منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الفرض إلى التيمم كما لو كان الوضوء ضرريا وعلم به ، فهل يصح وضوءه لو أراد أن يتوضأ أم لا؟. ذهب قدس‌سره إلى عدم صحته ، إذ ما يمكن تصحيح الوضوء به إما دعوى اشتمال الوضوء على الملاك. واما دعوى تعلق الأمر به بنحو الترتب وأما دعوى ان الأمر بالتيمم رخصة لا عزيمة. وإما دعوى ان حديث نفي الضرر يرفع اللزوم لا الجواز. والجميع باطل.

أما الأول : فلأن مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة المشروعية ، فلا يثبت فيه الملاك ، لعدم وجود كاشف له.

وأما الثاني : فلما ثبت في محله من عدم جريان الترتب في الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا.

وأما الثالث : فلأن التخصيص بلسان الحكومة يكشف عن عدم شمول العام للفرد الخارج ، فلا معنى لاحتمال الرخصة.

وأما الرابع : فلان الحكم بسيط لا تركب فيه ، فلا معنى لرفع اللزوم دون الجواز.

وقد ذكر قدس‌سره بعد ذلك : انه لو لا توهم بعض الأعاظم وحكمه بصحة الوضوء الحرجي ـ لورود نفي الحرج مورد الامتنان فلا يكون الانتقال إلى التيمم عزيمة ـ لما كان للبحث عن صحة الوضوء في مورد الضرر مجال ، ولا فرق بين نفي الحرج ونفي الضرر في ذلك ، لاشتراكهما في كونهما حاكمين على أدلة الأحكام.

هذا مجموع ما أفاده قدس‌سره في مسألة الوضوء.

ولنا على كلامه ملاحظات :

الأولى : ان نفي وجوب الوضوء وإيجاب التيمم أجنبي عن حديث نفى الضرر بالمرّة ، ولا تصل النوبة إلى تحكيم : « لا ضرر » فيه ، كي يقع الكلام في حدود تطبيقها ومورد جريانها.

٤٤١

والوجه في ذلك : ان المعلوم ضرورة من الأدلة فرض المكلف على قسمين ، واجد للماء بمعنى متمكن منه ، وفاقد له بمعنى غير متمكن منه. والأول موضوع وجوب الوضوء. والثاني موضوع وجوب التيمم. بحيث يعلم انه لا يشرع التيمم أصلا في حق المتمكن ، كما لا يشرع الوضوء في حق غير المتمكن.

وعليه ، فنقول : إن الضرر الناشئ من استعمال الماء سواء أكان واقعيا أم معلوما ، إما ان يكون مستلزما لصدق عدم التمكن من استعمال الماء فلا يشرع الوضوء لعدم موضوعه ، فلا معنى لتحكيم : « لا ضرر » في نفيه ، إذ لا وجوب له كي ينفي بـ : « لا ضرر ». واما لا يستلزم ذلك ، بل يصدق التمكن من استعمال الماء فيشرع الوضوء ولا مجال لنفيه بـ : « لا ضرر » وإثبات وجوب التيمم ، لما عرفت من ان الواجد موضوع للوضوء مطلقا ولا يكون موضوعا لوجوب التيمم.

وبالجملة : إدراج مسألة التيمم والوضوء في مصاديق قاعدة نفي الضرر غير وجيه ، إذ لا مجال لتحكيمها في حال من الأحوال.

وبعد ان تعرف هذا ، لا يهمنا تحقيق الوجهين اللذين ذكرهما لعدم تطبيق : « لا ضرر » ومقدار صحتهما ، وإن كنا قد أشرنا سابقا إلى عدم صحة الأول منهما. فراجع.

وأما حلّ الإشكال ـ بناء على ما سلكناه ـ فهو بان يقال : انه مع اعتقاد عدم الضرر يصدق التمكن عرفا من استعمال الماء ولو كان مضرا واقعا ، فيندرج في موضوع وجوب الوضوء فيكون صحيحا. كما أنه مع اعتقاد الضرر وليس في الواقع كذلك يكون الوضوء حرجيا ، إذ الإقدام على ما يعتقد إضراره حرجي ، فيصدق عدم التمكن العرفي ، فيصح تيممه وإن لم يكن الماء مضرا له واقعا.

الثانية : ان ما ذكره في مقام حلّ الإشكال الثاني ، وهو مورد التيمم مع اعتقاد الضرر بلا ان يكون الوضوء ضرريا واقعا ، من ان عدم الوجدان المأخوذ

٤٤٢

في الآية أعم من الواقعي والاعتقادي ، وإن كان تاما بالبيان الّذي عرفته من كون اعتقاد الضرر مستلزما لصدق عدم التمكن من الماء للحرج فيشرع التيمم. إلا انه من المحقق النائيني ليس كما ينبغي ، إذ موضوع كلامه تطبيق قاعدة نفي الضرر وعدمه ، وان المأخوذ في الموضوع هو الضرر مع العلم به أو غير ذلك ، فنقل الكلام إلى مدلول الآية الكريمة لا يخلو من خلط. ومفاد : « لا ضرر » لا يعيّن مفاد الآية الكريمة كما لا يخفى.

وقد عرفت انه مع العمل بالآية الكريمة ونحوها من الأدلة لا مجال لقاعدة نفي الضرر بالمرة ، فانتبه.

الثالثة : ومركزها الجهة الاستطرادية التي أشار إليها ، وهي ما لو توضأ مع كون الوضوء ضرريا وكان عالما بذلك ، فانه حكم ببطلان وضوئه لعدم المصحح. ولكن ما أفاده غير تام على مبناه من الالتزام بان حديث نفي الضرر وارد مورد الامتنان وبملاكه ، وذلك لأن مقتضى كون رفع التكليف امتنانا وإرفاقا هو ثبوت الملاك للحكم ، وانما لم يجعله المولى امتنانا على عبده ، إذ لو لم يكن للحكم ملاك ، فعدم جعله يكون لعدم ملاكه لا لأجل الامتنان ، فلا منّة في رفعه حينئذ. إذن فكونه في مقام الامتنان قرينة على ثبوت الملاك ، فيمكن تصحيح العمل بذلك.

نعم ، ما أفاده يتم على ما اخترناه من عدم ظهور كون الرفع بملاك الامتنان والإرفاق ، وإن كان رفع الحكم بنفسه إرفاقيا ، لكنه غير كونه بملاك الإرفاق. فانتبه.

ثم انه قدس‌سره ذكر في صدر كلامه ثبوت الإشكال في الصوم المضر أيضا ، إذ كان معتقدا عدم الضرر فيه ، فانهم حكموا بصحة الصوم مع ثبوت الضرر فيه واقعا.

ولا يخفى عليك ان باب الصوم يختلف عن باب الوضوء ، إذ ليس لدينا في باب الصوم تكليفان وعملان يبحث في إجزاء أحدهما عن الآخر. فلا يتأتى

٤٤٣

فيه الإشكال الثاني ـ أعني لو اعتقد الضرر فأفطر ولم يكن في الواقع مضرا ـ ، إذ لا يحتمل إجزاء الإفطار عن الصوم كي يبحث في صحته.

نعم ، هو يشترك مع الوضوء في الإشكال الأول. وحلّه بوجوه :

منها : ان المأخوذ في موضوع الصوم خوف الضرر لا نفسه. ومن الواضح انه مع اعتقاد عدم الضرر لا خوف في الوقوع في الضرر ، فيكون مشروعا.

ومنها : ما أشار إليه المحقق النائيني من ورود الحديث مورد الامتنان ، ونفى مشروعية الصوم والحال هذه خلاف المنّة كما لا يخفى. وتحقيق ذلك في محله في كتاب الصوم. فراجع.

هذا كله فيما يرتبط بأخذ العلم بالضرر في بعض الموارد كالوضوء والصوم.

وأما ما يرتبط بأخذ الجهل بالضرر ، كمورد المعاملة الغبنية التي اعتبر في ثبوت الخيار بمقتضى : « لا ضرر » الجهل بالغبن. فقد تصدى المحقق النائيني إلى حلّ الإشكال فيها ، وان سبب التقييد بالجهل لا يرجع إلى عدم أخذ الضرر الواقعي موضوعا ، بل إلى جهة أخرى يقتضيها المقام بالخصوص. وهي : انه إذا وقع المعاملة مع العلم بالغبن وتفاوت الثمن ، فقد أقدم على الضرر ، ومع اقدامه على الضرر لا يكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي بنحو يكون هو الجزء الأخير لعلة الضرر ، بل يستند الضرر إلى اقدام المشتري ، ويكون الحكم الشرعي من المقدمات الإعدادية للضرر ، فلا يرتفع بحديث نفي الضرر ، لأن ما يرتفع به هو الحكم الّذي يستند إليه الضرر استناد المعلول إلى الجزء الأخير من علته.

وهذا الوجه قابل للمنع ، فان الضرر لا يترتب على اقدام المشتري على الشراء ، وإنما يترتب على حكم الشارع بعد الإقدام على الشراء ، بصحته أو لزومه ، فانه مترتب على الإقدام وإيقاع المعاملة ، فيكون هو الجزء الأخير لعلة

٤٤٤

الضرر ، فيكون مرفوعا بحديث نفي الضرر.

وقد وجّه التفصيل بين صورتي العلم بالغبن والجهل به : بان الحكم بعدم اللزوم في مورد العلم بالغبن خلاف المنّة والتسهيل.

وفيه : ما أشرنا إليه من عدم ثبوت كون الحديث واردا بملاك الامتنان بنحو يكون علة للنفي يدور مداره وجودا وعدما.

فالصحيح ان يقال في وجه التفصيل هو ما أشرنا إليه في مقام تحقيق معنى الحديث من : أن المستفاد من الحديث هو نفي الضرر الصادر من خصوص الغير ، ومع العلم بالضرر في المعاملة لا يستند الضرر إلى البائع خاصة ، كما هو الحال في صورة جهل المشتري ، بل يستند إلى كل من البائع والمشتري بنحو الاشتراك ، فلا يكون مرفوعا بالحديث (١). فراجع تعرف.

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

والمتحصل : ان الضرر المنفي بحديث : « لا ضرر » هو الضرر الواقعي بلا ان يتقيد بجهل أو بعلم ، وإنما يكون الجهل أو العلم دخيلا في تطبيق القاعدة في بعض الموارد لأجل خصوصية في المورد. فالتفت.

يبقى الكلام فيما تعرض له أخيرا من الفروع التي قد يتوهم التنافي بينها بأنفسها أو بين بعضها ، وما ذكره من ان الإقدام على الضرر في التكليفيّات لا يوجب عدم حكومة القاعدة عليها ، وفي الوضعيات موجب لذلك ، وهي :

أولا : لو أقدم على موضوع يترتب عليه حكم ضرري ، كمن أجنب نفسه متعمدا مع كون الغسل ضرريا ، إن هذا الإقدام لا يوجب عدم جريان قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الغسل. ومثله ما لو شرب دواء يتضرر معه بالصوم ، فان الصوم يسقط عنه لأجل الضرر.

__________________

(١) مقتضى ذلك عدم ثبوت الخيار في صورة جهل البائع أيضا إذ لا يستند الضرر إلى كل منهما ( المقرر ).

٤٤٥

وثانيا : ما لو غصب لوحا من شخص ونصبه في سفينته ، فانه يقال بجواز نزع مالك اللوح لوحه من السفينة وان تضرر مالكها بلغ ما بلغ ما لم يؤد إلى تلف نفس محترمة. فالإقدام في هذا الفرع يمنع من جريان : « لا ضرر » في حق الغاصب.

وثالثا : ما لو استأجر أرضا إلى مدة وبنى فيها بناء أو غرس فيها شجرا يبقى بعد انقضاء زمان الإجارة فانه يقال : ان لمالك الأرض هدم البناء أو قلع الشجر وإن تضرر به المستأجر.

وقد ذكر قدس‌سره انه لا تنافي بين هذه الفروع وما تقدم ، كما ان هنا فرقا بين الفرع الأول منها وبين الفرعين الأخيرين ، وذلك فان المجنب نفسه أو شارب الدواء لم يكن مكلفا بالغسل والصوم حال الإجناب وشرب الدواء ، بل التكليف بهما بعد الإجناب وشرب الدواء. ومن الواضح ان الغسل والصوم ضرريان ، فيكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي ، والإقدام على الإجناب وشرب الدواء لا ينفي الاستناد المذكور ، لأن فعله بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم الضرري ، وفعله في ظرفه مباح لا ضرر فيه. وأما غاصب اللوح ، فهو مأمور قبل النصب بالرد ، ولم يكن الرد في حقه ضرريا قبل النصب لكنه بعصيانه ومخالفته التكليف بالرد أقدم على إتلاف ماله ، فإقدامه وإرادته هي الجزء الأخير لعلة الضرر ، وليست إرادته واقعة في طريق امتثال الحكم كي يستند الضرر إلى الحكم ـ كما هو الحال في الغسل والصوم ـ ، بل هي واقعة في طريق عصيان الحكم ومخالفته ، فالضرر يستند إلى إقدامه لا إلى الحكم الشرعي بوجوب الرد. ومثله الكلام في مسألة الغرس في الأرض المستأجرة ، فانه مع علمه بعدم استحقاقه للغرس بعد مضي مدة الإجارة ، فبغرسه قد أقدم على الضرر ، ولا يستند الضرر إلى الحكم الشرعي بل إلى إقدامه.

ثم إنه أضاف في مسألة غصب اللوح ونصبه في السفينة إلى ما ذكره في

٤٤٦

عدم شمول : « لا ضرر » وجهين آخرين :

الأول : ان كسر السفينة ليس ضررا على صاحبها ، لأنه مع كون اللوح مغصوبا فصاحب السفينة لا يكون مالكا لتركيب السفينة ، وإذا لم تكن الهيئة الخاصة مملوكة له لم يكن رفعها ضررا عليه ، لأن الضرر هو النقص في المال الّذي يملكه ، فحال نزع اللوح بعد النصب حال انتزاعه من الغاصب قبل النصب.

الثاني : انه قد دل دليل على انه ليس لعرق ظالم حق (١) ، فيدل على عدم ثبوت الحرمة لماله ، فلا تشمله القاعدة تخصصا ، لأنها انما تنفي الضرر الوارد على المال المحترم.

وقد أطال قدس‌سره في تحقيق الفرق بين هذه الفروع ، ولا يهمنا نقل غير ما ذكرناه من كلامه فانه العمدة.

ولكنه لا يخلو عن إشكال ، بيان ذلك : ان محل الكلام في مسألة اللوح المغصوب ما إذا كان نزع اللوح يوجب تضرر مالك السفينة بغرق سفينته أو تلف متاعه المحمول عليها لدخول الماء في السفينة. وأما إذا لم يلزم منه سوى خراب نفس هيئة السفينة ، كما لو كانت على الأرض ، فلا يستشكل أحد في جواز أخذ مالك اللوح لوحه ، وانه يجوز له ذلك كما كان يجوز له أخذ لوحه قبل التركيب والنصب.

وبعد ذلك نقول : إنه قدس‌سره ذكر وجوها ثلاثة في عدم جريان : « لا ضرر » في هذا الفرع.

وجميعها محل منع :

أما الأول : وهو دعوى استناد الضرر إلى إقدامه وعصيانه التكليف بالرد الثابت قبل النصب ففيه :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ ـ ٣١١ ، حديث : ١.

٤٤٧

أولا : ان التكليف بالرد يتعدد بتعدد الأزمنة وينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد الأزمنة ، ففي كل آن يكون هناك تكليف بالرد ، ولأجل ذلك يتعدد العصيان.

وعليه ، فالتكليف بالرد قبل تحقق النصب غير التكليف بالرد بعد تحققه ، وهو بالنصب لم يتحقق منه سوى عصيان عن التكليف بالرد السابق ، وهو ليس بضرري.

وأما التكليف بالرد بعد النصب فهو ضرري. والنصب ليس عصيانا له كي يكون إقداما على المخالفة والضرر ، بل الضرر يستند إليه لا إلى إرادة المكلف ، بل إرادة المكلف الأول للنصب تكون بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم الشرعي بالرد بعد النصب ، وهذا التكليف ضرري ، إذ إرادة الرد معلولة له والرد في هذا الحال يستلزم الضرر ، فيستند الضرر إلى الحكم لوجوبه.

وبهذا البيان ظهر أنه لا فرق بين هذا المثال والفرع الأول في كون الإقدام ليس على الضرر وانما هو مقدمة إعدادية لثبوت الحكم الضرري ، وان أساس الفرق كان يبتني على ملاحظة التكليف بالرد تكليفا واحدا ، وقد عرفت انه غير صحيح.

وثانيا : ان الإقدام على الضرر في مثال المثال لا يرفع نسبة الضرر إلى الحكم لأنك قد عرفت في مسألة المعاملة الغبنية ، ان الجزء الأخير لعلة الضرر هو الحكم الشرعي ، فلا فائدة في الأقدام.

وثالثا : ان الإقدام على الضرر انما يصدق بحيث يستند الضرر إلى الأقدام لا إلى الحكم ، فيما إذا فرض عدم شمول حديث « لا ضرر » لمورد الإقدام ، وإلا فلا ضرر كي يقال انه أقدم عليه ، وعدم شمول « لا ضرر » يتوقف على ثبوت الإقدام على الضرر بحيث يصح اسناد الضرر إلى الإقدام لا إلى الحكم ، وهذا دور واضح.

وبعبارة أخرى : ان الإقدام على الضرر إنما يصدق إذا كان المكلف عالما

٤٤٨

بعدم رفع الحكم الضرري ، أما إذا لم يعلم ذلك بل هو أقدم على العمل موطنا نفسه على ما يحكم به الشارع بعد ذلك ، فلا يكون ذلك إقداما على الضرر بل هو إقدام على الضرر على تقدير حكم الشارع عليه لا له ، فلا يمكن ان يحكم الشارع عليه استنادا إلى إقدامه على الضرر فانه خلف.

وقد أشار إلى بعض هذا الإشكال المحقق الأصفهاني في بعض كتاباته الفقهية فراجع حاشية المكاسب مبحث خيار الغبن (١).

وأما الوجه الثاني : وهو دعوى ان نزع اللوح من السفينة لا يوجب ضررا على مالكها لعدم ملكيته الهيئة التركيبية الحاصلة من نصب اللوح.

ففيه ما عرفت من : ان محل الكلام ما إذا استلزم النزع ضررا زائدا على فوات الهيئة التركيبية للسفينة.

وأما الوجه الثالث : وهو التمسك بما ورد من انه ليس لعرق ظالم حق ، ففيه : ان ذلك يقتضي عدم احترام مال الظالم والغاصب والمرتبط بنفس المغصوب كأن يوجد عملا في المغصوب ، كما لو غصب فضة فصاغها خاتما ، فانه لا يحكم بشركته في الخاتم أو بثبوت الأجرة له كما هو الحال لو صاغها غير الغاصب. ولا يقتضي عدم احترام جميع أمواله ، لجميع آلات الصياغة ، فانه مما لا قائل به ولا يقتضيه الدليل المزبور.

وعليه ، فغصب اللوح لا يقتضي عدم احترام الألواح الراجعة إليه أو المال المحمول على السفينة ، كي يجوز الإضرار به ، فانتبه ولا تغفل.

والّذي يتحصل : ان ما أفاده قدس‌سره من الوجوه الثلاثة في مسألة اللوح المغصوب غير تام.

وعليه ، نقول إذا تم ما يقال من ان الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال ، فقد

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. حاشية المكاسب ٢ ـ ٥٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٩

يستظهر منه جواز نزع المالك اللوح وان أوجب ضررا على الغاصب. وتحقيق ذلك موكول إلى مبحث الغصب من كتب الفقه.

وأما مسألة الغرس الباقي بعد انقضاء مدة الإجارة ، فقد حققنا الكلام فيه بإسهاب في مبحث خيار الغبن في مسألة تصرف الغابن في العين تصرفا موجبا للزيادة. فراجع. والله سبحانه العالم.

التنبيه الثالث : في شمول الحديث للأحكام العدمية ، كما انه شامل للأحكام الوجودية. وتوضيح ذلك : انه لا إشكال في ان حديث نفي الضرر يوجب التصرف في الأحكام الوجودية فيخصصها بغير مورد الضرر. وإنما الإشكال في شمولها للأحكام العدمية إذا ترتب عليها الضرر. مثال ذلك : ما إذا حبس حرا غير أجير ففات عمله ، فان قواعد الضمان لا تشمل مثل ذلك ، لعدم كونه إتلاف مال ـ نعم لو كان المحبوس عبدا أو حرا أجيرا ، يكون الحبس إتلافا لمال المالك والمستأجر ، فيكون الحابس ضامنا ـ. وعليه يقال : إن عدم الضمان حكم ضرري لاستلزامه الضرر على الحر لفوات عمله ، فهل يشمله حديث نفى الضرر ، ومقتضاه ثبوت الضمان والتدارك هاهنا؟. ومثله ما لو كان بقاء الزوجة على الزوجية مضرا بها ، وكان الزوج غائبا ، فان عدم كون الطلاق بيدها أو بيد الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين يكون ضرريا. ونحوه ما إذا كان العبد تحت الشدة ، فيكون عدم عتقه ضرريا. فيقع الكلام في شمول : « لا ضرر » لمثل ذلك ، فيقتضي ثبوت حق الطلاق للزوجة أو لغيرها في مثال الزوجة ، وثبوت الحرية للعبد في مثاله.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى عدم شمول الحديث للأحكام العدمية ، وقد أطال في تحقيق ذلك والاستدلال عليه ، والّذي يتلخص من كلامه وجوه ثلاثة :

الأول : ان حديث : « لا ضرر » انما يشمل الأحكام المجعولة شرعا ، لأنه

٤٥٠

ناظر إلى ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية ، وعدم الضمان ونحوه من الأمور العدمية ليست أحكاما شرعية مجعولة من قبل الشارع.

وما يدعى من : ان العدم حدوثا وان لم يستند إلى الشارع ، لأنه ناش من عدم علة الوجود لا وجود علة العدم إلا انه بقاء يستند إليه ، ولذا صح تعلق النهي بمجرد الترك وعدم الفعل بلحاظ ان عدم الفعل بقاء يستند إلى المكلف.

يندفع : بان ذلك وإن كان موجبا للقدرة على العدم وهي المصححة للتكليف ، لكن لا يصحح اسناد العدم إلى الشارع ما لم يتعلق به جعل شرعي.

الثاني : ان لازم الالتزام بشمول الحديث للحكم العدمي ، ثبوت الضمان في المثال المتقدم ، وهذا يعني تكفل الحديث لنفي الضرر غير المتدارك ، وهذا المعنى قد تقدم بطلان استفادته من الحديث وتوهينه ، وأنه أردأ الوجوه.

الثالث : ان لازم الالتزام بعموم الحديث للأحكام العدمية تأسيس فقه جديد ، لاستلزامه في مثال الزوجة ثبوت حق الطلاق للحاكم الشرعي وهو مما لا يلتزم به (١).

وهذه الوجوه بأجمعها غير تامة :

أما الأول : فلأنه بعد فرض القدرة على العدم بحيث يكون تحت الاختيار ، كيف لا يستند العدم إليه؟ ، فان نفي استناد العدم إليه وعدم صدوره منه مساوق لنفي القدرة عليه ، وهو خلف فرض القدرة على الوجود.

وأما الثاني : فلأن المستهجن هو ان يكون مفهوم الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك بهذا المفهوم كما تقدمت الإشارة إليه.

أما ان يكون مفهوم الحديث نفي الحكم الضرري الّذي يتفق في النتيجة والأثر مع نفي الضرر غير المتدارك ، لإثباته التدارك في بعض الموارد ، فهذا مما لا

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢٢٠ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٤٥١

استهجان فيه أصلا. والّذي يستتبعه الالتزام بعموم الحديث للأحكام العدمية هو ذلك ، لا كون معنى الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك ، فلا استهجان فيه.

وأما الثالث : فلأن ما جعله مثالا واضحا لتأسيس الفقه الجديد وهو مثال الزوجة ، مما يلتزم فيه ـ أخيرا ـ بثبوت الحق للحاكم في الطلاق عملا ببعض النصوص (١).

وقد صرح قدس‌سره : بالتزام السيد صاحب العروة رحمه‌الله به (٢) محتجا عليه بقاعدة نفي الحرج ونفي الضرر ، فكيف يكون الالتزام بثبوت حق الطلاق للحاكم الشرعي من تأسيس فقه جديد؟.

فما أفاده في الاستدلال على عدم شمول الحديث للأحكام العدمية لا نراه تاما سديدا.

والتحقيق : هو صحة ما أفاده من أصل الدعوى ، فنحن لا نلتزم بشمول الحديث للأحكام العدمية. وتقريب ذلك : ان استناد الضرر انما يتحقق بالتسبيب إليه وإيجاد ما يستلزمه. وأما عدم إيجاد المانع عن الضرر ، فهو لا يحقق اسناد الضرر ، فمثلا إذا فعل شخص ما يستلزم ورود الضرر على آخر استند إضراره إليه ، وأما إذا رأى ضررا متوجها إلى الآخر وكان قادرا على دفعه فلم يدفعه ، لم يستند الضرر إليه أصلا. وعليه فبما ان الضرر المنفي هو الضرر المستند إلى الشارع ، فيختص النفي بما إذا كان مترتبا على الحكم الوجوديّ ، فانه يصحح اسناد الضرر إلى الشارع. أما المترتب على عدم الحكم ، بحيث كان الشارع متمكنا من جعل الحكم الوجوديّ المانع منه ، فلا يستند إليه ، فلا يتكفل الحديث رفعه. ولا يهمنا بعد ذلك ان يكون عدم الحكم مستندا إلى الشارع أو ليس

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ ـ ٣٨٩ ، باب ٢٣.

(٢) اليزدي الفقيه السيد محمد كاظم. ملحقات العروة الوثقى ١ ـ ٧٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٢

بمستند.

ولا معنى لقياس المورد بمورد استصحاب عدم الحكم ، لاختلاف الملاك في الاستصحاب ونفي الضرر.

ويمكن ان يقرب أيضا : بان مفاد حديث نفي الضرر ليس إلاّ نفى الأحكام المجعولة المستلزمة للضرر ، لا انه يجعل ما ينفي الضرر.

وبعبارة أخرى : كأن الشارع يقول : « انا لم أجعل الحكم المستلزم للضرر ». ولا يقول : « انا جعلت ما ينفي الضرر » وفرق واضح بين المفادين.

ولا يخفى ان الحكم العدمي وان استند إلى الشارع بقاء ، لكن استناده من باب عدم جعل الوجود لا من باب جعل العدم. إذن فالعدم ليس من المجعولات الشرعية.

كما انه يمكن ان يقال : ان مفاد : « لا ضرر » هو نفي الحكم خاصة ، فلا تتكفل إثبات الحكم ، فلسانها لسان نفي صرف لا لسان إثبات ، والعمدة في هذه التقريبات هو ما ذكرناه أولا. فتدبره.

وأما مسألة الزوجة تحت الضيق مع غياب الزوج أو امتناعه عن الطلاق ، فالحكم المستلزم للضرر فيها وجودي لا سلبي عدمي. فان الموجب لوقوع الزوجة في الضيق ـ بعد المفروغية عن عدم زوال العلقة الزوجية بغير الطلاق ـ هو حصر حق الطلاق بالزوج ، وهو أمر ثبوتي منتزع من جعل حق الطلاق للزوج وعدم جعله لغيره ، وقد بيّنه الشارع بمثل : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (١) ، ومثله وإن لم يكن حكما مجعولا ، إلا انه لما كان منتزعا من الحكمين المجعولين أمكن نفيه شرعا بحديث لا ضرر.

فلو قيل : إنه يلزم منه تأسيس فقه جديد ، لم يكن إيرادا على شمول

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ ـ ٢٣٤ ، حديث : ١٣٧.

٤٥٣

الحديث للأحكام العدمية ، لأن المنفي أمر وجودي. فتدبر.

ثم انه قد يوجّه عدم شمول الحديث لمورد الحكم العدمي : بأنه قد تقدم ان الحديث لا نظر له إلى الأحكام الواردة مورد الضرر ، كالضمان والحدود والدّيات. وبما ان الحكم العدمي في مورده ضرري ، كعدم الضمان فانه ضرري على الحر المفوّت عمله. ولم يثبت بإطلاق دليل كي تكون له حالتان ، بل ثبت بالإمضاء الثابت في كل مورد بخصوصه ، فهو ثابت في مورد الضرر رأسا. وفيه :

أولا : انه ليس مطردا في جميع أمثلة الحكم العدمي. فمثل نفي حق الطلاق لغير الزوج ثابت مطلقا بمثل : « الطلاق بيد من أخذ بالساق ». أعم من مورد الضرر وعدمه ، فيمكن أن يكون مشمولا لحديث نفي الضرر ، بناء على ان المنفي أمر عدمي لا ثبوتي.

وثانيا : ان الحكم الّذي لا يكون لحديث نفي الضرر نظر إليه هو الحكم الثابت بعنوان الضرر ، كقتل النّفس وإعطاء الزكاة ونحوها.

أما الحكم الّذي يثبت في مورد الضرر لا بعنوان الضرر ، بل بعنوان آخر يلازم حصول الضرر ، فهو خارج عن عموم حديث نفي الضرر بالتخصيص لا بالتخصص.

وعليه ، ففي مورد توهم مثل ذلك الحكم يرجع إلى عموم حديث نفى الضرر ، كما هو الحال في كل مورد يشك فيه في التخصيص. والحكم العدمي المتوهم على تقدير ثبوته من قبيل الثاني ، إذ لم يثبت بعنوان الضرر ، بل بعنوان مستلزم للضرر. فتدبر.

التنبيه الرابع : في كون المراد بالضرر هل الضرر الشخصي أو النوعيّ؟.

والمراد بالضرر النوعيّ إما ما يترتب بالنسبة إلى غالب المكلفين ، أو ما يترتب على غالب أفراد الفعل. فتارة يراد به نوع المكلف. وأخرى يراد به نوع الفعل. وعلى كل فالمراد به ما يقابل الضرر الفعلي الوارد على كل شخص.

٤٥٤

ولا يخفى عليك ان المتعين الالتزام بان المراد به هو الضرر الشخصي ، لأن الضرر كسائر الألفاظ موضوع للمفاهيم الواقعية ، وهو ظاهر في الفعلية دون الاقتضائية أو النوعية. فحين يتكفل الحديث نفي الضرر عن المكلف ، فظاهره نفي الضرر الفعلي الوارد عليه. ولا وجه لحمل الكلام على خلاف ظاهره. وهذا المطلب واضح جدا لا يحتاج إلى مزيد بحث.

وأما استدلال المحقق النائيني رحمه‌الله على كون المراد هو الضرر الشخصي بورود الحديث مورد الامتنان ، وبكونه حاكما على أدلة الأحكام الأولية (١). فلم أعرف وجهه ، إذ من الممكن أن يقال : إن الحديث وإن كان واردا مورد الامتنان ، لكن الملحوظ هو الامتنان بحسب النوع. كما انه حاكم على أدلة الأحكام إذا ترتب عليها الضرر نوعا.

وبالجملة : الالتزام بإرادة الضرر النوعيّ لا ينافي الالتزام بالحكومة والامتنان ، فتدبر جيدا.

التنبيه الخامس : في تعارض الضررين وما يتناسب معه من فروع.

ذكر المحقق النائيني قدس‌سره في التنبيه السادس : ان مقتضى ورود الحديث في مقام المنّة عدم وجوب تحمل الإنسان الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه ، ولا وجوب تدارك الضرر الوارد عليه ، بمعنى انه لا يجب رفعه عن الغير كما لا يجب دفعه. وهكذا لا يجوز توجيه الضرر الوارد إليه إلى الغير ، فلو توجه سيل إلى داره ، فان له دفعه ولا يجوز توجيهه إلى دار غيره ، لتعارض الضررين وعدم المرجح لأحدهما على الآخر.

ومقتضى ذلك انه لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بحيث يلزم من رفع أحدهما الحكم بثبوت الآخر ، هو اختيار أقلهما ضررا ، ولا يختلف الحال بالنسبة

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢٢٢ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٤٥٥

إلى شخص واحد أو شخصين ، فان المفروض ان نفي الضرر من باب المنة على العباد ولا ميزة لأحد على أحد في هذه الجهة ، فان الكل عبيد الله سبحانه.

فكما يختار الشخص الواحد أخف الضررين لو تعارضا بالنسبة إليه ، كذلك الأمر إذا تعارض الضرران في حق شخصين ، فانه مع عدم المرجح يحكم بالتخيير ، إذ المورد من موارد تزاحم الحقّين لا من موارد التعارض ، كي يحكم بالتساقط والرجوع إلى سائر القواعد.

إلا ان يدعى الفرق بين توجه الضررين إلى شخص واحد ، وبين توجههما إلى شخصين ، بأنه ..

إذا توجها إلى شخص واحد يختار أخفهما لو كان وإلا فالتخيير.

وأما إذا توجها إلى شخصين ، كالتولي من قبل الجائر الّذي يكون تركه ضررا على المتولي ، والإقدام عليه ضررا على الغير ، فلا وجه للترجيح أو التخيير ، إذ هو من موارد تحمل الضرر المتوجه إلى الغير ، وقد عرفت عدم وجوبه إذ الضرر متوجه أولا وبالذات إلى الغير فلا يجب على المكره دفعه عنه وتحمله.

نعم ، لو أكرهه الجائر على دفع مقدار من المال لم يجز له ان ينهب من أموال الناس ويدفع الضرر عن نفسه بذلك ، فانه من موارد توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير ، وقد عرفت عدم جوازه. ومسألة الولاية من قبل الجائر من قبيل الأول.

وعلى هذا ، فما أفاده الشيخ رحمه‌الله في المكاسب في مسألة التولي من قبل الجائر من الفرق بين الفرضين هو الصواب (١). لا ما ذكره في رسالته المعمولة لهذه المسألة من لزوم ملاحظة أخف الضررين بالنسبة إلى الشخصين ، كالضررين المتوجهين إلى شخص واحد (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب ـ ٥٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة لا ضرر ـ ٣٧٤ ـ المطبوعة ضمن المكاسب.

٤٥٦

نعم ، لو أريد من عبارة الرسالة صورة ورود ضرر من السماء يدور أمره بين شخصين ، كما إذا أدخلت الدّابّة رأسها في القدر من دون تفريط أحد المالكين ، ودار الأمر بين كسر القدر أو قتل الدّابّة كان حسنا. إذ يمكن الالتزام هاهنا باختيار أقل الضررين.

هذا ما أفاده قدس‌سره في هذا التنبيه مع بعض تلخيص (١).

وكلامه قدس‌سره يبدو مجملا ولا يخلو من ارتباك. ويتضح ذلك بالتعرض لكل فرض من الفروض المزبورة والتكلم فيه على حدة.

الفرض الأول : تحمل الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه.

ولا يخفى أنه لا مجال لتحكيم قاعدة : « لا ضرر » في هذا الفرض ، لإثبات وجوب تحمل الضرر ، لا من جهة ما أفاده قدس‌سره من ورود الحديث مورد المنة فلا يجري في مورد يستلزم منه الضرر ، بل من جهة عدم الموضوع لجريانها ، وذلك لأن القاعدة ناظرة ـ كما عرفت ـ إلى الأحكام الضررية فتتكفل رفعها.

ومن الواضح انه ليس لدينا في هذا الفرض ومع قطع النّظر عن قاعدة : « لا ضرر » حكم ضرري كي يقال ان رفعه خلاف المنة ، إذ الثابت هاهنا انه لا يجب على الإنسان دفع الضرر عن الغير أو رفعه ولو لم ينشأ منه ضرر عليه ، فلو رأى ضررا متوجها إلى غيره كسيل متوجه إلى داره يستلزم خرابها ، فلا يجب عليه أن يدفع السيل حتى لو لم يستلزم ضررا عليه.

وبعبارة أخرى : ان الثابت فيما نحن فيه ليس إلاّ عدم لزوم دفع الضرر ، وهو أمر عدمي ، وقد عرفت ان الحديث لا نظر له إلى الأمور العدمية الشرعية. إذن فلا مورد للقاعدة هاهنا أصلا.

وبالجملة : لم نعرف وجها لإثبات وجوب تحمل الضرر عن الغير بقاعدة :

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢٢٢ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٤٥٧

« لا ضرر » كي يتأتى فيها الكلام الّذي ذكره المحقق النائيني ، فالتفت ولا تغفل.

الفرض الثاني : توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير ، كما لو كان السيل بطبعه متوجها إلى داره ، فيجعل له سدا يدفعه به إلى دار الغير ، أو يدفعه بيده أو بآلة عن داره إلى دار الغير.

وقد عرفت ان المحقق النائيني قدس‌سره ذهب إلى عدم جوازه لتعارض الضررين.

والّذي نراه : ان المورد ليس من موارد التعارض ، فان مورد التعارض هو ما إذا كان لدينا حكمان متنافيان يترتب على كل منهما الضرر ، بحيث لا يمكن تطبيق القاعدة بالنسبة إليهما ، كمورد إدخال الدّابّة رأسها في القدر الّذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى عن قريب.

ولا يخفى أنه ليس لدينا فيما نحن فيه حكمان كذلك ، بل ليس هنا إلا حكم واحد وهو حرمة توجيه السيل إلى دار الغير من جهة انه إتلاف لماله وإضرار به.

والّذي نلتزم به في هذا المورد بمقتضى الصناعة هو جواز توجيه السيل إلى دار الغير مع ثبوت الضمان عليه. بيان ذلك : ان حرمة الإتلاف أو إضرار الغير ضررية على الشخص ، فترتفع بالقاعدة ، فيثبت هاهنا جواز توجيه السيل.نعم (١) قد يقال : ان حرمة الإتلاف وان كانت ضررية ، إلا ان رفع الحرمة يستلزم الضرر على الغير بإتلاف ماله.

ومن المعلوم ان حديث : « لا ضرر » لا يتكفل نفي الحكم في مورد يستلزم النفي الضرر على الغير ، إما لأجل الامتنان أو لغير ذلك مما هو ملاك نفى

__________________

(١) هذا ما أفاده الأستاذ ( دام ظله ) في مجلس الدرس ، لكنه عدل عنه إلى ما ذكرناه أخيرا في قولنا : ( لكن نقول ).

٤٥٨

الضرر.

وبعبارة أخرى : انه من الواضح ان نفي الضرر انما هو بملاك واقعي في إعدام الضرر وعدم تحققه ، فلا يشمل موردا يستلزم من شموله ترتب الضرر. نعم مع كون الضرر الواقع على الشخص أكثر من ضرر الغير لم يمنع ضرر الغير من تطبيق القاعدة بلحاظ ضرر الشخص ، فيثبت الجواز في خصوص هذه الصورة.

ولكن نقول : إن المفروض أن ضرر الغير المترتب على رفع الحرمة متدارك بالضمان ، والتدارك يرفع صدق الضرر ـ كما تقدم ـ ، ولو لم يرفع صدقه ، فمثل هذا الضرر المتدارك لا يمنع من شمول الحديث مع استلزامه له ، إذ لا ينافي ملاك رفع الضرر من امتنان أو غيره.

ثم لا يخفى عليك انه لا مجال لرفع الضمان الثابت بالإتلاف بحديث : « لا ضرر » لما أشرنا إليه غير مرة من ان الحديث لا يشمل الحكم الوارد في مورد الضرر كالضمان. إذن فالضمان ثابت على كل حال.

وقد يقال : إن الحكم بالضمان وان ورد مورد الضرر ، لكن يمكن تحكيم القاعدة فيه ، لا بلحاظ ضرر نفس الضمان ، بل بلحاظ ضرر آخر غير مترتب عليه دائما.

توضيح ذلك : ان الملحوظ ـ نوعا ـ في تشريع الحكم بالضمان وجعله هو ردع المكلفين عن إتلاف مال الغير ، إذ بعد التفات العاقل إلى ورود الخسارة عليه عند إتلاف مال غيره لا يقدم على إتلافه ، ونظير هذا الحكم تشريع الحدود والقصاص ، فان الداعي فيه نوعا منع المكلفين من إيجاد موضوعاتها.

ومثل هذا أثر من آثار الحكم ، نظير الارتداع المترتب على المنع التكليفي ، فلو ترتب على الارتداع ضرر ، صح اسناد ذلك الضرر إلى الحكم لأنه من آثاره بلحاظ كون الارتداع من آثار مثل هذا التشريع.

٤٥٩

وعليه ، فنقول : ان الحكم بالضمان ضرري هاهنا ، بلحاظ انه يترتب عليه الارتداع عن إتلاف مال الغير ، ويترتب على الارتداع حصول الضرر للشخص من السيل المتوجه إليه. فيمكن تحكيم القاعدة في الضمان بلحاظ هذا الضرر ، وبالنتيجة يرتفع الضمان لو أقدم على إتلاف مال الغير.

ولكن يمنع هذا القول : بان رفع الضمان هاهنا يستلزم ورود الضرر على الغير ، وهو النقص في ماله. وقد عرفت ان حديث نفي الضرر لا يشمل موردا إذا كان يستلزم من شموله ورود الضرر ، لأنه خلاف ملاك نفي الضرر.

وعليه ، فلا يكون الضمان موردا للقاعدة. فيبقى ثابتا بمقتضى دليله. فانتبه.

الفرض الثالث : التولي من قبل الجائر.

وهو ذو صورتين :

الأولى : ان يكون المكره عليه هو الإضرار بالغير ، بحيث يكون الضرر أولا وبالذات متوجها من قبل المكره على الغير ، كما لو أمره الوالي بضرب شخص أو هدم داره وتوعده على تركه بإضراره.

الثانية : ان يكون المكره عليه أمرا ضرريا بالنسبة إلى المكره ، لكن كان يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير.

كما لو أمره بدفع عشرة دنانير وتوعده على ترك العطاء بالضرب ، وكان يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بأخذ عشرة دنانير من الغير ودفعها إليه.

أما الصورة الأولى : فهي على نحوين :

فتارة : ينحصر ظلم الغير بالمكره بحيث لو تركه لا يقوم به أحد غيره.

وأخرى : لا ينحصر به ، بل يتحقق على يده غيره.

أما الأول ، فلا إشكال في ارتفاع الحكم التكليفي فيه ، وهو حرمة إتلاف مال الغير أو التصرف فيه بدون رضاه وغير ذلك بحسب اختلاف الموارد ، لعموم

٤٦٠