منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

إجراء الاستصحاب لفقدانه ركنه (١).

وهذا الوجه يبتني على ما التزم به من ان العلم الإجمالي يتعلق بالجامع ولا يسري إلى الخارج. ولكن عرفت فيما تقدم ان العلم الإجمالي وان تعلق بالجامع لكنه يرتبط بالخارج ويسري إليه ، بحيث لو انفتح له باب العلم التفصيليّ لأمكنه انه يقول هذا هو معلومي بالإجمال. وبعبارة أخرى : انه يعلم بالتفصيل بوجود ما هو منطبق العنوان الجامع في الخارج ، وانما يجهل خصوصيته وما يميزه عن الفرد الآخر ، فقد يسمع كلاما من متكلم يتردد امره بين زيد وعمرو ، فهو قد تعلق علمه بشخص جزئي وهو المتكلم ـ إذ التكلم لا يصدر إلاّ من فرد جزئي ـ ، لكنه يتردد بين شخصين لدى العالم نفسه لجهله بما يميز زيد عن عمرو أو لجهله بأنه واجد لمميزات زيد أو مميزات عمرو.

وبالجملة : المعلوم بالإجمال له وجود واقعي معين ، وانما التردد لدى العالم نفسه في كونه هذا أو ذاك فلدينا علم تفصيلي بالوجود الشخصي ، لكن بنحو مجمل وهذا ما يجعله علما إجماليا. اذن فالفرد الواقعي على واقعه المردد بين فردين خاصين ، يكون متعلقا للعلم بهذا المقدار لا أكثر ، فيكون مجرى للاستصحاب بهذا المقدار.

وقد عرفت ان هذا العلم بهذا الحد علم تفصيلي لكن المعلوم محدود ، فلا أثر لدعوى ان المراد باليقين في باب الاستصحاب هو خصوص اليقين التفصيليّ فلا يشمل اليقين الإجمالي.

مع ان هذه الدعوى ممنوعة أشد المنع بعد فرض شمول مفهوم اليقين لكلا فرديه التفصيليّ والإجمالي ، وفرض منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي.

والخلاصة : ان ما أفاده قدس‌سره لا يمكن قبوله ، وقد مر في بيان

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٧١ ـ الطبعة الأولى.

١٦١

حقيقة العلم الإجمالي ما له نفع في المقام.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق النائيني من عدم تحقق الشك في البقاء ، فان الفرد المردد على واقعه غير مشكوك البقاء ، لأنه على أحد تقديريه متيقن الزوال فكيف يقال انه مشكوك البقاء على واقعه وكلا تقديريه (١)؟.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الوجه بما توضيحه : ان اليقين بالفرد المردد من الحدث مرجعه إلى اليقين بموجود جزئي ، اما يكون منطبقا للحدث الأصغر ـ مثلا ـ أو منطبقا للحدث الأكبر ، ولديه علم بالتلازم بين بقائه وكونه حدثا أكبر ، وحيث يحتمل ان يكون حدثا أكبر ، فهو يحتمل البقاء جزما بعد الوضوء ، فكيف ينفي الشك في البقاء (٢)؟.

والصحيح هو ما أفاده النائيني قدس‌سره ، وتوضيح ذلك : انه لا إشكال في ان الشخص بعد الوضوء يتحقق لديه شك في بقاء حدثه ، وهذا أمر بديهي لا يقبل الإنكار ، إلاّ ان هذا الشك لا يجدي في جريان الأصل وذلك لأنه يلزم ان يكون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين.

وليس الأمر هاهنا كذلك ، وذلك لأن اليقين قد تعلق بالموجود الشخصي الّذي يشار إليه على واقعه سواء كان حدثا أصغر أم حدثا أكبر ، ولا شك ـ بعد الوضوء بذلك الموجود الشخصي المبهم بحيث يمكن الإشارة إليه ويقال انه مشكوك ، لأنه على أحد تقديريه قد زال قطعا ، فلا شك فيه على واقعه وعلى ما هو عليه.

وبالجملة : ما كان متعلقا لليقين وهو الموجود المبهم على ما هو عليه ليس متعلقا للشك وليس هو مشكوك بهذه الصفة ، فلا أستطيع ان أشير إليه وأقول أنه مشكوك.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١٢٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٧١ ـ الطبعة الأولى.

١٦٢

واما الشك الفعلي الّذي اعترفنا ببداهة وجوده ، فهو متعلق ـ بعد التحليل ـ بوجود الفرد الطويل في هذا الآن الثاني لاحتمال حدوثه في الآن الأول ، فان الملازمة بين الحدوث والبقاء فيه توجب التلازم بين احتمال حدوثه واحتمال بقائه فعلا وعلى تقدير الحدوث ، لأنه على تقدير الحدوث متيقن البقاء.

ولكن هذا الشك لا ينفع في جريان الاستصحاب ، لأنه فاقد لليقين بالحدوث ، فما يتعلق اليقين بحدوثه لا شك في بقائه. وما يشك في بقائه لا يقين بحدوثه. فتدبر.

ثم لا يخفى عليك ان ما ذكرناه في تقريب نفي الشك في البقاء انما يتأتى مع العلم بارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث ، كمثال الحدث المردد بعد الوضوء.

واما مع الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير كونه هو الحادث ، كما لو شك في صدور الوضوء منه في مثال الحدث المردد ، فلا يتأتى البيان المزبور إذ الشك يتعلق ببقاء الفرد المردد على واقعه ، فيصح ان يقال انه يشك في بقاء ذلك الحدث المردد على أي تقدير ، فلا بد من التفصيل بين الصورتين من هذه الجهة.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق العراقي قدس‌سره من عدم تعلق اليقين والشك بموضوع ذي أثر شرعي لأنه يعتبر في صحة التعبد بشيء تعلق اليقين والشك به بالعنوان الّذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي ، ولا يكفى تعلق الشك بغيره من العناوين غير ذات الأثر الشرعي ، وبما ان الأثر الشرعي في أمثال المقام انما هو للمصداق بما له من العنوان التفصيليّ ، كصلاة الجمعة وصلاة الظهر ، وهو مما لا يمكن إجراء الأصل فيه لعدم اليقين بالحدوث ، واما العنوان العرضي الإجمالي كعنوان الفرد المردد ، فهي ليست بذات أثر شرعي لترتب الآثار الشرعية في أدلتها على العناوين التفصيلية.

ورتب قدس‌سره على ذلك أمرين :

١٦٣

أحدهما : عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد لو كان الشك في البقاء ناشئا عن الشك في ارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث ، ولا يختص المنع بصورة العلم بارتفاع القصير لو كان هو الحادث ، لاشتراكهما فيهما ذكره في ملاك المنع ، وهو عدم الأثر الشرعي للعنوان الإجمالي.

ثانيهما ، : ان ما ذكره في وجه المنع لا يختص بالاستصحاب بل يعم سائر الأصول.

وعليه ، ففي مثل ما لو صلى عند اشتباه القبلة إلى أربع جهات ، وعلم بعد الفراغ منها بفساد صلاة معينة منها ، فلا يجوز الاكتفاء بالصلوات الباقية في إفراغ الذّمّة ، بل تجب إعادة تلك الصلاة ، للشك في فساد الصلاة الواقعية منها ، ولا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في العنوان المردد منها.

واما لو علم بفساد واحدة مرددة منها ، فانه يمكن إجراء قاعدة الشك بعد الفراغ في كل واحدة منها بعينها للشك ـ في صحتها على تقدير كونها إلى القبلة ـ فتجري القاعدة فيها مقيدة بهذا التقدير. ولا ضير في العلم بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع ، لاحتمال كون الفاسدة هي المأتي بها إلى غير القبلة فلا علم بالمخالفة العملية (١).

وهذا الوجه قابل للرد والمنع ، فان ما ذكره من لزوم تعلق اليقين والشك بالشيء بالعنوان الّذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي. مجرد دعوى لا نعرف لها وجها أصلا وهو لم يذكره إلاّ بنحو الدعوى. وذلك لأن مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب وغيره من الأصول هو شموله لمطلق موارد عدم العلم ، إلاّ انه حيث انه يتكفل التعبد بالمشكوك ، والتعبد الشرعي لا يمكن ان يتعلق إلاّ بحكم شرعي أو موضوع ذي حكم قيد بواسطة هذه القرينة الخارجية العقلية بلزوم

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١١٤ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٦٤

كون المشكوك حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. ولا دليل على التقيد بما ذكره.

وعليه ، ففي مورد تعلق اليقين والشك بالفرد المردد إذا كان المورد مما يصح التعبد به من قبل الشارع بحسب واقعه على ما هو عليه من الترديد لدى المكلف ، لم يكن مانع من شمول دليل الاستصحاب لذلك المورد ولا مقيد له من الخارج ، ويثبت له التعبد بتوسط العنوان الإجمالي المشير إليه. كما لو فرض اليقين بالحكم المردد بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة والشك في بقائه ، فانه لا محذور في التعبد بذلك الحكم المردد على واقعه ، ويترتب عليه أثره العقلي من لزوم تفريغ الذّمّة كما في صورة اليقين الإجمالي به.

وعليه ، ففي مثال الصلاة الّذي ذكره لا مانع من جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الواقعية إلى القبلة للشك في انها فاسدة من ناحية ترك الركوع أو لا ، ولا يمنع ترددها من إجراء قاعدة الفراغ.

هذا مضافا إلى ان المطلوب في باب متعلقات الأحكام هو وجود الطبيعي بما هو بلا ملاحظة خصوصيات الافراد بالمرة ، وليس الحال فيه كالحال في موضوعات الأحكام الملحوظة بنحو الانحلال وترتب الحكم على كل فرد بما هو فرد ، فالأثر في متعلقات الأحكام لا يترتب إلا على وجود الطبيعي المأخوذ في متعلق الحكم ، وهو فيما نحن فيه متعلق اليقين والشك وان لم يعلم بالخصوصية الفردية ، فلا مانع من جريان الأصل فيه مع الشك في صحته ، فلو فرض ـ تنزلا ـ تمامية ما أفاده كبرويا فانطباقه على مثال الصلاة ونحوه غير واضح.

والمحصل : ان العمدة في المنع عن استصحاب الفرد المردد هو عدم ثبوت الشك في بقائه. وقد عرفت ان مقتضاه التفصيل بين صورتي الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير حدوثه ، واليقين بارتفاعه على تقدير حدوثه ، فلا يجري الأصل في الصورة الثانية ، ويجري في الصورة الأولى ، ويترتب عليه أثره العقلي

١٦٥

والشرعي.

هذا تمام الكلام في استصحاب الفرد المردد.

ويقع الكلام بعد ذلك في استصحاب الكلي وقد عرفت انه على أقسام أربعة :

اما القسم الأول : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم شك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد ، مثل ما إذا علم بوجود الإنسان في الدار لعلمه بوجود زيد فيها ، ثم شك في بقاء زيد في الدار ، فيلزم منه الشك في بقاء الإنسان الكلي.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الكلي لو كان موردا للأثر العملي ، كما لا إشكال في جريان الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر الفرد.

نعم ، هنا بحث أشار إليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (١) وحققه المحقق الأصفهاني (٢).

وهو : انه هل يغني استصحاب الفرد في إثبات أثر الكلي ، أو استصحاب الكلي في إثبات أثر الفرد؟. وهذا البحث لا أثر له عملي فيما نحن فيه لإمكان إجراء الاستصحاب في كل من الفرد والكلي فيترتب عليه الأثر المرغوب. نعم لهذا البحث أثر فيما يأتي في القسم الثاني الّذي لا يمكن إجراء استصحاب الفرد فيه ، فيقال : ان استصحاب الكلي يغني في ترتيب أثر الفرد. ولأجل ذلك لا نوقع البحث فيه فعلا ونوكله إلى محله.

واما القسم الثاني : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل البقاء وقصير البقاء ، فيشك في بقاء الكلي بعد مضي زمان الفرد القصير على تقدير حدوثه للشك في ما هو الحادث ، كما لو علم بخروج سائل مردد بين

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٠٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٦٩ ـ الطبعة الأولى.

١٦٦

البول والمني ، فقد علم بحصول كلي الحدث لحصول فرده المردد بين الأصغر والأكبر ، فإذا توضأ يتحقق لديه الشك في بقاء كلي الحدث ، لاحتمال كون الحادث هو الأكبر الّذي لا يزول بالوضوء.

وقد التزم جمع من الاعلام ـ كالشيخ (١) والخراسانيّ (٢) وغيرهما (٣) ـ بجريان الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث ، والشك في البقاء ، فيكون مشمولا لإطلاق دليل الاستصحاب ، ويترتب على جريان الأصل في الكلي الآثار المترتبة على وجوده ، كحرمة مسّ المصحف الشريف في مثال الحدث لترتبها على عنوان المحدث.

وقد يورد على إجراء الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك بإيرادات :

الإيراد الأول : ما ذكره في الكفاية من ان الكلي موجود في ضمن فرده المردد ، وهو على أحد تقديريه مقطوع الارتفاع بالوجدان ، وعلى التقدير الآخر مقطوع العدم بالتعبد فلا شك. بيان ذلك انه لو كان الفرد المتحقق في ضمنه الكلي هو الفرد القصير فقد ارتفع قطعا ، ولو كان هو الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث والأصل عدم حدوثه فيثبت عدمه بالتعبد. اذن فالشك منتف بضميمة الوجدان إلى الأصل والتعبد.

وهذا الإيراد ـ بهذا البيان ـ واضح الدفع ـ كما في الكفاية ـ وذلك بداهة ان الشك في بقاء الكلي موجود بلا ريب ، ومنشؤه احتمال كون الحادث هو الفرد الطويل ، ونفي حدوثه تعبدا لا يرفع الشك وجدانا في بقاء الكلي بل ولا تعبدا ـ

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٧١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الواعظ الحسيني محمّد سرور : مصباح الأصول ٣ ـ ١٠٥ ـ الطبعة الأولى.

الكاظمي الشيخ محمّد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤١٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

البروجردي الشيخ محمّد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٢٢ ـ القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٦٧

كما يتضح في رد الإيراد الثاني ـ فلا اختلال في ركني الاستصحاب (١).

الإيراد الثاني : ما ذكره الشيخ (٢) رحمه‌الله وصاحب الكفاية من : ان استصحاب الكلي وان كان في حد نفسه جاريا ، لكنّه مبتلى بالحاكم عليه ، وذلك لأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، فأصالة عدم حدوث الفرد الطويل حاكمة على أصالة بقاء الكلي لحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي.

وقد دفعه في الكفاية بوجوه :

الأول : ان الشك في بقاء الكلي وارتفاعه ليس مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدم حدوثه ، بل هو مسبب عن الشك في كون الحادث هو الفرد الطويل ليترتب عليه البقاء أو الفرد القصير ليترتب عليه الارتفاع ، فان الارتفاع في الكلّي من آثار ارتفاع الفرد القصير لا من آثار عدم حدوث الفرد الطّويل. ومن الواضح انه لا أصل يعين كيفية الحادث لعدم الحالة السابقة ، وأصالة عدم حدوثه الفرد الطويل لا تعين ان الحادث هو القصير إلاّ بالملازمة.

الوجه الثاني : ان بقاء الكلي بعين بقاء الفرد الطويل لا من لوازمه ، لأن وجود الكلي بعين وجود افراده وليس له وجود منحاز عن وجود افراده.

الوجه الثالث : انه لو سلم كون بقاء الكلي مسببا عن حدوث الفرد الطويل ، فلا ينفع في الحكومة المدعاة ، إذ الحكومة تتوقف على ان يكون اللزوم والسببية شرعية ناشئة من جعل الشارع أحد الأمرين أثرا للآخر وحكما له. ومن الواضح ان الملازمة بين بقاء الكلي وحدوث الفرد لو سلمت فهي عقلية لا شرعية ، فلا تصحح دعوى الحكومة (٣).

__________________

(١) (٣) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٧١ ـ الطبعة الأولى.

١٦٨

وقد زاد المحقق النائيني وجها رابعا وهو : ان الأصل السببي المفروض في المقام مبتلى بالمعارض. وذلك لمعارضة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث الفرد القصير ، ومع التعارض يكون الأصل المسببي جاريا لعدم نهوض ما يصلح للحكومة عليه (١).

أقول : اما الوجه الأول الّذي أفاده في الكفاية ، ويظهر أيضا من عبارة الشيخ رحمه‌الله فقد يورد عليه : بأنه يبتني على ملاحظة البقاء والارتفاع طرفي شك واحد ، فالشك في البقاء أو الارتفاع ـ فان الشك ذو طرفين ـ ، فيقال انه ناش من الشك في كون الحادث هو الفرد الطويل أو القصير ، ولكن هذا بلا ملزم ، إذ المأخوذ في الاستصحاب هو الشك في البقاء وعدمه ، فيكون الطرف الآخر هو عدم البقاء لا الارتفاع. ومن الواضح ان البقاء وعدمه يترتبان على حدوث الفرد الطويل وعدمه ، فأصالة عدم الفرد الطويل تثبت أحد طرفي. الشك وهو عدم البقاء فيلغى تعبدا.

وبالجملة : لدينا شكان تعلق أحدهما بالبقاء وعدمه ، الآخر بالارتفاع وعدمه ، وموضوع الأصل في الكلي هو الأول ، وهو محكوم لأصالة عدم حدوث الفرد الطويل.

وهذا الإيراد لا بأس به ، لكن للمنع عنه مجال وذلك ، لأن دليل الاستصحاب لم يتكفل التعبد بالبقاء بعنوانه ، وانما التعبير بذلك ورد في كلمات الأصحاب وامّا دليل الاستصحاب فهو يتكفل التعبد بالبقاء بعنوان عدم النقض ، وهو عدم رفع اليد. ومن الواضح ظهور ذلك في أخذ الشك في الارتفاع في موضوع التعبد ، لظهور الدليل في تكفله إلغاء أحد طرفي الشك وإثبات الطرف الآخر ، فموضوع الاستصحاب أخذ فيه الشك في الارتفاع لا مجرد عدم

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤١٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٦٩

البقاء فلاحظ وتدبر.

واما الوجه الثاني المذكور في الكفاية ، فقد أورد عليه : بأنه من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب ، فان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لو كانت مانعة عن استصحاب الكلي بناء على السببية ، فهي مانعة بطريق أولى على القول بالعينية ، فالإشكال على هذا القول آكد منه على القول بالسببية.

ولكن الّذي يبدو لنا عدم ورود هذا الإيراد عليه ، وانه ناش عن الغفلة عن خصوصية في كلامه ، وذلك لأنه قدس‌سره لم يدع وحدة بقاء الكلي مع حدوث الفرد الطويل والعينية بينهما ، بل ذهب إلى وحدة بقاء الكلي وبقاء فرده. ومن الواضح ان بقاء الفرد ليس من آثار الحدوث ومسبباته ، بل كل منهما تؤثر فيه علته ، وليس الحدوث علة للبقاء بلا ريب ، فأصالة عدم الحدوث لا تكون بالنسبة إلى أصالة بقاء الكلي من قبيل الأصل السببي.

واما الوجه الثالث : فهو مما لا شبهة فيه ولم يتردد فيه أحد ، وسيأتي في مباحث الأصل المثبت وحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ما له نفع في المقام.

واما الوجه الرابع الّذي أفاده المحقق النائيني قدس‌سره ، فقد أورد عليه : بان العلم الإجمالي بتحقق الفرد المردد بين القصير والطويل تارة يتحقق وكلا الفردين داخلان في محل الابتلاء. وأخرى يتحقق وأحدهما وهو الفرد القصير خارج عن محل الابتلاء.

ففي الأول يتعارض الأصلان لمنافاتهما للعلم الإجمالي ، إلاّ انه في مثل ذلك لا حاجة لاستصحاب الكلي لتنجّز الآثار الشرعية بواسطة العلم الإجمالي بلا حاجة إلى الاستصحاب.

وفي الثاني لا أثر للعلم الإجمالي لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء ، ويجري الأصل في الفرد الطويل بلا معارض لخروج الطرف الآخر عن محل

١٧٠

الابتلاء ، فيعود حديث السببية والحكومة.

فخلاصة الإشكال : انه في المورد الّذي يحتاج فيه إلى استصحاب الكلي لا معارضة بين الأصول الموضوعية. وفي المورد التي تتحقق فيه المعارضة لا يحتاج فيه إلى استصحاب الكلي ، فتدبر.

والمتحصل : ان الإيراد الثاني على استصحاب الكلي غير تام.

الإيراد الثالث : ان وجود الكلي في ضمن افراده ليس وجودا واحدا ، بل وجودات متعددة بتعدد الافراد ، فكل فرد توجد في ضمنه حصة من الكلي غير الحصة الموجودة بالفرد الآخر.

وعلى هذا الأساس أنكر استصحاب الكلي القسم الثالث على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وملخصه : ان المتيقن من وجود الكلي لا مفهومه وعنوانه ، إذ لا أثر بالنسبة إليه. ومن الواضح ان المتيقن من وجود الكلي مردد بين الطويل والقصير ، فيتأتى ما تقدم من الإشكال في استصحاب الفرد المردد ، من عدم الشك في بقاء ما هو المتيقن ، إذ المتيقن المردد غير متعلق للشك على كل تقدير ، إذ هو على أحد تقديريه مقطوع الارتفاع ، فلا يمكن ان يشار إلى الكلي الموجود سابقا ويقال انه مشكوك فعلا ، على ما تقدم بيانه ، بل الإشكال من ناحية عدم اليقين بالحدوث ـ لو سلم متأت هاهنا أيضا ، لأن وجود الكلي معلوم إجمالا ، فالعلم يتعلق بالجامع بين الوجودين فلاحظ.

نعم ، لو كان الإشكال في استصحاب الفرد المردد ما أفاده العراقي رحمه‌الله ، فلا مانع عن إجراء الاستصحاب هاهنا لتعلق اليقين والشك بما هو موضوع الأثر وهو الكلي ، فراجع تعرف (١).

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٢٤ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧١

وبالجملة : الإشكال المختار في الفرد المردد متأت هاهنا حرفا بحرف.

ويتفرع على هذا إشكال آخر وهو : ان التمسك بعموم دليل الاستصحاب في استصحاب الكلي يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه ، وذلك لأنه مع احتمال كون الكلي موجودا في ضمن الفرد القصير المتيقن الارتفاع ، لم يحرز ان نقض اليقين السابق انما هو بالشك ، بل يحتمل انه باليقين.

وقد رده المحقق العراقي : بان اليقين بارتفاع الفرد القصير انما يقتضي اليقين بانعدام الطبيعي المحفوظ في ضمنه لا الطبيعي المحفوظ في الفردين وهو الجهة المشتركة بينهما ، الّذي كان متعلقا لليقين ، فلا يحتمل انتقاض اليقين المتعلق بالجهة المشتركة باليقين بانعدام أحد الفردين (١).

وهذا الرد لا مجال له بعد ان عرفت تقريب الإشكال وان مبناه على تعلق اليقين بوجود الطبيعي المردد بين الوجودين وقد علم انتقاض أحدهما ، فهو لا يعلم ان رفع اليد عن اليقين السابق المتعلق بأحد الوجودين وإحدى الحصتين نقض له بالشك ، لاحتماله كونه الحصة هي الموجودة في ضمن الفرد القصير المتيقن ارتفاعه. وليس المستصحب مفهوم الكلي وعنوانه الجامع كي يقال انه لا يختل بزوال أحد فرديه ، فتدبر.

والّذي يتحصل : انه لا مجال للالتزام باستصحاب الكلي في هذا القسم ، ولو التزمنا بجريانه لكان اللاّزم القول بجريان استصحاب الفرد المردد ، فان الإشكال فيهما واحد فلاحظ.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٢٥ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧٢

استصحاب الكلي في الأحكام

ثم انه لو التزم بجريان استصحاب الكلي ، فقد يقال : بلزوم التفصيل بين الأحكام والموضوعات ، فيجري في الموضوعات دون الأحكام ، وذلك لأن الاستصحاب في الأحكام الشرعية يقتضي تعلق الجعل بها بأنفسها. ومن الواضح ان الكلي لا يمكن ان يتحقق من دون ان يكون متخصصا بالفصل الخاصّ ، فلا يمكن جعل الكلي بما هو كلي ، فيمتنع تعلق الجعل بكلي الحكم بما هو كلي. وجعل الكلي متخصصا بخصوصية خاصة لا يتكفله دليل الاستصحاب.

وعليه ، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب عند دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب.

واما في الموضوعات ، فبما انها لا تقبل الجعل الشرعي ، بل المجعول هو الأثر المترتب عليها ، فلا محذور في إجراء الاستصحاب في الموضوع الكلي إذا كان موردا للأثر الشرعي الخاصّ ، ويكون التعبد في الحقيقة بأثره لا بنفسه ، فلا يرد الإشكال الوارد في استصحاب كلي الحكم.

ولا يخفى ان هذا البيان لا يختص بهذا القسم من استصحاب الكلي.

ثم انه يصلح إيراد على صاحب الكفاية ، لأن عنوان كلامه هو استصحاب الكلي في الأحكام ، وعطف عليه في آخر كلامه استصحابه في الموضوعات. وقد أجيب عنه في كلمات بعض المحققين (١) ، وملخصه : ان المنشأ في الوجوب والاستحباب واحد وهو الطلب والبعث بداعي جعل الداعي ، وليست خصوصية الندب أو الوجوب مقومة للمنشإ والمجعول ، وانما هي تنتزع عن مبدإ الحكم المجعول ، فإذا كانت المصلحة لزومية ثبت الوجوب وإذا كانت المصلحة

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٧٩ ـ الطبعة الأولى.

١٧٣

غير لزومية ثبت الندب ، فالفرق بينهما في المبدأ.

ولا يخفى ان هذه الجهة المميزة انما هي بالنسبة إلى الأحكام الواقعية لأنها هي التي تنشأ عن المصالح في المتعلقات ، واما بالنسبة إلى الحكم الظاهري فهو لا ينشأ عن مصلحة واقعية بل عن مصلحة في نفسه.

وعليه ، فلا مانع من إنشاء الطلب ظاهرا بلا ان يثبت له عنوان الوجوب والاستحباب ، فالجامع بين الوجوب والاستحباب قابل للجعل ظاهرا ، لما عرفت من ان خصوصية الوجوب والاستحباب لا ترتبط بالمنشإ بل في مرحلة المبدأ ، والمنشأ فيهما واحد. فتدبر.

هذا تمام الكلام في هذا القسم من استصحاب الكلي.

الشبهة العبائية

ويبقى هنا بحث قد آثاره المرحوم المحقق السيد إسماعيل الصدر رحمه‌الله عرف على الألسنة وفي العبارات بـ : « الشبهة العبائية ».

وملخص هذه الشبهة ـ بعد الالتزام بعدم انفعال ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة للنجاسة ـ : انه لو فرض انه قد تنجس جانب من عباءة لا يعرف بعينه بل كان مرددا بين الأعلى والأسفل ، ثم طهر الأعلى ـ مثلا ـ فلاقى جسم الإنسان الجانب الآخر وهو الأسفل ، فانه لا يحكم بنجاسة الجسم لعدم العلم بنجاسة الجانب الأسفل ، والمفروض ان ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة لا تستلزم الانفعال. واما لو لاقى الجسم تمام العباءة بجانبيها ، فان مقتضى استصحاب بقاء النجاسة في العباءة هو الحكم بنجاسة الجسم ، ومثل هذا الحكم غريب ، إذ بعد عدم الحكم بالنجاسة عند ملاقاته للجانب غير المطهر ، فكيف يحكم بنجاسته إذا انضم إليها ملاقاة الجانب المطهر؟ لوضوح عدم تأثير ملاقاة الطاهر في الانفعال ضرورة. وبعبارة أخرى : يلزم الحكم بنجاسة ملاقي

١٧٤

مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة.

والمحصل : ان استصحاب الكلي هاهنا يستلزم حكما غريبا لا يمكن البناء عليه.

وقد تصدى الاعلام ( قدس الله سرهم ) إلى دفع هذه الشبهة.

وقد ورد في كلمات المحقق النائيني وجهان :

الوجه الأول : ما جاء في أجود التقريرات من عدم جريان استصحاب النجاسة في المثال لإثبات نجاسة الملاقي ، لعدم ترتب أثر شرعي عليها ، وذلك لأن نجاسة الملاقي تترتب على امرين :

أحدهما : إحراز الملاقاة. والآخر : إحراز نجاسة الملاقي ـ بالفتح ـ ومن المعلوم ان استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الّذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي (١).

الوجه الثاني : ما جاء في تقريرات الكاظمي من ان محل الكلام في استصحاب الكلي ما إذا كان المتيقن السابق بحقيقته وهويته مرددا بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، واما إذا كان الإجمال في محل المتيقن وموضوعه فلا يكون استصحابه من استصحاب الكلي ، بل يكون كاستصحاب الفرد المردد ، كما لو علم بوجود الحيوان الخاصّ في الدار وتردد بين ان يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ، ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان بانهدامه لاحتمال ان يكون في الجانب المنهدم ، وكما لو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل ان يكون الضائع هو درهم زيد ، فانه لا يجري الاستصحاب في المثالين ، لأن المتيقن أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وانما الترديد في محله وموضوعه ، فهو أشبه

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٣٩٥ ـ الطبعة الأولى.

١٧٥

باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد. وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى ، فان التردد في النجاسة بلحاظ محلها لا حقيقتها ، فتدبر (١).

أقول : تحقيق الكلام في حال هذه الشبهة ـ لو سلمت انها شبهة مستلزمة لمحذور فقهي ، فان للتأمل في ذلك مجالا واسعا ـ ان اسناد النجاسة إلى العباءة اسناد مسامحي ، فان تمام العباءة ليس متنجسا وانما أحد طرفيها ، فالفرد المتنجس مردد بين فردين.

وعليه ، فيرد على جريان الاستصحاب في النجاسة في المثال وجهان :

الأول : انه من استصحاب الفرد المردد ، وذلك لأن الأثر الشرعي في باب الانفعال المأخوذ في موضوعه النجس مترتب على النجس بنحو العموم الاستغراقي ، فالموضوع هو كل فرد من افراد النجس ، وليس هو مترتبا على كلي النجس ، فالمستصحب في المثال هو الفرد الواقعي للمتنجس المردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، ولا معنى لاستصحاب كلي المتنجس لإثبات الانفعال. وقد عرفت ان استصحاب الفرد المردد لا مجال له.

ولعل ما ذكرناه هو مراد المحقق النائيني رحمه‌الله في وجهه الثاني وان لم يكن صريحا فيه فتدبر.

واما ما ذكره من مثال الدرهم الضائع ، فلم يتضح لنا وجهه ، إذ أي أثر لجريان الاستصحاب في مورد الضياع حتى يبحث فيه ، إذ هو لا يخرج عن الملكية بالضياع كما لا تجوز المطالبة به لعدم القدرة على تسليمه بعد اشتباهه بغيره واحتمال ضياعه. نعم لو مثل له بالتلف كان استصحاب بقائه وعدم تلفه مؤثرا في بقاء الملكية لزوال الملكية بالتلف. فتدبر والأمر سهل.

الوجه الثاني : انه لو سلم جريان الأصل في الفرد المردد في نفسه أو

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول ٤ ـ ٤٢٢ ـ طبعة ـ مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧٦

جريانه في كلي النجس الموجود ، فلا ينفع في ترتب الانفعال ، إذ الانفعال مترتب على ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة ، فموضوع التنجيس هو كون الملاقى نجس ، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس ـ بنحو الكلي أو الفرد المردد ـ إلا بالملازمة ، فهو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض لا ثبات كرية الماء الموجود فيه ، فاستصحاب بقاء النجس لا يثبت نجاسة الموجود الملاقى إلا على القول بالأصل المثبت.

وما ذكره المحقق النائيني في الوجه الأول يمكن ان يكون المقصود به ذلك ، ويمكن ان يكون المقصود به ان موضوع الانفعال هو ملاقاة النجس بحيث تتحقق إضافة الملاقاة إلى النجس ، وهذا المعنى لا يثبت باستصحاب بقاء النجس ، وهو الإشكال الوارد في جميع موارد الموضوعات المأخوذة في متعلق فعل المكلف المحكوم بالحكم الشرعي ، كالخمر في حرمة شرب الخمر ، فان استصحاب خمرية شيء لا يثبت ان شربه شرب خمر إلاّ بالأصل المثبت وهكذا. وقد أجيب عنه بجواب جامع محصله دعوى أخذ خصوصية الموضوع بنحو التركيب لا التقييد ، فلا يكون الأصل مثبتا لترتب الأثر على الاستصحاب بضميمته إلى الوجدان.

فما أفاده قدس‌سره يتجه لو كان المراد به ما ذكرناه من ان الاستصحاب لا ينفع في إثبات موضوع الانفعال ، لا انه لا ينفع في تحقق الإضافة إلى النجس المأخوذة في الانفعال.

كما انه يمكن ان يراد بما جاء في تقريرات العراقي (١) في مقام دفع الشبهة ما ذكرناه ، ولذا صح التفصيل بين استصحاب وجود النجاسة لأجل عدم جواز الدخول في الصلاة فيجري ، وبين استصحابه لأجل نجاسة الملاقي فلا

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٣١ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧٧

يجري ، لأن عدم جواز الدخول في الصلاة مترتب على وجود النجس بمفاد كان التامة.

ولو كان مراده ما يظهر من صدر عبارته ـ من ان النجاسة من العوارض الطارئة على الموجودات الخارجية لا على الطبائع الصرفة. فهي لا تقبل العروض إلا على الموجود الخارجي المعين دون القدر الجامع فاستصحاب نجاسة القطعة الشخصية المرددة ، من استصحاب الفرد المردد ـ لأشكل الأمر في استصحاب وجود النجاسة لأجل المنع عن الدخول في الصلاة ، وذلك لأن المستصحب ان كان هو النجاسة العارضة على الطبيعي فهو مما يمنع منه. وان كان هو النجاسة العارضة على الفرد ، فالمفروض انه فرد مردد ، فيكون استصحابها من استصحاب الفرد المردد فلاحظ.

فالعمدة هو ما بيناه من كون الاستصحاب مثبتا.

هذا ولكن يمكن تقريب الاستصحاب بنحو لا يكون مثبتا ، بان يقال :

إنا نعلم بملاقاة البدن لجميع اجزاء العباءة ، فنحن نعلم بأنه لاقى ذلك الطرف الّذي كان نجسا ، لكن نشك انه نجس حين الملاقاة أو لا ، فنستصحب بقاء نجاسته ، فتثبت ـ بالاستصحاب ـ ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة ويترتب الانفعال حينئذ.

نعم يبقى الإشكال كونه من استصحاب الفرد المردد ، لتردد المتصف بالنجاسة بين تقديرين يقطع على أحدهما بزوال المستصحب وهو النجاسة ، فلا شك بما هو المتيقن على كل تقدير.

فالمتحصل : ان اندفاع الشبهة العبائية ينحصر بكون استصحاب النجاسة من استصحاب الفرد المردد. وهو لا يجري على ما تقدم بيانه. اذن فما أفاده السيد الصدر رحمه‌الله لا يصلح إشكالا في جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي. فتدبر.

١٧٨

واما القسم الثالث : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم علم بزوال ذلك الفرد وشك في بقاء الكلي لاحتمال حدوث فرد آخر مقارن لزوال ذلك الفرد نظير ما لو علم بوجود الإنسان في الدار لوجود زيد فيها ، ثم علم بخروج زيد من الدار واحتمل دخول عمرو فيها مقارنا لخروج زيد.

وهذا لا يمكن ان يكون مجرى الاستصحاب ، لأن الوجود المتيقن للكلي قد علم بارتفاعه والمشكوك هو وجود آخر غير الوجود الأول لأن وجود الكلي يتعدد بتعدد افراده فالشك في الحقيقة ليس شكا في بقاء ما هو المتيقن ، بل في الحدوث ، ومثله غير مجري للاستصحاب. وهذا مما لا إشكال فيه.

نعم استثنى من ذلك ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه يعد من مراتب الفرد المعلوم الزوال ، كما إذا كان الكلي من المقولات التشكيكية كالألوان القابلة للشدة والضعف ، فمثلا لو علم بثبوت كلي السواد في ثوب. لاتصافه بمرتبة شديدة منه ، ثم علم بزوال تلك المرتبة الشديدة وشك في تبدلها إلى مرتبة ضعيفة منه ، أو زوالها بالمرة وحدوث لون آخر ، أمكن إجراء الاستصحاب في كلي السواد.

والسر في ذلك : ان المرتبة الضعيفة التي يتبدل إليها الفرد المتيقن ليست فردا مغايرا للأول بنظر العرف ـ بل بالدقة على ما قيل ـ ، فيكون ثبوتها بقاء للكلي ، فالشك فيها شك في البقاء والارتفاع فيكون من موارد الاستصحاب وهذا الاستثناء مما نبه عليه الشيخ رحمه‌الله (١).

ويظهر من الكفاية موافقته عليه كبرويا ، وان أوقع الكلام فيه صغرويا ، فقد تحدث عن ان الوجوب والاستصحاب كذلك أو لا؟ وذهب إلى الثاني ببيان : ان الاستحباب وان كان مرتبة ضعيفة من الطلب واختلافه مع الوجوب من جهة شدة الطلب وضعفه ، إلا أنه عرفا يعد فردا للحكم مغايرا للوجوب بنظر العرف ،

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ٣٧٢ ـ الطبعة الأولى.

١٧٩

فمع العلم بزوال الوجوب والشك في تبدله إلى الاستحباب لا يمكن إجراء الاستصحاب في كلي الطلب ، لأن المدار في باب الاستصحاب على النّظر العرفي لا الدّقي (١).

وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بما ملخصه : ان التغاير بين الوجوب والاستحباب ليس بالشدة والضعف كما قيل ، فان الوجوب والاستحباب من الأمور الاعتبارية التي توجد بإنشاء مفاهيمها وتتحقق بالاعتبار. ومن الواضح ان الاعتبار لا يقبل الشدة والضعف.

نعم ، يتفاوت الوجوب والاستحباب في الشدة والضعف بلحاظ مبدئهما وهو الإرادة ، فانها قابلة للشدة والضعف ، لكن مجرى الاستصحاب ليس هو الإرادة بل هو الحكم الشرعي وهو كلي الطلب ، وقد عرفت انه لا يقبل الشدة والضعف لأنه من الأمور الاعتبارية ، فالوجوب والاستحباب كما هما متغايران عرفا كذلك هما متغايران دقة وعقلا ، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب مع العلم بزوال الوجوب والشك في حدوث الاستحباب أو غيره من الأحكام. فتدبر جيدا (٢).

واما القسم الرابع : فهو ما إذا علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على واحد ، فزال أحدهما قهرا وشك في بقاء الكلي للشك في ان العنوان الآخر نفس العنوان الزائل وجودا أو لا. كما إذا علم بوجود القرشي في الدار وعلم أيضا بوجود العالم ، وشك في ان العالم عين القرشي أو غيره ، ثم علم بزوال العالم ، فانه يشك في بقاء القرشي في الدار لاحتمال انه نفس العالم فيكون قد خرج أو غيره فهو باق بعد.

ويمثل له بما إذا كان متطهرا ثم توضأ وأحدث وشك في أن وضوءه بعد

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٧٨ ـ الطبعة الأولى.

١٨٠