منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

الحدث أو قبله ـ من باب الوضوء التجديدي ـ ، فهو فعلا يشك في بقاء الطهارة الموجودة حال الوضوء الآخر.

كما ان من أمثلته ما إذا كان جنبا فاغتسل ثم رأى منيا في ثوبه وشك في انه من الجنابة التي اغتسل منها أو هي جنابة جديدة ، فهو يعلم بالجنابة حال خروج المني ، ويشك في بقائها فعلا.

ففي جميع هذه الأمثلة يشك في بقاء الكلي. وقد وقع الكلام في استصحابه.

فذهب البعض إلى جريان الاستصحاب فيه لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء فيستصحب بقاء القرشي في الدار لليقين بحدوثه والشك في بقائه. كما يستصحب بقاء الطهارة الموجود حال الوضوء الآخر لليقين بها والشك في بقائها. وهكذا يستصحب بقاء الجنابة المتيقنة عند خروج المني المرئي في الثوب (١).

وقد ذهب الفقيه الهمداني رحمه‌الله ـ في كتاب الطهارة ـ إلى التفصيل بين العلم بوجود فردين وشك في تعاقبهما كمثال الحدث ، وبين ما إذا لم يعلم الا بوجود فرد واحد وشك في فرد آخر الاحتمال انطباق العنوانين على فرد واحد ، كمثال الجنابة وأمثال العالم والقرشي. فالتزم بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني (٢).

وردّ : بأنه لا فرق بين الصورتين في جريان الاستصحاب لتمامية أركانه في كلتا الصورتين لليقين السابق بوجود الكلي والشك في بقائه في كلتيهما. وما ذكر في الفرق فليس بفارق. هذا ما جاء في كلمات بعض الاعلام (٣) نقلناه باختصار.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ١١٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفقيه الهمداني. مصباح الفقيه كتاب الطهارة ـ ٢٠٥ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ١٢٠ ـ الطبعة الأولى.

١٨١

التنبيه الثالث : في استصحاب الأمور التدريجية.

لا يخفى ان الموجودات على نحوين : الموجودات القارة ، وهي التي تتحقق بجميع اجزائها في آن واحد مثل زيد وعمرو ، والموجودات التدريجية ، وهي التي لا يكون لأجزائها تحقق دفعي وفي آن واحد ، بل يكون وجودها تدريجيا بحيث يوجد كل جزء في ظرف انعدام ما قبله كالمشي والكلام ونحوهما.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأمور القارة لتحقق أركانه. وانما وقع البحث في جريانه في الأمور التدريجية ، لأجل الإشكال في تحقق أركانه ، وذلك لأنه بعد ان كان وجود الأمر التدريجي بنحو التدرج بحيث يوجد كل جزء منه ويتصرم ثم يوجد جزء آخر منه وهكذا لم يتحقق الشك في البقاء بالنسبة إليه ، لأن ما تعلق به اليقين وهو الجزء السابق مما انعدم وتصرم قطعا ، والجزء اللاحق مشكوك الحدوث ، لأن الجزء في كل آن وظرف غير الجزء في ظرف آخر ، ومثل ذلك لا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.

وقد تصدى الاعلام ( قدس الله سرهم ) لدفع هذا الإشكال وإثبات صحة جريان الاستصحاب في التدريجيات ، ولا بد من إيقاع البحث في مقامين :

المقام الأول : في جريان الاستصحاب في الزمان كالليل والنهار والشهر ونحوها.

والمقام الثاني : في جريان في سائر الأمور التدريجية الواقعة في الزمان كالمشي والتكلم ونحوهما.

اما استصحاب الزمان : فالإشكال فيه من أربعة جهات :

الأولى : ما تقدم من الإشكال في الأمور التدريجية بقول مطلق ، فان الزمان منها ، فيتأتى فيه الإشكال.

وقد أجيب عنه بما محصله : ان المدار في باب الاستصحاب على صدق

١٨٢

النقض بالشك عرفا ، وهذا يثبت مع الوحدة العرفية للموجود في مرحلة حدوثه وبقائه ، والأمر التدريجي ـ كالزمان ـ وان كانت أجزاؤه متدرجة في الوجود بحيث تنصرم وتنعدم ، إلا ان تخلل هذا العدم بين الاجزاء لا يوجب الإخلال بالوحدة عرفا ـ بل قيل دقة ـ ، فالزمان واحد مستمر لا أنه وجودات متعددة ، فالنهار موجود واحد مستمر يتحقق بحصول أول أجزائه وينتهي بانتهائها ويصدق على الآنات الحاصلة بين المبدأ والمنتهى ، فمع الشك في الاستمرار يجري الاستصحاب ، لأن رفع اليد عنه في ظرف الشك يعد نقضا لليقين بالشك.

الجهة الثانية : ان موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء ، كما ان الاستصحاب هو التعبد ببقاء ما كان ، والبقاء عبارة عن الوجود في الآن الثاني ، وهذا المعنى لا يتصور في نفس الزمان ، فلا يتصور البقاء في الزمان لأنه لا يوجد في زمان آخر.

ويندفع هذا الإشكال :

أولا : بان الوجود في الآن الثاني لم يؤخذ في مفهوم البقاء وانما هو لازم له في ما يقبل الوجود في الزمان كالزمانيات ، اما مثل الزمان مما لا يوجد في الزمان ، فلا يكون بقاؤه ملازما لذلك ، كيف! ويصدق البقاء على المجردات كالذات المقدسة ، فليس مفهوم البقاء الا مساوقا للاستمرار والدوام في الوجود.

وثانيا : انه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب التعبد بالبقاء ، بل هو وارد في كلمات الفقهاء والأصوليين ، وانما الوارد في الأدلة هو عدم نقض اليقين بالشك ، وليس موضوعه الا الشك في وجوده المتأخر بعد اليقين بوجوده السابق ، وهو موجود. فلاحظ.

الجهة الثالثة : ان الشك في الأمر التدريجي ..

تارة ينشأ من الشك في حصول ما يمنع من استمراره مع إحراز قابليته للاستمرار في نفسه.

١٨٣

وأخرى : ينشأ من الشك في حصول غايته ومنتهاه ، كما لو علم ان الشخص يتكلم ساعتين وشك في بقاء تكلمه للشك في انتهاء الساعتين.

والشك في الزمان من قبيل الثاني ، إذ لا احتمال لوجود ما يقطع النهار قبل حصول غايته ، وانما الشك في بقائه ينشأ من الشك في حصول غايته وانتهاء أمده وعدمه.

وعليه ، فينشأ من هذا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان. وتقريبه : ان متعلق الشك بعد اليقين ان كان هو بقاء النهار ـ مثلا ـ ، بمعنى وجوده في الآن اللاحق ، فهذا ما عرفت انه غير متصور بالنسبة إلى الزمان وان كان هو الوجود اللاحق للنهار ، بحيث يؤخذ وصف اللحوق قيدا لمتعلق الشك ، فليس الوجود اللاحق مسبوقا بالحالة السابقة بل هو مشكوك الحدوث. واما ذات وجود النهار فهذا مما لا شك فيه.

وببيان آخر نقول : ان متعلق الشك ليس بقاء النهار والآن الواقع بين الحدين ، بل متعلق الشك هو كون هذا الآن نهارا أو ليس بنهار ، وذلك لأنه بعد فرض وحدة النهار بجميع آناته وملاحظته موجودا واحدا فيستحيل تعلق اليقين والشك فيه ، الا بتغاير الزمانين ، والمفروض انه غير متصور في الزمان ، فالشك الموجود فعلا ليس إلا في كون هذا الآن نهارا أو لا ، وان أطلق الشك في بقاء النهار لكنه مسامحي بعد ملاحظة ان النهار اسم لمجموع الآنات الخاصة وليس له وجود غيرها ، والمشكوك هو نهارية الآن الّذي نحن فيه وعدمه ، وهذا مما لا حالة سابقة له.

وهذا الإشكال لا يتأتى في سائر الأمور التدريجية القابلة للوقوع في الزمان ، لتصور الشك في وجودها الواحد في الزمان اللاحق ، فيقال : كان التكلم موجودا والآن يشك فيه فيستصحب. فهذا الإشكال يختص بالزمان. وهو مما لا دافع له ولم يتعرض له الأعلام. ومع الغض عنه يقع الكلام في الإشكال.

١٨٤

الجهة الرابعة : وهو ما أشار إليه الاعلام ( قدس الله سرهم ) وتصدوا لدفعه.

ومحصله : ان استصحاب النهار ـ مثلا ـ لا يتكفل أكثر من إثبات وجود النهار ، كما لو كان متعلق الحكم أخذ فيه الوقوع في النهار مثل الإمساك في باب الصوم ، فانه يعتبر ان يكون في النهار ، فمع الشك في بقاء النهار لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار.

نعم ، لو كان وجود النهار موضوعا للحكم من دون ان يتقيد به متعلقه كان استصحاب النهار مجديا في إثبات الحكم.

وبالجملة : لا ينفع استصحاب الزمان الخاصّ في الموارد التي يؤخذ فيها قيدا لمتعلق الحكم ، كالصوم والصلاة ونحوهما ، فتقل الفائدة فيه لأن أغلب الموارد التي يراد استصحاب الزمان فيها من هذا القبيل.

أقول : بهذا البيان ونحوه بيّن الإشكال ، إلا انه لم يبين جهة الاستشكال وما هو المحذور المترتب على ذلك ، وما هو اللازم الباطل المترتب على عدم إحراز وقوع الإمساك ـ مثلا ـ في النهار ، إذ لقائل ان يقول : انه بعد استصحاب وجود النهار يثبت الحكم بوجوب الصوم ، فيأتي الإنسان بالإمساك رجاء ولو لم يحرز ان الزمان نهار ، فان كان الزمان نهارا فقد امتثل وإلاّ فلا يضره شيء ، فلا يكون الاستصحاب عديم الفائدة ، كيف؟ ولولاه لم يثبت الحكم الّذي ترتب عليه العمل ولو احتياطا ، كما انه ليس بلا أثر عملي كما جاء في أجود التقريرات (١) في تقريب الإشكال ـ إذ يكفي في لزوم الإتيان بالعمل بعنوان الاحتياط وهو أثر عملي واضح. فما جاء في كلمات الاعلام لا يخلو عن قصور.

والحق ان يقال : انه ان التزمنا بان الملحوظ في دليل الاستصحاب هو تنجيز الواقع المجهول فلا إشكال أصلا ، إذ مرجع التنجيز إلى بيان ترتب

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٠٠ ـ الطبعة الأولى.

١٨٥

المؤاخذة على تقدير ثبوت الواقع ، ومثله لا يعتبر فيه إحراز ثبوت الواقع ، بل احتماله يكفي في الاندفاع للعمل.

وعليه ، فيكفي استصحاب وجود النهار بلا حاجة إلى إحراز كون الإمساك في النهار ، لأن مرجع الاستصحاب المزبور إلى تنجيز الحكم بوجوب الإمساك على تقدير ثبوته في الواقع ، ولا يتكفل إثبات الحكم.

وعليه ، فلا بد من الإتيان بالإمساك فرارا عن العقاب المحتمل ، لاحتمال ثبوت الحكم لاحتمال بقاء النهار.

واما إذا التزمنا بان المجعول هو المتيقن كجعل المؤدى في باب الأمارات ، فيتكفل دليل الاستصحاب جعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي ولو التزمنا بذلك أشكل الأمر ، وذلك لأن الحكم الواقعي هو وجوب الإمساك المقيد بكونه في النهار ـ مثلا ـ ، وهذا مما لا يمكن ان يثبت في مرحلة الظاهر باستصحاب بقاء النهار ، إذ بعد عدم إحراز ان الزمان الّذي نحن فيه نهار أو ليل لا يحرز ان الإمساك في النهار ـ فعلا ـ مقدور لاحتمال ان هذا الزمان ليل ، واستصحاب بقاء النهار لا يثبت ان هذا الآن نهار ـ كما هو المفروض ـ ، فيكون ثبوت وجوب الإمساك في النهار محالا ، لأنه تكليف بأمر لا يعلم انه مقدور أو ليس بمقدور ، فالإشكال على هذا المبني في الاستصحاب دون غيره.

وقد تصدى الأعلام ـ كما أشرنا إليه ـ لدفع الإشكال ، والمذكور في الكلمات وجوه :

الأول : ان الزمان لم يؤخذ في متعلق الحكم أصلا وانما هو شرط لأصل ثبوت الحكم ، والحكم متعلق بالطبيعة بلا تقيد وقوعها في الزمان الخاصّ.

وعليه ، فيثبت الحكم باستصحاب موضوعه ولا قيمة لعدم ثبوت أن هذا الآن نهار أو ليس بنهار. وهذا الوجه أشار إليه المحقق العراقي رحمه‌الله (١).

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٥٠ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٨٦

ولكن للمناقشة فيه مجال واسع ، فانه مخالف لظواهر الأدلة ، كأدلة اشتراط الوقت في الصلاة (١) ، ودليل الصوم الظاهر في لزوم كون الصوم في رمضان ، كقوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(٢).

الوجه الثاني : ما أفاده العراقي رحمه‌الله أيضا واختص به من : انه كما يمكن استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفية بين الأجزاء المتدرجة في الوجود ، كذلك يمكن استصحاب نهارية الموجود ، فان وصف النهارية من الأوصاف التدريجية كذات الموصوف ويكون حادثا بحدوث الآنات وباقيا ببقائها ، فإذا اتصف بعض هذه الآنات بالنهارية وشك في اتصاف الزمان الحاضر بها يجري استصحاب بقاء النهارية الثابتة للزمان السابق لغرض وحدة الموصوف ، فيكون الشك شكا بالبقاء (٣).

وما أفاده قدس‌سره لا يمكن البناء عليه لأمرين :

الأول : ان وصف النهارية ونحوها ليس أمرا آخر وراء ذوات الآنات الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، فلفظ النهار لا يعبر إلا عن تلك الذات لا عن عرض قائم بالذات غيرها ، فهو اسم للذات لا وصف لها ، فهو نظير لفظ زيد بالنسبة إلى ذاته ، ولفظ حجر إلى ذات الحجر ، لا نظير عالم بالنسبة إلى زيد.

وعليه ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب في وصف النهارية منضما إلى استصحاب نفس الذات النهارية ، فانه من قبيل استصحاب وجود زيد واستصحاب زيديته لا من قبيل استصحابه واستصحاب عالميته.

هذا مضافا إلى انه لو فرض كون وصف النهار من قبيل العنوان لا من قبيل الاسم ، فمن الواضح ان النهارية تتقوم بكون الزمان بين المبدأ والمنتهى

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ ـ ٧٨ ـ أبواب المواقيت.

(٢) سورة البقرة الآية. ١٨٥.

(٣) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٤٩ ـ القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٨٧

الخاصّ بحيث يكون ذلك مسببا لتعدد حقيقة أنواع الزمان عرفا من ليل ونهار ، وإلاّ فذات الزمان موجود واحد مستمر إلى الأبد.

وعليه ، فمع الشك في كون الآن بين المبدأ والمنتهى لا يمكن استصحاب وصف نهاريته لتقومها به عرفا ، وليس هو من الحالات.

وهذا الإشكال يسري في كل مورد يشك في تبدل الموجود السابق إلى حقيقة أخرى عرفا ، فانه لا يجري استصحاب الوصف السابق للشك في بقاء الموضوع العرفي للمستصحب ، كما لو شك في تبدل الخمر إلى الخل وغير ذلك. فتدبر.

الأمر الثاني : ان المشكوك كونه نهارا هو هذا الآن لا مجموع الآنات الملحوظة شيئا واحدا. ومن الواضح ان هذا الآن لا حالة سابقة له والشك بالنسبة إليه شك في الحدوث. ولا معنى لغرض وحدته مع ما تقدم ، إذ فرض الوحدة هو فرض لحاظ الكل شيئا واحدا بحيث لا ينظر إلى كل جزء بخصوصه ، وليس الأمر كذلك فيما نحو فيه ، لأن المفروض النّظر إلى هذا الجزء بخصوصه وملاحظته بمفرده لأنه هو المشكوك دون غيره فانتبه.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من : إن المأخوذ في متعلق الحكم إذا كان هو الإمساك في النهار لا الإمساك النهاري ، بان يكون النهار بوجوده المحمولي قيدا دخيلا في المصلحة لا بوجوده الناعتي ، كان جريان الاستصحاب في النهار مجديا ولو لم يحرز أن هذا الآن نهار ، لأن ثبوت القيد تعبدي والتقيّد وجداني ، فيثبت ان هذا إمساك وجداني في النهار التعبدي (١).

وما أفاده قدس‌سره يتوجه عليه :

أولا : ان استصحاب بقاء النهار لا يثبت إضافة الإمساك إلى النهار وتقيده به إلاّ بالملازمة ، فهو نظير استصحاب كون هذا المائع خمرا ، فانه لا يثبت كون

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٨١ ـ الطبعة الأولى.

١٨٨

شربه شرب خمر إلا بالملازمة ، والمفروض ان المطلوب إثبات كون الإمساك في النهار.

وثانيا : لو سلمنا ان استصحاب الموضوع يثبت به الحكم المتعلق بما يتقيد به ويضاف إليه ، فيقال ان الخمر أثره حرمة شربه ، فإذا ثبتت خمرية شيء ظاهرا ترتب عليه حرمة شربه ، فهو انما ينفع فيما كان الاستصحاب يتكفل إثبات الموضوع بمفاد كان الناقصة ، إذ التقيد والإضافة وجداني تكويني ، وانما الشك في وصف المضاف إليه وهذا يثبته الأصل. واما إذا كان مجرى الاستصحاب هو الموضوع بمفاد كان التامة ، فالتقيد والإضافة لا تتحقق أصلا ، إذ وجود الموضوع تعبدا ليس إلاّ وجودا اعتباريا فرضيا ولا معنى لوقوع الفعل فيه. فهل يجدي استصحاب بقاء الكر في الحوض في إثبات الغسل بالكر؟.

فاستصحاب بقاء النهار بمفاد كان التامة لا يصحح إضافة الإمساك إلى النهار ووقوعه فيه ، فلاحظ والتفت.

الوجه الرابع : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من إجراء استصحاب الحكم (١).

وقد أورد عليه المحقق النائيني في دورة من دورات بحثه : بأنه لا يجدي في إحراز وقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، ولو كان مجديا لكفى استصحاب الموضوع لترتب الحكم عليه (٢).

ولكنه في دورة أخرى ردّ هذا الإشكال : بان استصحاب الحكم يكفي في إحراز وقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، كاستصحاب وجوب الصوم ، فانه يترتب عليه كون الإمساك في النهار بخلاف استصحاب نفس الزمان ، لأن استصحاب الزمان لا يترتب عليه إلا أثره الشرعي وهو أصل وجوب الصوم ، واما كون الصوم في النهار فهو أثر عقلي لبقائه لا شرعي. واما استصحاب الوجوب

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٧٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول ٤ ـ ٤٣٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٨٩

فمرجعه إلى التعبد بالحكم بجميع خصوصياته التي كان عليها ، والمفروض ان الحكم كان متعلقا بما لو أتى به كان واقعا في النهار ، فيستصحب ذلك على نحو ما كان (١).

ولكن ما ذكره توجيها لكلام الشيخ رحمه‌الله غير سديد ، لأنه لو سلم ان التعبد بالوجوب يقتضي التعبد بجميع خصوصياته فانما ذلك في الخصوصيات الشرعية لا التكوينية. ومن الواضح ان كون الفعل واقعا في الزمان الخاصّ أمر تكويني فلا معنى للتعبد به لأنه لا يقبل الجعل والتعبد شرعا.

الوجه الخامس : ما أفاده في الكفاية من : إجراء الاستصحاب في المقيد بما هو مقيد ، فيقال : ان الإمساك كان في النهار فالآن كذلك (٢).

وفيه : ان المشار إليه من الإمساك اما ان يكون الجزء الموجود منه أو الجزء الّذي بعد لم يوجد. فان كان هو الجزء الموجود ، فهو لا أثر له لأن الحكم لا يتعلق بما هو الموجود. وان كان هو الجزء الآتي ، فهو مما لا حالة سابقة له ، بل هو مشكوك الحدوث فلا يجري فيه الاستصحاب إلاّ بنحو الاستصحاب التعليقي ، وهو لا يجري في الموضوعات.

الوجه السادس : ما أفاده العراقي وغيره من : أن الزمان لم يؤخذ في المتعلق قيدا للفعل بحيث كان المتعلق هو الفعل الخاصّ بنحو التقييد ، بل أخذ في المتعلق بنحو المعية في الوجود والمقارنة. وبعبارة أخرى : اعتبر هو والفعل بنحو التركيب وبنحو الاجتماع في الوجود. وهذا مما يثبت بالاستصحاب ، فانه يثبت أحد الجزءين وهو الزمان الخاصّ ، والجزء الآخر يثبت بالوجدان وهو الفعل (٣).

وهذا الوجه كسوابقه قابل للمناقشة ، فان أخذ الزمان بنحو التركيب بلا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٣ ـ ٤٠١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٥٠ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٩٠

ملاحظة تقيّد الفعل به وإضافته إليه ممكن بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق ، إذ المتعلق مما يكون التكليف محركا نحوه وباعثا إليه ، ولا يعقل البحث نحو الزمان لأنه غير اختياري ، فأخذه في المتعلق لا بد وان يرجع إلى ملاحظة تقيّد الفعل به وإيقاعه فيه ، فان هذا المعنى قابل للتحريك والبعث.

وعليه ، فيعود الإشكال ، لأنه لا يحرز باستصحاب الزمان وقوع الفعل فيه. فتدبر.

وجملة القول : ان استصحاب الزمان بملاحظة ورود هذه الإشكالات مما لا يمكن الركون إليه والجزم به.

واما سائر الأمور التدريجية غير الزمان كالتكلم والمشي والسيلان ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها الا من الوجه الأول من وجوه الإشكال في استصحاب الزمان ، وقد عرفت دفعه وعدم تماميته. وعليه فلا مانع من الالتزام فيه فيها.

ثم انه وقع الكلام في جريان الاستصحاب في موارد تعلق الحكم بالفعل المقيد بالزمان. وهو على صورتين :

الأولي : ان يكون الشك في بقاء حكمه للشك في بقاء قيده وهو الزمان. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا.

الثانية : ان يكون الشك في بقاء حكمه مع القطع بانتهاء قيده من جهة أخرى ، كما إذا احتمل أخذ الزمان بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، فيشك في بقاء الحكم بعد انتهاء الزمان.

وقد أفاده في الكفاية : بان الزمان إذا كان مأخوذا ظرفا لثبوته كان استصحاب الحكم جاريا. وان كان قيدا مقوما لمتعلقه فلا يجري استصحاب الحكم ، بل يجري استصحاب عدمه. ثم أشار إلى دفع ما أفاده النراقي من

١٩١

جريان كلا الاستصحابين ـ أعني : استصحاب الوجود والعدم ـ وتعارضهما (١).

وقد تقدم الكلام في كلام النراقي وتوجيهه ورده بنحو التفصيل في البحث عن جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فراجع.

وأما ما أفاده من التفصيل في جريان الاستصحاب بين أخذ الزمان ظرفا وأخذه قيدا ، فالظاهر ان مراده هو : التفصيل بين كونه حالة بنظر العرف وبين كونه قيدا مقوما ، وإلاّ فهو قيد على كلا التقديرين.

وعليه ، فلا يرد عليه : ان أخذه ظرفا لا معنى له في قبال أخذه قيدا ، إذ لا معنى لظرفية الزمان الا تقيد الفعل به.

وكيف كان ، فلا بد من تحقيق ان الزمان في متعلق الحكم هل هو من الحالات الطارئة على معروض الحكم بنظر العرف ، أو انه بنظره من مقوماته التي ينتفي بانتفائه؟.

واما مجرى الترديد الكبروي ـ كما اقتصر عليه في الكفاية ـ فلا فائدة كبيرة فيه.

وتحقيق ذلك : ان ما يؤخذ قيدا للموضوع قد يعد عرفا من مقوماته بحيث ينتفي معروض الحكم بانتفائه. وقد يعد من حالاته وعوارضه فلا ينتفي عرفا بانتفائه. وهذا يختلف بحسب اختلاف ارتباط الحكم بالقيد.

فالأوّل نظير وجوب تقليد العالم ، فان جهة العلم من مقومات وجوب التقليد عرفا ، لأن التقليد انما هو لجهة علمه.

والثاني نظير وجوب الصلاة خلف العالم ، فان العلم لا يعد عرفا من مقومات الموضوع ، بل يعد من حالاته.

وبعبارة أخرى : تعد جهة العلم عرفا من الجهات التعليلية للحكم بوجوب الصلاة خلفه ولكنها تعد من الجهات التقيدية بالنسبة إلى الحكم بوجوب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٩ ـ ٤١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٢

تقليده.

ولكن هذا إنما يأتي في موضوعات الأحكام لاختلاف نسبة الحكم وكيفية ارتباطه بالقيد.

واما بالنسبة إلى متعلق الحكم ، فكل قيد فيه يكون مقوما بنظر العرف ، إذ متعلق الحكم ما أخذ الحكم داعيا إليه ومحركا نحوه ، فإذا كان المدعو إليه هو الفعل الخاصّ كانت الخصوصية مقومة عرفا ، فمع انتفائها يمتنع جريان الاستصحاب.

وبعبارة أخرى ، المراد بالموضوع هو معروض المستصحب ، ومعروض الحكم المستصحب بنظر العرف هو الفعل بخصوصياته لا ذات الفعل.

وعليه ، فالزمان إذا كان قيدا للمتعلق فهو قيد مقوم دائما ، فمع تخلفه وانتفائه يمتنع جريان استصحاب الحكم.

وقد نبهنا على ذلك في مبحث تعذر بعض اجزاء الواجب أو شرائطه من مباحث الأقل والأكثر. فراجع.

ثم أن صاحب الكفاية رحمه‌الله تعرض لما حكي عن النراقي من التمسك عند الشك في ناقضية المذي للطهارة باستصحاب جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، ومعارضة لاستصحاب الطهارة قبل المذي.

فأورد عليه : بان الطهارة الحديثة والخبثية وما يقابلهما تكون مما إذا وجدت بأسبابها لا ترتفع إلاّ برافع ، بحيث يكون منشأ الشك فيها هو الشك في الرافع ولا يشك فيها من جهة الشك في مقدار تأثير السبب ، فانه لا شك فيه لأن تأثيره في الطهارة المستمرة ، وعدمها يكون لأجل الرافع لا لقصور السبب.

وعليه ، فلا مجال لأصالة عدم سببية الوضوء للطهارة بعد المذي (١).

أقول : لا ظهور لكلام النراقي في كون مجرى الاستصحاب هو نفس

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٣

السببية ، بل من الممكن ان يكون نظره إلى منشأ انتزاعها وهو ثبوت الطهارة على تقدير الوضوء.

وعليه ، فيكون مقصوده إيقاع المعارضة بين استصحاب الطهارة الثابتة قبل المذي ، واستصحاب عدم جعلها بعد المذي ، الّذي تقدم بيانها في مبحث استصحاب الحكم الكلي عند بيان مرامه ، فمجرى الاستصحاب نفيا وإثباتا هو المسبب لا سببية السبب حتى يورد عليه بأنه لا شك في السببية.

وبهذا الحمل لكلامه رحمه‌الله ظهر انه لا وجه لإطالة الكلام بتحقيق ان الوضوء مقتض للطهارة ، والحدث هل يكون من قبيل الرافع أو يكون عدمه متمما للمقتضي؟. كما تصدى إلى ذلك المحقق الأصفهاني في بيان مسهب مفصل فراجع (١).

التنبيه الرابع : في استصحاب الأمور التعليقية.

لا يخفى ان الأمر المشكوك البقاء ...

تارة : يكون له وجود فعلي تنجيزي في السابق يشك في زواله وبقائه ، كنجاسة الماء المتغير إذا شك فيها بعد زوال تغيره من قبل نفسه.

وأخرى : يكون له وجود تقديري تعليقي لا فعلي كحرمة العنب على تقدير غليانه إذا شك فيها بعد تبدله إلى زبيب.

والاستصحاب في الفرض الأول لا شبهة فيه.

وانما الكلام في الاستصحاب في الفرض الثاني ، وهو ما يعبر عنه بالاستصحاب التعليقي ، والإطلاق مسامحي ، ويراد به استصحاب الأمر التعليقي.

والأمر التعليقي الّذي يتكلم في استصحابه تارة : يكون من الأحكام ،

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٨٤ ـ ٨٩ ـ الطبعة الأولى.

١٩٤

كالمثال المتقدم. وأخرى : من الموضوعات.

والكلام فعلا في استصحاب الأحكام التعليقية : ولا يخفى ان البحث فيه ذو أثر عملي كبير في باب الفقه للتمسك به في موارد كثيرة من الأحكام التكليفية والوضعيّة.

وكيف كان فقد نفي جريانه فريق والتزم به فريق آخر.

وممن التزم به صاحب الكفاية ، وذكر في تقريبه : ان قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء متحقق في الأمور التعليقية ، لأن غاية ما يقال في نفيه : ان الحكم التعليقي لا وجود له قبل وجود ما علق عليه فلا يقين بحدوثه. وهذا قول فاسد ، لأنه لا وجود له فعلا قبل الشرط ، لا أنه لا وجود له أصلا ولو بنحو التعليق ، فان وجوده التعليقي نحو وجود يكون متعلقا لليقين والشك ، ولذا كان موردا للخطابات الشرعية من إيجاب وتحريم. هذه خلاصة ما أفاده في الكفاية (١).

وخالفه المحقق النائيني رحمه‌الله فذهب إلى نفي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، ومحصل ما أفاده : ان الحكم له مقامان : مقام الجعل ، وهو جعل الحكم الكلي على الموضوع الكلي. ومقام المجعول وهو الحكم الفعلي الحاصل بحصول موضوعه بأجزائه وقيوده.

والشك في بقاء الحكم بلحاظ مقام الجعل لا ينشأ إلاّ من قبل الشك في النسخ وعدمه ، وهو أجنبي عما نحن فيه ، ومع عدم الشك في النسخ يعلم ببقاء الجعل والإنشاء ولا رافع له ، إذ هو ثابت حتى مع عدم تحقق الموضوع بالمرة.

اما بلحاظ مقام المجعول والفعلية فبالنسبة إلى الحكم التعليقي غير متصور ، لأن المفروض عدم الفعلية للحكم لعدم تحقق كلا جزئي الموضوع ، فلا يقين بالحدوث. وليس للحكم التعليقي مقام آخر يتصور جريان الاستصحاب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٥

بلحاظه.

وبالجملة : ما له ثبوت فعلي وهو الجعل لا شك فيه ، وما هو مورد الشك وهو المجعول لا يقين بحدوثه هذه خلاصة ما أفاده قدس‌سره (١).

والتحقيق ان يقال : ان المسالك المعروفة في حقيقة الحكم التكليفي وكيفية جعله ثلاثة :

المسلك الأول : ما هو مسلك المشهور من : أنها عبارة عن أمور اعتبارية يتسبب لها بالإنشاء وتكون فعلية الأحكام منوطة بوجود الموضوع بخصوصياته ، فبدونه لا ثبوت الا للإنشاء بلا أن يتحقق اعتبار الحكم فعلا. وإلى هذا يرجع ما أفاده المحقق النائيني من انفكاك مقام الجعل عن مقام المجعول ، وأنه قد يتأخر المجعول عن الجعل.

المسلك الثاني : ان المجعول لا ينفك زمانا عن الجعل ، ففي ظرف الجعل يتحقق الحكم فعلا ، إلاّ انه يتعلق بأمر على التقدير ، فيكون التقدير دخيلا في ترتب الأثر العقلي على الحكم الثابت سابقا لا دخيلا في أصل تحقق الحكم وفعليته ـ كما عليه المشهور ـ ، فالتقدير ـ على ما قيل ـ دخيل في فاعلية الحكم لا في فعليته ، بل الحكم فعلي قبل تحقق التقدير.

المسلك الثالث : ان حقيقة الحكم التكليفي هي الإرادة والكراهة المبرزة والمظهرة ، فليس هو أمرا مجعولا كالاحكام الوضعيّة ، بل هو امر واقعي تكويني يترتب عليه الأثر العقلي والعقلائي عند إبرازه. وهذا مما قربه المحقق العراقي رحمه‌الله (٢).

ولا يخفى ان المطلوب في المقام هو تحقيق انه في مورد الحكم التعليقي هل هناك امر شرعي قبل وجود المعلق عليه يمكن استصحابه أو لا؟

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد. الأصول ٤ ـ ٤٦٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٦٣ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٩٦

ولا بد من تحقيق الكلام بلحاظ كل مسلك من هذه المسالك الثلاثة ، فنقول :

اما على الأول ـ وهو مسلك المشهور المنصور ـ : فالمتجه القول بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي لأن الثابت لدينا على هذا المسلك أمران :

أحدهما : ما يرتبط بمقام الإنشاء والجعل ، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلي ، وهو لا يرتبط بوجود الموضوع في الخارج ، لأنه متحقق ولو مع عدم الموضوع. ومن الواضح ان هذا مما لا شك في بقائه ، لأنه معلوم الثبوت والبقاء سواء وجد العنب ـ مثلا ـ أو انعدم ، وسواء تحقق الغليان أو لم يتحقق ، لأنه لا يرتبط الا بالموضوع الكلي لا بالخارج.

نعم يمكن ان يحصل الشك في بقائه من جهة الشك في النسخ ، وهذا مما لا يرتبط بما نحن فيه.

وثانيهما : ما يرتبط بمقام الفعلية والمجعول ، وهو الحكم الفعلي الثابت عند وجود موضوعه بشرائطه. ومن الواضح ان هذا الحكم لا يقين بحدوثه قبل تحقق المعلق عليه ، فلا معنى لاستصحابه.

وليس لدينا أمر شرعي آخر غير هذين ، ففي أي شيء يجري الاستصحاب؟.

ومن هنا يظهر ان استدلال صاحب الكفاية على جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي بان له نحو وجود ، ولذا كان موردا للخطابات الشرعية. غير وجيه ، لأن ما هو مورد للخطابات الشرعية هو الحكم الإنشائي الّذي عرفت الحال فيه.

نعم ، إذا ثبت ان الحكم الفعلي يكون له نحو وجود بتحقق أحد جزئي موضوعه ويكمل بحصول الجزء الآخر. وبعبارة أخرى : نقول ـ مثلا ـ ان الحرمة

١٩٧

المرتبة على العنب المغلي ، تكون فعلية من جهة عند تحقق العنب قبل الغليان ، فتثبت للعنب حرمة فعلية قبل غليانه ، أمكن على هذا استصحاب هذه الحرمة الفعلية من جهة لو شك في بقائها عند تبدل العنب إلى زبيب.

لكن هذا المعنى لا يعدو الفرض والخيال ، إذ لا ثبوت للحكم أصلا وبوجه من الوجوه قبل ثبوت موضوعه بكامل أجزائه كما هو مقتضى مفاد الإنشاء والجعل.

ودعوى : ان العنب قبل الغليان ـ مثلا ـ يتصف بالحرمة على تقدير غليانه ، وهذا لا ثبوت له في غير العنب كالبرتقال. ومن الواضح ان هذه الحرمة التي يتصف بها ليست بالحرمة الفعلية المتأخرة عن الغليان ولا الإنشائية ، لأنها واردة على الموضوع الكلي فيكشف ذلك عن وجود أمر وسط بين الحرمة الإنشائية والحرمة الفعلية التامة.

مندفعة : بان هذه الحرمة التقديرية التي يتصف بها العنب قبل غليانه لا حقيقة لها سوى الحرمة الفعلية الثابتة على تقدير الغليان التي يتعلق بها إدراك العقل من الآن ، فالعقل فعلا يدرك تلك الحرمة ، فيعبر عنها بالحرمة على تقدير الغليان ، لا أنها ثابتة بثبوت فعلي من جهة كما يحاول ان يدعي ، وقس ما ذكرناه في الأمور التكوينية فانه لو فرض ان العنب على تقدير غليانه يكون مسكرا فقبل غليانه يوصف بأنه مسكر على تقدير الغليان.

وهل يتوهم أحد ان الإسكار ثابت من جهة تحقق أحد جزئي موضوعه؟ ، بل هذا التعبير لا يعبر الا عن إدراك العقل لمرحلة فعلية الإسكار عند الغليان ، فهو إشارة إلى ذلك الوصف الفعلي الثابت عند تحقق كلا جزئي موضوعه ، بل لا مقتضي لأن نقول بأنه معنى انتزاعي عقلي ثابت بالفعل ، فليست الحرمة الفرضية والتقديرية أمرا وراء الحرمة الفعلية الثابتة في ظرفها ، بل هي تعبير عنها وإشارة إليها ، كما هو الحال في الأمور التكوينية التعليقية.

١٩٨

ومن هنا يظهر ان ما أفاده الشيخ رحمه‌الله من إجراء الاستصحاب في الملازمة ليس بسديد ، إذ ليست الملازمة المفروضة الا تعبيرا آخر عن تحقق الحرمة عند تحقق كلا الجزءين وهو أمر واقعي متعلق لإدراك العقل ، فتدبر.

وجملة القول : ان إجراء استصحاب الحكم التعليقي على هذا المسلك مما لا أساس له.

فان قلت : هذا يتم بناء على مسلك المشهور في الإنشاء من كونه استعمال اللفظ بقصد التسبيب إلى الاعتبار العقلائي في وعائه المناسب ، إذ ليس لدينا سواء الإنشاء الّذي لا شك في بقائه ، والاعتبار العقلائي وهو الّذي لا يقين بحدوثه.

وأما بناء على مسلك صاحب الكفاية الّذي قربناه وقررناه من : انه التسبيب إلى وجود المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي في وعائه ، ـ فلا يتم منع استصحاب الحكم التعليقي ، وذلك لأن الحكم موجود بالفعل ـ قبل تحقق شرطه ـ بوجود إنشائي وان توقفت فعليته على تحقق شرطه. وهذا الحكم ثابت للفرد الخارجي من الموضوع ، لأن المنشأ ـ مثلا ـ هو حرمة شرب ماء العنب إذا غلى. ومن الواضح ان الشرب يرتبط بالعنب الخارجي ، فحرمة الشرب ثابتة للموضوع الخارجي. فالعنب عند وجوده تثبت له حرمه إنشائية ، فإذا شك في بقائها وزوالها بعد تبدل وصف العنبية إلى الزبيبية جرى استصحابها وترتب عليه الأثر.

نعم ، هذا يتم لو أخذ معروض الحرمة ذات العنب وكان الغليان ملحوظا شرطا. واما لو كان الغليان قيدا للموضوع بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي امتنع الاستصحاب لعدم ثبوت الحرمة الإنشائية لذات العنب بل العنب المغلي ، والمفروض عدم تحققه. فتدبر.

قلت : الحكم الإنشائي الّذي التزمنا به لا يعرض على كل فرد من افراد

١٩٩

الموضوع المأخوذ في العنوان ، بل معروضه هو نفس الكلي ، لكن بلحاظ وجوده في الخارج.

اما كون معروضه وموضوعه هو الكلي دون الافراد الخارجية ، فلأنه يوجد مع قطع النّظر عن تحقق فرد الموضوع خارجا ، بل هو ثابت حتى مع فرض عدم وجود أي فرد بالفعل لموضوعه ، بل قد يكون الداعي في جعل الحكم هو إعدام الموضوع كالاحكام الثابتة في باب الحدود.

واما لحاظ الوجود في الكلي المأخوذ في موضوعه ، فلأن الفعل المضاف إلى الموضوع ـ كالشرب بالنسبة إلى العنب ـ لا يضاف إليه بما هو كلي ، بل بما هو موجود في الخارج.

وإذا ظهر ان الحكم الإنشائي طار على الموضوع الكلي فقد عرفت انه لا يشك في بقائه الا من جهة النسخ ، نعم يشك في شموله للزبيب ـ مثلا ـ ، ومثله لا معنى لاستصحابه ، لأنه شك في الحدوث.

نعم ، إذا وجد فرد من الموضوع في الخارج تتحقق هناك إضافة بينه وبين الحكم من باب انه مصداق للموضوع الكلي. والشك في البقاء يطرأ على هذه الإضافة بعد تبدل وصف الفرد الخارجي ، كتبدل العنب إلى الزبيب.

ولكن من المعلوم ان هذه الإضافة ليست شرعية كي يتكفل الاستصحاب بقائها ، فلا يجري فيها الاستصحاب.

وبهذا البيان تعرف : ان ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ـ من التفصيل في إجراء الاستصحاب في الحكم الإنشائي بين ما إذا كان الشرط كالغليان قيدا للموضوع ، بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي فلم يلحظ في الموضوع إلا تقدير واحد ، وهو تقدير العنب المغلي وبين ما إذا كان شرطا للحكم لا قيدا للموضوع ، بحيث كان الموضوع هو العنب. فهنا تقديران : أحدهما تقدير العنب والثانية في تقدير الغليان. ففي الأول لا يجري الاستصحاب لعدم ثبوت

٢٠٠