منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

وعليه ، فمثل الأحكام في باب الخمس والزكاة والضمان والحدود والدّيات والقصاص كلها واردة مورد الضرر فلا تكون مشمولة للحديث رأسا.

وأما غير ذلك من الموارد كمورد نجاسة المائع المضاف ونحوه ، فعلى تقدير ثبوت الحكم الضرري جزما ولم يمكن العمل فيه بقاعدة نفي الضرر ، فلا مانع من الالتزام بخروجه عن القاعدة بالتخصيص. إذ هي موارد قليلة لا يلزم من خروجها تخصيص الأكثر ، فلاحظ.

وما ذكرناه في حديث نفي الضرر ، هو نظير ما يذكر في حديث رفع الخطأ والنسيان من انه ناظر إلى الأحكام الثابتة للموضوع الأولي دون ما هو ثابت للخطإ بعنوانه ، فيكون خروجه بالتخصص لا بالتخصيص. فراجع.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى من الإشكال.

أما الجهة الثانية ، فهي ما أشار إليها الشيخ في رسالته الخاصة المعمولة في قاعدة نفي الضرر.

وهي عدم انطباق الحكم بنفي الضرر على الأمر بقلع العذق في رواية سمرة ، فقال قدس‌سره : « وفي هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع العذق مع ان القواعد لا تقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجب ذلك ، لكن لا يخل بالاستدلال » (١).

وتحقيق الكلام في ذلك : ان محصل الإشكال في رواية قصة سمرة ـ وهي عمدة الروايات ـ هو : ان الأمر المستتبع للضرر في الواقعة هو دخول سمرة في البستان من دون استئذان من الأنصاري ، لأنه يلزم منه الاشراف على عرضه وهو ضرر عليه ، فالحكم المستتبع للضرر هو جواز الدخول بدون إذن ، أو سلطنته على الدخول بلا إذن لو قيل بجعل السلطنة.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة نفي الضرر ـ ٣٧٢ ـ المطبوعة ضمن المكاسب.

٤٢١

ومن الواضح إن نفي الضرر لم يجعل في الرواية علة لحرمة الدخول بدون إذن ووجوب الاستئذان عند الدخول ، بل جعل علة للأمر بالقلع وهو لا يرتبط بنفي الضرر كما عرفت ، إذ ليس في بقاء العذق ضرر ، بل الضرر ينشأ من الدخول بلا إذن ، فأي ربط للأمر بالقلع بنفي للضرر والضرار الوارد في الحديث؟.

وقد أجاب المحقق النائيني رحمه‌الله عن هذا الإشكال بوجهين :

الأول : ان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر » ليس علة لقلع العذق ، بل هو علة لوجوب الاستئذان عند الدخول ، والأمر بقلع العذق كان مترتبا على إصرار سمرة على إيقاع الضرر على الأنصاري وعدم اهتمامه بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنه بذلك أسقط احترام ماله فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع العذق من باب الولاية حسما للفساد.

الثاني : وقد أطال فيه ، ومحصله : انه يمكن ان يفرض كون نفي الضرر علة لقلع العذق. ببيان : ان حديث نفي الضرر حاكم على قاعدة السلطنة التي يتفرع عليها احترام مال المسلم الّذي هو عبارة عن سلطنته على منع غيره عن التصرف في ماله ، فإذا تكفلت القاعدة نفي السلطنة فقد جاز قلع العذق لعدم احترام ماله حينئذ.

وقد نفي دعوى كون السلطنة ذات جزءين ، وجودي ، وهو سلطنته على التصرف في ماله. وعدمي ، وهو سلطنته على منع غيره من التصرف في ماله. والضرر الوارد على الأنصاري انما هو بملاحظة الجزء الوجوديّ لا السلبي ، فغاية ما ترفعه قاعدة : « لا ضرر » هو الجزء الوجوديّ ، وأما سقوط احترام ماله رأسا فلا وجه له ، ولذا لا إشكال في جواز بيعه وهبته. نفي هذه الدعوى : بأن التركب المدعى تحليل عقلي. والضرر وان نشأ من الدخول بلا استئذان ، إلا انه حيث كان متفرعا على إبقاء نخلته في البستان فالضرر ينتهي إليه لأنه علة العلل ،

٤٢٢

فيرتفع حق الإبقاء بمقتضى نفي الضرر.

وليس التفرع هاهنا نظير تفرع اللزوم على الصحة ، كي يورد : بان الضرر الناشئ من اللزوم انما يرفع خصوص اللزوم دون الصحة ، إذ التفرع في باب اللزوم والصحة لا يراد به إلا مجرد الطولية في الرتبة ، وإلا فهما حكمان مستقلان.

وأما التفرع هاهنا بين جواز الدخول وحق بقاء النخلة ، فهو من قبيل تفرع وجوب المقدمة عن وجوب ذيها ، يكون تفرعا تكوينيا بحيث يعد الفرع من آثار الأصل ، فالضرر في الحقيقة ينتهي إلى الإبقاء ، فيرتفع الحق فيه بقاعدة : « لا ضرر ». هذا خلاصة ما أفاده قدس‌سره (١).

ولكن في كلا الوجهين منع :

أما الأول : فهو انما يمكن تأتيه في رواية ابن مسكان ، فقد ورد الأمر بالقلع فيها بعد بيان : « لا ضرر » ، فيمكن ان يقال : ان الأمر بالقلع حكم مستقل لا من باب نفي الضرر إذ لم يطبق عليه نفي الضرر بل من باب آخر. ولكن رواية ابن مسكان ضعيفة السند كما عرفت فلا يعتمد عليها.

وإنما الرواية المعتمدة هي رواية ابن بكير. وقد ورد فيها الأمر بالقلع ثم علله بنفي الضرر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فانه لا ضرر ولا ضرار ». وهي ظاهرة في كون التعليل للأمر بالقلع ، وليس في الرواية للحكم بتحريم الدخول عليه بلا استئذان عين ولا أثر كي يقال إن التعليل راجع إليه ـ ولو بارتكاب خلاف الظاهر ـ. كما انه لو كان الحكم بتأديب من فعل محرما أمرا ارتكازيا في الإذن ، أمكن ان يقال إن قوله : « فانه لا ضرر » تعليل للتأديب الحاصل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ببيان صغراه وهو ارتكابه محرما وهو الإضرار بالغير ، فكأنه قال : « تقلع نخلته لأجل التأديب بعد فعله المحرم وهو

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢٠٩ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٤٢٣

الإضرار بالغير » ، نظير ما يقال : « يجوز تقليد زيد لأنه أعلم » ، فانه ظاهر في كون تقليد الأعلم أمرا ارتكازيا فيعلل به جواز تقليد زيد.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ لم يسبق ارتكاز في الأذهان لثبوت تأديب كل شخص يرتكب المحرم.

وبالجملة : لم يظهر من الرواية ولا بنحو الإشارة إلى كون المنظور في التعليل هو حرمة الدخول بغير الاذن ، فمن أين نستفيد منها رفع الحكم الضرري؟.

وأما الثاني : فمع الغض عن بعض خصوصيات كلامه والتسليم بأن الإبقاء ضرري ، باعتبار انه علة العلل. فغاية ما يقتضيه هو ارتفاع حق الإبقاء لا حرمة التصرف في ملك الغير ، لأنه ليس مقتضى ارتفاع حق الإبقاء جواز تصرف كل أحد في المال ، بل لا بد من رفع الأمر إلى الحاكم فيأمره بالقلع بنفسه ، فإذا امتنع جاز ان يخوّل غيره من باب ولايته على الممتنع.

وهذا المعنى لم يظهر تحققه من الرواية ، بل الظاهر منها هو أمره ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري بالقلع بمجرد إبائه ـ أي سمرة ـ عن المعاوضة.

وعلله بلا ضرر ولم يأمر سمرة بذلك. وقد عرفت ان ذلك لا ينسجم مع تطبيق « لا ضرر » في نفي حق الإبقاء ، إذ ليس للأنصاري التصرف في مال سمرة بمجرد ارتفاع حق الإبقاء.

والّذي يتحصل : انه لم يظهر لنا وجه تطبيق : « لا ضرر » على الأمر بالقلع بوجه من الوجوه.

وبذلك تكون الرواية مجملة لدينا ، ولا يمكن ان يستفاد منها قاعدة كلية لنفي الحكم المستلزم للضرر ، إذ مقتضى ذلك عدم انطباقها على المورد ، وتخصيص المورد مستهجن.

ومن هذا يظهر النّظر فيما أفاده الشيخ رحمه‌الله من : ان عدم العلم

٤٢٤

بكيفية الانطباق لا يضر بالاستدلال.

بل ما ذكرناه في تقريب الإشكال يقرّب كونها بيانا لملاك الحكم وحكمته لا بيانا للعلة التي يستفاد منها قاعدة عامة في كل مورد وجدت فيه. فتدبر.

وإذا سقطت هذه الفقرة في رواية قصة سمرة عن قابلية الاستدلال بها سرى الإشكال إلى الفقرة الواردة في غير هذا المورد ، لأن التعبير واحد لا اختلاف فيه ، فيبعد ان يراد منه معنى مختلف ، فيرتفع ظهوره في التعليل في تلك الموارد.

هذا ، مع ان في تطبيق : « لا ضرر » في مورد الشفعة بنحو العلية والكبرى العامة ما لا يخفى. فان ما هو ثابت في باب الشفعة من وجوب البيع على المشتري الثالث ، أو ولاية الشريك على تملك الحصة المبيعة ـ على اختلاف في ذلك بين الفقهاء ـ ، لا يرتبط بنفي الضرر الّذي لا يتكفل سوى النفي كنفي اللزوم لا الإثبات ، والمفروض ان ظاهر الرواية هو تطبيق : « لا ضرر » على القضاء بالشفعة.

هذا ، مع ان الحكم لا يسري مع تعدد الشركاء وفي غير المساكن والأرضين وبعد القسمة ، مع ان الملاك ـ وهو الضرر ـ ثابت في الجميع ، بل قد يثبت بالنسبة إلى الجوار كما نبهنا عليه سابقا. مضافا إلى ثبوت الشفعة ولو لم يكن ضرر أصلا في الشركة الجديدة. ثم إن في الشفعة خصوصيات لا ترتبط بنفي الضرر بالمرة كما لا يخفى على من لاحظ أحكام الشفعة.

وبالجملة : بملاحظة مجموع ما ذكرناه يبعد استظهار كون تطبيق : « لا ضرر » في مورد الشفعة من باب العلة والقاعدة العامة ، بل يقرب انها ذكرت كتقريب للحكم من باب الملاك والحكمة ، أضف إلى ذلك كله أن الأصحاب في موارد تطبيقها لا يلتزمون بالضرر في كل فرد من افراد مورد التطبيق ، كمورد خيار الغبن ، فانهم يلتزمون به من باب الضرر مع انهم يلتزمون به مطلقا ولو لم

٤٢٥

يكن شخص المعاملة ضرريا. كما أشار إليه في كلامه.

وهذا يصلح تأييدا ـ وان لم يصلح دليلا ـ لما ذكرناه من قرب كون ذكر « لا ضرر » من باب بيان الحكمة لا ضرب القاعدة العامة ، ويتأكد ذلك بملاحظة ان الأقدمين من الأصحاب « قدس‌سرهم » لم يوردوا تطبيقها في كثير من موارد العبادات والمعاملات ، وإنما ذكروها في موارد خاصة.

وجملة القول : ان ملاحظة ما ذكرناه بمجموعه ترفع من النّفس الاطمئنان بكون : « لا ضرر » قاعدة عامة تتكفل نفي الأحكام الضررية في جميع موارد الشريعة ، بل قد توجب الاطمئنان بالعدم ، وكون ذكرها من باب بيان حكمة التشريع. فلاحظ.

ثم إن الّذي يظهر من نفي الضرر في موارده في النصوص : كون الملحوظ نفي الضرر والإضرار بين الناس ، فتنفى جواز إضرار أحدهم بالآخر.

أما ارتكاب الشخص فعلا يستلزم الإضرار به نفسه ، فلا تعرض لها إليه ، ولذا لم يفهم الصحابة ـ جزما ـ عند ما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » نفي الضرر المتوجه من قبل الشخص على نفسه ، بل المفهوم منها لديهم المنع عن إضرار أحدهم بالآخر.

وعلى هذا الاستظهار ، فلو سلم انها قاعدة عامة كلية ، فهي لا تشمل موارد العبادات كالوضوء والصوم والحج والصلاة وغير ذلك.

كما انه يظهر بذلك ان إنكار كلية القاعدة لا يلزم منه محذور ، لأن موارد تطبيقها في المعاملات قليلة ، وكثيرا ما يتوفر دليل في الموارد الخاصة يكون بديلا لها ويغني عن الرجوع إليها.

ولعل ما أوضحناه هو الوجه في عدم معاملة القدماء مع : « لا ضرر » معاملة القاعدة الكلية العامة ذات السعة والشمول بالنحو الّذي حققه المتأخرون.

ثم إنه بملاحظة هذا الاستظهار الأخير يتضح لدينا سر عدم شمول

٤٢٦

القاعدة لموارد الإقدام على الضرر ، كالإقدام على المعاملة مع العلم بالغبن ، إذ قد عرفت عدم شمولها لغير الإضرار بين الناس.

وقد تمحّل البعض في تعليل عدم شمول القاعدة لمورد الإقدام ، فذهب إلى تعليله بأنها قاعدة امتنانية ولا امتنان في نفي الضرر في صورة الإقدام.

وهذا الوجه مما لا دليل عليه ، إذ لا ظهور ولا قرينة على ان نفي الضرر بملاك الامتنان بحيث يدور مداره.

نعم ، نفي الضرر عموما يكون فيه تخفيف ومنّة على العباد ، ولكن هذا غير كون النفي بملاك الامتنان ، فلاحظ ولا تغفل.

هذا تمام الكلام فيما يستفاد من النصوص في معنى الهيئة التركيبية.

وقد عرفت عدم استفادة قاعدة عامة منها.

وعلى تقدير الالتزام بكون مؤداها قاعدة عامة تتكفل نفي الحكم المستلزم للضرر وتحريم الضرر يقع الكلام في أمور تتعلق بالقاعدة ذكرت بعنوان تنبيهات :

التنبيه الأول : في بيان طريقة الجمع بين القاعدة وأدلة الأحكام الشاملة بعمومها أو بإطلاقها مورد الضرر. بيان ذلك : ان نسبة هذه القاعدة مع دليل كل حكم نسبة العموم من وجه ، فمثلا دليل لزوم البيع يدل على لزومه مطلقا في مورد الضرر ومورد عدم الضرر ، وقاعدة : « لا ضرر » تنفي الحكم الضرري سواء كان هو اللزوم أو غيره.

ومقتضى القواعد في تعارض العامين من وجه هو تساقطهما في مورد الاجتماع. ولكن الملتزم به في ما نحن فيه هو العمل بما يوافق قاعدة نفي الضرر.

وقد ذكر في توجيه ذلك وجوه يجمعها العمل على طبق قاعدة : « لا ضرر » ، وإن لم يكن عملا بنفس دليل : « لا ضرر ». وإليك بيانها :

الأول : ان مقتضى تعارض دليل القاعدة مع أدلة الأحكام وعدم المرجح

٤٢٧

لأحدهما هو تساقطهما في المجمع ، فيرجع إلى الأصول العملية ، وهي غالبا توافق مؤدى نفي الضرر ، لجريان أصالة البراءة في موارد الأحكام التكليفية الضررية ، وجريان أصالة الفساد في موارد الأحكام الوضعيّة الضررية.

الثاني : ان دليل القاعدة بما انه يتكفل نفي جميع الأحكام الضررية ، فتلحظ جميع أدلة الأحكام بمنزلة دليل واحد ونسبة دليل نفي الضرر إليه نسبة الخاصّ إلى العام فيخصص جميع الأدلة.

الثالث : ان نسبة دليل نفي الضرر إلى دليل كل حكم وإن كانت هي العموم من وجه ، إلا انه يتعين تقديم دليل نفي الضرر ، لأن تقديم أدلة الأحكام على دليل نفي الضرر يستلزم إلغاءه بالمرة ، لعدم مورد له أصلا ، وتقديم بعضها خاصة ترجيح بلا مرجح لأن نسبتها إليه على حد سواء. بخلاف تقديم دليل نفي الضرر ، فانه لا يستلزم إلغاء أدلة الأحكام لشمولها لموارد عدم الضرر.

وقد تقرر في محله انه إذا دار الأمر بين العامين من وجه وكان العمل بأحدهما مستلزما لطرح الآخر بالمرة كان الآخر هو المقدّم ويرجّح علي غيره.

الرابع : ان دليل نفي الضرر حاكم على أدلة الأحكام ، فيقدّم عليها ، ولا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم. وهذا الوجه بنى عليه الشيخ رحمه‌الله (١).

الخامس : ان العرف يجمع بين كل دليلين يتكفل أحدهما بيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الأولية ، ويتكفل الآخر بيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الثانوية ، بحمل الأول على بيان الحكم الاقتضائي والثاني على بيان الحكم الفعلي.

وبما ان دليل نفي الضرر يتكفل بيان الحكم لعنوان ثانوي ، فيجمع العرف بينه وبين أدلة الأحكام الأولية بحمله على بيان الحكم الفعلي وحمل أدلة

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٣١٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٨

الأحكام على بيان الحكم الاقتضائي.

وهذا ما بنى عليه صاحب الكفاية في دليل : « لا ضرر » ونحوه كدليل نفى الحرج ، واصطلح عليه بالتوفيق العرفي (١).

هذه زبدة الوجوه المذكورة في هذا المقام.

أما الأول : فهو فرع تحقق التعارض بنحو لا يمكن الجمع بينهما ، فهو في طول سائر الوجوه وسيتضح لك ان النوبة لا تصل إليه.

وأما الثاني : فهو لا وجه له ، إذ لا مجال لملاحظة جميع الأدلة دليلا واحدا ، بعد ان كانت الأحكام مبيّنة بأدلة مستقلة ، ومجرد الملاحظة لا يصيرها دليلا واحدا كي تتغير النسبة.

وأما الثالث : فهو وجه متين يلتزم بنظائره في موارد متعددة من الفقه.

ويمكن تصويره بنحو أكثر صناعة وأبعد عما يدور حوله من إشكال ، بأن يقال : إنه بعد الجزم بصدور : « لا ضرر » وإرادة نفي الضرر في الجملة بنحو تكون : « لا ضرر » نصا في بعض الموارد على نحو الإجمال.

وهذا ينافي إطلاق أدلة الأحكام وعمومها ، ويكون العمل بأدلة الأحكام موجبا لطرح ما يكون دليل : « لا ضرر » نصا فيه لا مجرد ظهوره فيه ، لأنها نصّ في بعض الموارد بنحو الموجبة الجزئية ، ومقتضى ذلك حصول العلم الإجمالي بتقييد وتخصيص بعضها ، فلا يمكن العمل بكل واحد منها لعدم جريان أصالة العموم بعدم العلم الإجمالي بتخصيص البعض ، فتسقط أصالة العموم في الجميع.

ولكن لا يخفى عليك ان هذا الوجه إنما تصل النوبة إليه بعد عدم إمكان الجمع العرفي بين دليل نفي الضرر وأدلة الأحكام ، إما بنحو الحكومة أو بنحو التوفيق العرفي الّذي يبني عليه صاحب الكفاية ، لأنه فرع المعارضة.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٩

وإلا فمع إمكان الجمع عرفا وإمكان الأخذ بعموم دليل نفي الضرر في حد نفسه ، لا تصل النوبة إلى هذا الوجه وان كان وجيها في نفسه.

فالعمدة إذن تحقيق الوجهين الأخيرين.

أما الرابع : وهو دعوى الحكومة ، فقد عرفت تبني الشيخ لها. وقد ناقشه صاحب الكفاية : بأن الحكومة تتوقف على كون الدليل الحاكم بصدد التعرض لحال الدليل المحكوم.

ودليل نفي الضرر لا نظر له إلى أدلة الأحكام ولا تعرض له إلى حالها ، بل يتكفل بيان ما هو الواقع من نفي الضرر ، وهذا المقدار لا يصحح الحكومة ، بل هو كسائر أدلة الأحكام (١).

وقد ردّه المحقق النائيني ـ بعد أن فهم من كلامه تخصيص الدليل الحاكم بما يكون متعرضا للدليل المحكوم بالمدلول اللفظي المطابقي ، نظير أن يقول : أعني ، أو أردت بذلك الدليل كذا ، ونحو ذلك. وقد تأملنا في صحة هذه النسبة إلى صاحب الكفاية في أول مباحث التعادل والترجيح ـ بتصوير الحكومة وانطباق ضابطها على المورد.

والبحث في ضابط الحكومة بتفصيل يأتي الكلام فيه في مجال آخر.

ولكن نتعرض له هاهنا بنحو الإجمال ونوكل تحقيقه التفصيليّ إلى مجاله.

والأولى التعرض إلى ما ذكره المحقق النائيني هاهنا ، ثم نعقبه بما نراه صوابا. فنقول : ذكر قدس‌سره : ان القرينة على قسمين : قرينة المجاز وقرينة التخصيص والتقييد. والفرق بينهما ان قرينة المجاز تكون بيانا للمراد الاستعمالي من اللفظ ، وتبيّن المدلول التصديقي للفظ ، نظير لفظ : « يرمي » في قول القائل : « جاء أسد يرمي » ، فانه يكون بيانا لكون المراد من : « أسد » هو الرّجل الشجاع.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٣٠

وأما قرينة التخصيص ، فهي ليست بيانا للمراد الاستعمالي ، بل هي بيان للمراد الواقعي الجدي ، فتكون مبيّنة لما هو موضوع الحكم واقعا ، وان عنوان العام ليس تمام الموضوع بل جزؤه.

وبعد أن ذكر ذلك بعنوان المقدمة ، أفاد قدس‌سره : أن الحكومة بنظر الشيخ رحمه‌الله لا تختص بما إذا كان الحاكم من قبيل قرينة المجاز مبيّنا للمراد الاستعمالي من المحكوم ، بان يتكفل الحاكم التفسير للدليل المحكوم بمثل كلمة : « أعني » أو : « أي » أو : « مرادي كذا » ونحو ذلك ، بل هي بنظره ان يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا للدليل الآخر.

وهذا أعم من كون التعرض للدليل الآخر بالنصوصية بمثل كلمة : « أعني » ، أو التعرض للمراد الواقعي للدليل الآخر بظهور الحال أو السياق بنحو يفهم كون النّظر في هذا الدليل للدليل الآخر ، نظير ان يرد دليل يتكفل الحكم على موضوع عام ، ثم يأتي دليل آخر يتكفل إخراج بعض افراد الموضوع عنه ، أو يتكفل إثبات عنوان العام لفرد خارج عنه واقعا ، مثلا يأتي دليل يتكفل إثبات وجوب الإكرام لكل عالم ، ثم يأتي دليل يقول : « ان زيدا ليس بعالم » وهو عالم واقعا ، ويكون المنظور فيه نفي حكم العام عنه ، فيتكفل هذا الدليل تضييق موضوع حكم العام ، فيشترك مع التخصيص في الأثر وفي كونه بيانا للمراد الواقعي ، إلا ان الفرق بينه وبين التخصيص ، هو ان في التخصيص لا يكون في اللفظ إشعار بالحكم الثابت للعام بحيث لا يفهم بحسب المدلول اللفظي انه متعرض لحال دليل آخر ، نظير قوله في المثال المتقدم : « لا تكرم زيدا » فانه لا تعرض له بحسب المدلول لحكم العام ، ولذا يتم هذا الكلام ولو لم يكن هناك دليل عام أصلا.

نعم ، بعد العلم بصدور العام والمفروغية عن عدم جواز صدور حكمين متنافيين من العاقل الملتفت ، يحكم العقل بملاحظة أظهرية الخاصّ أو نصوصيته

٤٣١

بعدم إرادة هذا الفرد الخاصّ من العموم ، فيكون الخاصّ بيانا للمراد الواقعي من الدليل العام ، لكن بحكم العقل ومن باب الجمع بين الدليلين.

وهذا بخلاف الدليل الحاكم ، فان بيانيته بمدلوله اللفظي لا بتوسط حكم العقل ، بحيث يفهم من مدلوله اللفظي انه بيان لحال دليل آخر فيضيق دائرته أو يوسّعها.

ولأجل ذلك كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم ، فيتوقف على ورود المحكوم أولا ثم يرد الحاكم. بخلاف الخاصّ فانه لا يتفرع على ثبوت حكم العام أصلا كما عرفت.

ثم ذكر : ان الحكومة على أقسام :

فمنها : ما يتعرض لموضوع المحكوم ، كما إذا قيل : « زيد ليس بعالم » بعد قوله : « أكرم العلماء ».

ومنها : ما يتعرض لمتعلق الحكم الثابت في المحكوم ، كما لو قيل ان الإكرام ليس بالضيافة.

ومنها : ما يتعرض لنفس الحكم ، كما لو قيل : « ان وجوب الإكرام ليس في مورد زيد ».

ثم ذكر أن الوجه في تقدم الحاكم على المحكوم هو انه لا تعارض بين الدليلين أصلا ، لأن الدليل المحكوم يتكفل الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ، فلا تعرض له لثبوت ذلك التقدير وعدمه ، والدليل الحاكم يتكفل هدم تقدير ثبوت الموضوع وبيان عدم تحققه ، وفي مثله لا تنافي أصلا بين الدليلين.

وعلى هذا الأساس صحّح الترتب بين الأمر بالضدين ، ببيان عدم المنافاة بين تعلق الأمر بالأهم مطلقا وتعلق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم ، فان امتثال الأمر بالأهم يدعو إلى هدم موضوع الأمر المهم ، فلا يصادمه ولا ينافيه ، بل هو كالحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم.

٤٣٢

وبعد هذا البيان ذكر أن دليل نفي الضرر يكون حاكما على أدلة الأحكام الواقعية الأولية ، سواء قلنا بمقالة صاحب الكفاية من تكفله نفى الحكم بنفي الموضوع. أو قلنا بمقالة الشيخ من تكفله نفي الحكم الضرري. لأنها ناظرة إلى أدلة الأحكام الواقعية على كلا المسلكين ، وانما الفرق انها على مسلك صاحب الكفاية تكون شارحة لموضوع الأحكام. وعلى مسلك الشيخ تكون شارحة لأصل الحكم.

هذا ما أفاده قدس‌سره نقلناه مع توضيح وتلخيص (١).

والكلام معه في مقامين :

المقام الأول : في ضابط الحكومة وبيان حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام.

أما ضابط الحكومة ، فقد أسهبنا القول فيه في غير هذا المقام. والّذي نختاره يتعارض مع ما ذكره قدس‌سره.

ومجمله : ان يكون الدليل الحاكم متعرضا وناظرا بمدلوله اللفظي للدليل المحكوم ، سواء كان تعرضه بالتفسير والدلالة المطابقية ، كما إذا تكفل التفسير بمثل كلمة : « أعني ». أو كان تعرضه بالظهور السياقي ونحوه ، نظير قوله : « لا شك لكثير الشك » بالنسبة إلى أدلة أحكام الشك. ولا يختلف الحال فيه بين ان يكون متعرضا للموضوع فيضيقه أو يوسعه ، وبين أن يكون متعرضا للحكم مباشرة ، نظير أدلة نفي الحرج المتكفلة لنفي الأحكام الحجية.

ومن هنا كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم ، بحيث يكون الحاكم لغوا بدون المحكوم لارتباطه به ونظره إليه.

واما حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام ، فهي تكون واضحة بعد

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢١٣ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٤٣٣

بيان هذا الضابط للحكومة ، بناء على مختار الشيخ ومختار صاحب الكفاية.

إذ هي على مختار الشيخ تكون ناظرة إلى نفي الأحكام المستلزمة للضرر ، فتكون متفرعة عن أدلة الأحكام الأولية. كما أنها على مختار صاحب الكفاية تكون موجبة للتصرف في موضوع أدلة الأحكام الأولية بإخراج الموضوع عنها.

ومنه اتضح حكومتها على مختارنا في مدلولها من تكفلها نفي الضرر حقيقة ، ونظرها الأصلي إلى نفي الحكم أو إثبات التحريم. فلاحظ.

وأما على المسلك القائل بان مفادها النهي عن الضرر فقط ، فلا تستلزم الحكومة ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى عند التعرض لمورد تعارض دليل نفي الضرر مع دليل يتكفل الحكم بالعنوان الثانوي كدليل نفي الحرج ، ومورد تعارض الضررين. فانتظر.

المقام الثاني : في بيان بعض المؤاخذات على كلامه قدس‌سره. وهي عديدة :

الأولى : فيما أفاده من ان بيانية الخاصّ للعام بحكم العقل ، بحيث يكون تقدمه عليه بحكم العقل بعد ملاحظته التنافي بين الحكمين. فانه يرد عليه.

أولا : انه لا دخل للعقل في تقديم أحد الدليلين على الآخر ، وليس ذلك من مهماته ، فهل يختار العقل تقديم الخاصّ ولا يختار تقديم العام؟.

وثانيا : انه التزم في مبحث التعادل والترجيح ان الخاصّ مقدم على العام بالقرينية ومقتضاه عدم ملاحظة أقوائية ظهور الخاصّ ، بل يقدّم الخاصّ ولو لم يكن ظهوره أقوى من ظهور العام بل كان أضعف ، نظير تقديم ظهور : « يرمي » في رمي النبل على ظهور : « أسد » في الحيوان المفترس ، لأجل أنه قرينة ، ولو كان ظهوره في معناه أضعف من ظهور أسد في معناه.

وما التزم به هناك مناف لما أفاده هاهنا من تقدم الخاصّ بحكم العقل أو بالأظهرية ، فلاحظ.

٤٣٤

الثانية : فيما أفاده من لزوم تأخر الدليل الحاكم عن الدليل المحكوم زمانا.

فانه يرد عليه : ان الضابط الّذي تقدم بيانه للحكومة وإن اقتضى تفرع الحاكم على المحكوم. لكنه لا يقتضي تفرعه عليه تفرع المعلول عن العلة والمسبب عن السبب كي لا يصح تقدمه زمانا ، بل انما يقتضي كون الحاكم من شئون الدليل المحكوم وتوابعه ، وهذا لا ينافي تأخر المحكوم وجودا.

نعم ، غاية ما يلزم هو ثبوت المحكوم وتحققه ولو في زمان متأخر ، إذ من الممكن ان يكون الشيء من توابع شيء آخر مع تقدمه زمانا ، كتهيئة الطعام للضيف قبل الظهر مع انه من شئون مجيئه للدار المتأخر زمانا. فتدبر.

الثالثة : فيما أفاده في وجه تقدم الحاكم على المحكوم من عدم المعارضة بينهما. فانه يرد عليه :

أولا : ان الدليل الّذي يتكفل هدم موضوع الدليل الآخر ، انما لا ينافيه إذا كان تصرفه فيه تكوينيا ، نظير تصرف الأمر بالأهم في موضوع الأمر بالمهم في باب الترتب ، لا ما إذا كان تصرفه فيه تعبديا ، لأن مرجع النفي التعبدي للموضوع إلى نفي الحكم نفسه ، فيتنافى مع دليل إثبات الحكم لذلك الفرد ، والدليل الحاكم كذلك ، لأنه يتكفل نفي الموضوع تعبدا وتنزيلا لا حقيقة.

وثانيا : ان الدليل الحاكم لا ينحصر فيما يتكفل نفي الموضوع ، بل من الأدلة الحاكمة ما يتكفل نفي الحكم مباشرة ، بل قد جعله قدس‌سره من أوضح افراد الحكومة.

ومثل هذا الدليل يصادم الدليل المحكوم في مدلوله وينافيه. فما أفاده قدس‌سره لا يمكن الاعتماد عليه.

والّذي ينبغي ان يقال في وجه تقديم الحاكم على المحكوم ، هو : ان تقدمه عليه للقرينية ، إذ بعد ثبوت نظره للدليل المحكوم وتعرضه له يعدّ عرفا قرينة

٤٣٥

على تشخيص المراد بالمحكوم.

وبالجملة : انه لا إشكال في كون الدليل المتكفل لتفسير الدليل الآخر بكلمة : « أعني » ونحوها ، يكون مقدما على الدليل الآخر عرفا لقرينيته عليه ، ولا يرى العرف أي تناف بينهما ولا حيرة في الجمع بينهما.

ومثل هذا الدليل الّذي يكون ناظرا إلى الدليل الآخر بدون كلمة التفسير ، لأنه أيضا يعدّ قرينة عرفا. فكلا نحوي الحاكم يكون مقدما بملاك القرينية. غاية الأمر أن قرينية النحو الأول بالنص وقرينية النحو الثاني بالظهور ، وهو لا يكون فرقا فارقا ، فتدبر. هذا تمام الكلام في الحكومة.

وأما الخامس : وهو دعوى التوفيق العرفي التي بنى عليها صاحب الكفاية. فتوضيح ما أفاده قدس‌سره : انه ذكر ان دليل نفي الضرر انما يتكفل في حال الضرر نفي الحكم الثابت للفعل بعنوانه الضرر ، وذلك لأن ظاهر دليل نفي الضرر كون الضرر علة للنفي ومانعا من ثبوت الحكم المنفي ، فلا يمكن ان يشمل الموارد التي يكون الضرر مقتضيا لثبوت الحكم ، إذ المقتضي للحكم يمتنع ان يكون مانعا عنه.

ومن هذا البيان انتقل إلى تقدّم دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام بلا ملاحظة النسبة بينهما ، إذ بعد استظهار العرف من دليل نفي الضرر كون الضرر مانعا من ثبوت الحكم وأنه يرتفع بالضرر ، يوفّق بين الدليلين بحمل الأدلة الأولية على بيان الحكم الاقتضائي وان الضرر مانع عن فعلية الحكم.

ثم قال بعد كلام له : « هذا ، ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله كما قيل » ويمكن أن يرجع قوله : « كما قيل » إلى نفي الحكومة ، وانه ليس ، امرا تفردنا به بل قيل به. كما يمكن ان يرجع إلى نفس الحكومة ، وهي المنفي ، فيكون إشارة إلى دعوى الشيخ رحمه‌الله ، والأمر سهل.

٤٣٦

وكيف ما كان فما أفاده قدس‌سره في بيان تقدم دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام الأولية يبتني على كون المستفاد من دليل نفي الضرر ان الضرر مانع من ثبوت الأحكام ، فتكون مرتفعة بثبوته لوجود المانع.

ولا يخفى عليك ان ما أفاده قدس‌سره يرجع في الحقيقة إلى دعوى نظر دليل نفي الضرر إلى أدلة الأحكام وتعرضه لها ، فينطبق عليه تعريف الحكومة على رأي الشيخ ، فيتقدم دليل نفي الضرر بهذا البيان بالحكومة.

نعم ، لما كان قدس‌سره لا يلتزم بان الحكومة هي مطلق النّظر ، بل هي النّظر بالشرح والتفسير المطابقي ، مثل ان يقول : « أعني » لم يعلّل التقدّم هاهنا بالحكومة بل علّله بالتوفيق العرفي.

فهو في ملاك التقديم يشترك مع الشيخ رحمه‌الله ولكنه يختلف معه في عنوان التقدّم ، فالاختلاف بينهما لفظي اصطلاحي ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

هذا فيما يرجع إلى جهة السلب في كلامه ـ أعني : تكفل دليل نفي الضرر نفي الأحكام الأولية وعدم ثبوتها ـ.

وأما ما يرجع إلى جهة الإيجاب وهي حمل العرف لأدلة الأحكام الأولية علي بيان الحكم الاقتضائي في مورد الضرر.

فقد وقعت مورد النقض والإبرام ممن تأخر عنه ، وبحث في معقولية الحكم الاقتضائي وما المراد منه؟. وفي مقدّمة من تعرض لذلك بإسهاب المحقق الأصفهاني رحمه‌الله (١).

وبما انه لا أثر عمليا للبحث في ذلك فعلا فالأولى ترك التعرض له إلى مجال آخر.

والخلاصة : هي ان أدلة نفي الضرر حاكمة على أدلة الأحكام الأولية بناء

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٧

على تكفلها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرري ، أو تكفلها نفي الحكم المستلزم للضرر.

وأما دعوى التوفيق العرفي ، فهي في واقعها ولبّها ترجع إلى دعوى الحكومة بحسب مصطلح الشيخ رحمه‌الله وانما الاختلاف اصطلاحي.

ثم ان ما أفاده صاحب الكفاية في وجه التقدم من ظهور دليل نفي الضرر في مانعية الضرر ، انما هو متفرع على ما استفاده من كون الحديث متكفلا لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

ولا يتأتى على سائر الأقوال في مفاد حديث نفي الضرر ، إذ لا ظهور في نفي الحكم المستلزم للضرر في كونه مانعا من الحكم وعلة للنفي ، إذ لم يؤخذ الضرر في موضوع النفي كي يستظهر عليته له ، كما هو الحال على مسلك صاحب الكفاية. فانتبه ولا تغفل والله سبحانه العالم.

التنبيه الثاني : في ان الضرر المنفي بحديث نفي الضرر هل يراد به الضرر الواقعي ، سواء علم به المتضرر أم لم يعلم ، أو يراد به الضرر المعلوم؟.

الّذي ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله في هذا المقام ، هو : ان مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعية لا المعلومة كون المراد بالضرر المنفي الضرر الواقعي لا المعلوم (١).

لكن يظهر من الشيخ رحمه‌الله في باب الوضوء اشتراط علم المكلف بكون الوضوء ضرريا في جريان دليل نفي الضرر ، فلو توضأ وهو يعتقد عدم الضرر فبان الضرر بالوضوء كان وضوءه صحيحا (٢).

كما انه يظهر من غير واحد في المعاملة الغبنية اشتراط الجهل بالغبن

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢١٥ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة ـ ١٥١ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٨

في جريان دليل نفي الضرر لإثبات الخيار ، فلو علم بالغبن لم يثبت الخيار.

كما انه في غير هذين الموردين سلكوا مسلكا آخر ، فجعلوا المدار على الضرر الواقعي علم به أم لم يعلم ، ولذا حكموا بأنه ليس للمالك حفر البئر في داره إذ استلزم ضرر الجار ولو لم يعلم الجار بالضرر.

ومن هنا يحير الإنسان ، ويقع الإشكال في اعتبار العلم بالضرر في مورد الوضوء ، واعتبار الجهل به في مورد البيع الغبني ، وعدم اعتبار العلم ولا الجهل في مورد ثالث. هذا ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله.

ثم إنه تصدى لحل الإشكال في باب الوضوء ، وان أخذ العلم ليس من جهة كون المراد بالضرر هو الضرر المعلوم ، كي يتصادم هذا الالتزام مع الالتزام بعدم اعتبار العلم في غير مورد ، بل أخذ العلم بالضرر في مورد الوضوء منشؤه وجهان :الأول : ان قاعدة نفي الضرر قاعدة امتنانية واردة بملاك الامتنان ، فلا تجري فيما كان إجراؤها خلاف المنّة ، بان استلزم إيجاد كلفة على المكلف.

وهذا هو المانع من إجرائها في مورد الوضوء المتقدم ، لأن إجراء حديث نفي الضرر فيه يستلزم الحكم ببطلان وضوئه السابق وصلاته لو فرض أنه صلّى به ، فتجب عليه إعادة الوضوء والصلاة ، وهو إيقاع للمكلف في الكلفة ، وهو ينافى التسهيل والامتنان.

الثاني : ان حديث نفي الضرر انما يرفع الحكم إذا كان موجبا للضرر ، بحيث يكون هو الجزء الأخير للعلة التامة للضرر ، وفيما نحن فيه ليس الحكم بوجوب الوضوء كذلك ، فان الضرر لا يستند إليه ، بل منشأ الضرر هو جهل المكلف واعتقاده عدم الضرر ، ولذا لو فرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع المكلف في الضرر لجهله بترتبه على الفعل. وبعبارة أخرى : انك قد عرفت ان الحديث يتكفل نفي الحكم بلسان نفي الضرر من باب ان نفي السبب ملازم لنفي

٤٣٩

المسبب ، وهذا المعنى لا يتأتى في المورد ، لأن نفي الحكم فيه لا يستلزم نفى الضرر ، بل المكلف يقع في الضرر على كل حال كان الحكم بالوضوء ثابتا أم لم يكن. إذن فلا يتكفل الحديث نفي الحكم في مثل هذه الصورة.

نعم ، لو كان مفاد الحديث نفي الحكم عن الموضوع الضرري ، فلا وجه للتقييد بالعلم بالضرر فيما نحن فيه ، إذ الوضوء ضرري ويستند إليه الضرر بلا كلام ، فينتفي حكمه بمقتضى حديث نفي الضرر. ولكن هذا المذهب غير صحيح كما تقدم.

هذا ما أفاده قدس‌سره في حل الإشكال. ومقتضاه اعتبار الأمرين في عدم وجوب الوضوء ، الضرر الواقعي والعلم به ، ومن هنا قد يتوجه إشكال ، وهو : ان لازم ذلك انه لو اعتقد الضرر ولم يكن ضرر في الواقع لم يسقط عنه وجوب الوضوء ، فلو كان صلى عن تيمم لزمه إعادة الصلاة ، لعدم انتقال فرضه إلى التيمم. مع ان المشهور عدم وجوب الإعادة ، مما يكشف عن كون اعتقاد الضرر ذا موضوعية بنفسه.

وقد دفع قدس‌سره هذا الإشكال : بان ظاهر عدم الوجدان في الآية الكريمة : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ... ) (١) هو الأعم من الواقعي والعلمي ، واعتقاد الضرر يدرج المكلف في من لم يجد الماء ، إذ المراد من عدم الوجدان عدم التمكن من استعمال الماء ، إما لعدم وجوده وإما لعدم القدرة على استعماله لمانع شرعي أو عادي ، ولذا لو اعتقد عدم وجود الماء في راحلته وصلى متيمما ثم تبين وجود الماء أفتوا أيضا بصحة الصلاة ، وليس ذلك إلا من باب ان عدم الوجدان أعم من عدم الوجود واقعا أو اعتقادا.

ثم إنه قدس‌سره تعرض لمطلب استطرادي ، وهو : انه إذا انقلب

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٤٣ ، وسورة المائدة ، الآية : ٦.

٤٤٠