منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

في مقام بيان الجامع وأنه أمر مبهم قابل للانطباق على الزائد والناقص كما تقدم ذكره. ففيه : انه لا ينطبق على المعلوم بالإجمال بتمامه لإبهامه.

لكن الإنصاف : انه يمكن ان يكون مراده ما ذكرناه من تعلق العلم بعنوان جامع مرتبط بالخارج المعين واقعا المردد بين فردين ، بحيث ينطبق على المعلوم بالتفصيل لو تحقق العلم التفصيليّ ، فلا إشكال عليه ، فراجع كلامه تعرف حقيقة مرامه. هذا تمام الكلام في تحقيق العلم الإجمالي وكيفية تعلقه بالجامع.

الجهة الثانية : في شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الإجمالي.

وقد تقدمت الإشارة إلى أهمية البحث في ذلك لمثل صاحب الكفاية الّذي يرى قصور فعلية الواقع مع جريان الأصل في مورده ، فان ثبت شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي منع عن تنجيز العلم لقصور المعلوم ، فلا يكون العلم متعلقا بحكم فعلي كي يتحقق التنجز. كما انه ان ثبت عدم شمول الدليل لأطراف العلم لم يكن الحكم المعلوم قاصر الفعلية ، لأن مقتضى دليله كونه فعليا بحصول موضوعه لعدم دخل شيء في فعليته غيره.

ثم انه بعد تحقيق هذه الجهة والالتزام بشمول الأصول لأطراف العلم الإجمالي ، يقع البحث عن ان العلم هل يصلح مانعا من جريانها أو لا يصلح؟. ومرجعه إلى البحث عن منجزية العلم الإجمالي وعدمها.

فالبحث في هذه الجهة عن شمول الأصول لأطراف العلم الإجمالي مع قطع النّظر عن منجزية العلم الإجمالي.

وتحقيق الكلام في هذه الجهة ان يقال : ان الاحتمالات في المقام ثلاثة :

الأول : عدم شمول أدلة الأصول مطلقا لأطراف العلم الإجمالي.

الثاني : شمول أدلة الأصول مطلقا.

الثالث : التفصيل بين الأصول التنزيلية كالاستصحاب وغيرها ، فلا تجري الأولى في أطراف العلم الإجمالي ، وتجري الثانية. وهو مختار المحقق

٦١

النائيني (١).

أما الاحتمال الأول : فالوجه فيه هو ما أفاده الشيخ رحمه‌الله في باب الاستصحاب في روايات الاستصحاب (٢). وأشار إليه في مبحث البراءة في روايات البراءة (٣) من : ان دليل الأصل مذيل بما ينافي مفاده عند حصول العلم الأعم من التفصيليّ والإجمالي ، فيتحقق التهافت بين الصدر والذيل فيتساقطان. بيان ذلك : ان قوله ـ في روايات الاستصحاب ـ : « لا تنقض اليقين بالشك » يشمل كل طرف من أطراف العلم الإجمالي في حد نفسه ، لأن الحكم فيه مشكوك الارتفاع ، فمقتضى هذه الفقرة هو حرمة النقض ووجوب البقاء على طبق الحالة السابقة في كل من الطرفين. إلا انه مذيل بقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، وهو يقتضي وجوب النقض بالنسبة إلى أحد الطرفين المعلوم بالإجمال لشمول اليقين الآخر للعلم الإجمالي.

ومن الواضح انه لا يمكن الجمع بين حرمة النقض في كل منهما ووجوب النقض في أحدهما ، ولذلك يتحقق التهافت بين الصدر والذيل في مورد العلم الإجمالي.

وقد نوقش هذا البيان في محله بوجهين :

أحدهما : ان المنصرف إليه اليقين في الذيل هو اليقين التفصيليّ ، وانه هو من سنخ اليقين بالحدوث الّذي يراد منه اليقين التفصيليّ قطعا ، فلا يشمل المذيل مورد العلم الإجمالي.

وثانيهما : انه لو فرض شمول الصدر والذيل لمورد العلم الإجمالي ، فغاية ما يتحقق هو سقوط النص المشتمل على الذيل عن الاعتبار للتهافت ، فيرجع

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٧٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى ـ فرائد الأصول ـ ٤٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢٤١ ـ الطبعة الأولى.

٦٢

إلى نصوص الاستصحاب الخالية عن الذيل الشاملة بإطلاقها أطراف العلم الإجمالي.

وتحقيق الكلام : ان البحث في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » من جهتين :

الأولى : ان المراد من اليقين هل هو كل يقين ولو لم يتعلق بما تعلق به اليقين الأول ، لكن بشرط ان يكون قابلا لنقض اليقين السابق. أو خصوص اليقين المتعلق بما تعلق به اليقين السابق؟.

وعلى الثاني : فهل يراد به اليقين الّذي تعلق بما تعلق به اليقين السابق بخصوصياته ومميزاته ، فيختص باليقين التفصيليّ ، أو يراد الأعم منه ومما تعلق به بعنوان إجمالي ، فيعم اليقين الإجمالي؟.

الظاهر في الترديد الأول هو الثاني ، فان الظاهر عرفا وحدة متعلق اليقين السابق واللاحق الّذي يتحقق به النقض ، فالمراد اليقين الّذي تعلق بما تعلق به اليقين الأول.

وأما في الترديد الثاني ، فالظاهر هو الثاني ، إذ لا قرينة على لزوم تعلقه بما تعلق به أولا بخصوصياته مع إطلاق لفظ اليقين الشامل لليقين التفصيليّ واليقين الإجمالي ، فالظاهر هو وحدة المتعلق ذاتا ولو بعنوان آخر.

وعليه ، نقول : ان العلم الإجمالي إذا التزم بأنه يتعلق بالجامع الانتزاعي بلا سراية إلى الخارج ومن دون تعدّ إليه ، لم يكن قوله « ولكن تنقضه بيقين آخر » شاملا لمورد العلم الإجمالي ، لعدم وحدة متعلق اليقين التفصيليّ السابق واليقين اللاحق ، إذ اليقين السابق تعلق بكل واحد من الطرفين بخصوصيته ، ومتعلق اليقين اللاحق هو الجامع ، وليس لدينا يقين سابق بالجامع الانتزاعي ، فاليقين الإجمالي بالجامع لم يسبق بيقين.

وإن التزم بأنه يتعلق بالجامع مع سرايته إلى الخارج ، وان مطابقه هو الفرد الواقعي المتعين في نفسه الّذي يشار إليه بالجامع المنطبق عليه ، كان الذيل شاملا

٦٣

لمورد العلم الإجمالي ، لأن أحد الفردين معلوم الانتقاض حينئذ ، فيكون العلم اللاحق متعلقا بما تعلق به العلم السابق. وهذه إحدى ثمرات الخلاف في تعلق العلم الإجمالي بالجامع الصرف بلا سراية إلى الخارج ، وتعلقه بالجامع الساري إلى الخارج والمشار به إليه.

الثانية : ان قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » هل يتكفل حكما شرعيا تأسيسيا بوجوب رفع اليد عن الحالة السابقة ، أو انه حكم إرشادي إلى ما يدركه العقل من لزوم رفع اليد عن الحالة السابقة عند حصول اليقين؟. ولا يخفى ان الكلام فيما نحن فيه يبتني على استظهار الشق الأول من الكلام ، إذ لو كان القول المزبور في مقام الإرشاد إلى ما يراه العقل ويحكم به ، فلا يمكننا ان نقول بشمول اليقين لليقين الإجمالي تمسكا بإطلاق اللفظ ، بل يبتني على تنقيح النقطة الثانية من البحث في العلم الإجمالي ، وهي البحث عن منجزيته عقلا بحيث يمنع من جريان الأصل. فلا يكون البحث في هذه الجهة منحازا عن البحث في منجزية العلم الإجمالي وليس فيه جهة زائدة عليها كما هو المفروض. فانتبه.

إذن فشمول الذيل لمورد العلم الإجمالي الّذي يحقق التهافت يبتني ..

أولا : على الالتزام بسراية المعلوم بالإجمال إلى الخارج.

وثانيا : على استفادة الحكم الشرعي التأسيسي من الذيل.

ثم إن هنا جهة ثالثة ينبغي التنبيه عليها ، وهي ان أساس دعوى التهافت على كون المستفاد من دليل الأصل هو الحكم الفعلي كالحلية الفعلية المطلقة ـ في أدلة الإباحة ـ ، كي تتنافى مع الحرمة المعلومة بالإجمال.

وأما لو كان المستفاد هو إثبات الحلية من جهة ، فلا تنافي ولا تصادم بين الصدر والذيل ، إذ لا منافاة بين حلية الشيء من جهة وحرمته من جهة أخرى ، فلا تنافي بين عدم النقض ووجوبه. فهذا أمر ثالث يبتني عليه الالتزام بالتهافت.

وإذا عرفت ما حققناه تعرف الخدشة فيما أفاده المحقق العراقي في مقام

٦٤

نفي شمول الذيل لأطراف العلم الإجمالي :

أولا : من دعوى انصراف اليقين في نصوص الاستصحاب والعلم في نصوص البراءة إلى العلم التفصيليّ ، ويشهد له إرداف العلم بقيد : « بعينه » في بعض النصوص الظاهر في إرادة العلم التفصيليّ.

وثانيا : ان كلا من الخصوصيّتين غير معلومة لا تفصيلا ولا إجمالا ، لتوقف العلم الإجمالي على الجامع بلا سراية إلى الخارج.

وثالثا : بان المعلوم الحرمة هو العنوان الإجمالي المعبر عنه بأحد الأمرين ، ونفي السعة من جهته لا يلازم نفيها من غير تلك الجهة (١).

إذ يرد على الأول : إنكار دعوى الانصراف لعدم الشاهد لها سوى القيد المزبور ، وهو قوله : « بعينه » ، ولكن عرفت فيما تقدم في أدلة البراءة المناقشة فيه وانه لا يتنافى مع العلم الإجمالي.

ويرد على الثاني : انه خلاف مبنى دعوى التهافت وما نقّحه هو قدس‌سره من سراية المعلوم بالإجمال إلى الخارج ، فإحدى الخصوصيّتين معلومة بالإجمال.

ويرد على الثالث : بأنه خلف الفرض ، إذ المفروض ان المستفاد من الصدر هو الحلية الفعلية بقول مطلق.

وبذلك تعرف ان الصدر والذيل يشملان مورد العلم الإجمالي ، فيتحقق التهافت بالتقريب المتقدم.

هذا ، ولكن عرفت ان أساس دعوى التهافت على استظهار كون الذيل ـ كقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، وكقوله : « فتدعه » في نصوص البراءة ـ في مقام بيان حكم شرعي تأسيسي.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٠٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٦٥

وهو غير مسلم بل ممنوع ، لأنه خلاف الظاهر بعد كون النقض باليقين امرا مرتكزا فيوجب انصراف الأمر إلى الإرشادي ، مضافا إلى أن المتيقن من اليقين والعلم هو التفصيليّ ، وهو ـ كما حقق في محله ـ مما لا يقبل جعل الحجية شرعا إثباتا ، كما لا يقبل جعل الحكم المماثل في مورده ، فلا معنى لجعل الناقضية شرعا لليقين الراجع إلى جعل الحجية له ، أو جعل الحرمة عند العلم بها الراجع إلى جعل مثل الحكم عند العلم به ، فالذيل والغاية يرجعان إلى بيان تقيد جريان الأصول عقلا بعدم العلم ، لأنه منجز ومانع من جريان الأصل ، لا بيان حكم شرعي ، كي يتحقق التهافت بين الحكمين في مورد العلم الإجمالي.

وعليه ، فالصدر يشمل أطراف العلم الإجمالي في نفسه لتحقق موضوعه وهو الشك. فلا بد من البحث بعد ذلك في ان العلم الإجمالي بنظر العقل مانع منه كالعلم التفصيليّ أو لا؟. فتدبر.

ثم إنه على تقدير الغض عن ذلك والالتزام بشمول الصدر والذيل لأطراف العلم الإجمالي وتحقق التهافت بينهما وسقوط النص عن الاعتبار ، فهل يصح الرجوع إلى النص الخالي عن الذيل ـ كما قيل ـ أولا؟.

الحق هو التفصيل بين ما كان الذيل قيدا متصلا كقوله : « حتى تعلم انه حرام فتدعه » في اخبار أصالة الحلّ ، وما إذا كان قيدا منفصلا وجملة مستأنفة وان كانت في كلام واحد كقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، فانه وإن جاء في رواية واحدة مع الصدر ، لكنه حكم مستقل وليس من القرينة المتصلة ، لأن : « لكن » استدراكية.

ففي الأول يصح الرجوع إلى الخالي ، إذ الرواية المشتملة على الغاية تكون مجملة لا يستفاد منها شيء بالنسبة إلى مورد العلم الإجمالي ، وهذا لا يضر بظهور غيرها ، فيرجع إلى مثل : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » ، لعدم اشتماله على الغاية الظاهرة في ارتفاع الحكم عند حصولها ، كما صرح به بقوله : « فتدعه ».

٦٦

وفي الثاني لا يصح الرجوع إلى الجميع ، لأن نسبة الذيل إلى الصدر وسائر النصوص على حد سواء ، فيتحقق التهافت بين مدلوله ومدلول جميع النصوص ، فيسقط الجميع عن الاعتبار. فانتبه.

والّذي يتلخص مما حققناه : أنه لا مانع إثباتا من شمول أدلة الأصول جميعها لأطراف العلم الإجمالي ، وأساسه كما عرفت على الالتزام بان الحكم المستفاد من الذيل أو الغاية حكم إرشادي لا تأسيسي.

وأما الاحتمال الثالث : وهو مختار المحقق النائيني ، فقد ذكر قدس‌سره في توجيهه : ان مرجع الأصل التنزيلي إلى إلغاء الشارع الشك وتعبده بان المكلف محرز للواقع. ومن الواضح منافاة التعبد بإحراز الحالة السابقة في كل من الطرفين مع العلم الإجمالي بانتقاضها في أحدهما ، فانهما لا يجتمعان (١).

ولا يخفى أنه قدس‌سره اكتفي بهذا البيان ونحوه في إثبات مدعاه ، مع ان ما يذكره مجرد دعوى لا تنتهي إلى برهان. ولذا فالرد عليها سهل.

ولأجل ذلك لا حاجة إلى الإطالة في البحث عن ذلك ، بل الأمر موكول إلى الوجدان ، وهو لا يرى بأسا في التعبد بالإحراز في كلا الطرفين مع العلم الإجمالي بالخلاف ، لأن التعبد خفيف المئونة. فلاحظ.

وننتهي بذلك إلى ان الاحتمال الثاني ، وهو الالتزام بشمول أدلة الأصول مطلقا لأطراف العلم الإجمالي مع قطع النّظر عن منجزيته هو المتعين من بين الاحتمالات الثلاثة المزبورة.

يبقى شيء : وهو ان الشيخ مع التزامه بأن أدلة الاستصحاب لا تشمل أطراف العلم الإجمالي للزوم المناقضة بين الصدر والذيل ، ولذا لم يلتزم بجريان الاستصحاب في مورد لا يكون جريانه فيه مستلزما للمخالفة العملية ، كما لو

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٤٠ ـ الطبعة الأولى.

٦٧

علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين اللذين تكون حالتهما السابقة هي النجاسة ، فانه منع من إجراء استصحاب النجاسة في كل منهما للعلم الإجمالي بالخلاف ، مع التزامه بذلك. التزم بجريان الاستصحاب في بعض موارد العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة ، كما لو علم إجمالا بأنه توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، فانه التزم بجريان استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث ، مع أنه يعلم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة لأحدهما (١).

فيسأل الشيخ رحمه‌الله : بأنه إن كان المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو قصور الأدلة عن ذلك فلا وجه لجريانها في هذا المورد. وان كان المانع هو استلزامها المخالفة العملية ، كان اللازم إجراء الاستصحاب فيما لو علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين مع كون الحالة السابقة لهما هي النجاسة ، مع أنه لم يلتزم بذلك ، فالتفكيك بين الصورتين غير وجيه.

وهذا الإيراد عليه تعرض له الكثير ممن تأخر من الشيخ ولم يستوضح أحد منهم الجواب عنه.

لكن الشيخ رحمه‌الله في الرسائل ـ في أواخر الاستصحاب ـ أشار إلى جهة الفرق (٢).

ومحصل الجواب عن هذا الإيراد بملاحظة ما أشار إليه الشيخ هو : ان المعلوم بالإجمال في هذه الصورة وهو الواحد المردد بين طهارة البدن وبقاء الحدث ليس بموضوع لأثر شرعي ، فلا يكون مشمولا للذيل ، وهو وجوب النقض ، لأنه لا يشمل إلا ما كان ذا أثر. وعليه فيبقى الصدر متحكما بلا مزاحم. بخلاف مورد العلم بطهارة أحد الإناءين ، فان طهارة أحدهما المعلومة بالإجمال ذات أثر ، فيصح التعبد بها فيكون الذيل شاملا للمعلوم بالإجمال ، فيتحقق التهافت ،

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٦٨

فالتفت والله سبحانه العالم العاصم.

الجهة الثالثة : في منجزية العلم الإجمالي.

وتحقيق الكلام فيها : انه بناء على شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الإجمالي بلا قصور ـ كما حققناه بضميمة والبناء على قصور فعلية الواقع بجعل الحكم الظاهري في مورده بحيث لا يكون تام الفعلية ، لا وجه للقول بمنجزية العلم الإجمالي بعد انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في مورده ـ إما موضوعا أو موردا ـ لأن جريان الأصل يستلزم قصور المعلوم بالإجمال عن الفعلية التامة ، فلا يكون قابلا للتنجيز ، لأن الحكم القابل للتنجيز بالعلم هو الحكم الفعلي من جميع الجهات.

فمثل صاحب الكفاية الّذي يلتزم بكلا المبنيين المزبورين لا مجال له للقول بتنجيز العلم الإجمالي في الموارد المتعارفة أصلا.

وقد مرّ إيضاح هذا المعنى بنحو مفصّل فيما تقدم من مباحث القطع (١) وفي أوّل هذه المباحث (٢). فراجع.

فالبحث عن منجزية العلم الإجمالي يتفرع على الالتزام بكون الواقع فعليا في مورده وإن شمله دليل الأصل لعدم استلزام جعل الحكم الظاهري لقصور فعلية الواقع ، لعدم المنافاة بينهما.

ولأجل ذلك أخذ المحقق العراقي (٣) والمحقق الأصفهاني (٤) في محل البحث كون الواقع فعليا مفروغا عنه.

وإذا عرفت ذلك فيقع البحث في مقامين :

__________________

(١) راجع ٤ ـ ١٢٠ من هذا الكتاب.

(٢) راجع ٥ ـ ٤٩ من هذا الكتاب.

(٣) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٩٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣١ ـ الطبعة الأولى.

٦٩

المقام الأول : في منجزية العلم الإجمالي بلحاظ المخالفة القطعية ، بمعنى أنه هل يقتضي حرمة المخالفة القطعية أو لا؟.

وكلمات الاعلام لا تخلو من إطالة ، ولكنها إطالة خارجة عن محور البحث الأساسي ولعله لأجل عدم اقتضاء محور البحث لكثير من التطويل ، فالتجئوا إلى إضافة ما لا مساس له في المقام.

والتحقيق : انه مع عدم ورود ترخيص من المولى في ارتكاب جميع الأطراف ، لا إشكال في كون العلم منجزا ، فيحكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة القطعية لأجل العلم الإجمالي ، وليس الحال فيه كالحال في الجهل البدوي الّذي يحكم العقل فيه بعدم استحقاق العقاب ، وإن نسب ذلك إلى بعض. لكنه خلاف البديهية والوجدان.

إنما الإشكال في منجزية العلم مع ورود الترخيص من المولى في المخالفة ، فان ثبت حكم العقل باستحقاق العقاب عند العلم الإجمالي ولو مع ترخيص المولى ، كان ترخيص المولى ممتنعا عقلا لمنافاته لحكم العقل بالقبح. وان لم يثبت حكمه بالمنجزية بقول مطلق حتى مع الترخيص ، لم يكن مانع من ترخيص المولى لعدم منافاته لحكم عقلي قطعي.

ومرجع ذلك إلى الإشكال في ان حكم العقل بمنجزية العلم تنجيزي ، فيتنافى مع ترخيص الشارع ويمنع من تحققه ، لأنه ترخيص في ما يحكم العقل بقبحه. أو انه تعليقي معلق على عدم ورود ترخيص الشارع ، فلا يتنافى مع الترخيص.

فالمهم تحقيق هذه الجهة. وقد ذهب المحقق العراقي إلى أنه تنجيزي ، مستدلا عليه بالارتكاز وتحكيم الوجدان (١). ولكنه قابل للتشكيك عندنا ولم يثبت

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٠٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٧٠

لدينا بنحو جزمي ، لعدم وجود شاهد عقلائي خارجا كي نميز به صحة ذلك من سقمه ، فمن جزم به فهو في راحة وإلا فلا برهان عليه.

وقد يمنع الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وتثبت منجزية العلم الإجمالي بطريق آخر غير هذا الطريق الراجع إلى منافاة الترخيص ، لحكم العقل بالمنجزية وقبح المخالفة.

وذلك بأن يقال : انه إذا فرض كون الحكم الواقعي فعليا تام الفعلية ، كان الحكم الظاهري منافيا له ، فعدم جريان الأصل ليس لأجل مناقضته مع مقتضى العلم ، بل لأجل مناقضته مع نفس التكليف الواقعي المعلوم في مقام الداعوية الفعلية ، لأن الحكم الواقعي الفعلي يدعو فعلا بنحو الإلزام إلى إتيان متعلقه ، والحكم الترخيصي يطلق العنان للمكلف ، فيتحقق التنافي في مقام الداعوية.

وبالجملة : انما لم يلتزم بالتنافي بين الحكم الظاهري والواقعي بلحاظ عدم الداعوية الفعلية للحكم الواقعي مع الجهل والتضاد بين الأحكام انما هو في هذه المرحلة ، وهذا غير ثابت فيما نحن فيه ، لأن الحكم الفعلي مع العلم به إجمالا يكون ذا داعوية فعلية ، فيضاد الحكم الظاهري على خلافه.

وهذا الطريق غير موصل. وذلك : لأنه قد تقدم ـ في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ـ بيان عدم التنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي الفعلي ـ لو أمكن تحققه ـ في مقام الداعوية والامتثال.

ومحصل الوجه في ذلك ، هو أن الداعوية الفعلية الإلزامية للتكليف إنما تنشأ بلحاظ ما يترتب على مخالفته من أثر سيّئ وهو العقاب ، فمع الترخيص والتأمين من العقاب بمقتضى الحكم الظاهري ، فلا تتحقق الداعوية الفعلية للحكم الواقعي ، وإن كان يبقى فعليا بمعنى أنه يمكن ان يكون داعيا ـ كما بيّناه سابقا ـ. إذن فلا تنافي بين الحكمين بعد ورود الترخيص من الشارع ، فهذا

٧١

الوجه لا يصلح وجها مستقلا قبال الوجه السابق ، بل انما يتم بناء على عدم إمكان الترخيص لتتحقق الداعوية الفعلية. فلا بد من نقل الكلام إلى إمكان الترخيص من الجهة السابقة وامتناعه.

ويتحصل : انه لا دليل لدينا على منجزية العلم الإجمالي بنحو يتنافى مع جعل الأصول في أطرافه ، فيكون محذورا ثبوتيا في إجراء الأصول.

هذا كله على المسلك المشهور الّذي يذهب إلى ثبوت حكم العقل بالعقاب والمنجزية في باب العلم التفصيليّ ، وبتبعه العلم الإجمالي على الخلاف السابق.

أما بناء على ما تقدم منّا في مباحث القطع والبراءة من : انه لا مسرح للعقل في باب العقاب والثواب الأخرويين ، لارتباطه بعالم لا يدرك العقل ملاكاته وخصائصه ، كما تقدم توضيحه ، فدعوى ثبوت حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي واضح الفساد ، بل العقاب لا بد وان يلاحظ فيه جعل الشارع نفسه ، لأنه بيده يجعله كيف يشاء.

وحينئذ نقول : إن ظاهر بعض الآيات الكريمة ترتيب العقاب على نفس مخالفة التكليف ، لكنه يمكن دعوى اختصاص العقاب شرعا بمورد قيام البيان العرفي على التكليف الّذي خالفه لا مطلق التكليف ، إما لدعوى انصراف تلك الآيات المطلقة إلى صورة قيام الحجة والبيان ، أو بملاحظة ما ورد من الآيات الظاهرة في عدم العقاب مع عدم البيان وثبوته معه ، كقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١). وبما ان العلم الإجمالي بيان عرفا للتكليف بحيث يصح للمولى الاعتماد عليه ، كان مقتضى تلك الآيات ثبوت العقاب في مورده ، ومعه لا يصح الترخيص ونفي العقاب من الشارع بمقتضى أدلة الأصول

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.

٧٢

في المخالفة في مورده ، لأنه مناف لحكمه بثبوت العقاب فيه بمقتضى الآية.

فالالتزام بمنجزية العلم الإجمالي من باب استلزام الترخيص مناقضة الشارع لنفسه.

وتوهم : ان أدلة الأصول مخصصة لحكم الشارع بثبوت العقاب مع البيان بصورة وجود العلم التفصيليّ ، وحكم الشارع يقبل التخصيص.

فاسد : لأن نسبة أدلة الأصول إلى مثل قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) نسبة العموم من وجه لا نسبة الخاصّ إلى العام ، لشمول دليل الأصل موارد عدم العلم بالمرة ، وشمول الآية موارد العلم التفصيليّ ، فلا بد من تقديم الآية ، لأن الرواية لا تنهض لمعارضة الآية ، لاندراجها فيما خالف الكتاب ، فلا بد من طرحها. فلاحظ.

فالخلاصة : انه لم تثبت منجزية العلم الإجمالي بحكم العقل ، لا على المسلك المشهور ولا على مسلكنا ، وانما المنجزية ثابتة بلحاظ حكم الشارع نفسه. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما المقام الثاني : فالبحث فيه في استلزام العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بعد الفراغ عن استلزامه لحرمة المخالفة القطعية بنحو العلية التامة.

ومحور البحث هو : أنه هل يصح للمولى الترخيص في بعض الأطراف أو انه لا يصح له ذلك؟.

فعلى الثاني يكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية.

وعلى الأول : يكون مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء الّذي لا ينافيه وجود المانع ، وهو الترخيص في أحد الأطراف.

وقد نسب البعض إلى الشيخ أنه يرى تأثير العلم الإجمالي في الموافقة

٧٣

القطعية بنحو الاقتضاء (١). ونسب إليه بعض آخر القول بالعلية التامة (٢). واستشهد كل منهم على نسبته ببعض كلمات الشيخ (٣). وشاهد كل منهما ظاهر في ما ينسبه إليه ، ولأجل ذلك يمكن نسبة التهافت إلى الشيخ في كلامه في المقام والأمر سهل. وكيف كان فقد اختلف الاعلام في ذلك فمنهم من ذهب إلى القول بالعلية التامة ، كالمحقق العراقي (٤) والمحقق الأصفهاني (٥) ، ومنهم من ذهب إلى القول بالاقتضاء كالمحقق النائيني (٦) وتبعه غيره (٧).

ولا بد قبل الخوض في تحقيق المطلب من التنبيه على أمرين :

الأمر الأول : في ثمرة القولين العملية ، وهي تظهر في موردين :

أحدهما : ما إذا كانت في أحد الطرفين أصول متعددة طولية ، كاستصحاب عدم الحرمة والبراءة ، وكان في الطرف الآخر أصل واحد كالبراءة.

وقلنا : بعدم معارضة مجموع الأصول الطولية في أحد الطرفين للأصل في الطرف الآخر ، بل المعارضة بين الأصل السابق رتبة وبين الأصل الواحد في الطرف الآخر ، فانه إذا تعارض الاستصحاب في أحد الطرفين والبراءة في الطرف الآخر تساقطا ، فيبقى أصل البراءة في الطرف الّذي كان فيه الاستصحاب بلا معارض ، فان قلنا بإمكان الترخيص في أحد الأطراف في مورد العلم الإجمالي

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣١٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣١٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٤) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٠٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٥) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٢ ـ الطبعة الأولى.

(٦) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٤٧ ـ الطبعة الأولى.

(٧) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢١٨ ـ الطبعة الأولى.

٧٤

وان سقوط الأصول جميعا في الأطراف لأجل المعارضة ، أمكن إجراء أصالة البراءة في ذلك الطرف لعدم وجود ما يعارضه. وان قلنا بالعلية التامة وعدم إمكان الترخيص في بعض الأطراف ، لم يمكن إجراء أصالة البراءة في ذلك الطرف ولو لم يكن له معارض ، لعدم كون سقوط الأصول بالمعارضة ، بل لأجل العلم الإجمالي.

والآخر : أنه بناء على ان العلم الإجمالي لا يمنع من الترخيص في بعض الأطراف ، والمفروض شمول أدلة الأصول لكلا الطرفين ، فيتحقق التعارض ، وحينئذ يقع البحث في ان القاعدة في تعارض الأصول هل تقتضي تساقطهما أو التخيير بينهما؟.

وهذا مما لا مجال له بناء على القول بالعلية التامة ، وامتناع الترخيص في بعض الأطراف. كما لا يخفى.

الأمر الثاني : ان الالتزام بالعلية التامة يصاحبه الالتزام بأمرين لا يرى فيه منافاة للعلية التامة :

أحدهما : الالتزام بالانحلال في مورد العلم التفصيليّ بالحكم في أحد الطرفين ، أو قيام إمارة أو أصل شرعي على التكليف في أحدهما ، أو قيام أصل عقلي موجب لانشغال الذّمّة بأحد الطرفين ، وكونه في العهدة كقاعدة الاشتغال.

والآخر : الالتزام بجعل البدل في مقام الامتثال ، بمعنى أنه يصح ان يكتفى الشارع في مقام الخروج عن العهدة بأحد الطرفين بجعله بدلا عن الواقع.

فانه سيظهر فيما بعد : ان الالتزام بالانحلال في موارده وجعل البدل ليس فيه منافاة للالتزام بمنجزية العلم الإجمالي ، لوجوب الموافقة القطعية وكونه علة تامة بالنسبة إليها ، إذ الانحلال يرجع إلى رفع أثر العلم الإجمالي بالمرة حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية.

وجعل البدل فرع الالتزام بتنجز الواقع ، ولذا يثبت في موارد العلم

٧٥

التفصيليّ بالتكليف الّذي لا شبهة في كونه علة تامة للموافقة القطعية ، كموارد جعل قاعدة الفراغ.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما جاء في الدراسات في مقام إثبات ان العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية لا علة تامة.

فانه ذكر : أن المحقق صاحب الكفاية وبعض الأساطين من تلامذته ذهبا إلى استحالة الترخيص الظاهري في بعض الأطراف. وما ذكر في وجه الاستحالة أمران :

أحدهما : ما جاء في الكفاية من ان الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال إذا كان فعليا تام الفعلية ، فكما يمتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه في كلا الطرفين لأنه يستلزم القطع بالمتضادين ، كذلك يمتنع جعل الحكم الظاهري في أحدهما ، لأن احتمال المتضادين محال كالقطع بهما.

وقد ذكر في مقام توضيح ذلك ما تقدم نقله عن الكفاية من : ان الحكم الواقعي إذا كان قاصر الفعلية ولو لأجل الجهل به ، أمكن جعل الحكم الظاهري على خلافه في جميع الأطراف فضلا عن بعضها.

والآخر : ما ذكره بعض الأساطين من ان الحكم الواقعي بعد تعلق العلم به ووصوله إلى المكلف وتنجزه عليه ، كما يمتنع جعل الترخيص على خلافه قطعا ، كذلك يمتنع جعل الترخيص على خلافه احتمالا.

وقد تصدى للإيراد على صاحب الكفاية بما يرجع إلى إنكار قصور فعلية الواقع مع حصول موضوعه ، وتوقف فعليته على العلم التفصيليّ ، لكونه موضوعا له ، خلف الفرض.

وبالجملة : ركّز مناقشته الطويلة على إنكار فرض عدم كون الواقع فعليا تام الفعلية وتعليق فعليته على عدم الجهل به.

كما تصدى لمناقشة الوجه الثاني ..

٧٦

بالنقض بموارد قيام الأصل الشرعي المثبت في بعض الأطراف ، أو موارد قيام قاعدة الاشتغال في بعضها. وبموارد الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في مورد العلم التفصيليّ ، كمورد قاعدة الفراغ والتجاوز.

وبالحلّ بان موضوع الأصول هو الشك والتكليف في كل طرف مشكوك ، لأن احتمال انطباق ذات المعلوم بالإجمال على كل طرف عين الشك فيه ، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال بوصف المعلومية محال ، إذ لا معنى لاحتمال العلم في مورد ، لأنه صفة وجدانية لا تقبل الشك. فراجع كلامه الّذي لخصناه جدّاً (١).

وأنت خبير : بأنه لا مجال للنقض بالموارد المذكورة ، لأنها ما بين موارد الانحلال وموارد جعل البدل ، وقد عرفت في الأمر الثاني ان محل البحث في غيرها ، وقد تنبّه لذلك المحقق العراقي (٢) ، فتعرض لدفع النقض بموارد الانحلال وموارد جعل البدل بما تقدم منّا في الأمر الثاني.

وأما الإشكال الحلّي الّذي ذكره على الوجه الثاني ..

فيندفع : بان المانع من جريان الأصل هو احتمال انطباق ذات المعلوم بالإجمال ، ولكن يوصف تنجزه الثابت بالعلم الإجمالي على جميع المباني في حقيقة العلم الإجمالي ومتعلقه ، من تعلقه بالجامع أو بالفرد المردد أو بالجامع بما هو مشير إلى الخارج ، والترخيص في محتمل المخالفة المنجزة قبيح. فما أفاده لا يخلو عن غفلة أو إغفال للنكتة التي يلحظها القائل ، فلا بد من البحث معه في مرامه لا في شيء آخر لا يريده ولا نظر له إليه.

وأما إيراده على صاحب الكفاية ، فهو أجنبي بالمرة عن محل البحث ، وهو أن الترخيص في أحد الطرفين مع العلم بالتكليف الفعلي يستلزم احتمال الضدين ، وهو محال كالقطع بهما كما لا يخفى جدّاً.

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٢٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣١١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٧٧

وبالجملة : فما جاء في الدراسات في تحقيق هذه المسألة المهمة لا يجدي ولا يغني ولا يسمن من جوع كما عرفت.

وبعد ذلك نوقع البحث في تحقيق أصل المطلب ، فنقول وعلى الله الاتكال ومنه نستمد القوة والعون : ان العلم الإجمالي يصلح لأن يكون بيانا ـ في نظر العرف والعقلاء ـ للتكليف المعلوم بالإجمال ، بحيث يكون في عهدة المكلف وثابتا عليه في أي طرف كان ، ومعه لا يمكن ان تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في أحد الطرفين. إذ المخالفة الناشئة عن ارتكاب أحد الطرفين ليست مخالفة بدون بيان ، فموضوع البراءة العقلية غير متحقق في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ، لقيام البيان على التكليف الواقعي على تقدير ثبوته فيه واقعا.

وأما البراءة الشرعية ، فمن يرى ان روايات البراءة لا تتكفل أكثر من مفاد البراءة العقلية ، فالحال فيها كالحال في العقلية.

ومن يرى أنها تتكفل حكما ظاهريا هو الإباحة في ظرف الشك ، ويستتبع ذلك التأمين من العقاب ، لأن الترخيص والحلية تتنافى مع العقاب واقعا ، فيكون عدم العقاب من باب بيان العدم لا عدم البيان.

فهل نستطيع أن نقول بإمكان جريان البراءة في أحد الأطراف أو لا؟. الحق أنه لا مانع عقلا من الترخيص في بعض الأطراف وتأمين الشارع من العقاب على تقدير كون الواقع فيه ، فللمولى أن يقول لعبده : إنني أقتنع منك بترك بعض الأطراف وأبيح لك الأطراف الأخرى. وفي مثله لا يحكم العقل بثبوت العقاب على الطرف المرخص فيه على تقدير المصادفة للواقع.

وبالجملة : لا نرى مانعا عقليا في مقام الثبوت من الترخيص في بعض الأطراف والتأمين من العقاب عليه ، ومن هذا الباب جعل البدل ، فانّه وان اصطلح عليه بهذا العنوان ، لكنه في واقعه يرجع إلى الترخيص في بعض

٧٨

الأطراف.

لكن الإشكال في مقام الإثبات ، فان أدلة الأصول قاصرة إثباتا عن التأمين عن العقاب المحتمل في كل طرف المسبّب عن العلم الإجمالي بالتكليف.

بيان ذلك : ان كل طرف فيه جهتان : إحداهما : انه مشكوك الحرمة واقعا. والأخرى : انه أحد طرفي العلم الإجمالي المنجز للتكليف الواقعي فيه لو كان ، والمصحح للعقوبة عليه لو فرض انه حرام واقعا.

ومن الواضح ان أدلة الأصول إنما تتكفل جعل الإباحة والحلية في المشكوك بما أنه مشكوك الحرمة ، أما جهة كونه من أطراف العلم الإجمالي فهي مما لا نظر فيها إليها.

وعليه : فهي بجعل الحلية فعلا إنما تستتبع التأمين من العقاب من جهة انه مشكوك الحرمة لا أكثر ، لأنها هي الجهة الملحوظة في الحلية المجعولة ، وأما التأمين من العقاب من جهة أخرى فلا نظر للدليل إليها.

لا نقول : بان الدليل يتكفل جعل الحلية من جهة الّذي أنكرناه سابقا على المحقق العراقي.

بل الدليل يتكفل جعل الحلية فعلا ، لكن موضوع الحلية هو الشك في الحرمة ، وهذا يستتبع الأمان من العقاب ـ الّذي هو لازم الحلية والّذي يهمنا فيما نحن فيه دون نفس الترخيص ـ من جهة دون جهة ، فلا ينفع في رفع منجزية العلم الإجمالي.

وعلى هذا ، فعدم الالتزام بجريان الأصل من باب ان جعل الحلية لا ينفع في التأمين من ناحية العلم الإجمالي ، لأنه غير منظور إليه في موضوع الحلية ، بل ليس الموضوع سوى الشك في الحرمة ، لأن دليل الأصل يعم موارد العلم الإجمالي وغيره ، فلا يمكن ان نقول إن له نظرا إلى العلم الإجمالي. ولا يخفى ان الأمان من جهة الشك في الحرمة بما هو شك لا ينافي عدم الأمان من جهة العلم

٧٩

الإجمالي وبيانيته.

نعم ، لو ورد دليل على الترخيص في خصوص موارد العلم الإجمالي كان مؤمنا من العقاب من جهته ، فينفع في عدم وجوب الموافقة القطعية. ومن هذا الباب جميع موارد جعل البدل ، فان مرجع جعل البدل إلى ما عرفت من الترخيص في بعض الأطراف بملاحظة العلم الإجمالي المستلزم للتأمين من جهته. فالفرق بين ما دلّ على الترخيص في موارد جعل البدل وبين أدلة الأصول : ان الأول يتكفل الترخيص بملاحظة جهة العلم الإجمالي. وأما أدلة الأصول فهي مما لا نظر لها إلى جهة العلم الإجمالي ، فلا تنفع في التأمين من ناحيته. فتدبر والتفت فانه لا يخلو من دقة ، وهو مما تفردنا به حسب ما نعلم.

وأما ما أفاده العلمان المحققان العراقي (١) والأصفهاني (٢) في مقام بيان امتناع الترخيص في بعض الأطراف ، فهو لا يخلو من مناقشة.

هذا كله على المسلك المشهور في باب العقاب وأنه بحكم العقل.

وأما على المسلك الّذي سلكناه في هذا الباب ، وان العقل لا مسرح له في باب العقاب ، وانما هو أمر شرعي بيد الشارع يجعله كيف يشاء ، فقد تقدم ان ظاهر بعض الآيات وان كان ترتب العقاب على نفس المخالفة ، لكن يرفع اليد عنها إما للانصراف أو بملاحظة آيات أخرى ، فتحمل على مورد قيام البيان.

وعليه ، فلا يمكن ان تجري الأصول في أطراف العلم لا كلا ولا بعضا ، بعد ان عرفت كون العلم بيانا للتكليف عرفا في كل طرف ، لمعارضتها لما دل على ثبوت العقاب عند تحقق البيان من الآيات. والتقديم للآيات.

نعم ، لو ورد دليل بالخصوص في مورد البيان يدل على عدم العقاب في ذلك المورد التزم به ، لعدم المانع من تخصيص الآية بالرواية المعتبرة.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣١٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٤ و ٢٤٤ ـ الطبعة الأولى.

٨٠