منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الواقعة خارجا ، فان الضرر وان كان يصدق بحسب الدقة في مورد التدارك ، لكن لا يصدق عرفا ، فيصح نفي الضرر إذا تحقق تداركه ، ولذا يقال لمن غصب منه مال وعوض بمثله : انك لم تتضرر لأنك أخذت مثله.

ففيما نحن فيه يكون المنفي هو الضرر بلحاظ تشريع التدارك الموجب لعدم صدق الضرر عرفا.

ولا يخفى ان النص على هذا الاحتمال يختص بنفي الضرر على الغير لا الضرر على النّفس ، إذ لا معنى للتدارك بلحاظ ضرر النّفس.

وعلى هذا الأساس تنحل مشكلة عدم ثبوت خيار الغبن مع العلم بالغبن ، بناء على كون مدرك الخيار هو قاعدة نفي الضرر ، إذ وجّهه الاعلام بما لا يخلو من مناقشة ، كدعوى عدم شمول القاعدة على مورد الإقدام لعدم الامتنان ونحو ذلك. ولكن على هذا الاحتمال يتضح وجهه ، لأن الضرر الواقع على المشتري بالغبن لم يكن من البائع خاصة ، بل هو مشترك بين البائع والمشتري نفسه ، لعلمه بالغبن واقدامه ، وقد عرفت عدم شمول القاعدة لضرر النّفس. فلاحظ وتحقيق الكلام موكول إلى محله.

الرابع : ان يكون المقصود نفي الحكم الثابت للموضوع الضرري ، فيراد من نفي الضرر نفي أحكام الموضوع الضرري من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه نظير : « لا شك لكثير الشك » و: « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » ونحو ذلك.

وهذا الوجه مما بنى عليه صاحب الكفاية رحمه‌الله في نفي الضرر وشبهه من نفي العسر والحرج (١).

وتظهر الثمرة بين ما أفاده وبين مختار الشيخ في بيان نفي الاحتياط بأدلة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٠١

نفي العسر والحرج في مقدمات دليل الانسداد. فراجع تعرف.

هذه هي المحتملات الأربعة المذكورة ، وقد عرفت ان لكل منها شواهد وأمثلة عرفية.

فيقع الكلام في أن أيها المرجّح؟ فنقول وعلى الله سبحانه الاتكال :

ان ما أفاده صاحب الكفاية لا يقبل القبول ، لأن نفي الحكم بلسان نفى الموضوع وان تعارف في الاستعمالات العرفية والشرعية ، لكن المتعارف توجه النفي إلى نفس موضوع الحكم الشرعي ، ويراد نفي الآثار المترتبة عليه شرعا ، نظير : « لا شك لكثير الشك ». فان الشك في الصلاة له أحكام خاصة فيقصد نفيها عن شك كثير الشك بهذا اللسان.

والنفي في ما نحن فيه تعلق بنفس الضرر ، وهو مما لا أثر له يراد نفيه بنفيه ، ولو كان له أثر فلا يقصد جزما نفيه ورفعه ، بل هو يترتب على تحقق الضرر مع انه أجنبي عن مدعى صاحب الكفاية.

وقياس المورد على مورد رفع الاضطرار بحديث الرفع قياس مع الفارق ، لأن الرفع في حديث الرفع تعلق بالفعل في حال الاضطرار لا بنفس الاضطرار ، فيكون مقتضاه نفي الآثار المترتبة عليه في حال الاضطرار. وليس كذلك فيما نحن فيه ، لأن المنفي هو الضرر نفسه لا الفعل الضرري.

ثم إن نظر صاحب الكفاية ..

إن كان إلى دعوى ان لسان الحديث وما شابهه هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم بلحاظ عدم ترتب أثره عليه ، فينفي ادعاء ومسامحة.

فيرد عليه إشكال آخر : وهو ان الّذي يتوخاه صاحب الكفاية هو الالتزام بعدم ترتب الأثر على الموضوع الضرري وانتفاء حكمه أيضا من وجوب أو حرمة أو غيرهما.

ومن الواضح ان تنزيل الموجود منزلة المعدوم انما يصح بلحاظ عدم ترتب

٤٠٢

أثره المترقب عليه. كعدم ترتب الصحة أو اللزوم على البيع الضرري ، فيقال انه لا بيع.

ولا يصح ذلك بلحاظ عدم ثبوت حكمه له ، فلو لم يجب الوضوء الضرري لا يصح ان يقال إنه لا وضوء.

وبالجملة : لا يصح التنزيل المزبور بلحاظ انتفاء الحكم التكليفي المتعلق بالفعل الضرري ، فلا يتوصل صاحب الكفاية إلى ما يبغيه بما التزم به.

نعم ، إذا كان نظره إلى دعوى تكفل الحديث وما شابهه نفي الموضوع حقيقة في عالم التشريع ، فيدل على انتفاء اثره وانتفاء حكمه ، لم يرد عليه هذا الإيراد ، إذ يصح نفي الفعل عن عالم التشريع إذا كان حكمه التكليفي منفيا ، كما هو واضح. وكيف كان ، فالعمدة هو الإيراد الأول الّذي ذكرناه ، وقد كنا نتخيّل انّه مغفول عنه في الكلمات لكن اطلعنا على تعرض غير واحد (١) له وفي مقدمتهم شيخ الشريعة رحمه‌الله (٢).

وأما احتمال كون المقصود نفي الضرر غير المتدارك.

فقد أورد عليه بوجوه عمدتها ثلاثة :

الأول : ما أفاده الشيخ رحمه‌الله في رسالته من ان التدارك المانع من صدق الضرر عرفا هو التدارك الخارجي لا مجرد الحكم بالضمان أو وجوب التعويض ونحو ذلك ، فانه لا يمنع من صدق الضرر حقيقة (٣).

وعليه ، فالتدارك الجعلي التشريعي لا يصحح نفي الضرر كما يحاول المدعي إثباته.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله من ان مقتضى هذا الوجه

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٥٢٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة. قاعدة لا ضرر ـ ٢٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٣

تكفل الحديث لتشريع الضمان ، مع انه لم نر من العلماء من استدل على ثبوت الضمان في مورد ما بحديث نفي الضرر مع ورود بعض النصوص في باب الضمان المأخوذ في موضوعها الضرر الموجب لتنبههم إلى ذلك على تقدير الغفلة عنه ، مما يكشف عن عدم فهم العلماء ذلك من الحديث ، وبما انهم أهل عرف ولسان ، يكشف ذلك عن ان هذا الوجه بعيد عن الفهم العرفي ، فلا يمكن أن يصار إليه (١).

الثالث : ما أفاده في الكفاية من استهجان التعبير بالضرر وإرادة خصوص حصة منه ، فيراد من لفظ الضرر : « الضرر غير المتدارك » (٢).

هذا محصل الإيرادات على هذا الوجه.

ولا يخفى عليك ان الأخير منها انما يتوجه على التقريب الأول للاحتمال المذكور.

أما على التقريب الثاني ، فلا يتوجه عليه ، لأن المنفي ـ بالتقريب الثاني ـ هو طبيعي الضرر.

ومن الغريب ان المحقق الأصفهاني يقرر بدائيا إشكال الكفاية بلا إيراد عليه ، ثم ينبّه في آخر كلامه بمناسبة أخرى على هذا التقريب السالم عن ورود الإشكال ، فراجع كلامه (٣).

وأما ما أفاده الشيخ رحمه‌الله ، فيمكن دفعه بما أشار إليه المحقق الأصفهاني من : أن الحكم الوضعي بالضمان يجبر النقص المالي بنفسه ، لأنه حكم باشتغال ذمة الضامن للمضمون له ، فيملك المضمون له في ذمة الضامن قيمة ما أضرّه به ، فلا يفوته شيء بذلك ، فلا يتحقق الضرر.

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢٠٠ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٤

وأما ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله ، فيمكن التفصي عنه : بأن حديث نفي الضرر ..

إن كان متكفلا لإنشاء التدارك والضمان في مورد الضرر ، تم ما ذكره من انه لازمه كون الضرر من أسباب الضمان ، مع انه لم يذكر ذلك في كلمات العلماء والفتاوي.

واما ان كان متكفلا للاخبار عن عدم ترتب الضرر لتشريع التدارك والضمان في موارده لكن لا بعنوان الضرر بل بعناوين أخرى ملازمة له كالإتلاف والتغرير ونحوهما ـ نظير ما ذكرناه في رواية مسعدة بن صدقة المذكورة في أخبار أصالة الحلّ من انها لا تتكفل جعل أصالة الحلّ ، بل تتكفل الإخبار عن جعل الحلية في موارد الشك بعناوين مختلفة من يد واستصحاب ونحوهما ـ. فلا يكون مقتضى ذلك كون الضرر من أسباب الضمان بل سببه هو العنوان الآخر الملازم له كالإتلاف ، فعدم ذكر الضرر من أسباب الضمان في كلمات العلماء لا ينافى تكفل الرواية بيان تشريع الضمان في موارد الضرر ، لذكرهم الأسباب المأخوذة في الحكم بالضمان في أدلة تشريعه ، ولا معنى لذكرهم الضرر بعد أن لم يكن بعنوانه سببا.

نعم ، عند الشك في ثبوت الضمان في مورد من موارد الضرر لعدم دليل. خاص يساعد عليه يمكن التمسك بهذا الحديث لإثبات تشريع الضمان فيه ولو كان موضوعه مجهولا. ولعل من تلك الموارد مورد تفويت المنفعة الّذي وقع الكلام في ترتب الضمان عليه. وقد بنى البعض على الضمان لأنه من مصاديق الإتلاف. فتدبر جيدا.

ثم انه قد أورد على هذا الوجه بوجه رابع وهو : ان كل ضرر في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا ، فلو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر أموالا كثيرة لم يجب تداركه لا تكليفا ولا وضعا ، والالتزام بوجوب التدارك

٤٠٥

في أمثاله يستلزم تأسيس فقه جديد (١).

وهذا الإيراد لا يختص به هذا الوجه بل هو وارد على جميع الوجوه الأربعة ، لأن الاستيراد إذا كان ضرريا فيلزم ان يبنى على تحريمه كما هو مقتضى الوجه الأول ، أو على عدم صحة البيع أو عدم لزومه ، كما هو مقتضى الوجه الثاني والرابع. مع انه لا يلتزم به.

فلا بد من التصدي لدفعه ، وقد أشرنا إلى بعض الكلام فيه في تفسير : « الضرر » ، وسيجيء توضيح الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

والّذي تحصل ان شيئا ممّا ذكر من هذه الإيرادات غير وارد.

والّذي يبدو لنا ان هذه الإيرادات التماس لوجه الارتكاز الموجود في النّفس ، فان الارتكاز العرفي والذوق الفقهي لا يساعد على هذا الوجه ، فصار كل منهم إلى بيان سبب ذلك بوجه خاص قد عرفت ما فيه.

والعمدة في دفع هذا الوجه أن يقال : إن الضرر له نسبتان وارتباطان نسبة إلى الفاعل الصادر منه الضرر ونطلق عليه الضارّ ، ونسبة إلى المفعول الواقع عليه الضرر ونطلق عليه المتضرر. ومن الواضح ان التدارك ينفي صدق الضرر عرفا بالنسبة إلى المتضرر ، فيقال له إنك لم تتضرر ، ولا ينفي صدقه على الضار ، فانه لا يقال له عرفا إنك لم تضر زيدا بل يقال له انك أضررته فتدارك. كيف؟

وموضوع التدارك هو صدور الضرر منه ، والتدارك فرعه كما لا يخفى. ومن الظاهر ان الملحوظ في الحديث ـ خصوصا بملاحظة تطبيق المضار على سمرة ـ هو نفي الضرر بلحاظ نسبته إلى الضار لا المتضرر ، فلا يناسب حملها على تشريع التدارك.

وببيان آخر : ان المنفي في الحديث هو الضرر بقول مطلق ، وهو لا يصح

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٥٢٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٦

لو كان بملاحظة جعل التدارك ، لأنه بهذه الملاحظة لا بدّ ان يقيد بالضرر بالنسبة إلى المتضرر نفسه لا ان ينفي مطلقا. فلاحظ.

والّذي يتحصل مما ذكرنا هو بطلان الاحتمالين الثالث والرابع فيبقى لدينا الاحتمال الأول والثاني.

أما الثاني ، فقد استشكل فيه :

أولا : بان إطلاق لفظ المسبب على السبب وان تعارف في الاستعمالات ، إلا انه انما يصح في الأسباب والمسببات التوليدية كالإلقاء والإحراق ، والرمي والقتل. فيقال عن الإلقاء إنه إحراق ، ويقال عن الرمي إنه قتل.

أما في مثل المقدمات الإعدادية ، فلا يطلق عليها اسم المسبب وذي المقدمة ، فلا يقال لبيع السكين انه قتل إذا ترتب عليه ذبح المشتري لشخص بالسكين الّذي اشتراه.

ومن الواضح ان نسبة التكليف إلى الفعل الضرري ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه ، بل نسبة المعدّ ، لتخلل الإرادة والاختيار من المكلّف ، كيف؟ والفعل لتحريك الإرادة من المكلف.

وعليه ، فلا يقال عن التكليف إنه ضرر ، إذا كان مما يترتب عليه الضرر.

فلا وجه لدعوى كون المراد من نفي الضرر نفي الحكم الضرري.

وقد يجاب عن هذا الإشكال : بأنه وإن كانت الإرادة تتخلل بين الفعل والتكليف ، لكن هذا لا ينافي نسبة الفعل إلى المولى المكلّف إذا كانت له قوة قاهرة تلزم المكلف بامتثال حكمه بنحو يكون تجاه مولاه ضعيف الإرادة ، ولذا ينسب القتل إلى السلطان إذا أمر جنده بقتل أحد ، فيقال : إن السلطان قتله ، لأجل ان إرادة الجندي تجاه أمر السلطان كلا إرادة.

وعليه ، فمن الممكن ان يكون الملحوظ في نفي الضرر مقام الطاعة وامتثال العبد أمر مولاه ، بحيث يكون الأمر هو الجزء الأخير للإرادة والتحرك

٤٠٧

نحو العمل ، فيصح بهذا اللحاظ إطلاق الضرر على الحكم ونفي الحكم بلسان نفي الضرر.

وثانيا : ان الضرر اما اسم مصدر أو هو مصدر لم تلحظ فيه جهة الصدور ، بل هو تعبير عن نفس المبدأ ، وليس كالإضرار يحكي به عن المبدأ بملاحظة جهة الصدور فيه ، فالضرر كالوجود والإضرار كالإيجاد ، ومثله لا يصح إطلاقه على سببه التوليدي ، بل الّذي يصح هو اسم المسبب الملحوظ فيه جهة الصدور ، فمثل الإحراق يصح إطلاقه على الإلقاء ، أما لفظ الحرقة فلا يصح إطلاقه على الإلقاء.

وعليه ، فلا يقال للحكم انه ضرر وإن صح ان يقال انه إضرار. وإلى هذا أشار المحقق الأصفهاني رحمه‌الله في حاشيته على الكفاية (١). وهو إشكال متين لا دافع له.

هذا ولكن لا يخفى عليك ان هذين الإيرادين انما يتوجهان على هذا الاحتمال بالتقريب الأول.

أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى كون المنفي نفس الضرر حقيقة وجدّا وانما المقصود الأصلي بيان لازمه من رفع الحكم الضرري باعتبار نشوء الضرر منه ، فلا مجال لهذين الإشكالين ، إذ لم يطلق الضرر على الحكم بل استعمل في معناه الحقيقي وأريد نفي الحكم بالملازمة ، بل يكون هذا الاحتمال بالتقريب الثاني احتمالا وجيها ثبوتا لعدم إشكال فيه ، وإثباتا لأن له نظائر في الاستعمالات العرفية كما تقدم.

وأما الأول : ـ وهو احتمال تكفل الحديث النهي عن الضرر ـ فقد أورد عليه :

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٨

أولا : بعدم معهودية استعمال مثل هذا التركيب وإرادة النهي منه جدا. وهذا الإيراد ذكره في الكفاية (١).

وثانيا : أنه بعيد كما أفاده المحقق النائيني ، ولعله لأجل انه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا إذا قامت قرينة عليه أو انحصر المراد به ـ كما في مثل : « لا يعيد صلاته » ـ وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك (٢).

ولا يخفى ان هذين الإيرادين ـ لو تمّا ـ لا يردان إلا على التقريب الأول لهذا الاحتمال. أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى استعمال الجملة في نفى الضرر حقيقة بداعي الاخبار ويكون المقصود الأصلي بيان إيجاد المانع من الضرر وهو النهي عنه ، فلا مجال لهذين الإيرادين ، إذ لم يستعمل في مقام النهي كي يقال انه لم يعهد ذلك في مثل هذا التركيب ، أو انه خلاف الظاهر ، لأن الجملة خبرية فلا يصار إليه إلا بدليل ، بل استعمل في معناه الحقيقي وأريد جعل الحرمة بالملازمة ، ولا بعد فيه بعد ان عرفت ان له نظائر عرفية في مقام المحاورة.

والمتحصل : ان الوجهين الأولين في حديث نفي الضرر بالتقريبين المزبورين لا محذور فيهما.

ولا يخفى عليك انهما بملاك واحد وملاحظة جهة واحدة ، وهي بيان عدم المعلول مع كون الغرض الأصلي هو بيان عدم تحقق أحد اجزاء علته غاية الأمر ان الملحوظ في الاحتمال الثاني ، هو بيان عدم المعلول ـ وهو الضرر ـ من جهة عدم تحقق مقتضية ، وهو الحكم المستلزم للضرر ، فيدل على رفع الحكم الضرري. والملحوظ في الاحتمال الأول بيان عدم المعلول من جهة تحقق مانعة ، وهو الحرمة المانعة من تحقق الضرر ، فيدل على تحريم الضرر.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول. ـ ٣٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢٠٠ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٤٠٩

وقد عرفت ان كلا الاستعمالين متداول عرفا ، فمثلا إذا توجه سيل ماء على بيت شخص بحيث يشكل خطرا عليه ، فقد يقول القائل انه لا خطر على صاحب البيت ويكون قصده بيان تفرق السيل وتبدده في الرمال فلا مقتضي للخطر. وقد يقول انه لا خطر على صاحب البيت ويكون قصده بيان وجود مانع يصدّ السيل عن الوصول إلى البيت فيرتفع الخطر ، وهو في كلا الاستعمالين أخبر عن ارتفاع الخطر حقيقة وكان في نفس الوقت يقصد بيان لازمه من عدم المقتضي أو وجود المانع. فلا مخالفة للظاهر في هذا الاستعمال.

ولأجل ما ذكرنا كان الاحتمالان الأول والثاني كفرسي رهان لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لعدم وجود ما يعينه.

نعم قد يقال بترجيح الثاني بملاحظة تطبيق القاعدة في بعض الروايات على مورد لا يحرم الضرر فيه ، بل الثابت فيه ارتفاع الحكم الضرري ، وهو مورد الأخذ بالشفعة ، فان بيع الشريك حصته من غير شريكه ليس محرما ، بل لا لزوم له لأجل الضرر ، فالالتزام بالوجه الأول يتنافى مع تطبيق الحديث في مورد الشفعة.

ولكن في قبال هذا الإشكال إشكال آخر على الوجه الثاني نظيره ، فان الحديث طبق أيضا في مورد لا حكم فيه من الشارع يستلزم الضرر فلا بدّ ان يحمل فيه على إرادة النهي والحرمة ، وهو مورد قضية سمرة بن جندب.

وتوضيح ذلك : ان الحكم الشرعي على نحوين اقتضائي كالوجوب والحرمة ، وغير اقتضائي كالإباحة. والحكم الّذي يستلزم الضرر ويكون منشئا لتحقق الضرر خارجا هو الحكم الاقتضائي ، لأنه يكون داعيا للمكلف نحو العمل ويتحرك المكلف نحو الفعل بملاحظة وجوده. وأما الحكم الترخيصي مثل الإباحة ، فبما انه لا اقتضاء فيه ولا تحريك ، فلا يكون منشئا للضرر ، لأن مرجع الإباحة إلى بيان عدم المانع من قبل الشارع وبيان عدم الملزم من قبله ، فهو لا

٤١٠

اقتضاء بالنسبة إلى الفعل وبالنسبة إلى الترك ، ومثله لا يصحح استناد الضرر إلى المولى ، إذ ما لا اقتضاء فيه بالنسبة إلى الفعل كيف يصحح نشوء الفعل من قبله؟. ومجرد التمكن من المنع وعدم التصدي له لا يصحح اسناد الفعل إليه ، فلو رأيت شخصا يريد قتل زيد وكنت متمكنا من منعه وصدّه فلم تصدّه فقتله ، فهل يصح ان يسند القتل إليك؟ لا إشكال في عدم صحته.

وإذا اتضح ذلك ، فمن الواضح انه في قضية سمرة لا إلزام من قبل الشارع لسمرة في العبور على بيت الأنصاري بدون إذنه ، كي يكون هذا الحكم مرتفعا لأجل الضرر ، بل غاية ما هناك هو جواز العبور ، ومثله لا يستلزم الضرر كما عرفت ، فتطبيق نفي الضرر بلحاظ نفي الحكم الضرري في هذا المورد غير صحيح ، فلا بدّ ان يكون الملحوظ فيه جهة إيجاد المانع وهو تحريم الضرر.

إذن ، فكل من الوجهين لا يخلو عن إشكال.

نعم ، لو التزم ان الضرر في موارد الإباحة يستند إلى الاذن الشرعي والإباحة الشرعية ، لم يكن في تطبيق الحديث في قضية سمرة بلحاظ رفع الإباحة إشكال. وعليه فلا إشكال في الالتزام بالوجه الثاني ، ويكون لازما للتحريم في بعض الموارد مما كان الحكم المرتفع فيه هو الجواز. ونتيجته تكون ملازمة لنتيجة الالتزام بتكفلها النهي عن الضرر ، لأنها تثبت حرمة الضرر ، مضافا إلى رفع الحكم الإلزامي على تقدير ثبوته.

لكن عرفت ان الإباحة لا تصلح ان تكون منشئا للفعل الضرري ، لأن مرجعها إلى عدم الملزم ، والاقتضاء بكل من طرفي الفعل والترك ، فلا يصح ان يستند إليها أحد الطرفين. فالإشكال متوجه.

والّذي نختاره ـ بعد جميع ما تقدم ـ في معنى قوله : « لا ضرر ولا ضرار » هو : كون المراد الاستعمالي والجدي نفي الضرر والضرار في الخارج حقيقة ، والقصد الأصلي من ذلك بيان تصدي الشارع إلى لازم ذلك وهو رفع مقتضى

٤١١

الضرر وإيجاد المانع منه ، فان عدم المعلول لازم لأمرين كما عرفت ، فالكلام بصدد بيان كلا الأمرين من عدم المقتضي ووجود المانع.

وقد عرفت كثرة مثل ذلك في الاستعمالات العرفية كما تقدم بيان بعض الشواهد.

ولا يخفى ان هذا لا يرجع إلى استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ : « لا ضرر » لم يستعمل الا في معناه وهو نفي الضرر.

يبقى لدينا سؤالان يدوران حول تحديد المختار وتوضيحه :

السؤال الأول : انه هل الملحوظ بيان ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد ، أو ان الملحوظ بيان ثبوتهما بنحو الطولية ، بان يكون المقصود بيان ارتفاع الضرر برفع مقتضية شرعا ، فإذا لم يكن له مقتض شرعي يجعل المانع ، ففي المورد الّذي يكون فيه حكم ضرري ، فنفي الضرر لا يتكفل سوى بيان رفعه من دون جعل تحريم ، وانما يتكفل جعل الحرمة في مورد لا يكون فيه حكم ضرري؟.

والجواب عن هذا السؤال : ان بيان ثبوت اللازمين بنحو الطولية وإن كان لا محذور فيه ثبوتا ولا إشكال فيه ، إلا انه يحتاج إلى مئونة زائدة في مقام الإثبات وإلى قرينة تقتضي ذلك ، وهي غير موجودة. فمقتضى إطلاق النفي كون المراد ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد ، ففي موارد الضرر كما يرتفع الحكم الضرري يثبت تحريم الضرر ، وذلك لأن نفي الضرر خارجا لا يحصل بمجرد رفع الحكم ، بل لا بد من إيجاد المانع منه ، وهو الحرمة ، لأن مجرد ارتفاع وجوب الوضوء مثلا لا يمنع من تحققه خارجا ، فقد يأتي به المكلف. نعم ارتفاع الضرر لا يمكن ان يكون إلا برفع منشئه وهو الحكم.

وبالجملة يكون مفاد الحديث كلا الأمرين من نفي الحكم وحرمة الفعل الضرري معا في عرض واحد ولا محذور في الالتزام بذلك.

نعم بعض الموارد قد لا تكون قابلة لكلا الأمرين فلا يثبت فيها إلا

٤١٢

أحدهما فقد لا يقبل المورد لرفع الحكم لعدم ثبوت الحكم الضرري القابل للرفع كما في مثل قضية سمرة ، فلا يثبت فيها سوى تحريم الإضرار وهذا لا ينافى التعميم في المورد القابل.

وقد يشكل بناء على ذلك بان مقتضى ما ذكر من التعميم ثبوت الحرمة في مورد الشفعة مضافا إلى رفع الحكم الضرري ، والمفروض عدم الحرمة. ولذا جعل تطبيقها في مورد الشفعة من موارد الإشكال على كون المراد بالقاعدة النهي عن الضرر ـ كما تقدم ـ فالإشكال بعينه وارد على المختار أيضا.

ويندفع هذا الإشكال بان ما ينشأ منه الضرر لا يقبل تعلق التحريم به ويمتنع ثبوت الحرمة له ، فهو من الموارد التي لا تكون قابلة لكلا اللازمين بيان ذلك :

ان بيع أحد الشريكين حصته من شخص ثالث مجهول الحال لا ضرر فيه إلا بلحاظ لزوم البيع وعدم قابليته للفسخ. وإلاّ فلو فرض كونه متزلزلا وأمره بيد الشريك الآخر ، فلا تعد شركة الشخص الجديد ضررا.

إذن فما يستلزم الضرر هو لزوم البيع ، فهو مرتفع لأنه حكم شرعي قابل للرفع ، لكن لا معنى للنهي عنه لأنه ليس من أفعال المكلف بل من أفعال الشارع نفسه فيمتنع تعلق الحرمة به. اذن فمورد الشفعة نظير مورد قصة سمرة مما لا يقبل ثبوت كلا اللازمين. فتدبر.

السؤال الثاني : ان استعمال « لا ضرر » في نفي الضرر هل هو من باب الاستعمالات الكنائية التي لا يكون المراد الاستعمال فيها مرادا جدا بل يكون المراد الجدي هو اللازم مثل قول القائل : ( زيد كثير الرماد ) وهو يريد واقعا انه كريم فهو لم يقصد الاخبار عن كثرة رماده وانما أخبر عن كرمه ، بل قد يستعمل ذلك ولا رماد له أصلا كما إذا كانت وسائل طبخه على الكهرباء التي لا تخلّف رمادا أو انه ليس من ذلك الباب بل المدلول الاستعمالي مراد جدا وحقيقة ، وفي الوقت

٤١٣

نفسه يقصد الاخبار عن الملازم؟.

والجواب : ان الالتزام بأنه من باب الاستعمالات الكنائية وان لم يكن فيه محذور ويتم المطلب به أيضا لكن الظاهر من نظائره كما في الاستعمالات العرفية هو الثاني ، فمثل قول القائل : « لا خطر عليك » ، بملاحظة دفعه مقتضى الخطر أو إيجاد المانع منه ، كما يقصد بيان ارتفاع المقتضى جدا ، بقصد نفي الخطر حقيقة لأجل تهدئة باله تسكين اضطرابه ، وليس قصده مجرد بيان رفع المقتضي من دون بيان ارتفاع الخطر ، نظير « زيد كثير الرماد ».

وعليه ، فالظاهر ان نفي الضرر الوارد في كلام الشارع نظير نفي الخطر الوارد في كلام أهل العرف يراد منه بيان عدم الضرر واقعا إظهارا للامتنان والرحمة ، فان في بيان عدم المسبب من مظاهر الامتنان والعطف ما لا يوجد في بيان عدم السبب.

نعم قد يشكل الالتزام بذلك بان مقتضاه هو كون الحديث يتكفل الاخبار عن عدم الضرر خارجا بملاحظة عدم المقتضي أو وجود المانع ، نظير اخبار المخبر بزوال الخطر لحدوث مانع من السيل.

ومن الواضح ان هذا يصح لو فرض ان الشارع تكفل جعل المانع التكويني من حدوث الضرر أو رفع المقتضي التكويني له ، والحال انه لم يتكفل ذلك ، بل تكفل رفع المقتضي التشريعي وجعل المانع التشريعي ، وهو الحرمة ، وغير خفي ان ذلك لا يلازم عدم الضرر. لفرض حصول العصيان من العبيد ، وما أكثره ، فيكون اخباره بعدم الضرر حقيقة مخالفا للواقع وهو مما يستحيل عليه تعالى.

فيتعين ان يحمل على كونه استعمالا كنائيا لم يقصد به جدا إلا الاخبار عن لازمه من دون الاخبار عن المدلول الاستعمالي.

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنه يمكن ان يكون الملحوظ في نفي الضرر

٤١٤

مقام الطاعة والمكلّف المطيع ، بان يراد انه لا يتحقق الضرر من مثله ، وهو لا ينافي جعل المانع بالنسبة إلى جميع المكلّفين ، إذ جعل الحرمة لجميع المكلّفين يلازم عدم تحقق الضرر خارجا من المطيع.

والداعي إلى الالتزام بهذا التقييد ما عرفت ان الظاهر من : « لا ضرر » بملاحظة نظائرها في الاستعمالات العرفية هو الاخبار عن المدلول المطابقي بنحو الجدّ ، فلا وجه لرفع اليد عنه مع إمكان الالتزام به ولو بارتكاب التقييد.

والمتحصل : ان قاعدة نفي الضرر تتكفل معنى عاما شاملا جامعا بين نفي الحكم المستلزم للضرر وبين حرمة الضرر في آن واحد ، ولا نرى في ذلك محذورا ، ولا يرد عليه أي إشكال.

وهي بذلك تكون قاعدة عامة سارية في جميع الموارد من عبادات ومعاملات.

لكن قد يتوقف عن الالتزام بذلك لجهتين أشار إليهما الشيخ رحمه‌الله في كلامه :

أما الجهة الأولى : فهي ما ذكره في كتاب الفرائد من : ان هذه القاعدة موهونة بكثرة التخصيص الوارد عليها بنحو يكون الخارج عنها أضعاف الباقي تحتها ، بل لو التزم بالعمل بعموم القاعدة لزم منه فقه جديد.

وبما ان تخصيص الأكثر يكون مستهجنا عرفا فلا يمكن الالتزام بما هو ظاهرها لاستلزامه تخصيص الأكثر ، بل يكون هذا التخصيص قرينة على كون المراد منها معنى لا يلزم منه ذلك.

وعليه ، فلا يمكن التمسك بها في قبال أدلة الأحكام إلا في مورد يتمسك فيه الأصحاب بها ليكون ذلك منهم معينا للمراد بها بناء على كفاية مثله.

ثم انه بعد ما ذكر هذا الإشكال دفعه بوجهين :

أحدهما : منع أكثرية الخارج وان كان كثيرا في نفسه ، ومثل ذلك لا

٤١٥

استهجان فيه.

والآخر : إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن كان مجهولا لدينا. وقد ثبت في محله ان تخصيص الأكثر إذا كان بعنوان واحد لا استهجان فيه ، كما إذا قيل : « أكرم الناس » ودل دليل آخر على خروج الفاسق منهم وهو يشمل أكثر أفراد الناس ، فانه لا استهجان فيه عرفا. هذا ما أفاده الشيخ رحمه‌الله (١).

وقد أورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل : بأن خروج الأكثر بعنوان واحد إنما لا يكون مستهجنا فيما إذا كان الافراد التي استوعبها العام هي العناوين التي يعمها لا الأشخاص المندرجة تحتها ، لعدم لزوم تخصيص الأكثر بإخراج أحد العناوين حينئذ ، لأنه أحد افراد العام لا أكثر افراده.

وأما إذا كان الملحوظ في العموم هو الأشخاص المندرجة تحت العناوين المنطبقة عليها ، كان إخراج أكثرها بعنوان واحد مستهجنا ، لأنه تخصيص للأكثر ، وهو مستهجن مطلقا.

هذا ما أفاده في الحاشية ، وكأنه يحاول أن يقول : إن نفي الأحكام الضررية بحديث : « لا ضرر » من قبيل الثاني ، وهو ما كان الحكم فيه على ذوات الأشخاص لا على العناوين ، فلا يندفع محذور تخصيص الأكثر بوحدة عنوان الخارج كما أفاده الشيخ رحمه‌الله (٢).

وللمحقق النائيني رحمه‌الله تحقيق في المقام يحاول فيه التفصيل بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية والالتزام بان تخصيص الأكثر بعنوان واحد إنما لا يستهجن في القضايا الحقيقية لا الخارجية ، ثم يختار ان عموم نفي الضرر

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ١٦٩ ـ الطبعة الأولى.

٤١٦

من قبيل القضايا الخارجية. وهو بذلك ينتهي إلى موافقة صاحب الكفاية رحمه‌الله (١).

ونحن لا نرى أنفسنا بحاجة إلى نقل كلامه.

بل نذكر ما نراه هو القول الفصل في هذا المقام ، فنقول ـ بعد الاتكال عليه سبحانه ـ : ان العموم الشامل لجميع أفراده قد يكون له جهتان من العموم :

إحداهما : العموم بحسب الأنواع والأصناف المندرجة تحته ، كالنحوي والفقيه والطبيب والمتكلم والعادل والفاسق بالنسبة إلى العالم ، فقد يلحظ جميع هذه الأصناف وغيرها في الحكم على العالم ، فيراد به الطبيعة السارية في جميع هذه الأصناف ، كما أنه قد يلحظ بعضها ويخرج البعض الآخر.

والأخرى : العموم بحسب الافراد من جميع الأصناف ، فيكون الملحوظ كل فرد فرد من افراد الأصناف المختلفة للعالم ، فيراد به الطبيعة السارية في جميعها ، كما انه قد يريد بعض تلك الافراد مع المحافظة على العموم الأنواعي.

وفي مثل هذا العموم الحاوي لكلتا الجهتين إذا ورد تخصيصه بعنوان واحد جامع لكثير من الافراد ، فانما يصطدم دليله مع العموم الأنواعي للعام فيخرج منه النوع الخاصّ.

ومن الواضح انه لو كان ذلك العنوان جامعا لأكثر الافراد ، لا يكون تخصيص العام به مستهجنا ، لأن المخصص به هو جهة العموم الأنواعي ، وهو بالنسبة إليه ليس تخصيصا للأكثر. وإما إذا ورد دليل أخرج أكثر الافراد بنحو يصطدم مع العموم الأفرادي كأن يقول ـ مثلا ـ لا يجب إكرام هؤلاء التسعين من أفراد العالم ، وكان مجموع افراده مائة ، كان ذلك من تخصيص الأكثر المستهجن.

__________________

(١) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ٢١٠ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٤١٧

وبذلك يظهر لك وجه كلام الشيخ رحمه‌الله في التزامه بعدم الاستهجان لو كان المقدار الخارج بعنوان واحد.

كما انه يظهر لك وجه كلام صاحب الكفاية ، فان الإخراج بعنوان واحد انما لا يكون مستهجنا إذا كان الملحوظ فيه تخصيص العموم الأنواعي.

وهذا في المورد الّذي يكون العام مشتملا فيه على كلتا الجهتين من العموم.

أما إذا كان متمحضا في العموم من حيث الافراد بحيث أخذ العنوان العام طريقا لإثبات الحكم على أفراده بلا ملاحظة جهة الأنواع ، فان الدليل المخصص يصطدم رأسا مع العموم الأفرادي ، فإذا كان ما يندرج تحته أكثر الافراد كان من تخصيص الأكثر المستهجن.

وقد يفرّق بين هذين القسمين من العموم ، فيلتزم بان مثال القسم الأول هو العموم الملحوظ بنحو القضية الحقيقية. ومثال القسم الثاني هو العموم في القضايا الخارجية ، نظير : « قتل من في العسكر ».

ونحن بعد أن بيّنا جهة الفرق ونكتته لا يهمنا التسمية ولا نتقيد بها. إنما المهم هو. تحقيق أن عموم نفي الضرر من أي النحوين؟. وعليه يبتني تحديد رجحان ما أفاده الشيخ أو ما أفاده صاحب الكفاية.

والّذي نراه هو ان عموم نفي الضرر من النحو الثاني ـ أعني : ما لوحظ فيه الحكم على الافراد بلا ملاحظة الأصناف ـ فهو مما يتمحض في جهة العموم الأفرادي ، فهو أشبه بالقضية الخارجية وإن لم يكن منها ، كما سنشير إليه.

بيان ذلك : ان المفروض هو كون دليل : « لا ضرر » موجبا للتصرف في أدلة الأحكام ومقيدا لها بصورة عدم الضرر ، فالملحوظ فيه هو الأحكام المجعولة بأدلتها من قبل الشارع ، كوجوب الوضوء ووجوب الصلاة ووجوب الصوم وحرمة التصرف في مال الغير ولزوم المعاملة ونحو ذلك.

٤١٨

ومن الواضح ان كل حكم من أحكام الشريعة ينشأ بمفرده وشخصه لا بعنوان جامع ، فلم ينشأ وجوب الصلاة ووجوب الصوم ووجوب الحج بعنوان جامع بل كل جعل بمفرده. إذن فالجامع بين هذه الوجوبات ليس حكما شرعيا مجعولا ، إذ لم يتعلق الإنشاء به بل تعلق بمصاديقه ، وتصنف الأحكام من عبادات ومعاملات ـ مثلا ـ أو تكليف ووضع أو نحو ذلك ، وإن كان ثابتا ، لكن العنوان الصنفي أو النوعيّ الجامع عنوان انتزاعي واقعي ينتزع بعد ورود الأدلة المتكفلة لجزئيات الأحكام في الموارد المختلفة ، وليس أمرا مجعولا شرعا.

وعليه ، فبما ان دليل نفي الضرر قد لوحظ فيه تضييق دائرة المجعول الشرعي بغير مورد الضرر ، فلا محالة يكون النفي واردا على كل حكم حكم لا على الجامع ، إذ ليس الجامع بينها حكما كي ينفي بدليل نفي الضرر.

نعم ، قد يلحظ طريقا إلى أفراده ، ولكن هذا غير تعلق النفي به ، بل النفي متعلق حقيقة بافراد الحكم المجعولة.

وبعبارة أخرى : ان ملاحظة الصنف بما هو انما تكون إما لنفي دخله في الحكم وبيان ان الحكم وارد على الطبيعي الساري بحيث لا يكون الفرد بما هو ذا خصوصية ، بل بما هو فرد للطبيعي. أو لبيان دخله في الحكم بما هو صنف.

وهذا انما يكون في مورد يحتمل دخالة الصنف في ثبوت الحكم ويكون قابلا لورود الحكم عليه ، وصنف الحكم مما لا يقبل ورود نفي الجعل عليه ، لأنه ليس بمجعول ، فكيف يؤخذ موردا للنفي والإثبات؟ ، بل غاية ما هناك يؤخذ طريقا إلى افراده ويكون النفي والإثبات متعلقا مباشرة بالافراد ، فلا يكون العموم في دليل : « لا ضرر » إلا افراديا. فتدبر.

وما ذكرناه لا ينافي الالتزام بعدم اختصاصها بالاحكام الفعلية التي كانت مجعولة قبل ورود نفي الضرر ، بل يعم كل حكم يجعل بعد ذلك ، إذ ليس ملاك ما بيناه هو كون قضية : « لا ضرر » خارجية ينظر فيها إلى الافراد المحققة

٤١٩

الوجود ، كما قد يتوهم فيرد عليه ما عرفت ، بل الملاك هو كون المنظور هو افراد الحكم ولو التقديرية ، لا الجامع الصنفي.

وإذا تبيّن لك ما ذكرناه ، يظهر لك كون الحق في جانب صاحب الكفاية في إيراده على الشيخ رحمه‌الله.

لكن لا يخفى عليك ان أصل الإيراد على القاعدة يبتني على مقدمتين : إحداهما : كبرى استهجان تخصيص الأكثر. والأخرى : صغرى ثبوت تخصيص الأكثر بالنسبة إلى دليل نفي الضرر.

والمقدمة الأولى محل كلام ليس محله هاهنا ، ولعلنا نتوفق لإيضاح الحق فيها في مجال آخر ، وما تقدم منّا من البيان السابق انما هو يبتني على المفروغية عن أصل الكبرى والتسليم بها.

ولأجل ذلك يكون الإيراد على هذه القاعدة من ناحية الكبرى مركزا.

فالمهم في دفع الإيراد هو إنكار الصغرى.

فان الموارد التي ذكرت شاهدا على ثبوت تخصيص الأكثر هي موارد الدّيات والقصاص والحدود والخمس والزكاة والنفقات والحج ونجاسة المانع المضاف المسقط له عن المالية ، والضمان وغير ذلك.

وقد تصدى الاعلام إلى إنكار الصغرى وإثبات ان أكثر هذه الموارد ليست خارجة بالتخصيص ، بل بالتخصص فلا استهجان فيه. وقد قيل في ذلك وجوه لا نطيل الكلام بذكرها.

وعمدة ما يمكن ان يقال في هذا المجال : ان دليل نفي الضرر انما يكون الملحوظ فيه هو خصوص الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية بحيث تكون له حالتان ، فيتقيد بخصوص حالة عدم الضرر بمقتضى الدليل.

وأما الأحكام الواردة في مورد الضرر فلا نظر للدليل إليها فيكون خروجها عنه بالتخصص.

٤٢٠