء الواسطة يرى ان الأثر الثابت للواسطة أثر لذيها ليس بسديد ، وذلك لما عرفت ان المراد بالأثر هو الحكم العارض على موضوعه. ومن الواضح ان حكم الواسطة لا يعد حكما لذيها بنظر العرف مهما كانت الواسطة خفية ، فان العارض على اللازم لا يكون عارضا على الملزوم.

اذن فما أفاده الشيخ قدس‌سره من استثناء صورة خفاء الواسطة من عدم حجيته الأصل المثبت ممنوع كبرويا.

واما ما ذكره مثالا له من مورد استصحاب الرطوبة لإثبات الانفعال الّذي هو من آثار السراية والتأثر فتحقيق الكلام فيه :

أن أدلة الانفعال بملاقاة النجس أو المتنجس لا تقتضي الانفعال بمجرد الملاقاة ، ولو مع عدم الرطوبة المسرية في كلام المتلاقيين ، وذلك ان الشارع قد اعتمد في كيفية الانفعال على تشخيص العرف بملاحظة كيفية الانفعال بالقذارات الخارجية الحقيقية وبما ان التعذر في تلك الموارد دائما يحصل مع رطوبة الحد المتلاقيين بحيث تكون الملاقاة ملاقاة للرطب المساوق لتأثره وسراية بعض

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤٩٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢١٧

الاجزاء القذرة إليه ، ثبت ذلك في مورد القذارات الشرعية الاعتبارية ، فان السراية حقيقة وان كانت غير متصورة فيها بعد فرض كون النجاسة الشرعية اعتبارية لا واقعية ، إلاّ ان كيفية انفعال الملاقى فيها مثل كيفية انفعاله في القذارات الخارجية. وقد عرفت انه قد يتوقف على رطوبة أحد المتلاقيين بحيث يتحقق التأثر. فالمراد بالسراية الملحوظة هاهنا ليس السراية الحقيقية كي يقال بأنها غير مقصودة فيما نحن فيه ، بل يراد ان موضوع الحكم بالانفعال هو ملاقاة الرطب النجس بحيث تستند الملاقاة إلى الرطب بما هو رطب وهذه جهة مقومة بنظر العرف نظير تقوم التقليد بالعلم والزكاة بالفقر ، فان الحكم بالقذارة عرفا لا يكون إلاّ بملاحظة هذه الجهة وبدونها لا تقذر ولا قذارة. وعليه فموضوع الأثر هو ملاقاة الرطب ، فكما ان الملاقاة والرطوبة دخيلتان في ترتب الأثر كذلك إضافة الملاقاة إلى الرطب وتقيدها ذلك ، بحيث تكون الملاقاة ملاقاة الرطب.

وعليه ، فباستصحاب الرطوبة لا يمكن إثبات الانفعال لعدم إحراز كون الملاقاة ملاقاة الرطب.

وبعبارة أخرى : لا يجوز إضافة الملاقاة إلى الرطوبة المفروض انه لخصوصية مقومة للموضوع ، ولا معنى لا ثبات الأثر بمجرد استصحاب الرطوبة ببيان : ان أثر الواسطة الخفية أثر لذيها ، إذ المفروض ان الرطوبة دخيلة في الأثر في حد نفسها ومع قطع النّظر عن الواسطة ، وانما يشك في ترتب الأثر للشك في تحقق جزء الموضوع ، وهذا مما لا يثبت بالاستصحاب. وعليه يتضح ان المثال أجنبي عن مبحث الواسطة الجلية والخفية ، لأن مورده ما إذا لم يكن ذو الواسطة جزء الموضوع ، بحيث يثبت له الأثر من طريق الواسطة فيتأتى حديث الواسطة الخفية والجلية ، دون ما إذا كان ذو الواسطة بنفسه جزء الموضوع ودخيلا في ترتب الأثر كما فيما نحن فيه فالتفت ولا تغفل.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من استثناء صورة وضوح الملازمة ، بنحو يكون التعبد بأحدهما ملازما للتعبد بالآخر ، كما في العلة التامة والمعلول. وكما في

٢١٨

المتضايفين.

فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني قدس‌سره (١) وتبعه عليه غيره (٢) : بان هذا وان سلم كبر ويا لكنه صغرويا لا مورد له واما مورد العلة والمعلول فهو خارج عن محل الكلام ، لأن اليقين بحدوث العلة التامة يستلزم اليقين بالمعلول ، فكما تكون العلة التامة مجرى الاستصحاب كذلك يكون المعلول بنفسه لاجتماع أركانه بالنسبة إليه. وهكذا الحال بالنسبة إلى المتضايفين ، لأنهما متكافئان بالقوة والفعلية خارجا وعلما ، فاليقين بالأبوة مستلزم اليقين بالبنوة ، فمع فرض تحقق اليقين بأحدهما لا بد ان يفرض اليقين بالآخر فيكون كلاهما مجرى الاستصحاب.

أقول : يمكن فرض مورد يتحقق اليقين بالعلة التامة ولا يمكن إجراء الأصل في المعلول ، كما لو فرض ان فعلا واحدا تدريجيا يكون علة لحصول موجودات متكثرة ومتعددة بحسب استمرار وجوده ، كما لو فرض ان حركة اليد علة للقتل ما دامت مستمرة ، ففي كل آن يحصل فرد للقتل ، فمع الشك في بقاء العلة التامة وهي الحركة يمكن استصحابها ، ولا يمكن إجراء الأصل في المعلول لتكثره وتعدد افراده ، فهو في هذا الآن مشكوك الحدوث ، وما تعلق به اليقين قد تصرم وانتهى ولا شك في بقائه.

واما في المتضايفين ، فما أفيد من التلازم بين الوجود الفعلي لهما تام بالنسبة إلى مثل الأبوة والبنوة ، واما مثل التقدم والتأخر والسبق واللحوق ، فوجود السابق متقدم زمانا على وجود اللاحق كما هو واضح جدا ، وكون التقدم والتأخر من المتضايفان مما لا يقبل الشك والتردد.

وعليه ، فمع اليقين بتحقق الوجود السابق على وجود آخر ، فإذا شك في

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٩٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ١٦٠ ـ الطبعة الأولى.

٢١٩

زمان في بقاء ذلك الوجود بوصف كونه سابقا يستصحب كونه سابقا على الوجود الآخر ، ولازمه تأخر الوجود الآخر عنه بلحاظ ذلك الزمان. فيمكن ان يدعى ان التعبد بسابقية أحد الوجودين لا ينفك عن التعبد بتأخر الوجود الآخر ، ولذا قد يعبر عن اشتراط البعدية باشتراط القبلية ، كما ورد بالنسبة إلى صلاة الظهر والعصر التعبير بان : « هذه قبل هذه » ، مع ان الشرط هو كون صلاة العصر بعد الظهر لا كون صلاة الظهر قبلها.

وبالجملة : مناقشة المحقق الأصفهاني رحمه‌الله الصغروية غير وجيهة.

وتحقيق الحال في المتضايفين ان يقال : ان العناوين المتضايفة كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحو ذلك عناوين انتزاعية عن خصوصية واقعية ونسبة خاصة متحققة في ذاتي المتضايفين. فمن ملاحظة الوجودين بنحو خاص ينتزع عنوان الفوق والتحت.

ولا يخفى ان الخصوصية الواقعية التي ينتزع عنها الفوقية والتحتية واحدة ، وانما التعدد في طرفي النسبة والربط وفي العنوان المنتزع ، لا ان خصوصية الفوقية غير خصوصية التحتية ، نظير الملكية التي هي ربط خاص وعلاقة واحدة ذات طرفين ومنشأ لانتزاع العناوين المتعددة.

وعليه ، نقول : ان موضوع الأثر الشرعي الّذي يكون مجرى التعبد ..

ان كان هو منشأ انتزاع العناوين المتضايفة وهي تلك الخصوصية الواقعية والربط الخاصّ ـ كما هو الصحيح حيث ان الدخيل هو منشأ الانتزاع لا نفس العنوان ـ ، كان التعبد بأحد المتضايفين غير التعبد بالآخر بلا ان تكون ملازمة في البين ، لأن مرجع التعبد بالأبوة إلى التعبد بتلك الإضافة الخاصة التي تكون منشأ لانتزاعها ـ والتعبد بها ، كما يقتضي ترتيب آثار الأبوة يقتضي ترتيب آثار البنوة ، لأن الموضوع واحد وقد تحقق التعبد به.

واما ان كان موضوع الأثر هو نفس العنوان الانتزاعي وهو مجرى التعبد الشرعي ، فلا ملازمة بين التعبد بأحد المتضايفين والتعبد بالآخر ، إذ لا وجه

٢٢٠