منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

غيره (١) في هذا الإيراد غير تام ، لما عرفت من كون نظر صاحب الكفاية إلى نفس المجعول وشرائطه. وان شرطية شرط المجعول غير مجعولة ، بل هي تابعة لخصوصية واقعية ان كانت موجودة ، كان الشيء شرطا وان لم يتقيد به المجعول في مقام الجعل ، وان لم تكن موجودة لم يكن شرطا وان تقيد به في مقام الجعل ، لعدم امتناع تحقق التكليف الفعلي بأي معنى من معانيه بدونه حينئذ.

ويزيدك وضوحا ملاحظة شرطية القدرة للتكليف ، فانها شرط عقلي يمتنع التكليف بدونه للغويته.

ولم يخطر في ذهن أحد أن شرطية القدرة تابعة للجعل وكيفيته ، إذ هي شرط مع كون الجعل مطلقا من ناحيتها. فكما تكون شرطية القدرة منتزعة عن جهة واقعية ، فكذلك نقول في سائر الشرائط المذكورة في

لسان الشارع ، فإنها شرط واقعي للتكليف بملاحظة تقيد الشارع بمقتضى الحكمة والمصلحة وعدم خروجه عنهما. فتدبر جيدا.

واما النحو الثاني ـ وهو ما امتنع جعله مستقلا وجعل تبعا ـ : فقد جعل من مصاديقه الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه ، كجزئية السورة للصلاة وشرطية الطهارة لها ، ومانعية النجاسة وقاطعة الاستدبار ، فانها مجعولة بالتبع. وبعبارة أخرى : انها منتزعة عن التكليف المتعلق بالعمل.

وقد أوضح ذلك : ان الجزئية ذات مراتب ثلاث :

الأولى : الجزئية بلحاظ الوفاء بالغرض ، وذلك بان يكون غرض واحد مترتبا على مجموع أمور ، فيكون كل واحد منها جزء ما يفي بالغرض ، وتكون جهة الوحدة الجامعة بين الأمور المتباينة هي الوفاء بالغرض.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٨١ ـ الطبعة الأولى.

١٤١

الثانية : الجزئية بلحاظ تعلق اللحاظ ، بان يتعلق لحاظ واحد بمجموع أمور ، فان كل واحد منها جزء الملحوظ ومجموعها هو الكل.

الثالثة : الجزئية بلحاظ مقام الأمر والتكليف ، وذلك بان يتعلق امر واحد بعدة أمور ، فيكون كل منها بعض المأمور به وجزئه.

ولا يخفى ان الجزئية لا تنتزع مع قطع النّظر عن الأمر ، إذ هذه الأمور متباينة لا ربط بينها ولا جهة وحدة. اما بعد تعلق الأمر بها فهو جهة وحدة تصحح انتزاع الجزئية لكل واحد منها ، فليست الجزئية للمأمور به امرا واقعيا ثابتا مع قطع النّظر عن الأمر ، بل هي متفرعة عن تعلق الأمر بالأمور المتكثرة بحيث تربط بينها وتوحدها جهة تعلق الأمر بها (١).

وهذا الالتزام من صاحب الكفاية وقع موقع القبول من الاعلام ، إلاّ ان المحقق العراقي خالفه في الشرطية ، فذهب إلى : ان الشرطية تنتزع في مرحلة سابقة عن تعلق الأمر ، وذلك لأن الشرطية الثابتة للشرط انما هي فرع إضافته إلى المشروط وتقيده به ، فيكون شرطا لحصول المقيد به ، ومن الواضح ان جهة التقيد والإضافة سابقة عن تعلق الأمر ، ولا تتوقف على الأمر ، بل هي معروضة للأمر ، إذ الأمر بالمقيد فرع أخذ التقيد في متعلق الأمر ، وهذا يقتضي سبق التقيد على الأمر.

نعم ، كون الشيء شرطا للمأمور به يتوقف على الأمر ، لا ان أصل شرطيته متوقفة على الأمر ، نظير مقدمة الواجب ، فان أصل المقدمية لا يتوقف على التكليف ، ولكن عنوان : « المقدمية للواجب » لا يكون إلاّ بعد ثبوت الوجوب.

ولكن هذا غير ما نحن بصدده ، فان البحث عن توقف أصل الجزئية

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤٢

والشرطية على الأمر. وهذا وان تم في الجزئية ، لأنها تنتزع عن جهة الوحدة ، وهي في المأمور به ليس إلاّ الأمر وكونه متعلقا له ، فبعد تعلقه بذوات الاجزاء ينتزع عنه عنوان الجزئية لها. ولكنه لا يتم في الشرطية ، لأنها تنتزع عن جهة تقيد العمل بالشرط وإضافته له ، وهذا غير منوط بالأمر ، بل عرفت انه سابق على الأمر لأنه مأخوذ في موضوعه. فمثلا الصلاة المشروطة بالطهارة يتعلق بها الأمر ، ولا يخفى ان كون الطهارة شرطا انتزع عن تقيد الصلاة بها ، وهو سابق على الأمر. نعم كونها شرطا للواجب ينتزع عن الأمر كما عرفت لا أصل الشرطية. مثل : « إكرام العالم الواجب الاحترام » ، فان كونه إكراما للعالم لا يرتبط بالأمر ووجوب احترام العالم ، بل هو امر ثابت في حد نفسه ، لكن كونه إكراما لمن يجب احترامه ينتزع عن الأمر باحترام العالم. فتدبر (١).

هذا ما أفاده العراقي قدس‌سره ـ ببعض توضيح منا وتلخيص ـ وهو كلام متين يزداد لدينا وضوحا كلما ازددنا فيه تأملا وتفكرا.

هذا ، ولكن لا يخفى انّه ـ على متانته ـ لا أثر له فيما هو المهم فيما نحن فيه. وتوضيح ذلك : ان الكلام فيكون الأحكام الوضعيّة كالجزئية مجعولة وعدم كونها مجعولة ، انما هو بلحاظ صحة جريان الأصل فيها وعدم صحته.

وقد أشير في الكفاية إلى صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما يكون مجعولا بالتبع ، ببيان : انه لا يعتبر في مجرى الأصل سوى كون امره بيد الشارع يتمكن من وضعه ورفعه ولو بتبع امر آخر ، والجزئية للمأمور به كذلك ، فانها مجعولة يتبع جعل الأمر ، فيصح ان تكون مجرى الأصل ، ولا يمنع منه عدم تسمية الجزئية حكما شرعيا ، إذ لا يعتبر ذلك في مجرى الأصل ، بل المعتبر ما عرفت من كونه بيد الشارع وهو كذلك.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٩١ ـ ٩٢ ـ القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٤٣

واما ما كان دخيلا في التكليف ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لعدم كونه بيد الشارع ولو بالتبع كما عرفت ، ولا يترتب عليه شرعا حكم شرعي ، إذ التكليف وان كان مترتبا عليه إلاّ انه ليس بترتب شرعي. هذا ما أفيد في الكفاية (١).

ولكن الحق انه لا مجال لجريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما كان منتزعا عن التكليف ومجعولا بالتبع ، لأن وصول النوبة إلى إجراء الأصل في الجزئية وجودا أو عدما انما هو فيما إذا لم يكن منشأ انتزاعهما ـ وهو الأمر النفسيّ المتعلق بالكل ـ مجرى للأصل ، لقصور في المقتضي أو لوجود المانع ، كما في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر وعدم انحلال العلم الإجمالي فيه ، كما هو مبنى صاحب الكفاية ، إذ أصالة عدم الأمر بالأكثر معارضة بأصالة عدم الأمر بالأقل. واما مع إمكان جريان الأصل فيه ، فلا مجال للأصل في الجزئية.

وعليه ، فنقول : ان الأمر الانتزاعي حيث انه لا وجود له الا في ضمن منشأ انتزاعه ولا مطابق له خارجا سواه ، وإلاّ فهو أشبه بالفرض ، فلا يقبل الجعل وجودا وعدما إلاّ بلحاظ تعلق الجعل وعدمه بمنشإ انتزاعه ، والمفروض انه ـ أي منشأ الانتزاع ـ لا يصح ان يكون مجرى للأصل وللتعبد.

وإلاّ استغني بالتعبد به عن التعبد بما ينتزع عنه.

هذا إذا كان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن.

واما إذا كان مفاده هو معاملته البقاء من دون تقيّد للتعبد به ، بل هو إرشاد اما إلى التعبد به كما لو كان حكما ، أو إلى التعبد بأثره كما لو كان موضوعا ، فقد يقال انه يشمل الجزئية ويكون مقتضاه وقوع التعبد بما يلازمها ، وهو منشأ انتزاعها.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤٤

لكن نقول : ان الأصول العملية لا يصح ان تجري الا فيما ترتب على جريانها أثر عملي بحيث تنفع المكلف في مقام عمله.

ولا يخفى انه لا ثمرة عملية تترتب على جعل الجزئية ـ بما هي ـ وجودا وعدما. وانما الأثر العملي العقلي يترتب على الأمر النفسيّ المتعلق بالمجموع ، وهو منشأ انتزاع الجزئية ، فانه يختلف حكم العمل باختلاف سعة دائرة شموله وضيقها.

اما الجزئية ـ بعنوانها ـ ، فلا أثر يترتب عليها أصلا ، فلا مجال لجريان الأصل فيها وان فرض كونها مستقلة في الوجود عن منشأ انتزاعها. وبعبارة أخرى : ان الأثر العملي لا يرتبط بها بأي ارتباط كي يكون ترتبه إبقاء لها عملا فلا يشملها الأمر بالإبقاء عملا ، وليس الأمر في الموضوع الشرعي كذلك ، فان ما يترتب على الحكم من أثر يعد إبقاء له عملا كما هو واضح.

وإذا عرفت ذلك ، يظهر انه لا قيمة ـ بلحاظ ما هو المهم فيما نحن فيه ـ في إثبات كون الشرطية انتزاعية كالجزئية ومجعولة بالتبع مثلها ، أو واقعية غير مجعولة ، لأنها على كلا التقديرين لا تكون مجرى للأصل.

واما ما هو الدخيل في التكليف كالسببية ، فهو مما لا مجال لجريان الأصل فيه أيضا ، سواء كان مجعولا أو غير مجعول ، وذلك لأن الشك فيه اما حدوثا بان يشك بان هذا سبب يتوقف على حدوثه حدوث التكليف ، بحيث إذا نفينا سببيته ثبت التكليف قبل تحققه لعدم ارتباطه به ، كما لو شك بان وجوب الظهر منوط بالزوال أو لا. واما بقاء بان يشك في إناطة التكليف به بقاء ، بحيث إذا نفينا سببية بقاء يبقى التكليف كما لو شك بعد زوال العلم عن العالم في ان عنوان العالم موضوع للتكليف حدوثا أو حدوثا وبقاء.

اما الأول : فلا مجال لجريان حديث الرفع لمنافاته للامتنان.

واما الاستصحاب ، فهو وان لم يكن فيه محذور من هذه الجهة ، لكنه لا

١٤٥

أثر له عملي ، فالمرجع هو استصحاب عدم التكليف قبل حدوث السبب المشكوك ، أو أصالة البراءة منه.

واما الثاني : فاستصحاب السببية لا أثر له عملا كما عرفت ، إذ الأثر العملي يترتب على نفس التكليف المنوط بالسبب. فالمتعين إجراء الأصل في منشأ انتزاعه لو كان جاريا في حد نفسه.

والّذي يتلخص : انّ البحث عن مجعولية السببية وعدمها ، وهكذا الجزئية مما لا قيمة له من الناحية العملية التي نتوخاها في باب الاستصحاب. نعم هو بحث علمي يترتب عليه فائدة علمية.

واما النحو الثالث ـ وهو ما جعل استقلالا وان أمكن جعله تبعا ـ : فقد جعل من مصاديقه الحجية والقضاوة والحرية والملكية والزوجية ، وقد التزم بأنها مجعولة بالاستقلال كالتكليف ، وليست منتزعة عنه ـ كما يراه. الشيخ (١) رحمه‌الله ـ.

وقد استدل على ذلك بوجوه عديدة :

الأول : انه من الضروري صحة انتزاع الملكية بمجرد تحقق العقد ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة ترتب التكاليف والآثار ، بل مع الغفلة عن ذلك ، مثل هذا لا يصح لو كانت أمورا انتزاعية عن التكليف.

الوجه الثاني : انه يلزم من كونها انتزاعية ان لا يقع ما قصد ويقع ما لم يقصد ، وهو مناف لتبعية العقود للقصود. بيان ذلك : ان المنشئ للبيع ـ مثلا ـ يقصد بإنشائه وقوع التمليك لا أمرا آخر ، فإذا لم تترتب الملكية اعتبارا على قصده ، بل ترتب التكليف الّذي ينتزع عنه الملكية ، كان هذا مستلزما لوقوع ما لم يقصد وقصد ما لم يقع.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٥١ ـ الطبعة الأولى.

١٤٦

الوجه الثالث : انه لا يصح دعوى ان الملكية منتزعة عن جواز التصرف بالمال الثبوت الجواز مع عدم الملكية قطعا ، كما في الولي على المال أو المأذون بالتصرف.

وهذه الوجوه ذكرها في الكفاية (١).

الوجه الرابع : انه ليس في الأحكام الوضعيّة ما يختص بحكم تكليفي لا يشاركه فيه غيره ، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى : ان الحكم الوضعي ينتزع عن جملة من الأحكام التكليفية التي بجملتها تختص به. كما ترى ، مع ان هذا أيضا لا يمكن في بعض المقامات ، فان الحجية والطريقية من الأحكام الوضعيّة التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجية منه. وهذا الوجه ذكره المحقق النائيني (٢).

الوجه الخامس : ما ذكره المحقق العراقي من ان ظواهر الأدلة لا تساعد على دعوى الانتزاع ، لأنه قد أخذت فيها هذه الأمور الوضعيّة موضوعا للأحكام التكليفية ، مثل ما دل على حرمة التصرف بمال الغير بغير طيب نفسه (٣) ، وما دل على سلطنة الناس على أموالهم (٤). وهذا يقتضى كون الإضافة في مرتبة سابقة على الحكم فكيف يكون الحكم منشأ لانتزاعها (٥).

أقول : البحث في مجعوليّة هذه الأمور ..

تارة : ينظر فيه مقام الإثبات ، بحيث تكون معقولية تعلق الجعل الاستقلالي بها مفروغا عنها ولا كلام فيها وانما الكلام في الدليل عليه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٨٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) وسائل الشيعة ٣ ـ ٤٢٤ باب ٣ من أبواب مكان المصلي حديث ١.

(٤) عوالي اللئالي ١ ـ ٢٢٢ ح ٩٩.

(٥) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٠٣ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٤٧

وهذا ما نهجه الاعلام ( قدس الله سرهم ) ، فان الّذي يظهر منهم المفروغية عن الإمكان الثبوتي ، وركزوا البحث على مقام الإثبات.

وقد عرفت مجموع الوجوه التي ذكرت بهذا الصدد ، وهي بمجموعها توجب حصول الاطمئنان بتعلق الجعل الاستقلالي بهذه الأمور ، وان أمكن البحث في كل وجه وجه إذا بنينا على التدقيق.

وأخرى : ينظر فيه مقام الثبوت ، وانه هل يعقل تعلق الجعل الاستقلالي بهذه الأمور أو لا؟.

وهذا ما لم يتعرض إليه الأعلام ولم يشيروا إليه بقليل ولا كثير ، بل فرضوا الإمكان مفروغا عنه ـ كما عرفت ـ.

لكن يجول في الذهن من القديم إشكال ثبوتي ومحصله : ان تعلق الاعتبار العقلائي أو الشرعي بأمر انما هو لأجل ترتيب الآثار العقلائية أو الشرعية ، وإلاّ فهو بنفسه بلا ملاحظة أثر عملي لغو لا يصدر من العاقل الحكيم.

وعليه ، نقول : انه حين اعتبار الملكية عند تحقق سببها كعقد البيع ، اما ان يتعلق اعتبار آخر بآثارها التكليفية كجواز التصرف بالمال وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه وغير ذلك ، أو لا يتعلق اعتبار آخر بآثارها.

فعلى الأول : يكون اعتبار الملكية مما لا حاجة إليه ، إذ يمكن تعلق الاعتبار رأسا بالاحكام التكليفية عند حصول العقد بلا حاجة إلى توسيط اعتبار الملكية.

وعلى الثاني : يلزم ان لا يترتب أي أثر تكليفي على اعتبار الملكية ، إذ الأحكام التكليفية لا تترتب قهرا من دون اعتبار.

فيكون جعل الملكية لغوا على كلا التقديرين ، والإشكال هاهنا نظير ما تقدم من الإشكال في تعلق الجعل الاستقلالي بالسببية.

ومحصله : ان اعتبار الأمر الوضعي لا يغني بنفسه عن اعتبار الحكم

١٤٨

التكليفي المفروض ترتبه عليه ، ومع اعتبار الحكم التكليفي لا حاجة إلى جعل الحكم الوضعي.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال : بان الملكية والزوجية ونحوهما ليست من المجعولات الشرعية التأسيسية ، بل هي من المجعولات الإمضائية ، بمعنى انها مجعولة لدى العقلاء والشارع أمضى اعتبارهم.

ومن الواضح انه ليس لدى العقلاء أحكام تكليفية من وجوب وتحريم ، بل ليس لديهم الا الحكم بالحسن والقبح ، وهما يتفرعان على الظلم وعدمه ، والظلم لديهم هو التعدي عن الحقوق الثابتة لديهم. وعليه فقبح التصرف بالمال لديهم وحسنة يتفرعان على ان يكون التصرف تعديا عن الحق وعدم كونه كذلك ، هذا يتوقف على اعتبار ملكية المتصرف وعدمها.

وكيف كان ، فليس لديهم اعتباران ومجعولان ، بل لديهم اعتبار واحد يتعلق بالملكية ويترتب عليه حكمهم بالحسن والقبح. واعتبارهم للملكية لأجل تحقيق موضوع التحسين والتقبيح ، هذا شأن العقلاء.

واما الشارع ، فهو قد أقر العقلاء على اعتبارهم الملكية وليس لديه جعل جديد ، ورتب على ذلك أحكاما تكليفية من وجوب وحرمة وغيرهما نسبتها إلى الملكية نسبة الحسن والقبح اللذين يحكم بهما العقلاء ، فالملكية العقلائية التي أقرها الشارع هي موضوع أحكامه التكليفية ودخيلة في تحققها بعد وفي مثل ذلك لا محذور من لغوية أو غيرها.

اذن ، فلا مانع من الالتزام بمجعولية مثل الملكية بعد ان كان مقام الإثبات يساعد عليه.

ثم انه وقع الكلام في بعض الأمور الوضعيّة ، وانها مجعولة أو ليست بمجعولة كالصحة والفساد ، والطهارة والنجاسة ، ولا بأس بالتكلم عنها بنحو مختصر ، فنقول :

١٤٩

اما الصحة والفساد فقد تقدم البحث عن تعلق الجعل بهما في مبحث اقتضاء النهي الفساد بنحو مفصل فلا نعيد.

واما الطهارة والنجاسة ، فقد ذهب بعض إلى انهما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع.

ولكن الصحيح خلافه ، وذلك لأن مرجع هذه الدعوى إلى كون الطهارة والنجاسة هي الاستقذار العرفي وعدمه ، لا انهما موجودان بوجود واقعي مع قطع النّظر عن النّظر العرفي إذ الاستقذار امر عرفي ، ولذا قد تختلف فيه الطبائع.

وعليه ، نقول : ان من النجاسات شرعا ما يقطع بعدم جهة واقعية فيه بحيث يختلف واقعا بلحاظ حالتي طهارته ونجاسته ، كالكافر ، فانه من المقطوع ان إظهار الشهادتين ليس له دخل واقعي في جسم الكافر بحيث يصير طاهرا به بعد ان كان نجسا وأوضح من هذا مثالا ابن الكافر الّذي ينجس ويطهر بتبعية أبيه ، مع انه من المعلوم عدم تأثير إسلام أبيه وكفره في بدنه. كما ان من الأجسام الطاهرة ما هو قذر جزما كلعاب الفم وماء الأنف وغير ذلك. اذن فبين ما هو قذر عرفا وليس بقذر ، وما هو قذر شرعا وليس بقذر ، عموم من وجه ، فلا يمكن ان يقال ان الطهارة والنجاسة أمران واقعيان كشف عنهما الشارع ، بل هما اعتباريان يتعلق بهما الجعل ويترتب عليهما أحكام شرعية.

١٥٠

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول : في جريان الاستصحاب في مؤدى الأمارات.

وهذا التنبيه انفرد به صاحب الكفاية عمن قبله ، ومنشأ الإشكال في إجراء الاستصحاب فيما قامت الأمارة على حدوثه هو : ان ظاهر دليل الاستصحاب هو اعتبار اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، والحكم الواقعي الّذي قامت عليه الأمارة لا يقين به ، فمع الشك في بقائه لا يمكن استصحابه لاختلال أحد ركني الاستصحاب. مثلا لو قامت الأمارة على وجوب احترام زيد وشك في ان وجوب احترامه مستمر إلى ثلاثة أيام أو هو ثابت في يومين. فقط ، ففي اليوم الثالث يشك في بقاء الوجوب ، والأمارة لا تصلح لا ثباته لأنها مجملة من هذه الناحية ، فليس هنا إلاّ الاستصحاب وقد عرفت الإشكال فيه.

ولا يخفى عليك ان مبنى الإشكال على عدم قيام الأمارة ـ بدليل اعتبارها ـ مقام القطع الموضوعي. وإلاّ فلا إشكال ، إذ الأثر الشرعي الثابت لليقين بالحدوث ، وهو حرمة النقض ، ثابت للأمارة بحسب الفرض ، فقيام الأمارة على الحدوث يجدي في الاستصحاب لأنها بمنزلة اليقين.

واما بناء الإشكال على عدم تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى وإنشاء أحكام ظاهرية شرعية ، بل تكفله التنجيز والتعذير لا غير ـ كما يظهر من الكفاية ـ ، فليس بسديد ، وذلك لأن الحكم الظاهري الثابت يقينا بالأمارة ارتفع يقينا بارتفاع سببه ، وهو الأمارة ، فانه منوط بقيامها ، وهي لم تقم على أكثر من زمان اليقين ، والحكم الواقعي مشكوك الحدوث بحسب الفرض. وسيأتي توضيح الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

١٥١

وبالجملة : مبنى الإشكال ما عرفت من عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي.

وقد أجيب عنه بوجوه :

الوجه الأول : ما أفاده في الكفاية من : ان دليل الاستصحاب يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث ، فنظره إلى بيان بقاء الحادث ، وان الحادث يدوم بلا خصوصية لليقين به ، بل لوحظ طريقا إلى متعلقه. وبعبارة أخرى : ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء ، وان كل ما هو حادث باق تعبدا ، فالحدوث أخذ موضوعا للتعبد بالبقاء ، واليقين لوحظ طريقا لإحراز الموضوع ، كاليقين بسائر موضوعات الأحكام ، فالمجعول هو البقاء على تقدير الحدوث واقعا.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على الحدوث كانت حجة على البقاء كما هي حجة على الحدوث ، نظير سائر الأمارات القائمة على الموضوعات ، فانها تكون حجة على الحكم المترتب عليها ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه بعد ان كان المجعول هو البقاء ظاهرا على تقدير الحدوث واقعا ، كان الحدوث الواقعي موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء ، فإذا قامت الحجة على الحدوث كانت حجة على حكمه واثره وهو البقاء الظاهري ، فتكون الأمارة مثبتة لموضوع الحكم الاستصحابي. هذا ما أفاده في الكفاية بتوضيح منا (١).

وقد أورد عليه إيرادات عديدة :

الإيراد الأول : انه لا تصل النوبة إلى هذا الكلام ، لأن دليل اعتبار الأمارة يتكفل جعل الطريقية والوصول والمحرزية ، فهو يعتبر الأمارة علما.

وعليها فيترتب عليها جميع آثار العلم العقلية والشرعية ، ومنها التعبد بالبقاء ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٢

فيندفع الإشكال بحذافيره.

وفيه : أولا : ان هذا الإيراد مبنائي لا يمكن ان يلزم به مثل صاحب الكفاية ممن لا يرى جعل الطريقية.

وقد عرفت ان أصل الإشكال في استصحاب مؤدى الأمارة مبني على عدم الالتزام بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، فتدبر.

وفيه ثانيا : انه لو التزم بجعل الطريقية والوسطية في الإثبات فلا ينفع ، وذلك لأن غاية ما يجدي هذا الالتزام هو إمكان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، وترتب جميع الآثار المترتبة على العلم ـ عقلية أو شرعية ـ عليها ، واندفاع المحذور الثبوتي في الالتزام بقيامها مقام القطع الموضوعي والطريقي بناء على جعل المؤدى الّذي تقدم البحث فيه في مباحث القطع.

ولكن مجرد إمكان ذلك ثبوتا لا ينفع ما لم يساعد عليه مقام الإثبات. وهو قاصر عن إفادة تنزيل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره أو اعتبار الأمارة علما بلحاظ مطلق آثار العلم ، إذ ليس لدينا ـ في باب خبر الواحد مثلا ـ دليل لفظي بلسان : « ان خبر الواحد علم » ونحوه من التعبيرات حتى يؤخذ بإطلاقه ، ويلتزم بترتب جميع آثار العلم عليه ، بل عمدة الأدلة هو السيرة العملية القائمة على حجية الخبر ، والقدر الثابت منه هو ترتيب آثار العلم العقلية من تنجيز وتعذير على خبر الواحد ، وليس في الأحكام العقلائية ما هو مرتب على اليقين بعنوانه كي يرى ان السيرة قائمة على معاملة خبر الواحد معاملة اليقين بالنسبة إليه أو ليست قائمة على ذلك ، ومثل ذلك النصوص التي استدل بها على حجية الخبر ـ بناء على دلالتها ـ ، فان قوله عليه‌السلام ـ في العمري وابنه ـ : « ما أديا عني فعني يؤديان » (١) ظاهر في إثبات التنجيز والتعذير لخبرهما كما لا يخفى. اذن فمن

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٩٩ باب ١١ من أبواب صفات القاضي حديث ٤.

١٥٣

ان نجزم بان الشارع قد اعتبر الأمارة علما بلحاظ جميع آثار العلم كي نلتزم بقيامها مقام القطع الموضوعي؟!.

وبالجملة : ما أفيد في هذا الوجه مضافا إلى كونه مبنائيا لا ينفع القائل بالمبنى المزبور ، فلاحظ.

الإيراد الثاني : ان الملازمة كالسببية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي ، فلا يتجه الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء.

وفيه : ان المقصود ـ كما أوضحناه ـ ليس جعل الملازمة بعنوانها ، بل هو جعل واقع الملازمة ، أعني البقاء في فرض الحدوث بحيث يكون الحدوث ملحوظا موضوعا للتعبد بالبقاء ، فالمتعبد به هو البقاء على تقدير الحدوث ، وينتزع عن ذلك جعل الملازمة ، نظير جعل كل حكم مرتب على موضوعه فانه ينتزع عنه الملازمة بين الموضوع والحكم. فتدبر.

الإيراد الثالث : ان الملازمة المجعولة واقعية ، إذ لو كانت ظاهرية كانت مترتبة على الشك ، وكان الشك مأخوذا في موضوعها ، وهو غير موجود ، لأنه مع الشك في الحدوث يمتنع الشك في البقاء بل هو متفرع على إحراز الحدوث. نعم مع الشك في الحدوث يكون الشك في البقاء تقديريا ومعلقا على الحدوث ، بمعنى انه يشك في البقاء على تقدير الحدوث ، وإذا لم تكن الملازمة ظاهرية ، بل كانت واقعية كان مقتضى ذلك ان يكون الاستصحاب ، من الأمارات كسائر الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية.

وفيه : ان الشك له وجود فعلي ، وانما التعليق في متعلقه ، فالشك فعلا ثابت ومتعلق بالبقاء على تقدير الحدوث ، فيكون التعبد بالبقاء تعبدا ظاهريا لا واقعيا.

وقد أشار المحقق الأصفهاني إلى وضوح هذا الأمر بنحو لم ير صاحب

١٥٤

الكفاية داعيا إلى بيانه (١).

وهذه الإيرادات الثلاثة على الكفاية ذكرها المحقق النائيني رحمه‌الله (٢).

الإيراد الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من : ان دليل الاستصحاب إذا كان يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث واقعا ، ففيما لو تيقن بالحدوث وشك بالبقاء وأجرى الاستصحاب ، ثم انكشف لديه ان يقينه كان جهلا مركبا ، لزم ان لا يكون هناك تعبد استصحابي حقيقة بل تخيلا ، وهذا مما لا يلتزم به. بخلاف ما لو كان الموضوع هو اليقين بالحدوث ، فانه حاصل في ظرفه وان تبدل بعد ذلك إلى غيره (٣).

أقول : ليس في الالتزام بعدم ثبوت الاستصحاب ، الا تخيلا في الصورة المزبورة أي محذور ، ولم يظهر ان الالتزام بالاستصحاب ، فيها من المسلمات التي لا تقبل الإنكار ، فليس هذا من اللوازم الباطلة التي تقتضي بطلان ملزومها ، فتدبر.

ثم انه قدس‌سره خص الإشكال بصورة ثبوت المستصحب واقعا في مرحلة البقاء. ولم نعلم وجه دخله في الإشكال ، فسواء كان المستصحب موجودا واقعا أو غير موجود يرد الإشكال المذكور من كون التعبد الاستصحابي تخيلا على مبنى صاحب الكفاية ، فلاحظ.

الإيراد الخامس : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله أيضا من : ان الاستصحاب بما انه حكم طريقي مجعول بلحاظ تنجيز الواقع ، فهو يتقوم بالوصول ، إذ قوام التنجيز بالوصول ولا يعقل تحققه بدون الوصول. وعليه فمع

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٦٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤٠٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٦٦ ـ الطبعة الأولى.

١٥٥

الجهل بموضوع الحكم بالبقاء وهو الحكم الاستصحابي لا يكون له ثبوت واقعي كي يقبل ان يقوم عليه المنجز بواسطة قيامه على الموضوع ، فالالتزام بان الأمارة القائمة على الحدوث تتكفل تنجيز الحكم الظاهري بالبقاء كما تتكفل تنجيز الحكم حدوثا ليس بسديد ، فان الحكم الّذي حقيقته التنجيز لا يقبل التنجيز بمنجز آخر (١).

وفيه : ان الملتزم في الأحكام الظاهرية ليس كون حقيقتها هو المنجزية بحيث تكون المنجزية متعلقة للجعل ابتداء ، بل هي أحكام وإنشاءات لوحظ فيها تنجيز الواقع والتحفظ على مصلحة الواقع من دون ان تكون هناك مصلحة في المؤدى ، فالتنجيز ملحوظ غاية لا انه مجعول ابتداء.

وعليه ، فعدم وصول الحكم الظاهري الطريقي وان امتنع معه تحقق التنجيز ، لكن لا يتنافى مع وجوده واقعا ، فان له واقعا محفوظا يكون موردا للعلم والجهل. وعليه فلا مانع من تنجيزه بالأمارة القائمة على موضوعه. فتدبر.

والمتحصل : ان ما وجّه من الإيرادات على صاحب الكفاية قابل للدفع بأجمعه ، وان ما ذكره صاحب الكفاية لا محذور فيه.

نعم ، يبقى سؤال واحد وهو : ان ما أفاده لا يساعده مقام الإثبات وان كان خاليا عن الإشكال في مقام الثبوت ، لأن ظاهر دليل الاستصحاب كون موضوع التعبد هو اليقين ، فكيف يلغى عن الموضوعية ويدعى ان نفس الحدوث هو الموضوع؟.

والجواب عن ذلك واضح على ما التزم به صاحب الكفاية ووافقناه عليه من ان اليقين هاهنا لوحظ مرآة لمتعلقه وان المراد به هو المتيقن ، نظير : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » في عدم كون الرؤية بما هي موضوعا. وقد أوضحناه فيما

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية ٣ ـ ٦٧ ـ الطبعة الأولى.

١٥٦

تقدم عند الكلام في صحيحة زرارة الأولى فراجع.

وعليه ، فالوجوه الأول في حل إشكال جريان الاستصحاب في مؤدى الأمارات ، وهو ما أفاده في الكفاية لا إشكال فيه ثبوتا ولا إثباتا.

الوجه الثاني : ان موضوع التعبد بالبقاء ليس هو الحدوث كما هو مبنى الوجه الأول الراجع إلى إلغاء اليقين عن الموضوعية بالمرة ، بل هو اليقين لكن لا بوصف كونه يقينا ، بل بما انه منجز للواقع وحجة عليه ، فيكون موضوع التعبد هو الحجة على الواقع ، وهي حجة جامعة بين اليقين وغيره من الحجج العقلائية والشرعية ، فإذا قامت الأمارة على الحدوث فقد تحقق موضوع التعبد بالبقاء تكوينا وهو الحجة على الواقع ، فلا مجال للإشكال.

وهذا الوجه ان تم فهو أقرب ـ إثباتا ـ من الوجه الأول ، لأن فيه تحفظا على موضوعية اليقين في الجملة ـ كما عرفت ـ وتماميته تتوقف على إقامة القرينة على إرادة اليقين بما هو حجة لا بما هو ، وهذا امر ليس ببعيد بناء على إرادة مطلق الحجة من اليقين الناقض كما قربناه في محله ، وسيأتي الكلام فيه في مبحث حكومة الأمارة على الاستصحاب إن شاء الله تعالى فانتظر.

الوجه الثالث : انه بناء على تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى ، فبقيام الأمارة يثبت حكم ظاهري ، وبما انه يحتمل كونه مطابقا للواقع. فمع انتهاء حد قيام الأمارة يحتمل بقاء الحكم فيستصحب.

وهذا الوجه غير صحيح ، وذلك لأنه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، إذ الحكم بوجوب الاحترام ـ مثلا ـ كان متيقنا في ضمن الفرد الظاهري وهو مؤدى الأمارة وهو قد زال قطعا بزوال الأمارة ، ويحتمل بقاء الكلي لاحتمال وجود الحكم الواقعي مقارنا للحكم الظاهري ، وفي مثل ذلك لا يجري استصحاب كلي الحكم كما قرر في محله.

إلاّ ان يقال : ان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين

١٥٧

الحكم الواقعي وليس فردا في قباله. نعم على تقدير مخالفته له يكون حكما مستقلا.

وعليه ، فمع احتمال المصادفة يتردد امر الحكم المتحقق بين الفرد المقطوع الارتفاع وهو الظاهري وبين الفرد المحتمل البقاء وهو الحكم الواقعي ، فيكون من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي ، والمحقق جريانه.

ويندفع ذلك بأنه يبتني على مقدمتين :

إحداهما : الالتزام بعدم جعل حكم ظاهري غير الحكم الواقعي على تقدير المصادفة ، بحيث يتكفل دليل الحجية إنشاء الحكم جدا على تقدير دون آخر.

والأخرى : وجود أثر عملي على الجامع بين الحكم الواقعي والظاهري ، كي يصح بلحاظه استصحاب الكلي.

وكلتا المقدمتين ممنوعتان :

اما الأولى ، فلأنه لا محصل لدعوى ان دليل الحجية يتكفل الإنشاء الجدي على تقدير والإنشاء غير الجدي على تقدير آخر.

واما الثانية : فلأنه لا أثر للحكم الظاهري بما هو من لزوم الامتثال وغير ذلك.

وعليه ، فلا يتصور أثر مترتب على الجامع بين الحكمين.

وإلى بعض ما ذكرناه أشار المحقق العراقي قدس‌سره (١).

والّذي يتحصل : ان المتعين في دفع الإشكال المتقدم أحد الوجهين. الأول والثاني ، واما غيرهما فليس بتام والله سبحانه العالم.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٠٨ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٥٨

التنبيه الثاني : في استصحاب الكلي.

لا يخفى انه لا يختلف الحال ـ بملاحظة دليل الاستصحاب بين كون المستصحب أمرا شخصيا جزئيا وكونه أمرا كليا ، لإطلاق دليله وعدم الموجب للتقييد. وهذا مما لا إشكال فيه كبرويا ، وانما الإشكال والكلام في بعض مصاديق استصحاب الكلي ولأجله عقد هذا التنبيه في مباحث الاستصحاب.

وقد ذكر للاستصحاب الكلي أقسام ثلاثة :

القسم الأول : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يشك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد الّذي تحقق في ضمنه.

القسم الثاني : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل العمر وقصيره ثم يشك في بقاء الكلي بعد مضي مقدار عمر القصير للشك في ان الحادث هو الطويل المقطوع البقاء أو القصير المقطوع الارتفاع.

الثالث : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزوال ذلك الفرد ، ولكنه يشك في بقاء الكلي للشك في حدوث فرد آخر مقارن لزوال الفرد الأول.

وقد زاد البعض قسما وقع محلا للكلام أيضا في مباحث المتأخرين وجعل في بعض الكتب قسما رابعا وهو : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزواله وبعد ذلك يرى فردا معنونا بعنوان يحتمل انطباقه على الفرد الّذي علمنا ارتفاعه ويحتمل انطباقه على فرد آخر ، فيلزم من ذلك الشك في وجود الكلي ، ومثّل له : بما إذا علمنا بالجنابة ليلية الخميس ـ مثلا ـ وارتفعت تلك الجنابة بالغسل ، ثم رأينا المني يوم الجمعة في الثوب ، فيحصل العلم بأننا جنب حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل ان يكون من الجنابة التي اغتسلنا منها ونحتمل ان يكون جنابة جديدة غيرها (١) ..

__________________

(١) الواعظ الحسيني السيد محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ١٠٤ ـ الطبعة الأولى.

١٥٩

وقد وقع الكلام في كل قسم على حدة.

استصحاب الفرد المردد

ولكن قبل الدخول في ذلك يحسن بنا التعرض للبحث عن استصحاب الفرد المردد فيما كان الحادث مرددا بين الفرد الطويل والقصير ، فقد تعرض له البعض في هذا المقام وله آثار عملية فقهية لا تخفي على من راجع كتب الفقه.

فنقول وعلى الله سبحانه الاتكال : ان الجهة الفارقة بين استصحاب الفرد المردد واستصحاب الكلي في مورده ـ بعد الاشتراك في عدم تميز المستصحب وتعينه في ضمن أحد الفردين المعين ـ ، ان المقصود في استصحاب الكلي ترتيب الأثر المترتب على العنوان الجامع بين الفردين ، كالأثر المرتب على عنوان الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر ، مثل حرمة مس كتابة المصحف ، والمقصود في استصحاب الفرد المردد ترتيب الأثر المترتب على كل من الفردين بخصوصيته ، سواء لم يكن للكلي الجامع أثر أو كان ولكن لم يلحظ في الاستصحاب ولم يقصد ترتيبه.

وكيف كان فقد منع جريان الاستصحاب في الفرد المردد ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء بوجوه ـ وليعلم ان محل الكلام ما كان يعلم بارتفاعه على تقدير انه الفرد القصير بحيث يكون فعلا مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كمثال الحدث المردد بعد الوضوء. فانه مرتفع قطعا على تقدير كونه الأصغر ، وباق قطعا على تقدير كونه الأكبر ـ :

الوجه الأول : ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من عدم تحقق اليقين بالحدوث المعتبر في الاستصحاب ، وذلك لأن العلم الإجمالي انما يتعلق بالجامع بين الفردين بلا سراية له إلى الخارج ، فهو علم بالجامع ، وشك في كل فرد ، فلا يمكن

١٦٠