منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

ومن هذا القبيل موارد جعل البدل كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان.

هذا كله بناء على الالتزام بان العلم الإجمالي متعلق بالفرد الواقعي المعين في نفسه المردد لدى العالم. وبعبارة أخرى : كونه متعلقا بالجامع مع سرايته إلى الخارج وارتباطه به.

وأما لو التزم بان متعلق العلم الإجمالي هو صرف الجامع بلا سراية له إلى الخارج ـ كما التزمنا به في بعض الصور ، كالعلم الإجمالي بكذب إحدى الروايتين لأجل امتناع اجتماع الضدين ، كما تقدمت الإشارة إليه ـ ، فلا وجه للالتزام بوجوب الموافقة القطعية ، وامتناع الترخيص في بعض الأطراف ، في ما كان متعلق العلم مما يقبل التنجيز كما هو محل الكلام ، مثل ما إذا تعلق العلم بحرمة أحد الشيئين ، وذلك لأن العلم إذا كان مقصورا على الجامع غير الساري إلى الخارج بحيث تكون نسبته إلى كل طرف على حد سواء بلا ارتباط له واقعا بطرف دون آخر ، كان موجبا لتنجيز الجامع بمقداره لا أكثر ، فلا يمتنع الترخيص في بعض الأطراف ، إذ لا يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه كي يمنع ذلك من الترخيص. بل كان كل طرف محتمل التكليف بلا قيام منجز عليه بخصوصه ، فيكون كسائر موارد الشبهة البدوية.

نعم ، لا يصح الترخيص في مجموع الأطراف ، لأنه يستلزم الترخيص في نفس الجامع المفروض تنجزه بالعلم.

وبالجملة : العلم على هذا المبنى يوجب تنجيز مقدار الجامع بين الطرفين دون خصوصيتيهما ، فالترخيص في أحد الطرفين لا ينافي تنجيز الجامع بينهما ، كما هو واضح لا يخفى بأقل تأمل.

وأما ما ذهب إليه صاحب الكفاية في مورد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين للتعارض في المدلول ، بحجية أحد النصين بمقدار : « أحدهما » ، لأنه كما يعلم إجمالا بكذب أحدهما يعلم إجمالا بكون أحدهما محتمل الإصابة ، مع اجتماع

٨١

شرائط الحجية فيه ، فتثبت حجيته بهذا المقدار ، لأن المعلوم بالإجمال هو عنوان أحدهما بلا زيادة خصوصية توجب ربطه بأحدهما المعين في الواقع ، ورتّب على ذلك انه لا يثبت بذلك سوى أثر الجامع وهو نفي الثالث (١).

فقد أوضحنا تصويره في مبحث التعادل والتراجيح بما لا مزيد عليه (٢). ولكن أوردنا عليه إيرادات متعددة. ومن جملتها (٣) : ان دليل الحجية يتكفل إثبات الحجية لكل فرد بخصوصه من أفراد الخبر ، ولا يتكفل بيان حجية : « أحدهما » ، لأنه في حد نفسه ليس فردا من أفراد الخبر.

وعلى كل فنوكل الكلام في ذلك إلى محله.

والّذي يتلخص مما بيناه : ان العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، ولا مجال لجريان الأصول في كل طرف من أطرافه بنفسه.

ثم إنه لو بني على أن تأثير العلم الإجمالي في الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء لا العلية التامة ، بحيث لم يكن مانعا من جريان الأصول في بعض أطرافه دون بعض ـ كما عليه المحقق النائيني رحمه‌الله (٤) ـ ، فهل يقتضي ذلك تساقط الأصول في أطرافه ، أو التخيير بينها ، فيؤخذ بها في بعض الأطراف دون بعض؟. توضيح ذلك : انه قد عرفت شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الإجمالي مع قطع النّظر عن منجزيته ، وبعد فرض امتناع الترخيص في المخالفة القطعية يمتنع إعمال الأصول في جميع الأطراف لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية.

وعليه ، فيقع التعارض بين الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، فهل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٤٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) في البحث عن الأصل الأولى في التعارض.

(٣) هو ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله في هذا المقام.

(٤) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٤٢ ـ الطبعة الأولى.

٨٢

يقتضي التعارض تساقط الأصول في جميع الأطراف فتجب الموافقة القطعية حينئذ ، أو انه يقتضي التخيير بينها ، فلا تجب الموافقة القطعية؟. ـ وقد أشرنا سابقا إلى أن هذا البحث يبتني على عدم الالتزام بعلية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، وصحة ترخيص الشارع في أحد الأطراف.

وإلا فلا موضوع للبحث عن التساقط والتخيير ، لعدم صحة إعمال الأصل في بعض الأطراف ، كي يتحقق التعارض ، إذ الأصل في كل طرف لا يجري بنفسه ـ.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى : أن مقتضى التعارض هو التساقط ، وذلك لأن إعمال الأصل في كلا الطرفين يستلزم الترخيص في المعصية ، وأعماله في أحد الطرفين معيّنا ترجيح بلا مرجح ، وفي أحدهما لا بعينه غير صحيح ، لأن الأصول انما تجري في كل طرف بعينه. فيتحقق التساقط (١).

ولكن الّذي نختاره في هذه الجهة هو : ان مقتضى التعارض هو التخيير لا التساقط. وبيان ذلك : أن التخيير هاهنا يتصور بنحوين :

النحو الأول : ان يكون مجرى الأصل هو أحد الطرفين لا بعينه ، لأن مقتضى المحذور العقلي هو امتناع إجراء الأصل في كلا الطرفين ، اما إجراؤه في أحدهما لا بعينه فلا محذور فيه. فيلتزم به.

وهذا الوجه لا يمكن الالتزام به لا من جهة ان الواحد لا بعينه ، أو على البدل لا ثبوت له ، بل من جهة قصور مقام الإثبات عن إثبات هذا الوجه.

وذلك فانه لو التزمنا بصحة جعل الأصل في أحد الطرفين لا بعينه ثبوتا ، فان دليل الأصل انما يتكفل جعله في كل فرد من افراد موارده بنفسه وبخصوصه لا في كل فرد لا بعينه وعلى البدل ، فهو نظير دليل الحجية يتكفل جعلها لكل

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٤١ و ٢٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٨٣

فرد من افراد الخبر بنفسه لا في كل فرد لا بعينه. وليس لأحدهما لا بعينه واقع غير واقع سائر افراده المعيّنة بحيث يكون فردا آخر ، كي يكون مما شمله الإطلاق ، بل هو عنوان ينتزع عن ملاحظة الافراد بنحو خاص.

وبالجملة : فدليل جعل الأصول والحجية لا يتكفل بلسانه جعل الأصل والحجية في أحد الطرفين لا بعينه ، فيحتاج ذلك إلى دليل خاص وهو مفقود بحسب الفرض.

ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ رحمه‌الله مما ذكره من : ان أحدهما لا بعينه ليس فردا ثالثا كي يكون مشمولا للدليل ، فهو يقصد بيان قصور الدليل عن ذلك في مقام الإثبات ، ولا ينظر إلى كون المحذور في مقام الثبوت. فالتفت.

النحو الثاني : ان يلتزم بإجراء الأصل في كل طرف مقيدا بترك الآخر ، فيلتزم بإباحة كل طرف عند ترك الآخر واجتنابه. بتقريب : ان المحذور في الالتزام بإجراء الأصلين في كلا الطرفين من جهة إطلاق دليل الأصل في كل طرف الشامل لحالتي ترك الآخر وفعله ، فيلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعية. أما مع رفع اليد عن الإطلاق وتقييده بحالة ترك الآخر ، فلا تشمل إباحة كل طرف صورة ارتكاب الطرف الآخر. فلا محذور فيه. فيتعين الالتزام به تمسكا بدليل الأصل الّذي لا يصح رفع اليد عنه إلا بمقدار المحذور العقلي ، لأن الضرورات تقدّر بقدرها. فان مقتضى دليل الأصل إجراؤه في كل طرف في كلتا الحالتين ـ أعني : حالة فعل الآخر وتركه ـ ، ولما لم يمكن الأخذ به في إحدى الحالتين ، وهي حالة فعل الآخر ، لا يرفع اليد عنه الا في تلك الحالة فيبقى دليله في حالة ترك الآخر محكما.

وبالجملة : مقتضى دليل الأصل بضميمة امتناع الترخيص في المعصية القطعية هو إجراؤه في كل طرف مشروطا بترك الطرف الآخر.

وقد أورد على هذا الوجه إيرادات ثلاثة :

٨٤

الأول : ان مقتضى ذلك هو ثبوت الترخيص الفعلي في كلا الطرفين عند ترك كليهما لتحقق شرط جريان الأصل في كل منهما ، فيلزم الترخيص في ما علم حرمته بالفعل وهو قبيح.

الثاني : ان الحكم الظاهري لا بد وان يكون مما يحتمل مطابقته للواقع ، والإباحة المشروطة لا يحتمل مطابقتها للواقع لأننا إذا كنا نعلم بحرمة أحد الطرفين وبإباحة الآخر واقعا ، فالحرمة المعلومة غير مقيدة بترك المباح ، كما ان الإباحة المعلومة بالإجمال غير مقيدة بترك الحرام ، بل هي مطلقة غير مشروطة.

الثالث : ان الإباحة الظاهرية انما لا تكون منافية للحرمة الواقعية إذا لم تصل الحرمة إلى المكلف ، أما مع وصولها إليه صغرى وكبرى ، فالمنافاة بينهما متحققة. وذلك لأن المنافاة بين الحكمين انما تنشأ من التنافي بين مبدأيهما ، وهو الإرادة والكراهة ونحوهما ، أو من التنافي في مقام الامتثال ، ومع الجهل بالحكم الواقعي الموضوع للحكم الظاهري لا تنافي في شيء من ذلك ، أما من حيث المبدأ ، فلان الحكم الظاهري انما ينشأ عن مصلحة في نفسه لا من خصوصية في متعلقه. واما في مقام الامتثال فلان الحكم الواقعي على تقدير عدم وصوله لا داعوية له ، فلا ينافي الحكم الظاهري. فإذا فرض وصول الحكم الواقعي ولو بالعلم الإجمالي ، كان جعل الحكم على خلافه من الجمع بين المتضادين (١).

وجميع هذه الإيرادات مردودة :

أما الأول : فلأنه إشكال نظير الإشكال الّذي يورد به على الالتزام بالترتب من الجانبين في طلب الضدين المتساويين في الأهمية. فانه يورد هناك : ان لازمه وجوب كلا الضدين فعلا عند ترك كل منهما ، فيلزم طلب الضدين معا بالطلب الفعلي.

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٢٨ ـ الطبعة الأولى.

٨٥

والجواب عنه ما يذكر من ان طلب الضدين في آن واحد لا محذور فيه ، بعد ان كان طلب كل منهما مشروطا بترك الآخر ـ ومجرد ترك الآخر لا يخرج الطلب عن كونه مشروطا إلى كونه مطلقا (١). وقد مر الكلام في هذا الأمر في مبحث الترتب فراجع (٢) ـ وذلك لأن المحذور في طلب الضدين هو حصول التنافي ، بينهما في مقام الداعوية ، وبالتقييد المزبور يرتفع التنافي ، لأن فرض داعوية أحدهما لا يكون إلا بفرض عدم داعوية الآخر حتى في فرض ترك كليهما وفعلية كلا الطلبين ، كما يوضح في محلّه.

وبمثل هذا الجواب يدفع الإشكال فيما نحن فيه ، فان محذور الترخيص في كلا الطرفين هو الترخيص في المخالفة القطعية ، وهو يرتفع بتقييد الإباحة في كل طرف بترك الطرف الآخر ، وترك كلا الطرفين لا يخرج الإباحة الثابتة عن كونها مشروطة ، فلا تكون الإباحة في كل طرف فعلية التأثير إلا في فرض عدم تأثير الأخرى ، فلا يلزم الترخيص المؤدي إلى المخالفة القطعية.

وأما ما أفاده من ان المحذور ليس في الترخيص في الجمع ، بل في الجمع بين الترخيصين. ففيه : انه لا محذور في الجمع بين الترخيصين إلا من جهة أنه يؤدي إلى الترخيص في الجمع ، وإلا فمجرد الجمع بين الترخيصين ليس بمحذور.

ودعوى انه محذور مصادرة.

وأما الثاني : فلأن ما ذكر من لزوم احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي صحيح في الجملة ، لكن الوجه فيه ليس قيام دليل لفظي عليه كي يتمسك بإطلاقه ، بل انما هو لجهة عقلية ، وهي ان الحكم الظاهري انما يجعل لتنجيز الواقع أو التعذير عنه ، وهذا إنما يثبت مع احتمال المطابقة ، وإلا فلا معنى

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٩٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) راجع : ٢ ـ ٤١١ من هذا الكتاب.

٨٦

للتنجيز ولا التعذير.

ولا يخفى ان غاية ما تطلبه هذه الجهة هي لزوم احتمال المطابقة في أصل الحكم لا في خصوصياته من إطلاق أو اشتراط ، فان الاختلاف بين الحكم الظاهري والواقعي في الاشتراط والإطلاق لا ينافي هذه الجهة قطعا. ولا دليل آخر على عدم جواز مثل هذا الاختلاف ، بل الدليل على خلافه ، فان الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب مقيد بثبوت اليقين السابق ، مع ان الواقع ثابت بلا تقيد بذلك كما لا يخفى. فانتبه.

وأما الثالث : فلأن مقتضاه عدم صحة الترخيص في بعض الأطراف ، وكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية. وهو خلف الفرض وخلاف مبنى القائل نفسه.

وعلى كل حال فيندفع ما ذكره بان : التنافي في مقام الداعوية مرتفع بعد الترخيص والتأمين من العقاب لأن الداعوية الإلزامية تتحقق بلحاظ ما يترتب على المخالفة من أثر سيّئ وهو العقاب. كما بيناه سابقا في أول هذا المبحث. فلا تنافي بين الترخيص في بعض الأطراف والعلم بالحكم في أحدهما. فلاحظ.

ويتلخص لدينا : أن جميع هذه الإيرادات مندفعة ، فلا مانع من الالتزام بالتخيير بالتصوير المزبور ، وهو الإباحة المشروطة بترك الآخر.

ولكن المحقق النائيني أنكر التخيير غاية الإنكار ، وأسهب في بيان ذلك.

وخلاصة ما أفاده ( قده ) ، بعد تصوير التخيير بتقييد جريان الأصل في كل طرف بعدم أعماله في الآخر ، لا بتقييده بترك الطرف الآخر كما صورناه ، وبعد تقريبه ببيان طويل لا يعدو في لبّه ما تقدم منّا في تصويره ، هو : أن القول بالتخيير قول بلا دليل ولا يساعد عليه العقل ولا النقل. وذلك لأن الموارد التي يلتزم فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص على نحوين :

الأوّل : أن يلتزم بالتخيير بلحاظ اقتضاء الدليل الدال على الحكم

٨٧

للتخيير. كما إذا ورد عام كقوله : « أكرم العلماء » ، ثم ورد ما يدل على عدم إكرام زيد العالم وعمرو العالم ، ولكن شك في ان خروجهما بنحو الإطلاق بحيث لا يجب إكرام كل منهما في كل حال أو ان خروجهما بنحو خاص ، بان كان عدم وجوب إكرام كل منهما مقيدا بإكرام الآخر. فانه يلتزم في مثل ذلك بالتخيير ، لأن العام يكون حجة في مدلوله إلاّ بالمقدار الّذي يقوم الخاصّ عليه. ومع الشك في مدلول الخاصّ يقتصر فيه على القدر المتيقن ، والمتيقن هو خروج كل من الفردين عند إكرام الآخر ، إذ خروجه مطلقا مشكوك ، ونتيجة ذلك هو التخيير في إكرام أحدهما وعدم إكرام الآخر.

فالتخيير هاهنا ناش من ناحية الدليل لا المدلول كما لا يخفى.

الثاني : ان يلتزم بالتخيير بلحاظ اقتضاء نفس المدلول والمنكشف وان كان الدليل يقتضي التعيينية ، كموارد تزاحم الواجبين في مقام الامتثال لعدم القدرة على امتثالهما معا ، فان التخيير هاهنا يلتزم به من جهة ان المجعول يقتضي التخيير وذلك لأنه يعتبر في التكاليف الشرعية القدرة على متعلقاتها وبما أنه يمتنع على المكلف الإتيان بالضدين وكان المكلف قادرا على إتيان كل منهما عند ترك الآخر ، فالعقل يرى لزوم صرف القدرة في أحدهما تخييرا ، إما من جهة تقييد إطلاق كل من الدليلين بصورة ترك الآخر ، وإما من جهة سقوط التكليفين معا واستكشاف العقل حكما تخييرا لوجود الملاك التام في كل منهما على اختلاف المسلكين في باب التزاحم.

وبعد ان ذكر نحوي التخيير ذكر : ان التخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه لا من ناحية الدليل ولا من ناحية المدلول.

أمّا عدم الشاهد من ناحية الدليل فلأن دليل الأصل يتكفل جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أم لا وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد المتعارضين.

٨٨

وأمّا عدم الشاهد من ناحية المدلول فلأن المجعول في باب الأصول العملية هو الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل وهذا الحكم يتقوم باجتماع قيود ثلاثة الجهل بالواقع وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع وعدم لزوم المخالفة العملية وبانتفاء أحد هذه القيود يمتنع جعل الأصل ، وبما أنه يلزم من إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عملية ، فلا يمكن جعلها جمعا ، وأما جعل أحدهما تخييرا فهو بمكان من الإمكان لكن لا دليل عليه لا من ناحية دليل الأصل ولا من ناحية المجعول به.

هذا ملخص ما أفاده ( قده ) (١). والنقطة التي يبني عليها مختاره هو عدم الدليل على التخيير لا عدم إمكانه ، فانه يعترف بإمكانه كما هو صريح عبارته.

وأنت خبير : ان التخيير بالنحو الثاني الّذي صورناه لا يحتاج إثباته إلى دليل خاص يقوم عليه ، بل مجرد دليل الأصل كاف في إثباته لأنه مطلق شامل لحالتين. فيرفع اليد عن إطلاقه بمقدار المحذور العقلي لأن الضرورات تقدر بقدرها ، فيثبت الأصل في كل طرف في صورة ترك الطرف الآخر لعدم المحذور فيه. فالتخيير فيما نحن فيه من موارد التخيير بلحاظ الدليل والكاشف.

وأما تصويره التخيير بتقييد كل منهما بعدم إعمال الأصل في الآخر فهو باطل في نفسه ، وبيان ذلك في مقام آخر ، فالتخيير الّذي نلتزم به هو ما صوّرناه.

ونتيجة جميع ما ذكرناه هو : عدم المانع من الالتزام بالتخيير عند التعارض ، والدليل في مقام الإثبات يقتضيه ، فما حاوله بعض الأعلام من إثبات وجوب الموافقة القطعية من طريق تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها مع التزامه بعدم علية العلم الإجمالي لذلك ، إنما هو محاولة فاشلة ، فتدبّر والتفت.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٨٩

الجهة الرابعة : في الانحلال.

وتوضيح الكلام فيه هو : انه إذا تعلق العلم الإجمالي بحكم إلزاميّ مردد بين طرفين ، ويحصل العلم التفصيليّ بثبوت الإلزام في أحد الطرفين المعين ، أو تقوم الأمارة على ذلك أو الأصل المثبت ..

فتارة : يتعلق العلم التفصيليّ بنفس المعلوم بالإجمال أو تقوم الأمارة عليه ، بان يعلم تفصيلا بان ذلك الحكم المردد هو في هذا الطرف ، أو تقوم الأمارة على ذلك.

وأخرى : لا يتعلق العلم التفصيليّ بهذا النحو. بل يعلم تفصيلا بثبوت الحرمة ـ مثلا ـ في هذا الطرف المعين ، بلا بيان انه هو المعلوم بالإجمال ، بل مع احتمال ان تكون هي الحرمة المعلومة بالإجمال.

أما النحو الأول ، فلا كلام فيه من حيث الانحلال حقيقة أو حكما ، وسيجيء الإشارة إلى وجه ذلك مؤخرا.

انما الكلام والإشكال في النحو الثاني ، وهو ما كان المعلوم بالتفصيل أو مؤدى الأمارة ، أو مفاد الأصل الشرعي أو ما قام عليه الأصل المثبت العقلي محتمل الانطباق على ما هو المعلوم بالإجمال.

ولا يخفى ان تحقيق هذه الجهة لم يعطه الاعلام حقه من الاستيفاء ، مع انه ذو أهمية كبيرة في بعض المسائل الأصولية المهمة ، كمسألة حجية الخبر الواحد ، حيث حاول البعض إثبات حجيته بطريق العلم الإجمالي ، وناقشه الآخرون بانحلاله ـ كما مرت الإشارة إليه ـ. ومسألة الانسداد المبتني رد دليل الانسداد فيها على دعوى الانحلال ، ومسألة الاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية التي ادعى الأخباريون فيها لزوم الاحتياط للعلم الإجمالي وكان ردّهم من الأصوليين يتمحض في دعوى انحلاله.

وكيف كان فالذي يبدو ان الانحلال لدى الاعلام مفروغ منه.

٩٠

وقد ذكرت في تقريبه وجوه لا تخلو من مناقشة. وهي :

الوجه الأول : ان العلم الإجمالي ينحل حقيقة وتكوينا بواسطة العلم التفصيليّ ، لأنه إن كان متعلقا بالجامع بين الطرفين مع الشك في كلتا الخصوصيّتين فهو يرتفع بالعلم التفصيليّ بثبوت الحكم في الطرف المعين. وان كان متعلقا بالفرد المردد ، فلا تردد حينئذ للعلم بالخصوصية على نحو التعيين.

وأما الأمارة ، فالعلم الإجمالي ينحل بها حكما وتعبدا ، لأن دليل الاعتبار يقتضي تنزيل الأمارة منزلة العلم ، فيترتب عليها جميع آثاره ومنها الانحلال كما عرفت.

وأما في صورة قيام الأصل المثبت في أحد الطرفين ـ شرعيا كان أم عقليا ـ ، فالانحلال يتحقق من جهة جريان الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ، لأن عدم جريانه لأجل المعارضة ، فإذا لم تكن معارضة فلا مانع من جريانه.

وهذا الوجه يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني ـ وإن لم يذكر صريحا في كلماته المنسوبة إليه ـ ، كالتزامه بانحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ تكوينا ، وقياس الأمارة عليه بناء ، على ما يذهب إليه من جعل الطريقية ، وتعليله ذلك بان الأمارة طريق تعبدا (١).

وعلى أي حال ، لا يهمنا ذلك ، بل المهم تحقيق هذا الوجه صحة وبطلانا. فنقول : ما ذكره أخيرا في مورد قيام الأصل المثبت يتأتى في جميع الصور. إذ مع قيام العلم التفصيليّ أو الأمارة ، يمكن أيضا إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى في الوجه الثالث.

وأما ما أفيد في وجه الانحلال الحكمي عند قيام الأمارة ، فهو غريب ،

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤١ و ٣ ـ ١٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٩١

لأن الّذي يترتب على الأمارة بدليل التنزيل هو الآثار العملية الجعلية الشرعية أو العقلية ـ كالمنجزية ـ ، دون الآثار التكوينية الناتجة عن الأسباب التكوينية الخارجة عن عالم الجعل والتشريع. ومن الواضح ان انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ من آثار العلم التكوينية لا الجعلية ، فلا يثبت تعبدا بدليل التنزيل.

وأما دعوى الانحلال التكويني الحقيقي بالعلم التفصيليّ ، فهي انما تصح بناء على تعلق العلم الإجمالي بالجامع أو الفرد المردد.

أما بناء على ما اخترناه من تعلقه بالفرد الواقعي المعين في نفسه المردد لدى العالم بين الطرفين ، فلا تصح الدعوى المزبورة ، لأن العلم التفصيليّ بنجاسة أحد الإناءين المعين لا يزيل العلم بنجاسة ما وقعت فيه قطرة البول المردد بين الإناءين.

ومن هنا يظهر بطلان دعوى الانحلال الحكمي في الأمارة قياسا على الانحلال الحقيقي في العلم ـ مع قطع النّظر عن الإشكال السابق فيه ـ لعدم ترتب الانحلال على العلم.

ثم إن المحقق العراقي قدس‌سره أورد على ما ذهب إليه هذا القائل من تحقق الانحلال التكويني بالعلم التفصيليّ بالتقريب المتقدم. وبدعوى الوجدان بعدم العلم بأزيد من حرمة أحد الإناءين معينا ، أورد عليه : بان مجرد تعلق الإجمالي بالجامع لا يقتضي انحلاله بقيام العلم التفصيليّ على التكليف في بعض الأطراف ، لأنه كما يحتمل انطباقه على الطرف المعلوم تفصيلا يحتمل بالوجدان انطباقه على الطرف الآخر ، ووجود هذا الاحتمال كاشف قطعي عن بقاء العلم الإجمالي ، لأنه من لوازمه ، إذ لا يمكن بقاء هذا الاحتمال بلا بقاء ملزومه وهو العلم الإجمالي (١).

__________________

(١) تعليقة فوائد الأصول ٤ ـ ٤١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٩٢

أقول : إيراده قدس‌سره يبتني على مختاره في متعلق العلم الإجمالي ، وانه الصورة الإجمالية القابلة للانطباق على كل من الطرفين على سبيل البدل.

وبذلك يكون إيرادا مبنائيا ، وهو خلاف الأسلوب الصناعي ، بل كان ينبغي عليه ان يردّد في مقام الإيراد بين المباني.

والأمر سهل بعد ما عرفت حقيقة الحال.

الوجه الثاني : ما هو ظاهر المحقق النائيني رحمه‌الله في كلا تقريري بحثه ـ وعلى الأخص أجود التقريرات (١) ـ ( وهو يغاير ما هو المعهود منه سابقا في أذهاننا وهو الوجه السابق ).

ومحصل ما أفاده قدس‌سره ـ كما في تقرير الكاظمي رحمه‌الله ـ : ان العلم الإجمالي ينحل بقيام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض الأطراف المعين ، سواء كان علما أم أمارة أم أصلا شرعيا كان أو عقليا ، ولا فرق بين ان يقوم ذلك قبل العلم الإجمالي وبعده. غاية الأمر انه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الإجمالي من رأس. وفي الثاني يوجب انحلاله وعدم تأثيره بقاء. والسر في ذلك : انه بعد احتمال انطباق ما هو المعلوم بالإجمال على ما قام الدليل المثبت للتكليف فيه ، لا يكون العلم الإجمالي علما بتكليف على كل تقدير. وهذا الوجه يتأتى فيما إذا كان العلم التفصيليّ بالتكليف في طرف معين بعد العلم الإجمالي ، لكن كان المعلوم سابقا ، لأن العلم الإجمالي وان كان منجزا حدوثا ، لكنه بقاء ينحلّ ، وذلك لتبدله وانقلابه عما كان عليه أولا ، إذ بعد العلم التفصيليّ بالتكليف في طرف معين من السابق ، واحتمال انه هو المعلوم بالإجمال السابق ، لا يكون العلم الإجمالي علما بتكليف فعلي على كل تقدير من الأول.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٤٥ ـ الطبعة الأولى.

٩٣

وبالجملة : فتأخر العلم التفصيليّ لا يجدي بعد كون المعلوم سابقا ، لأن العلم طريقي لا موضوعي.

هذا محصل ما أفاده قدس‌سره في المقام (١).

ولكنه مما لا يمكن الالتزام به. بيان ذلك : ان مراده من الحكم الفعلي ..

إن كان هو الحكم المنجز ، فهو ـ مضافا إلى انه خلاف ما يلتزم به من التفكيك بين المقامين ، وان الفعلية تثبت مع الجهل مع كون قوام التنجز بالوصول ـ خلف ، إذ الفرض ان التنجيز من قبل العلم لا سابق عليه ، فلا معنى لأن يؤخذ في منجزية العلم تعلقه بتكليف منجز.

وإن كان هو الحكم الفعلي بالمعنى الّذي يختاره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، والّذي لا ينافيه وجود الحكم الظاهري. ففيه : ان هذا الحكم لا يرتفع بالجهل ، ولا بقيام الأمارة على خلافه ، فكيف يقال : ان العلم الإجمالي ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير؟.

وإن كان هو الحكم الفعلي الحادث ، كان صحيحا لأن العلم الإجمالي لا يكون متعلقا بتكليف فعلي حادث على كل تقدير.

لكن فيه : انه لا يشترط في منجزية العلم تعلقه بتكليف حادث ، بل يكفى في تنجزه تعلقه بتكليف فعلي ولو كان في مرحلة بقائه.

ولذا لو تعلق علم إجمالي بحدوث حكم أو بقاء آخر ، كان منجزا بلا إشكال.

وقد يوجّه ما أفاده قدس‌سره : بان مراده ما يذهب إليه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله في الحكم الفعلي من انه البعث الواصل إلى مرحلة الداعوية ، وإمكان الداعوية لا يكون إلا بالوصول ، فالعلم يكون دخيلا في تحقق

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٤ ـ ٣٦ ـ ٣٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٩٤

داعويته ، فمراده هو العلم بالتكليف الفعلي بنحو يكون دخيلا في فعليته وداعويته على كل تقدير.

وهذا منتف عند تعلق العلم التفصيليّ بالتكليف في أحد الأطراف المعين ، لأن التكليف يصل بالعلم التفصيليّ لا بالعلم الإجمالي (١).

وهذا التوجيه لو سلم ولم نخدش فيه : بان ذلك لا يمنع من منجزية العلم الإجمالي ، إذ لا يشترط في منجزيته ان يكون دخيلا في تحقق فعلية الحكم الّذي تعلق به ، بل غاية ما يعتبر فيه ان يكون متعلقا بحكم فعلي وقد تحقق هاهنا ـ فهو انما يتم فيما كان قيام ما يوجب ثبوت التكليف في أحد الأطراف سابقا على العلم الإجمالي.

أما إذا كان متأخرا عنه ، فلا يتم هذا التوجيه ، لأن العلم الإجمالي حين حدوثه كان منجزا وموجبا لوصول التكليف في أي طرف كان ، والعلم التفصيليّ المتأخر وان كشف عن ثبوت الحكم بآثاره من السابق ، إلا انه لا يصحح فعلية الحكم إلا حين حدوثه لا من السابق كما لا يخفى. فالعلم الإجمالي يكون منجزا بلا وجه لانحلاله.

ثم ان الّذي يظهر من بعض عباراته قدس‌سره هو تحقق الانحلال التكويني ، وانقلاب القضية المنفصلة المانعة الخلو إلى قضيتين حمليتين إحداهما معلومة بالتفصيل والأخرى مشكوكة. وهاهنا لا يلتزم بذلك لالتزامه بقاء العلم الإجمالي ، لكنه ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير.

وهذا نوع من التهافت. فالتفت ولاحظ.

الوجه الثالث : ما يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني ـ أيضا ـ من : ان وجوب الموافقة القطعية وعدم جريان الأصل في بعض الأطراف ، بما انه

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٩٥

مستند إلى تعارض الأصول في أطراف العلم ، فعند قيام المثبت للتكليف في طرف معين ، كان الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ، فلا مانع من جريانه (١).

وهذا الوجه مردود ، وذلك : لأن عمدة الغرض من الانحلال وإثباته ، هو إثبات الانحلال بالعلم المتأخر أو الأمارة المتأخرة لرد الأخباريين الذين يدعون العلم الإجمالي ، بانحلاله بالأمارات القائمة على التكاليف بعد الفحص. ونحو ذلك من الآثار المترقبة للانحلال.

وهذا البيان الراجع إلى تحقق الانحلال فيما إذا لم يمكن إجراء الأصل النافي في أحد الأطراف المعين في مرحلة البقاء لمانع ، لجريانه في الطرف الآخر بلا معارض ، لا يمكن الالتزام به ، وإلا لجرى في كل مورد يسقط الأصل النافي في بعض الأطراف بقاء ، كموارد الاضطرار إلى معين بعد العلم ، والخروج عن محل الابتلاء وفقدان أحد الأطراف ، وتطهيرها ونحو ذلك ، وهو مما لا يلتزم به القائل وغيره كما سيجيء أن شاء الله ، والبيان الّذي يذكر في إثبات بقاء العلم الإجمالي على صفة المنجزية يتأتى هاهنا. فالتفت.

الوجه الرابع : ما يستفاد من كلمات المحقق الأصفهاني قدس‌سره في الموارد المختلفة ، وهو : انه مع قيام العلم التفصيليّ على ثبوت تكليف في طرف معين ، لا يكون العلم الإجمالي علما بتكليف فعلي جديد آخر ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل. وهكذا الحال عند قيام الأمارة بناء على جعل الحكم المماثل.

أما بناء على جعل المنجزية فللانحلال بيان آخر ، وهو انه بعد تنجز أحد الأطراف بقيام الأمارة لا يصلح العلم الإجمالي لتنجيز ذلك الطرف ، لأن المنجز لا يتنجز ، فلا يكون منجزا للتكليف على كل تقدير.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٩٦

هذا في الأمارة السابقة أو المقارنة للعلم.

أما في الأمارة المتأخرة عن العلم ، فالأمر فيها كذلك ، لأن وجودها الواقعي في معرض الوصول يوجب تنجز الواقع بها ، ولو لم تكن بعد واصلة ، ولذا يجب الفحص في الشبهة ، فالظفر بالأمارة ظفر بالمنجز لا أنه قوام تنجيز الأمارة ، فقيام الأمارة يكشف عن وجود المنجز لأحد الأطراف من السابق ، فلا يصلح العلم الإجمالي للتنجيز.

فالعمدة في هذا الوجه هو ما أفاده من أن المتنجز لا يتنجز (١).

وتمكن الخدشة في هذا الوجه كسوابقه : بأن دعوى ان المتنجز لا يتنجز صحيحة ، بمعنى ان المتنجز فعلا بوصف كونه منجزا لا معنى لتنجزه ، لأنه تحصيل الحاصل.

وأما اشتراك المنجز اللاحق مع المنجز السابق في التنجيز بقاء بحيث يكون التنجيز في مرحلة البقاء لهما ، فلا مانع منه ، لأنه ليس من تنجز المنجز بوصف كونه منجزا.

وحينئذ نقول : انه بعد فرض عدم انحلال العلم الإجمالي تكوينا ، وبقائه على ما كان بعد قيام العلم التفصيليّ أو الأمارة ، فلا قصور فيه عن المنجزية.

وعليه ، يكون دخيلا في تنجيز الطرف الّذي قامت عليه الأمارة ، فيكون التنجيز للمجموع ، فهما ينجزان ذلك الطرف في عرض واحد ، ولا مانع منه.

ولذا لم يتخيل أحد عدم منجزية العلمين الإجماليين إذا اشتركا في طرف معا كما لو علم إجمالا بنجاسة الإناء الأبيض أو الأصفر ، وعلم إجمالا بنجاسة الإناء الأصفر أو الأحمر.

مع أن البيان الّذي أفاده من عدم تنجيز المنجز يتأتى هاهنا.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٠٠ و ٢٠١ ـ الطبعة الأولى.

٩٧

وليس ذلك إلا لكون التنجيز لكلا العلمين ، وبمثله يلتزم فيما نحن فيه ، فيكون التنجيز للأمارة والعلم الإجمالي.

وبالجملة : بعد وضوح التنجيز في المثال المزبور لا مجال لما أفاده من ان المتنجز لا يتنجز.

ولا يخفى إنه لا أثر لأسبقية العلم التفصيليّ ، لأن تأثيره في التنجيز بقاء بلحاظ حالة بقائه لا حدوثه ، لأن تنجيز العلم يدور مدار وجوده ـ ولذلك يشير الشيخ في أول مبحث القطع بقوله : « ما دام موجودا ». فراجع (١) ـ.

وعليه ، فهو في مرحلة البقاء في عرض العلم الإجمالي الحادث ، وليس العلم الإجمالي في طوله ، لأن وجوده سابقا لا أثر له في التنجيز بقاء. فلاحظ.

وأما ما أفاده قدس‌سره في صورة تأخر الأمارة. ففيه :

أولا : أنه لا يتأتى بالنسبة إلى العلم التفصيليّ المتأخر ، لعدم تصور تنجيزه من السابق ، لأنه سبب التنجز ، والمفروض حدوثه متأخرا ، فالتنجيز من حين حدوثه لا من السابق ، فيكون العلم الإجمالي أسبق منه في التأثير ، فيمنعه من التنجيز ـ بناء على ما أفاده من ان المنجز لا يتنجز ـ.

وثانيا : انه لا يتم في الشبهات الموضوعية لعدم لزوم الفحص فيها ، والأمارة لا تكون حجة فيها بوجودها الواقعي في معرض الوصول ، مع ان حديث الانحلال عام لا يختص بالشبهات الحكمية ، كما يظهر من ملاحظة البحث في مسألة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي ونحوها.

وثالثا : انه يبتني على المذهب القائل بان الأمارة حجة بوجودها الواقعي إذا كان في معرض الوصول ، ولا يتم بناء على مذهب صاحب الكفاية القائل بان حجية الأمارة تتقوم بالوصول (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٩٨

ورابعا : ان الظفر بالأمارة ليس ظفرا بالمنجز ، بل المنجز ملتفت إليه من السابق وهو الاحتمال ، لأن الاحتمال قبل الفحص يكون منجزا. مع ان مقتضى ذلك كون المنجز في كلا الطرفين لا في أحدهما ، لأن الشبهة في كلا الطرفين قبل الفحص تكون سببا للتنجيز. فبملاحظة هذه الخصوصية ـ أعني خصوصية الشبهة قبل الفحص ـ لا يكون المورد من موارد انحلال العلم الإجمالي ، بل العلم الإجمالي لا أثر له من أول الأمر ، لقيام المنجز على كل طرف من أطرافه بخصوصه. فتدبر.

الوجه الخامس : ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس‌سره من الانحلال الحكمي بتقريب : ان تنجيز العلم الإجمالي يعتبر فيه ان يكون العلم الإجمالي صالحا للتنجيز بنحو الاستقلال في كل طرف من أطرافه ، ومع قيام المنجز من علم أو أمارة أو أصل على بعض أطرافه يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثرية واستقلاله فيها في ذلك الطرف ، فيسقط عن التنجيز (١).

وهذا الوجه كسوابقه مردود ، فان اعتبار قابليته للتنجيز بنحو الاستقلال في منجزيته مصادرة مما لا دليل عليه ، بل الشاهد على خلافه كما تقدم من مثال اشتراك العلمين الإجماليين في طرف واحد ، فقد عرفت انه لا إشكال في تنجيز كلا العلمين ، مع ان كلا منهما لا يستقل في التأثير في الطرف المشترك بينهما.

وبالجملة : المثال المزبور كما يدفع دعوى المحقق الأصفهاني ان المنجز لا يتنجز ، كذلك يدفع دعوى المحقق العراقي.

والمتحصل : انه لم ينهض وجه من هذه الوجوه لإثبات الانحلال المتسالم عليه ، والمأخوذ بنحو إرسال المسلمات أصولا وفقها ، بحيث يستلزم إنكاره تأسيس فقه جديد.

__________________

(١) العراقي المحقّق الشيخ ضياء الدين ، مقالات الأصول : ٢ ـ ٦٦ ـ ٦٧ ـ الطبعة الأولى.

٩٩

والوجه الصحيح الّذي نختاره في تقريب الانحلال هو : انك قد عرفت في البحث عن وجوب الموافقة القطعية أنه لا مانع من الترخيص الشرعي في بعض الأطراف بنحو يستلزم التأمين من ناحية العلم الإجمالي بأن كان ناظرا إليه ، وإلى ذلك أرجعنا جعل البدل. وعرفت ان عدم جريان الأصول في بعض الأطراف من جهة قصور مقام الإثبات لعدم تكفلها التأمين من ناحية العلم الإجمالي.

وعليه ، فنقول : إنه إذا تعلق العلم التفصيليّ بتكليف فعلي في أحد الأطراف المعين ، واحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه لا ينحلّ العلم الإجمالي حقيقة لثبوته وجدانا ، إلا أنه يحصل للمكلف شك في ثبوت تكليف فعلي زائد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، ومثل هذا الشك يكون مجرى للبراءة شرعا فينفي التكليف الزائد بها. ومن الواضح انه بجريانها لا يبقى مجال المنجزية العلم في الطرف الآخر ، لأن أساس منجزيته على تعلقه بتكليف فعلي مردد بين الطرفين ، والمفروض ان أصل البراءة ينفي التكليف الزائد على ما في أحد الطرفين ، فيكون ناظرا إلى العلم الإجمالي قهرا وموجبا للتأمين من ناحيته.

وهذا البيان بنفسه يجري فيما إذا قامت الأمارة على التكليف في أحد الأطراف معينا ، أو قام الأصل الشرعي عليه.

فيقال : ان التكليف زائدا على المقدار المنجز في هذا الطرف مشكوك ، والأصل ينفيه.

نعم ، يشكل الأمر في ما إذا كان القائم في أحد الأطراف أصلا عقليا ، كأصالة الاشتغال ، وسيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرنا ظهر انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير مع احتمال الانطباق ، لجريان البيان المذكور فيه كما لا يخفى.

ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه بين كون قيام ما يوجب ثبوت التكليف في أحد

١٠٠