منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

لا يستقيم إلاّ بان يراد عدم جعل اليقين السابق مزاحما بالشك ، وهو عين الاستصحاب (١).

وقد يناقش في دلالتها بوجوه :

الأول : ان المراد باليقين ليس هو اليقين بعدم دخول شهر رمضان ، بل يراد به اليقين بدخول رمضان ، فيكون المراد ان اليقين بدخول رمضان الّذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك ، بمعنى لا يدخل في حكمه الشك ، ولا يترتب عليه أثر اليقين ، فلا يجوز صوم الشك من رمضان ، والقرينة على ذلك هو تواتر الاخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم ، فيكون موجبا لظهور الرواية في ذلك ، وبذلك تكون أجنبية بالمرة عن الاستصحاب. وهذا الوجه يستفاد من الكفاية (٢).

ولكن يرد عليه : ان مجرد ثبوت الحكم المزبور ـ أعني اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم ـ في الروايات المتواترة لا يصلح قرينة على صرف هذه الرواية عن ظهورها في الاستصحاب ، إذ لا منافاة بين الحكمين. وهي في حد نفسها ظاهرة في ثبوت اليقين والشك فعلا ، وهذا يتناسب مع الاستصحاب ولا يتناسب مع البيان المزبور ، لعدم اليقين الفعلي بحسب الفرض.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق العراقي من : عدم إمكان تطبيق الاستصحاب فيما نحن فيه ، لأن وجوب الصوم مترتب على ثبوت كون النهار المشكوك من رمضان بنحو مفاد كان الناقصة ، ومن الواضح ان استصحاب بقاء شعبان أو بقاء رمضان لا يثبت ان هذا النهار من شعبان أو من رمضان إلاّ بالملازمة.

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢١

وعليه ، فلا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب ، لأنه لا يجدي في ترتب الأثر الشرعي (١).

وهذا الوجه تبتني تماميته وعدمها على ما يستفاد من الأدلة الفقهية ، ولا يحضرنا فعلا من الأدلة ما يظهر منه أخذ عنوان نهار رمضان بنحو مفاد كان الناقصة ، بل الشيء المرتكز هو أخذه بنحو الظرفية ومفاد كان التامة ، فإذا ثبت رمضان بالاستصحاب ثبت وجوب الصوم وتحقيق ذلك في محله.

الوجه الثالث : وهو العمدة : انه بناء على أخذ اليقين بدخول رمضان في وجوب الصوم وأخذ اليقين بشوال في وجوب الإفطار لا مجال للاستصحاب أصلا ، إذ مع الشك في دخول رمضان يعلم بعدم الموضوع للحكم الشرعي ، فيعلم بعدم الحكم ، فلا معنى للاستصحاب حينئذ ، لأنه بلحاظ الحكم الشرعي والمفروض العلم بعدمه.

ولا أدري لم غفل الأعلام عن هذا الوجه الواضح مع بنائهم على موضوعية اليقين في وجوب الصوم والإفطار؟. فلاحظ.

هذا مع ان الرواية ضعيفة السند.

هذا تمام الكلام في الروايات العامة التي استدل بها على الاستصحاب.

وقد عرفت ان العمدة فيها هو الصحيحتان الأولتان ، واما غيرهما فاما ليس بتام الدلالة أو ليس بتام السند أو ليس بتامهما.

وقد قال الشيخ ( رحمة الله ) بعد ما أنهي الكلام عن مكاتبة القاساني : « هذه جملة ما وقفت عليه من الاخبار المستدل بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها ، فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد » (٢).

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٦٥ ـ القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٤ ـ الطبعة الأولى.

١٢٢

وفيه : منع واضح ، إذ لا معنى لجبر الرواية الضعيفة السند بالرواية التامة السند الضعيفة الدلالة. نعم لو كانت الدلالة تامة في الكل أمكن تحقق الاستفاضة لعدم اعتبار تمامية السند في الاستفاضة.

ثم انه قد استدل على الاستصحاب ببعض الروايات الواردة في موارد خاصة بضميمة عدم القول بالفصل.

كرواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمي ، وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، قال : « فهل عليّ ان أغسله؟. فقال عليه‌السلام : لا لأنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه » (١). ودلالتها واضحة على استصحاب الطهارة ، لأن الحكم بعدم لزوم الغسل وان كان أعم من كونه لأجل قاعدة الطهارة أو لأجل استصحابها ، لكن التعليل المذكور لا يتلاءم الا مع الاستصحاب كما لا يخفى.

ورواية ابن بكير قال عليه‌السلام : « إذا استيقنت أنك توضأت فإياك ان تحدث وضوء! حتى تستيقن انك أحدثت » (٢) ودلالتها على استصحاب الطهارة الحدثية مما لا يخفى.

هذا ولكن لا يمكن استفادة الحكم العام من هذين الروايتين وانما يستفاد منها جريان الاستصحاب في خصوص الطهارة الحدثية والخبثية ، والتمسك في تسرية الحكم إلى غيرها من الموارد بعدم القول بالفصل كما ترى ، إذ بعد هذا الخلاف الكبير في باب الاستصحاب حتى زادت الأقوال فيه على العشرة كيف يستفاد عدم القول بالفصل! هذا مع ان مثل هذا الإجماع المركب لو تم غير حجة بعد احتمال استناد المجمعين إلى الأدلة الظاهرة. فلا يكون إجماعا تعبديا. فالإشكال

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ ـ ١٠٩٥ باب ٧٤ من أبواب النجاسات ، حديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١ ـ ١٧٦ باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، حديث ٧.

١٢٣

في عدم القول بالفصل صغروي وكبروي فانتبه.

ومن الروايات الخاصة التي استدل بها على الاستصحاب ..

رواية عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : « كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك » (١).

وقد وقع الكلام ـ أخيرا ـ فيما هو مفاد هذه الرواية. والوجوه المذكورة في مفادها ستة :

الأول : انها تفيد قاعدة الطهارة وقاعدة الاستصحاب. وهذا هو المنسوب إلى صاحب الفصول رحمه‌الله.

الثاني : انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء والاستصحاب. وهو ما قربه صاحب الكفاية في كفايته (٢).

الثالث : انها تتكفل أمورا ثلاثة : الطهارة الواقعية للأشياء. والطهارة الظاهرية للمشكوك. والاستصحاب. وهو ما قربه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (٣).

الرابع : انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء مقيدة بعدم العلم بالنجاسة. وهو المنسوب إلى صاحب الحدائق (٤).

الخامس : انها تتكفل جعل الاستصحاب خاصة.

السادس : انها تتكفل جعل الطهارة الظاهرية للأشياء خاصة ، وهو المعبر عنه بقاعدة الطهارة. وهذا هو المشهور في مفادها.

__________________

(١) وسائل ٢ ـ ١٠٥٤ ، حديث ٤.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٨ ـ ٣٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٥ ـ ١٨٦ ـ الطبعة الأولى.

(٤) البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناضرة ١ ـ ١٣٦ ـ الطبعة الأولى.

١٢٤

اما الوجه الأول : فقد حكاه الشيخ رحمه‌الله في رسائله عن صاحب الفصول ، فذكر انه قال : « ان الرواية تدل على أصلين :

أحدهما : ان الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب.

الأصل الثاني : ان هذا الحكم مستمرا إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته ».

وأورد عليه الشيخ رحمه‌الله : بان المشار إليه في قوله : « هذا الحكم ».

ان كان هو الحكم الظاهري المستفاد من الرواية. ففيه :

أولا : ان استمرار هذا الحكم ، وهو الحكم بالطهارة عند عدم العلم بالنجاسة. ليس مغيا بالعلم بالنجاسة بل مغيا بنسخ الحكم في الشريعة.

وفيه ثانيا : ان الغاية المذكورة في الرواية يمتنع ان تكون غاية لكلا الحكمين ، لأن الحكم بالاستمرار متأخر عن الحكم بالطهارة لتفرعه عليه ، لأن الحكم بأصل الطهارة موضوع للحكم بالاستمرار ، فإذا جعلت الغاية غاية للحكم بأصل الطهارة امتنع ان تجعل غاية للحكم بالاستمرار ، فانه يستلزم استعمال اللفظ في معنيين طوليين ، وهو واضح الامتناع.

وان كان المشار إليه هو الحكم الواقعي ، كان مفاد الرواية ان الطهارة إذا ثبتت واقعا في زمان ، فهو مستمر ظاهرا إلى زمان العلم بالنجاسة ، فينحصر مفاد الرواية في الاستصحاب ، ولا تفيد حينئذ قاعدة الطهارة كما ذهب إليه. هذا محصل إيراد الشيخ عليه ببعض توضيح (١).

أقول : ان ما ذهب إليه صاحب الفصول انما هو بعد الفراغ عن أمرين :

أحدهما : عدم الجامع بين قاعدتي الطهارة والاستصحاب ، لما ذكر الشيخ

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٥ ـ الطبعة الأولى.

١٢٥

رحمه‌الله في صدر كلامه من كون المقصود في قاعدة الطهارة مجرد ثبوت الطهارة ظاهرا للأشياء ، والمقصود في الاستصحاب هو بيان استمرار الحكم لا أصل الثبوت ، بل يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ، والجامع بين هاتين الجهتين مفقود كما لا يخفى.

الأمر الثاني : امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فانه من الأمور المسلمة لديهم.

اذن فدعواه استفادة القاعدتين من الرواية لا يمكن ان يكون مبينا على استعمالها في الجامع لفرض عدمه ، أو على استعمالها في كل منهما لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

بل لا بد ان يكون مبتنيا على تعدد الدال والمدلول ، ولو بدعوى ان مفاد الرواية : « كل شيء طاهر وتستمر هذه الطهارة حتى تعلم .. ».

وعلى هذا فلا مانع من فرض الغاية غاية لكلا الحكمين ، إذ لا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى بعد فرض تعدد الدال والمدلول واستفادة الحكمين من دالين فلاحظ.

واما ما ذكره قدس‌سره في الشق الثاني من الترديد ، وهو ما إذا كان مراد الفصول بالمشار إليه الحكم الواقعي. ففيه :

أولا : انه لا وجه لاحتماله بعد صراحة عبارته المنقولة عنه في إرادة الحكم الظاهري.

وثانيا : انه لا إشكال فيه إذا كانت دعوى الفصول على استفادة استصحاب الطهارة الواقعية بدال آخر غير ما يدل على الطهارة الظاهرية ، ولو كان قرينة حالية فلا يلزم ان لا يكون مجال لاستفادة قاعدة الطهارة الظاهرية ثبوتا.

فالعمدة في الإيراد على صاحب الفصول هو : ما ذكره قدس‌سره أو لا

١٢٦

مبنيا على ما هو ظاهر كلامه من إرادة استصحاب الطهارة الظاهرية.

وتوضيحه : ان الطهارة الظاهرية مشروطة بالجهل بالنجاسة ، واستمرارها إلى زمان العلم بها انما هو لبقاء موضوعها ، وهو الجهل بالنجاسة. وهذا ليس من الاستصحاب في شيء ، بل هو كسائر الأحكام الواقعية والظاهرية المستمرة باستمرار موضوعها ، وهو الحكم بالطهارة المقيدة بالجهل ، فاستمراره ليس مغيا بالجهل بالنجاسة ، بل هو ثابت حتى مع العلم بالنجاسة ، وانما هو مغيا بالنسخ.

فلا شك حينئذ في بقاء الحكم بالطهارة مع الجهل بالنجاسة ، الا من حيث نسخ هذا الحكم ورفعه وهو الا يرتبط بالمدعى بشيء. فلاحظ.

ثم لا يخفى عليك ان ما دار حول كلام صاحب الفصول مما نقلناه انما يرتبط بمقام الثبوت ، ومع الغض عن مقام الإثبات. وإلاّ فمقام الإثبات قاصر أيضا عن إفادة مدعاه كما لا يخفى.

واما الوجه الثاني : فقد التزم به صاحب الكفاية في كفايته بدعوى : انه يستفاد من قوله عليه‌السلام : « كل شيء نظيف » الحكم بالطهارة للأشياء بعناوينها الأولية ، كما يستفاد من الغاية الاستمرار الظاهري للطهارة الواقعية ما لم يعلم نجاسته ، لا تحديد الموضوع كي يكون ظاهر النص بيان قاعدة الطهارة.

وقد يورد عليه : بان الرواية مشتملة على غاية ومغيا ، ولا موهم لاستفادة الاستصحاب من المغيا كما هو واضح.

واما الغاية ، فلا يصح استفادة الحكم بالاستمرار الظاهري منها لوجهين :

الأول : ان الغاية من توابع المغيا وملحوظة بلحاظه بنحو المعنى الحرفي ، فلا يعقل استقلالها بالإنشاء في قبال إنشاء المغيىّ

الثاني : ان الاستصحاب عبارة عن إبقاء الطهارة الواقعية عنوانا ، والمجعول في المغيا هو الطهارة الواقعية حقيقة لا عنوانا ، فما هو قابل للامتداد إلى هذه الغاية ـ وهو الطهارة الواقعية عنوانا ـ غير مقصود من المغيا وما هو

١٢٧

المقصود من المغيا ـ وهو الطهارة الواقعية حقيقة ـ غير قابل لمثل هذه الغاية. ومثل ذلك ينافي تبعية الغاية للمغيّا.

وهذا الإيراد مندفع : بأنه يمكن ان يستفاد الحكم بالاستمرار من المدلول الالتزامي للكلام بمجموعه صدرا وذيلا وهو الاستمرار ، فان الكلام الدال على حدوث شيء في زمان وارتفاعه في زمان متأخر يدل بالملازمة على استمراره إلى الزمان المتأخر ، كما لو قال : « جاء زيد إلى المدرسة صباحا وخرج منها ظهرا » ، فيكون إنشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.

واما ما أفيد من وجهي المنع عن استفادة الاستصحاب من الغاية فكلاهما مردود :

اما الأول : فلأن كون الغاية ملحوظة بنحو المعنى الحرفي لا يمنع من استقلالها بالإنشاء. كيف؟! وسائر الإنشاءات انما هو بالهيئات وهي من الحروف كهيئة الأمر.

واما الثاني : فلأن الاستصحاب يتكفل ثبوت نفس المتيقن حقيقة ، لكن بعنوان البقاء ، فالبقاء عنواني لا نفس الباقي. فالباقي عنوانا هو الواقع حقيقة لا الواقع عنوانا فتدبر.

والمتحصل : انه لا نرى هناك مانعا ثبوتيا يمنع من مختار الكفاية.

نعم هو مما لا يساعد عليه مقام الإثبات ، لأن ظاهر الغاية كونها غاية للطهارة المجعولة في الصدر لا غاية لاستمرارها ، كيف! والاستمرار انما يستفاد بعد ذكر الغاية ، فهو متأخر إثباتا عن نفس الغاية ، فلا يمكن ان تكون الغاية غاية له.

وإذا كانت الغاية غاية للطهارة المذكورة في الصدر لم يساعد مقام الإثبات استفادة كلا الحكمين كما قربه قدس‌سره.

نعم ، لو قيل : « كل شيء طاهر وتستمر طهارته حتى تعلم انه قذر » اتجه

١٢٨

ما ذكره.

واما الوجه الثالث الّذي ذكره في الحاشية : فهو مجمع الإيرادات على صاحب الفصول والكفاية لأنه يجمع كلا القولين.

ونزيد على ما تقدم ان الجمع : ـ في الصدر ـ بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية لا يمكن إلاّ بالإطلاق ـ بان يراد من الشيء أعم منه بعنوانه الأولي ، ومنه بعنوان انه مشكوك الطهارة كما قربه به ـ وهو ممتنع ، لأنه يستلزم ملاحظة الشيء بعنوانه الأولي وهو لا بشرط من الشك بنجاسته ، وملاحظته بشرط الشك في نجاسته ، والجمع في أمر واحد بين لحاظه بشرط شيء ولا بشرط ممتنع كما لا يخفى.

واما الوجه الرابع : المنسوب إلى صاحب الحدائق فقد عرفت انه دعوى تكفل الرواية لجعل الطهارة الواقعية وتقيدها بعدم العلم بالنجاسة ، بحيث يكون الشيء المجهول النجاسة طاهر واقعا.

ولا يخفى ان الالتزام به لا يستلزم محذورا فقهيا ، بل آثار النجاسة بلحاظ الجهل تتلاءم مع الطهارة الواقعية ، إلاّ انه لا يمكن الالتزام به لأمرين :

الأول : نفس الغاية في الرواية ، فانها ظاهرة في وجود نجاسة واقعية يتعلق بها الجهل تارة ، والعلم أخرى ، إذ المراد بالقذرة هاهنا هو النجاسة كما لا يخفى.

الأمر الثاني : ما ورد في بعض الروايات المتقدمة من استصحاب الطهارة ، وهو لا يتلاءم مع الطهارة الواقعية في ظرف الجهل من ناحيتين :

الأولى : فرض الشك واليقين بالطهارة.

الثانية : نفس التعبد بالطهارة وإجراء الاستصحاب ، إذ لو كان عدم العلم موضوع الطهارة الواقعية لما كان هناك حاجة إلى إجراء الاستصحاب ، بل امتنع إجراؤه ، لأن مجرد الشك يستلزم العلم بالطهارة فلا مجال للاستصحاب ، فتدبر.

واما الوجه الخامس : فهو يبتني على ان يكون الملحوظ هو الحكم

١٢٩

باستمرار الطهارة بعد الفراغ عن أصل ثبوتها للشيء ، بان يكون مفاد الرواية : « كل شيء طهارته إلى زمان العلم » أو : « كل شيء طاهر طاهر حتى تعلم انه قذر ». ولكن هذا خلاف الظاهر ، فان ظاهر النص هو الحكم فعلا بثبوت الطهارة المقيدة بعدم العلم للشيء لا الحكم باستمرار الطهارة المفروضة الثبوت.

فيتعين ان يكون مفاد الرواية هو الوجه السادس كما فهمه المشهور. وعلى ذلك تكون أجنبية عن الاستصحاب.

ثم ان الشيخ رحمه‌الله في مقام تقريب دلالة الرواية على الاستصحاب قال : « بناء على انه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شيء إلى ان يعلم حدوث قذارته لا ثبوتها له ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت إلى ان يعلم عدمها ، فالغاية وهي العلم بالقذارة على الأول غاية للطهارة ورافعة لاستمرارها ، فكل شيء محكوم ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول العلم بالقذارة ، فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة. وعلى الثاني غاية الحكم بثبوتها والغاية وهي العلم بعدم القذارة رافعة للحكم ، فكل شيء يستمر الحكم بطهارته إلى كذا ، فإذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته لا نفسها. والأصل في ذلك ان القضية المغياة سواء كانت اخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول كما في قولنا : « الثوب طاهر إلى ان يلاقي نجسا » ، أم كانت ظاهرية مغياة بالعلم بعدم المحمول كما فيما نحن فيه ، قد يقصد المتكلم مجرد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلم به مجرد الاستمرار لا أصل الثبوت ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه » (١).

والّذي يظهر من هذه العبارة : ان الغاية بناء على استفادة قاعدة الطهارة من الرواية تكون غاية للحكم بالطهارة لا نفس الطهارة. واما بناء على استفادة

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٤ ـ الطبعة الأولى.

١٣٠

الاستصحاب منها ، فالغاية غاية الطهارة نفسها ، وغاية الحكم غير مقصودة ولا مذكورة. كما يظهر منه انه بنى ذلك على كون مفاد الرواية على الأول مجرد ثبوت المحمول للموضوع. وعلى الثاني الحكم بالاستمرار ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه.

وهذا المطلب قد خفي على البعض تحقيقه وتوضيحه ، ولم تعط العبارة حقها من الشرح في عبارات المحشين.

وتوضيح مراده قدس‌سره : ان لدينا أمرين واضحين :

أحدهما : ان الحكم بالطهارة والتعبد بها غير نفس الطهارة ، فان الحكم بها عبارة عن الجعل ونفس الطهارة عبارة عن المجعول.

والآخر : ان ظاهر الكلام المتقدم في حد نفسه رجوع القيد ـ وهو الغاية ـ إلى النسبة الحكمية التي مفادها التعبد بالمحمول وجعله. نعم قد يرفع اليد عن هذا الظاهر لقرينة.

وعليه ، نقول : ان الرواية إذا كانت في مقام الحكم بثبوت الطهارة الظاهرية ، كان ظاهر الكلام رجوع الغاية إلى الحكم والتعبد به ، لا إلى المتعبد به وهو الطهارة ، وان ارتفع المجعول بارتفاع الجعل. واما إذا كانت في مقام الحكم بالاستمرار مع المفروغية عن أصل ثبوت الحكم ، فيما انه لا نظر إلى جعل الحكم وثبوته ، وانما المنظور بيان استمرار الحكم الثابت بحيث يكون مفاد « كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر » : « كل شيء طهارته إلى زمان العلم » ، فتدل بالالتزام على الاستمرار ويقصد إنشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.

وعليه ، فالغاية في الكلام ليست غاية الحكم بثبوت الطهارة ، إذ ليس هذا محط النّظر ، بل هو أمر لوحظ مفروغا عنه ، فيتعين ان تكون غاية لنفس الطهارة المذكورة في الكلام ، والمفروغ عن تحقق الحكم بها حدوثا ، وبذلك ظهر معنى قوله : « فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصود ».

١٣١

وبالجملة : كلمة « طاهر » ـ على القول بالاستصحاب ـ ليست إنشاء للطهارة لا حدوثا وهو واضح ، ولا استمرارا ـ كي يقال ان الغاية غاية الحكم ـ ، إذ إنشاء الاستمرار بالمدلول الالتزامي لمجموع الكلام ، وانما الملحوظ بها الإشارة إلى الطهارة الثابتة للشيء ، فتكون الغاية غاية للمجعول لا للجعل فتدبر جيدا.

وهذا التوجيه لكلامه قدس‌سره لم نعهد من سبقنا إليه والله سبحانه ولي العصمة.

هذا تمام الكلام في اخبار الاستصحاب العامة والخاصة.

ويبقى أمر مختصر لا بد من التنبيه عليه ، وهو : أنك عرفت فيما تقدم بيان اختصاص الروايات المشتملة على لفظ النقض بمورد الشك في الرافع وعدم عمومها لمورد الشك في المقتضي ، وذلك : بملاحظة لفظ النقض.

ولكن قد يدعى إمكان استفادة عموم دليل الاستصحاب لمورد الشك في المقتضي من الروايات الأخرى ، كقوله عليه‌السلام في رواية زرارة الثالثة :

« ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » ، فانه ظاهر في النهي عن الأخذ بالشك مع اليقين السابق من دون اعتبار صدق النقض.

وكرواية الخصال المتقدمة ، إذ ورد فيها التعبير بالمضي على اليقين ، وهو يعم صورة الشك في المقتضي. وأوضح من الكل مكاتبة القاساني ، لأن موردها وهو الشك في بقاء شهر رمضان وشوال من الشك في المقتضي جزما كما لا يخفى.

والتحقيق ان شيئا من ذلك لا يعتمد عليه ، اما رواية زرارة الثالثة ، فقد عرفت انها لا ترتبط بمسألة الاستصحاب ، وليس المراد باليقين والشك فيها هو اليقين السابق والشك اللاحق. واما رواية الخصال ، فقد عرفت الكلام فيها سندا ودلالة ، لاحتمال نظرها إلى قاعدة اليقين. واما رواية القاساني ، فهي على ما عرفت محل تشكيك من ناحية السند والدلالة.

١٣٢

وجملة القول : ان عمدة نصوص الاستصحاب صحيحتا زرارة الأولتان وقد عرفت اختصاص دلالتهما على الاستصحاب في مورد الشك في الرافع ، بسبب لفظ النقض. فلاحظ وتدبر.

الأحكام الوضعيّة

وبعد جميع هذا يقع الكلام في الأحكام الوضعيّة وانها مجعولة أو غير مجعولة شرعا ، وسيتضح مقدار ربط ذلك بمسألة الاستصحاب.

وقد أشار صاحب الكفاية إلى بعض الجهات التي يبحث عنها في الأحكام الوضعيّة ، وأهمل تحقيقها بصورة مفصلة لعدم الأثر المهم ، فان الجهة المهمة هي جهة البحث عن ان الأحكام الوضعيّة هل هي مجعولة شرعا كالاحكام التكليفية أو ليست مجعولة شرعا؟.

والّذي أفاده قدس‌سره في هذا المقام : الوضعيّة على أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : ما لا يمكن ان يكون مجعولا شرعا أصلا لا بالجعل الاستقلالي ولا بالجعل التبعي ، بل يكون مجعولا تكوينا عرضا بجعل موضوعه تكوينا.

النحو الثاني : ما لا يمكن ان يكون مجعولا شرعا بالاستقلال ، وانما يكون مجعولا بتبع التكليف.

النحو الثالث : ما يمكن ان يكون مجعولا شرعا بالاستقلال وبتبع التكليف ، وان كان الصحيح كونه مجعولا بالاستقلال وكون التكليف من آثاره وأحكامه.

ولا بد من التكلم في كل نحو على حدة.

اما النحو الأول : فقد جعل من مصاديقه السببية والشرطية والمانعية

١٣٣

والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ، كسببية الدلوك لوجوب الصلاة ، فانها غير مجعولة للدلوك لا استقلالا ولا تبعا. واستدل على ذلك بوجهين :

الأول : انه لا يعقل ان تكون السببية ونحوها منتزعة عن التكليف لتأخره عنها ، فإذا كانت منتزعة عنه لزم تأخرها عنه وهو خلف.

وهذا الوجه ـ كما لا يخفى ـ يتكفل نفي الجعل التبعي.

الوجه الثاني : ان سببية الشيء ـ كالدلوك ـ للتكليف لا بد ان تكون ناشئة عن خصوصية في ذات السبب تستدعي ترتب التكليف عليه ضرورة اعتبار ان يكون في العلة باجزائها ربط خاص تكون بسببه مؤثرة في المعلول دون غيره لا يكون غيرها مؤثرا فيه ، ولو لا ذلك لزم ان يؤثر كل شيء في كل شيء ، وهو ضروري البطلان.

ومن الواضح ان تلك الخصوصية المستلزمة لتأثير ذيها في التكليف خصوصية تكوينية لا تناط بجعل السببية ، فانها ان كانت موجودة لم يحتج إلى الإنشاء ولا أثر له ، وان لم تكن موجودة لم توجد بسبب إنشاء السببية ، فالجعل وجودا وعدما لا تأثير له في وجود الخصوصية وعدمها ، وعلى هذا تكون السببية منتزعة عن أمر تكويني لا دخل للجعل فيه أصلا.

وهذا الوجه ينفي الجعل الاستقلالي كما ينفي الجعل التبعي كما لا يخفى (١).

أقول : لا إشكال في ان السببية للتكليف ونحوها لا يتعلق بها الجعل الاستقلالي مع غض النّظر عما أفاده قدس‌سره ـ وان كان تاما على ما يأتي تحقيقه ـ ، وذلك للغوية جعل السببية ، وذلك لأنه حين يجعل السببية للدلوك لا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٣٤

يخرج الوجوب عن كونه اختياريا للجاعل ، بمعنى ان جعله بيده.

وعليه ، نقول : اما ان يجعل الشارع الوجوب عند الدلوك أو لا ، فان جعله عند الدلوك لا حاجة إلى جعل السببية لانتزاعها من التكليف. وان لم يجعله لم ينفع جعل السببية في ترتبه. اذن فيكون جعلها لغوا.

وانما البحث يدور بين الاعلام في انها منتزعة عن التكليف أو انها امر واقعي غير مجعول.

وقد عرفت ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله في هذا المقام.

وقد استشكل في كلا وجهيه.

اما الإشكال في الأول : فبان ما يكون التكليف متأخرا عنه هو ذات السبب لا عنوان السببية ، فلا يلزم من انتزاع عنوان السببية من ترتب التكليف على ذات السبب الخلف ، إذ ما هو المتأخر عن التكليف غير ما هو المتأخر عنه التكليف ، نظير العلية في الأمور التكوينية ، فان المعلول متأخر عن ذات العلة ، ولكن العلية والمعلولية تنتزعان من ترتب المعلول على علته.

واما الإشكال في الثاني : فبان للتكليف مقامين : مقام المصلحة والغرض ، ومقام الجعل والاعتبار.

ومن الواضح ان دخالة السبب في المصلحة تكوينية لا جعلية ، إذ المصلحة من الأمور التكوينية ، الخارجة عن دائرة الجعل.

واما مقام الجعل والاعتبار ، فصيرورة الشيء سببا للتكليف انما هو بيد الشارع ، : فان أخذه في موضوع الحكم انتزع عنه عنوان السببية ، وإلاّ لم يكن سببا للتكليف وان كان سببا للمصلحة.

ومن الواضح ان محل الكلام هو سببية الشيء للتكليف لا للمصلحة ، وهي لا محالة منتزعة عن كيفية الجعل ومقام التشريع.

ومرجع كلتا المناقشتين : ان استدلال المحقق الخراسانيّ رحمه‌الله في كلا

١٣٥

وجهيه مبني على الخلط. ففي الوجه الأول خلط بين عنوان السببية وذات السبب. وفي الثاني خلط بين مقام المصلحة ومقام الجعل والتشريع (١).

والتحقيق : ان كلتا المناقشتين غير واردتين :

اما مناقشة الوجه الأول ، فيدفعها : ان السببية على نحوين :

أحدهما : السببية الشأنية ، وهي عبارة عن كون الشيء مؤثرا في وجود المسبب لو انضمت إليه الشرائط ، فهي عبارة عن قضية شرطية.

والآخر : السببية الفعلية ، وهي عبارة عن تأثير السبب في وجود المسبب فعلا.

وعليه ، فحين يقال : ان النار سبب للإحراق ، تارة : يراد به بيان قابلية النار للتأثير وانها ذات خصوصية واقعية مستلزمة للحرقة عند اجتماع سائر الشرائط من المماسة ويبوسة المحل ، وهذا العنوان يصح إطلاقه على النار ولو لم يكن للنار ولا للحرقة وجود. وأخرى : يراد به بيان ترتب الإحراق فعلا على النار ، وهذا هو معنى السببية الفعلية.

وقد اتضح بهذا البيان : ان السببية المنتزعة عن وجود المسبب خارجا هي السببية الفعلية. اما السببية الشأنية ، فهي في مرحلة سابقة على وجود المسبب ، وهي تنتزع عن الخصوصية الواقعية الموجودة في السبب التي بها يؤثر في المسبب عند حصول شرائط التأثير ، فانه لو لا تلك الخصوصية لا يقال عنه انه سبب لعدم قابليته للتأثير.

وهذا البيان بنفسه يتأتى في سبب التكليف ، فان السببية المقصودة تارة يراد بها السببية الشأنية. وأخرى السببية الفعلية. وما ينتزع عن التكليف الفعلي هو السببية الفعلية دون السببية الشأنية ، فانها في مرحلة سابقة على التكليف ،

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٩٥ ـ ٣٩٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٣٦

فيطلق على الدلوك انه سبب للوجوب ولو لم يوجد بعد ، ويمتنع ان تكون منتزعة عن نفس التكليف ، كيف؟ وهي ثابتة قبل وجود التكليف كما عرفت.

وإذا عرفت ما ذكرناه ، فنقول : ان محل الكلام فيما نحن فيه ، هو السببية الشأنية دون السببية الفعلية ، وذلك لأن المبحوث عنه هو ما يطلق عليه السبب والشرط مع قطع النّظر عن وجوده في الخارج ، كما يقال : « الدلوك سبب لوجوب الصلاة » و: « الاستطاعة شرط لوجوب الحج » ، فان السببية والشرطية هي الشأنية لا الفعلية كما لا يخفى.

وهي كما عرفت لا يصح ان تنتزع عن التكليف لتأخره عنها ، فلو انتزعت عنه لزم الخلف. بل هي منتزعة اما عن خصوصية واقعية في ذات السبب ، واما عن كيفية الجعل والإنشاء ـ على ما سيأتي تحقيقه ـ.

فلا خلط في كلامه قدس‌سره بين ذات السبب والسببية ، بل نظره قدس‌سره إلى السببية الشأنية السابقة على التكليف ، لا الفعلية كي يحصل الخلط. اذن فهذا الإيراد غير وجيه.

نعم ، يمكن ان يورد على صاحب الكفاية : بان من يدعي كون السببية الشأنية منتزعة عن التكليف لا يريد انها منتزعة عن نفس التكليف الفعلي ، كي يتأتى إيراده المتقدم ، بل يريد انها منتزعة عن مقام الجعل وكيفية الجعل ، فان جعل المولى التكليف مقيدا بشيء انتزع عنه ان ذلك الشيء شرط ـ مثلا ـ ، وان جعله مطلقا من ناحية ذلك الشيء لم ينتزع عنه شرطية ذلك الشيء.

ولا يخفى ان مقام الجعل ليس متأخرا عن السببية الشأنية. اذن فالإيراد من هذه الناحية ـ أعني : تأخر التكليف عن السببية ولزوم الخلف لو كانت منتزعة عنه ـ غير تام.

وانما المهم هو تحقيق ان السببية الشأنية هل هي منتزعة عن كيفية الجعل ـ كما قيل ـ ، أو انها منتزعة عن خصوصية واقعية بلا دخل لكيفية الجعل ، كما

١٣٧

ذهب إليه صاحب الكفاية في الوجه الثاني؟.

وهذه الجهة ستتضح في مناقشة الإيراد الثاني على صاحب الكفاية.

وتحقيق ذلك يتم ببيان امرين :

الأول : ان مرجع كون الشيء سببا للتكليف أو شرطا له هو كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، بحيث يكون الفعل به ذا مصلحة وبدونه ليس بذي مصلحة ، فنسبته إلى الفعل نسبة المرض إلى استعمال الدواء ، فإن شرب الدواء بدون المرض لا مصلحة فيه ، بل قد يكون مضرا ، وانما يصير ذا مصلحة عند تحقق المرض.

وبعبارة مختصرة : ان موضوع التكليف ما كان دخيلا في تحقق الاحتياج إلى الفعل ، والأمثلة العرفية كثيرة.

الأمر الثاني : ان الحكم التكليفي الفعلي قد اختلف في حقيقته وواقعه ، والوجوه المعروفة فيه أربعة :

الأول : انه عبارة عن نفس الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.

الثاني : انه عبارة عن الاعتبار العقلائي للحكم المترتب على الإنشاء الصادر من المولى.

الثالث : انه عبارة عن نفس اعتبار المولى في ظرفه الخاصّ ، بحيث يكون الاعتبار منوطا بتحقق الموضوع.

الرابع : انه عبارة عن اعتبار المولى في ظرف الإنشاء ، لكن يكون الاعتبار على تقدير ، بمعنى ان الاعتبار من الآن على تقدير تحقق الموضوع ، فتحقق الموضوع دخيل في ترتب الأثر العقلائي على الاعتبار ، وهو المعبر عنه بفاعلية الاعتبار ، وليس دخيلا في تحقيق نفس الاعتبار كما هو الحال في الوجه الثالث.

وعليه ، نقول : بعد فرض كون المولى حكيما يتتبع الحكمة في أفعاله ولا

١٣٨

يجازف ، فيتعين عليه ملاحظة موارد المصلحة في تشريعاته ، فلا يشرع حكما على خلاف المصلحة وإلاّ كان منافيا للحكمة ، فإذا فرض ان كون الفعل ذا مصلحة منوط بأمر خاص ، كالدلوك بالنسبة إلى الصلاة ، امتنع تحقق التكليف وجعله من قبل المولى بلا ربط له بالدلوك ، وإلاّ كان خلاف الحكمة. ومن هذه الجهة تنتزع شرطية الدلوك للوجوب ، لأن معنى الشرطية هو امتناع تحقق المشروط بدون الشرط ، وهذا ثابت في الدلوك بعد فرض كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وبعد فرض حكمة المولى وعدم مجازفته.

ومن الواضح ان هذا المعنى ليس جعليا ، بل هو تابع للخصوصية الواقعية الموجودة في الدلوك ، ولا تناط بجعل المولى التكليف منوطا به ، بحيث لولاه لما كان شرطا ـ بالمعنى الّذي عرفته ـ. بيان ذلك :

اما بناء على كون التكليف الفعلي هو الإرادة التشريعية ، فلأن تبعية إرادة الحكيم لحصول الشرط الدخيل في المصلحة تكوينية ، لأن الإرادة تابعة للشوق ، وهو لا يحصل إلاّ لما فيه المصلحة ، فبدون الشرط لا يحصل الشوق فلا تحصل الإرادة. فتأثير الشرط في الإرادة تكويني قهري لا تناله يد الجعل بالمرة ولا يكون تابعا لكيفية الجعل أصلا.

وبعبارة أخرى : ان المولى لو كان يتمكن من ان يريد الفعل بدون هذا الشرط ، لكان لدعوى تبعية شرطيته لتعليق الإرادة عليه من قبل الشارع مجال ، ولكنه لا يتمكن ان يريد الفعل بدون هذا الشرط ، لأنه يستحيل تحقق الإرادة من دون شوق ، وهو لا يحصل بالنسبة إلى الفعل الخالي عن المصلحة ، وشرطية الشرط للإرادة تكوينية ليست منوطة بالشارع.

واما بناء على كون التكليف الفعلي هو الاعتبار العقلائي المترتب على الإنشاء الصادر من المولى ، فلا يخفى ان العقلاء إذا أدركوا ان كون الفعل بدون هذا الشرط خال عن المصلحة لم يعتبروا التكليف بدونه وكان اعتبارهم منوطا

١٣٩

بوجوده سواء ربط المولى حكمه به أو كان إنشائه مطلقا.

وان كان فرض حكمته انه لا بد ان ينشئه مقيدا به ، فترتب الحكم الفعلي على الشرط ليس منوطا بكيفية الجعل ، بل هو تابع لدخالته في المصلحة وهي جهة تكوينية واقعية لا جعلية.

ومنه يتضح الحال على الوجهين الآخرين في حقيقة الحكم التكليفي ، فان المراد بالشرط ـ كما أشرنا إليه ـ هو ما يمتنع وجود التكليف بدونه بحيث يلزم من عدمه العدم.

وهذه الجهة تتحقق في الشرط بملاحظة كونه دخيلا في الاحتياج إلى الفعل وكونه ذا مصلحة ، إذ يمتنع حينئذ تحقق التكليف من المولى الحكيم بدونه ويلزم من عدمه عدم التكليف ، وإلاّ كان منافيا للحكمة. اذن فانتزاع الشرطية منوط بأمر واقعي ولا ربط لكيفية الجعل به أصلا ، بل كيفية الجعل من المولى الحكيم تابعة للشرطية الواقعية.

والّذي يتحصل : ان شرطية التكليف الصادر من الحكيم ـ بناء على تبعية الأحكام للمصالح والأغراض العقلائية ، كما هو الحق الّذي لا يقبل الإنكار ، وإلاّ لما كان وجه للتقييد بشيء دون آخر ـ منتزعة عن خصوصية واقعية ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية ـ ، لا عن مقام الجعل والتشريع. وليس في كلامه خلط بين مقام المصلحة ومقام التشريع ، بل نظره إلى الشرطية في مقام التشريع والحكم كما عرفت.

كما ظهر مما ذكرنا ان ما أورده المحقق النائيني رحمه‌الله على صاحب الكفاية ـ من : انه خلط بين مقام الجعل والمجعول ، فان شرائط الجعل تكوينية لا تناط بالجعل ، واما شرائط المجعول فشرطيتها منتزعة عن كيفية الجعل ، ولو لا جعل المولى التكليف مقيدا بالشرط لم يعنون بعنوان الشرطية ـ وقد تبعه عليه

١٤٠