منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

« قاعدة نفي الضرر »

لا يخفى انه لا أهمية للبحث عن كون هذه القاعدة أصولية أو فقهية ، فانه ليس بذي جدوى.

وإنما المهم تحقيق الحال في ثبوت القاعدة وحدودها وقيودها. ولا بد من سرد الاخبار التي تكفلت نفي الضرر بنحو العموم ، ثم البحث عن المستفاد من متونها.

وهي متعددة ..

فمنها : رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « ان سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري ان يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه وخبره الخبر. فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبى. فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى ان يبيع.فقال : لك بها عذق يمد لك في الجنة. فأبى ان يقبل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا

٣٨١

ضرار » (١).

ومنها : رواية عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام نحو ما تقدم ، إلا انه قال : « فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. ثم قال : ثم أمر بها فقلعت ورمي بها إليه. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انطلق فاغرسها حيث شئت » (٢).

ومنها : رواية أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه‌السلام نحو ما تقدم ، ولكن في آخرها قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أراك يا سمرة الا رجلا مضارا ، اذهب يا فلان فاقلعها ـ فاقطعها ـ واضرب بها وجهه » (٣).

ومنها : رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نفع الشيء ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ ، فقال : لا ضرر ولا ضرار » (٤).

وفي الكافي ، بدل قوله : « فقال » قوله : « وقال لا ضرر ... ».

ومنها : رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار. وقال : إذا أرفت الأرف وحدث الحدود فلا شفعة » (٥).

__________________

(١) الكافي ٥ ـ ٢٩٢ ، حديث : ٢.

التهذيب ٧ ـ ١٤٦ ، حديث : ٣٦. من لا يحضره الفقيه ٣ ـ ٢٣٣ ، حديث : ٣٨٥٩.

(٢) الكافي ٥ ـ ٢٩٤ ، حديث : ٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ ـ ١٠٣ ، حديث : ٣٤٢٣.

(٤) الكافي ٥ ـ ٢٦٣ ، حديث : ٦.

(٥) الكافي ٥ ـ ٢٨٠ ، حديث : ٤.

التهذيب ٧ ـ ١٦٤ ، حديث : ٤. من لا يحضره الفقيه ٣ ـ ٧٦ ، حديث : ٣٣٦٨.

٣٨٢

ومنها : رواية الصدوق في الفقيه في مقام بيان ان المسلم يرث من الكافر والكافر لا يرث من المسلم قال : « وان الله عزّ وجل انما حرّم على الكفار الميراث عقوبة لهم لكفرهم ، كما حرم على القاتل عقوبة لقتله ، فاما المسلم فلأي جرم وعقوبة يحرم الميراث؟! وكيف صار الإسلام يزيده شرا؟! مع قول النبي ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإسلام يزيد ولا ينقص ، ومع قوله عليه‌السلام : لا ضرر ولا إضرار في الإسلام. فالإسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا (١). ومع قوله عليه‌السلام : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ... » (٢).

ومنها : ما حكي عن المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « انه سئل عن جدار الرّجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط عنه فامتنع من بنائه ، قال : ليس يجبر على ذلك إلا ان يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل اشتر على نفسك في حقك إن شئت. قيل له : فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه؟. قال : لا يترك ، وذلك ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار ، وان هدمه كلف أن يبنيه » (٣).

وهذه جملة من النصوص الواردة في هذا المقام.

ويقع الكلام فيها تارة من ناحية السند وأخرى من ناحية المتن.

أما ناحية السند : فالظاهر انه لا يحتاج إلى إتعاب النّفس لأن السند في بعض ما تقدم وإن لم يكن تاما ، لكن يحصل من المجموع مما رواه الخاصة والعامة الوثوق بصدور هذا المضمون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ ـ ٣٣٤ ، حديث : ٥٧١٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ ـ ٣٣٤ ، حديث : ٥٧١٩.

(٣) دعائم الإسلام ٢ ـ ٥٠٤ ، حديث : ١٨٠٥.

٣٨٣

واما ناحية المتن فالكلام فيها من جهات عديدة :

الجهة الأولى: ان كثيرا من النصوص المتقدمة المروية بطرقنا ومثلها المروي بطرق العامة ورد فيها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » من دون تقييد بكلمة : « في الإسلام » وإنما ورد التقييد بذلك في رواية الصدوق خاصة ، ونقل أيضا عن نهاية ابن الأثير من كتب العامة (١).

فيقع الكلام في انه هل يمكن البناء على ورود هذا القيد أم لا؟.

ولا يخفى ان للبناء على ثبوته وعدمه أثرا عمليا في ما يستفاد من الهيئة التركيبية لنفي الضرر.

فقد جعله الشيخ من القرائن على ما استفاده من تكفل الرواية نفى الحكم المستلزم للضرر من باب نفي السبب بلسان نفي المسبب ، ومن مبعدات احتمال إرادة النهي عن الضرر من نفي الضرر (٢).

وكيف كان ، فالحق انه لا يمكننا البناء على ثبوت هذا القيد وصدوره من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا يخفى أن محور الكلام هو رواية الصدوق دون مرسلة ابن الأثير في النهاية ، إذ لا يحتمل ان يستند إلى رواية النهاية في البناء على صدور هذا القيد ، بعد ان كانت مرسلة لعامي.

والّذي نستند إليه في التوقف عن العمل برواية الصدوق رحمه‌الله هو وجهان :

الوجه الأول : الوثوق أو قوة احتمال كون كلمة : « في الإسلام » زيادة من الصدوق لا قولا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) ابن الأثير. النهاية ٣ ـ ٨١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٤

والوجه الثاني : عدم تمامية السند.

أما الوجه الأول : فلنا عليه قرائن ومؤيدات :

أولا : ان النقل ..

تارة يكون باللفظ مع قطع النّظر عن معناه ، بل قد لا يفهم الناقل معنى اللفظ وانما ينقله بنصه لغرض هناك.

وأخرى : يكون بالمضمون والمعنى. فلا يلحظ فيه نقل النص اللفظي للمنقول عنه ، بل نقل ما يفهمه الناقل من كلام المنقول عنه.

ومن الواضح ان الصدوق رحمه‌الله في روايته ليس في مقام النص اللفظي لكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل في مقام حكاية المضمون والمعنى ، لأنه في مقام الاستدلال على إرث المسلم من الكافر ، وهو يرتبط بمفاد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بنفس اللفظ.

وإذا اتضحت هذه الجهة نضم إليها جهة أخرى ، وهي : ان صاحب القانون والتشريع إذا شرع حكما بإنشاء معين صح ان ينقل عنه تشريع ذلك الحكم في القانون ولو لم يكن لفظ ـ في القانون ـ واردا عند تشريعه.

فيصح ان يقال : ان الله حرّم الغيبة في الإسلام مع ان إنشاء تحريم الغيبة لم يكن مشتملا على كلمة : « في الإسلام ».

كما يصح ان يقال : ان الحكومة شرعت السجن في العراق ، ولو لم يكن الإنشاء مشتملا على كلمة : « في العراق ».

ويصح أن يقال : ان زيدا يقول لا أرضى باللعب في بيتي ، والحال انه لم ينه الا عن اللعب بلا ان يقول : « في بيتي » ، ولكن كان ظاهر حاله باعتبار سلطنته على بيته كون تحريمه بلحاظ بيته.

ولا يعد مثل هذا خيانة في النقل ، بل هو أمر يجري عليه الكل بعد ان كان النقل بالمعنى لا بنص اللفظ. والناقل للمعنى لا يتقيد بخصوص اللفظ

٣٨٥

وحدوده ، بل له ان ينقل المعنى بما يستفيده من ملاحظة الحال.

وبما أن الشارع بما هو شارع انما ينفي الضرر بلحاظ تشريعه ودينه ، فنسبة نفي الضرر في الإسلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تتلاءم مع نطقه بها كذلك تتلاءم مع عدم نطقه بها بملاحظة حاله وشأنه.

فبملاحظة هاتين الجهتين لا يثبت ظهور لنقل الصدوق رحمه‌الله في انه يريد بيان ان كلمة : « في الإسلام » جزء قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يمكن ان يكون نقلا بحسب ملاحظته ظاهر حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشأنه.

وثانيا : ان ارتكاز الأشباه والنّظائر قد يوقع في الغفلة ، وبما ان لهذه الجملة أشباها كثيرة مثل « لا رهبانية في الإسلام » ، و: « لا مناجشة في الإسلام » ، و: « لا أخصاء في الإسلام » ، فقد يكون ذلك منشئا لاشتباه الصدوق رحمه‌الله في رواية : « لا ضرر » لأنّها شبيهة بتلك النصوص.

وأصالة عدم الغفلة لا يبنى عليها إذا كان احتمال الغفلة معتدا به عرفا كما في المورد ، فيكون نظير مورد معلومية كثرة الغفلة من الناقل ، فانه لا يبني على أصالة عدم الغفلة في نقله.

وثالثا : ان كلمة : « في الإسلام » لو كانت جزء من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يصح إلا بتقدير ، إذ الظرفية لا تصح بلحاظ نفس الضرر إذ لا معنى له كما لا يخفى. كما لا تصح بلحاظ نفي الضرر ، لأن النفي هاهنا مفاد الحرف وهو لا يصلح لأن يكون طرفا للربط ، فلا بد من تقدير. بخلاف ما لو كانت راجعة إلى كلام الصدوق ، بحيث يكون : « في الإسلام » مرتبطا بـ : « قوله » فيكون المراد : « وقوله في الإسلام لا ضرر ... » ويراد من القول التشريع والجعل.

ورابعا : ان الظاهر انّ هذه الجملة ـ أعني : « لا ضرر ولا ضرار » ـ غير مستقلة بالبيان ، بل هي من ذيول قصة سمرة أو غيرها ، ولا ظهور لكلام الصدوق في انها

٣٨٦

واردة ابتداء ، لأنه ليس في مقام نقل الرواية ، بل في مقام الاستدلال بهذه الفقرة فلا ينافي كونها من ذيول واقعة معينة كواقعة سمرة.

ولا يخفى ان رواية سمرة بجميع صورها لم ترو بهذا النحو ـ أعني : بإضافة قيد : « في الإسلام » ـ ، وهكذا غير رواية سمرة المذيّلة بنفي الضرر.

وعليه ، فيدور الأمر بين احتمال النقص فيها واحتمال الزيادة في رواية الصدوق.

والثابت في محله وان كان تقديم أصالة عدم الزيادة مع التعارض ، لقوة احتمال الغفلة الموجبة للنقص من الغفلة الموجبة للزيادة.

إلا ان تظافر النقل مع النقيصة ، مع قوة احتمال الزيادة بملاحظة الوجوه الثلاثة المتقدمة يبعد جريان أصالة عدم الزيادة.

والحاصل : انه بملاحظة هذه الوجوه لا يبقى مجال للبناء على ثبوت هذا القيد في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم كونه من كلام الصدوق ، لعدم الاطمئنان بذلك وعدم ما يصحح البناء عليه تعبدا.

وأما الوجه الثاني : فان رواية الصدوق رحمه‌الله وان لم تكن مرسلة كأن يقول : « روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... » ، لأنه أسند القول إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة باتة جزمية ، وهكذا يكشف عن بنائه على صدور هذا الكلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلا ان هذا لا ينفع في صحة البناء على حكايته ، وذلك لأنه لم يظهر من حكايته انه قد اعتمد على رواية تامة السند كي يكون ذلك منه شهادة على صحة السند ، إذ يمكن ان تكون الرواية الواصلة إليه غير تامة السند لكنه اطمأن بصدورها اعتمادا على قرائن قد لا توجب الوثوق لنا لو عثرنا عليها. فلا يمكن الاعتماد على حكايته. فالتفت.

الجهة الثانية : في إمكان البناء على ثبوت قيد : « على مؤمن » بعد قوله :

٣٨٧

« لا ضرر ولا ضرار » وعدم إمكانه.

ولا يخفى عليك ان جميع الروايات التي نقلناها خالية عن هذا القيد ما عدا رواية ابن مسكان عن زرارة الواردة في قصة سمرة بن جندب.

ولكنها لا تصلح للاستناد إليها ، فانها مضافا إلى ورود الوجه الرابع الّذي ذكرناه بالنسبة إلى رواية الصدوق المتكفلة لإضافة قيد : « في الإسلام ». ضعيفة السند ، لأن بعض أفراد سلسلة السند مجهول للتعبير عنه بـ : « بعض أصحابنا » ، فلا تكون حجة. ومن الغريب ان الشيخ رحمه‌الله في الرسائل ذكر هذه الرواية وجعلها من أصح ما في الباب سندا (١). فانتبه.

والّذي يتحصل لدينا من مجموع ما تقدم : ان الشيء الثابت من النصوص هو خصوص جملة : « لا ضرر ولا ضرار » بلا زيادة كلمة : « في الإسلام » أو : « على مؤمن ».

الجهة الثالثة : في ان جملة : « لا ضرر ولا ضرار » هل وردت مستقلة كما وردت جزء ، أو انها لم ترد إلا جزء كلام آخر؟.

والحق : انه لا يمكن الالتزام بورودها مستقلة لوجهين :

الأول : انه لا طريق إلى إثبات ذلك لا من طرق العامة ولا من طرق الخاصة.

أما العامة ، فانهم وإن أوردها في أحاديثهم مستقلة فقط ، فلم يرووا سوى هذه الجملة فقط ، لكنا نعلم بأنهم حذفوا مواردها للقطع بورودها في بعض الموارد الخاصة ، ومنها واقعة سمرة بملاحظة نصوصنا ، فانه يكشف عن إغفالهم لمواردها سهوا أو عمدا.

وعليه ، فلا يمكن ان يعتمد على نقلها مستقلة في إثبات انها وردت كذلك.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٨

نعم ، لو رويت بطرقهم بنحوين مستقلة وغير مستقلة ، لأمكن دعوى ظهور ذلك في الاستقلال.

وأما الخاصة ، فلم ترد في الروايات مستقلة إلا في رواية الصدوق ورواية دعائم الإسلام المتقدمتين.

ولكن لا ظهور لرواية الدعائم في كونها مستقلة الورود ، لأنه ليس في مقام الحكاية ابتداء ، بل في مقام الاستدلال على الحكم الّذي بيّنه ، فمن الممكن ان يكون نظره عليه‌السلام إلى ورود هذه الفقرة في رواية سمرة مثلا ، فذكرها شاهدا.

وأما رواية الصدوق رحمه‌الله ، فقد عرفت انه في مقام الاستدلال على فتواه ، فلا ظهور لحكايته في ورودها مستقلة كما لا يخفى.

الثاني : انه لا يظهر لهذه الجملة بنفسها وابتداء معنى محصل من دون سابق ولاحق كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام. نعم لو كانت ملحقة بقيد : « في الإسلام » أو : « على مؤمن » لكانت ذات معنى ، إلا انك عرفت عدم ثبوت أحد هذين القيدين. فتدبر.

الجهة الرابعة : في تطبيق قاعدة : « لا ضرر ولا ضرار » في مورد الحكم بالشفعة ومورد النهي عن المنع عن فضل الماء ليمنع فضل كلأ ، في روايتي عقبة بن خالد.

فقد وقع البحث فيه من ناحيتين :

الناحية الأولى : في صحة تطبيق نفي الضرر والضرار في هذين الموردين.

وعمدة الإشكال في صحة ذلك في مورد الحكم بالشفعة وجهان :

أحدهما : عدم تحقق الضرر فعلا في بيع حصة الشريك لغير شريكه. نعم قد يتحقق الضرر في المستقبل ، كما إذا كان الشريك الجديد سيّئ الخلق وغير ذلك ، فالبيع يكون مقدمة إعدادية للضرر التي قد يترتب عليها الضرر ، وقد لا

٣٨٩

يترتب وفي مثله لا يصدق الضرر فعلا كي يصح نفيه بالقاعدة ، فهل يقال لبيع السكين أو إمضائه انه ضرري لأنه مقدمة إعدادية للإضرار بالغير بالجرح؟!.

والآخر : ان نفي الضرر لا يتكفل على تقدير انطباقه سوى نفي اللزوم وإثبات الجواز الحكمي من دون أن يثبت حقا للشريك على حد سائر الحقوق ، مع ان الثابت في مورد الشفعة هو الجواز الحقي ، فان الشفعة تعد من الحقوق.

واما الإشكال في صحة تطبيق نفي الضرر على مورد منع فضل الماء ، فهو وجهان أيضا :

أحدهما : ان منع المالك فضل مائه عن الغير لا يعدّ إضرارا به ، بل هو عدم إيصال للنفع إليه ، فلا ربط له بنفي الضرر.

والآخر : ان الملتزم به في هذا المورد هو كراهة المنع لا حرمته.

ومن الواضح ان مقتضى نفي الضرر هاهنا هو حرمة منع الماء ، إذ الضرر ـ على تقديره ـ انما يترتب على الجواز بالمعنى الأعم لا خصوص الإباحة.

ولو ادعى ان مفاد نفي الضرر تحريم الضرر. فالإشكال من هذه الجهة أوضح.

وبالجملة : هذان الموردان لا يصلحان لتطبيق نفي الضرر فيهما بأي معنى فرض له من المعاني التي سيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى.

ومن هنا التجأ البعض إلى دعوى : ان ذكر لا ضرر في كلتا الروايتين من باب الجمع في الرواية لا في المروي (١).

كما التجأ المحقق النائيني إلى حمل تطبيق نفي الضرر في الموردين من باب الحكمة لا العلة (٢).

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور ، مصباح الأصول ١ ـ ٥٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ١٩٥ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٣٩٠

والتحقيق : إنا لا نرى إشكالا في صحة تطبيق نفي الضرر في هذين الموردين بنحو العلية ، فلا تصل النوبة إلى ما أشرنا إليه بيان ذلك :

أما في مورد الشفعة ..

فالوجه الأول من الإشكال يندفع : بان بيع الحصة من شخص آخر يكون معرضا لترتب الضرر على مشاركته للشريك الأول ، للجهل بحاله وخصوصياته وما يترتب على اشتراكه في الملك والتصرف. مثل هذا البيع يوجب نقصا في مالية حصة الشريك الأول بلا إشكال ، وهو ضرر واضح. فالضرر مترتب مباشرة على البيع بملاحظة ان المعرضية للابتلاء بشخص آخر مجهول الحال يستلزم نقص المالية وهو ضرر فعلي ، وليس بملاحظة ترتب الضرر الخارجي ، كي يقال ان نسبة البيع إليه نسبة المعدّ لا السبب.

فالإشكال نشأ من ملاحظة الضرر الصادر من الشريك نفسه ، والغفلة عن الضرر الحاصل من الشركة نفسها ، فانتبه.

وهذا البيان وان تأتى نظيره في موارد القسمة بلحاظ ان جوار مجهول الحال أيضا يوجب نقص المالية ، لكن بعد قيام الدليل الخاصّ على عدم الشفعة فيها ، ولو بملاحظة اختلاف مرتبة الضرر فيها عن مرتبته في مورد الشركة ، لتوقف تصرف الشريك الأول على إذن الشريك الجديد ، بخلاف مورد القسمة.

لا يبقى مجال لدعوى تأتي نفي الضرر في موارد القسمة.

وأما الوجه الثاني ، فيندفع : بان ثبوت الحق في مورد الشفعة ليس بدليل نفي الضرر ، بل هو بواسطة دليل منفصل بملاك آخر ودليل نفي الضرر لم يتكفل سوى إثبات الجواز ، ولا ينافيه ان يقوم دليل آخر على ثبوت الحق. ولا دليل على ان السائل استظهر من كلام الإمام عليه‌السلام ثبوت الحق بلا ضرر.

وبالجملة : لا ظهور للتعليل في كونه تعليلا للحق ، بل هو تعليل للجواز

٣٩١

وكونه حقا ثابتا بملاك آخر وبدليل آخر.

وأما في مورد منع فضل الماء ..

فالوجه الأول من الإشكال يندفع : بان الرواية واردة في مورد يكون للشخص ماء ويكون في جنبه كلأ للرعي ، فإذا رعت أغنام الغير في الكلاء عطشت فاحتاجت إلى الماء ، فإذا منع المالك ماءه عنها كان ذلك سببا لعدم رعيها في الكلام لأنها تموت عطشا ، فيضطر مالك الغنم إلى ترك هذا المرعى إلى مرعى آخر.

وهذا أوجه ما قيل في معنى الرواية.

وعليه ، فمنع الماء يكون سببا لمنع الانتفاع بالمرعى ، فيكون سببا للضرر ، لأن عدم النّفع وان لم يعدّ ضررا بقول مطلق ، لكنه في مورد قيام المقتضي للانتفاع يكون المنع عنه معدودا عرفا من الإضرار. إذن فمورد الرواية هو ما يكون المنع من فضل الماء موجبا للضرر. فيصح تطبيق نفي الضرر عليه.

وأما الوجه الثاني ، فيندفع : بأنه لا مانع من الالتزام بالتحريم كما نسب إلى جمع من المحققين ، وليس فيه مخالفة لضرورة فقهية.

والّذي يتحصل انه لا إشكال في تطبيق لا ضرر في كلا الموردين. ولو لا ما ذكرناه لأشكل الأمر على ما سلكه المحقق النائيني في الالتزام بان الملحوظ في تطبيق نفي الضرر هو بيان الحكمة لا العلة ، فان مقتضاه التوقف في ظهور نفي الضرر في رواية سمرة في العلية ، إذ لا محذور في أخذ الضرر بنحو الحكمة في مورد وبنحو العلة في مورد آخر. لكن بعد وحدة التعبير في جميع النصوص يبعد ان يختلف المراد منه ، بل الظاهر ان المراد به واحد ، بان يكون علة في الجميع ، أو حكمة في الجميع. فتدبر.

الناحية الثانية : في ان حكاية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » في روايتي عقبة المزبورتين في موردي الشفعة ومنع فضل الماء ، هل هو

٣٩٢

من باب الجمع في الرواية ، بمعنى انه صدر في غير هذين الموردين ومنفصلا عن قضائه فيهما ، ولكن جمع الراوي بين روايته ورواية قضائه في موردي الشفعة ومنع فضل الماء؟ ، أو انه من الجمع في المروي ، بمعنى انه جزء من قضائه في مورد الشفعة ومن قضائه في مورد منع فضل الماء؟. ولا يخفى ان البحث في الناحية الأولى متفرع على الثاني ، ولا مجال له على الأول الّذي قد أصر عليه المحقق شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه‌الله في رسالته الصغيرة ، بتقريب : ان عبادة بن الصامت نقل أقضية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي كثيرة ، ونقل من جملتها نفي الضرر والضرار ، والشفعة ، والنهي عن منع فضل الماء ليمنع فضل كلأ. ونقله ظاهر في انفصال قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفي الضرر عن قضائه بالشفعة وعدم منع فضل الماء.

وبملاحظة التشابه بين نقل عبادة ونقل عقبة بعض تلك الأقضية ـ ومنها ما نحن فيه ـ في الألفاظ ، بل ربما تكون بلفظ واحد ، يحصل الاطمئنان بان ما يروم نقله عقبة هو ما يروم نقله عبادة ، وانهما ينقلان وقائع واحدة ، وبملاحظة وثاقة عبادة وتثبته في النقل يحصل الاطمئنان بان عقبة في اختلافه مع عبادة في تذييله قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله في موردي الشفعة ومنع فضل الماء كان قد جمع بين الرواية لا المروي (١).

ولكن ما أفاده قدس‌سره لا يمكن الالتزام به ، فان ظهور رواية عقبة في كلا الموردين في كون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » جزء من قضائه بالشفعة أو بعدم منع فضل الماء ، وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام تعليل قضائه بهما بنفي الضرر والضرار ، ببيان كبرى كلية مما لا يكاد ينكر ولا يخفى ، خصوصا روايته الواردة في الشفعة ، لتعقيبه نقل لا ضرر ببيان حكم

__________________

(١) الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة ، قاعدة لا ضرر ـ ٢٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٩٣

ما إذا وقعت القسمة وانه لا شفعة بعدها. فان ذلك ظاهر غاية الظهور انه لم ينتقل في حكايته قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » إلى بيان قضاء آخر صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة أخرى ، بل هو في مقام بيان ما صدر من الأحكام في مورد بيع الشريك.

وبالجملة : رواية عقبة بمقتضى ظهورها تأبى عن حملها على الجمع في الرواية.

ومجرد رواية عبادة قضاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذين الموردين بلا تذييل بنفي الضرر والضرار ، لا يصلح ان يكون قرينة على رفع اليد عن هذا الظهور بل الصراحة.

مع ان وثاقة عبادة لا تدعو إلى ذلك ، بعد ان كانت سلسلة السند إليه ليست بتلك المرتبة من الوثاقة.

مضافا إلى العلم بان عبادة لم يكن بصدد نقل موارد ورود نفي الضرر ، بل بصدد نقل الكبرى الكلية لا غير بقطعها عن موردها ، إذ من الواضح ورود نفي الضرر في واقعة سمرة ولم ينقلها عبادة أصلا. فلا يكون نقله : « لا ضرر ولا ضرار » منفصلا عن القضاء بالشفعة دليلا على عدم وروده في ذلك المورد. خصوصا بملاحظة ما تقدم منا في الجهة الثالثة من عدم تصور معنى محصل لهذه الجملة إذا وردت مستقلا. فراجع.

ولعل منشأ الالتزام بان المورد من موارد الجمع في الرواية هو الإشكال الّذي عرفته من الناحية الأولى ـ كما صرح به بعض ـ. لكن عرفت اندفاعه بحذافيره فلا مقتضى للتكلف ، والله سبحانه العالم.

الجهة الخامسة : في معنى مفردات هذه الفقرة ، أعني : « لا ضرر ولا ضرار ».

أما لفظ : « الضرر » ، فلا شبهة في انه يصدق على مطلق النقص في المال والعرض والبدن.

٣٩٤

وهل يصدق على عدم النّفع؟. لا شبهة في عدم صدقه على عدم النّفع إذا لم يكن في معرض الوصول بتمامية مقتضية.

إنما الإشكال في صدقه على عدم النّفع إذا كان في معرض الوصول ، كما لو كان مقتضى النّفع وشرطه تاما فمنع من تحققه.

ولا يخفى ان هذا النحو يتصور على نحوين :

أحدهما : ان يكون النّفع في معرض الوصول إلى هذا الشخص كزيد ـ مثلا ـ ، ولكن لا بخصوصيته وبما أنه زيد ، بل بما انه فرد من افراد العنوان الكلي المنطبق عليه الّذي يصل إليه النّفع عادة. غاية الأمر ان العنوان انحصر فرده بزيد. مثلا ، إذا كان في بلد النجف خبازا واحدا ، فعند حلول موسم الزيارة يكون مقدار بيعه للخبز كثيرا جدا ، ولكن شراء الزوار منه لا لخصوصيته بل بما انه خبّاز ، وانما يقصدون الشراء منه خاصة لانحصار الكلي به. والأمثلة على ذلك كثيرة.

والآخر : ان يكون النّفع في معرض الوصول للشخص الخاصّ بخصوصيته.

كما إذا كان الناس يشاورون زيدا ويتركون غيره من مماثليه من جهة حسن خلقه ومساهلته في باب المعاملة.

ولا يخفى ان العرف يطلق لفظ الضرر على عدم النّفع في كلا هذين الموردين. ففي المثال الأول لو فتح شخص آخر دكانا لبيع الخبز ، وانه قد ضرني ، كما يقال في الفارسية : « ضرر به من زده ».

وهكذا في المثال الثاني لو صرف شخص آخر الناس عن زيد إليه بأفضل من أخلاق زيد ، يقول زيد انه تضرر بذلك وان فلانا ضرّه.

وبالجملة : صدق الضرر عرفا في هذه الموارد لا ينبغي الإشكال فيه. إلا

٣٩٥

ان الالتزام بانطباق قاعدة نفي الضرر في الأول ـ بأي معنى من المعاني المفروضة لها من النهي أو نفي الحكم أو غيرهما ـ مما لا يقول به أحد ، ويستلزم تأسيس فقه جديد.

فهل يلتزم أحد بحرمة فتح الآخر دكانا يوجب تقليل الشراء من الأول؟. فهو وان كان ضررا موضوعا ، لكن ليس له حكمه الّذي نبحث عنه في قاعدة نفي الضرر. وأما الثاني : فهو مما لا يمكن الالتزام بانطباق القاعدة المبحوث عنها عليه بقول مطلق وان أمكن الالتزام به في بعض الموارد ، إذ لا أظن ان أحدا يلتزم بحرمة فتح دكان في قبال زيد وصرف الناس عن زيد ووجوههم إليه ، أو بحرمة صرف المشتري من زيد لخصوصيته إلى عمرو.

نعم ، في مثل ما لو كان ماء جار كان بمقتضى طبع جريانه يمرّ بدار زيد ، يمكن الالتزام بحرمة تحويل مجراه عن دار زيد.

ومما ذكرناه في تحقيق معنى الضرر يظهر ان تقابله مع النّفس ليس بتقابل التضاد لصدقه على عدم النّفع. وليس بتقابل العدم والملكة لصدقه على النقص وهو أمر وجودي ، بل هو أعم من النقص المضاد للنفع ومن عدم النّفع في المورد الّذي فيه اقتضاء للنفع المقابل للنفع بتقابل العدم والملكة.

وكيف كان فهذا ليس بمهم فيما نحن بصدده ، وانما المهم تحقيق معنى الضرر وتحديده وانه خصوص النقص أو أعم من عدم النّفع في موارد وجود المقتضي للنفع ، وقد عرفت تحقيق ذلك.

وهذا أولى من صرف البحث إلى الكلام في صحة دعوى ان التقابل بينهما تقابل التضاد ، كما هو ظاهر أهل اللغة (١). أو العدم والملكة كما هو ظاهر صاحب الكفاية (٢) ، وعدم صحتها بعد فرض ان الضرر بمعنى النقص. لأنه بحث

__________________

(١) الضرّ والضرّ : ضدّ النّفع ، اقرب الموارد والنهاية ـ الضرّ : ضدّ النّفع ، الصحاح.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٦

اصطلاحي صرف لا أهمية له فيما نحن فيه ، بل كان ينبغي تحقيق معنى الضرر وحدوده كما عرفت.

وبذلك تظهر لك المسامحة في حاشية المحقق الأصفهاني. فراجع (١).

وأما لفظ : « الضرار » : فقد قيل في معناه : انه فعل الاثنين وانه الجزاء على الضرر. ولعل الوجه في ذلك ما اشتهر ان مصدر باب المفاعلة يدل على تحقق المبدأ من اثنين كالقتال والضراب. والضرار منها لأنه مصدر من المضارّة.

ولكن تصدى المحققون والمتتبعون (٢) إلى إنكار هذا الأمر المشهور بسرد الشواهد الكثيرة من الكتاب والسنة والاستعمالات العرفية مما لا يراد بها فعل الاثنين من المصدر. فراجع تعرف. وذلك يكفي تشكيكا أو منعا لهذا القول.

هذا مضافا إلى انه لم يرد به ذلك في رواية سمرة قطعا ، لأنه طبّق عنوان : « المضار » على سمرة مع انه لم يتحقق الضرر من الأنصاري ، بل كان سمرة منفردا به.

مع أن المنفي ان كان فعل الاثنين الحاصل في زمان واحد ، فنفس نفى الضرر يتكفل نفيه فلا يزيده نفي الضرار شيئا. وان كان المنفي فعل الثاني الحاصل بعنوان الجزاء ، فهو يتنافى مع مفاد قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (٣) فلا يمكن الالتزام به.

إذن فتحقيق صحة هذا القول في معنى الضرار وعدم صحته لا أهمية له فيما نحن فيه.

كما انه لا أهمية لتحقيق صحة ما أفاده بعض المحققين بعد ردّ هذا القول. من : ان مصدر باب المفاعلة يدل على نفس المبدأ ولكن بضميمة ملاحظة تعديه

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣١٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣١٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٩٤.

٣٩٧

إلى المفعول وتعلقه بالغير ، فالضرار يدل على الضرر الملحوظ وقوعه على الغير ، بخلاف الضرر ، فانه يدل على نفس المبدأ بلا ملاحظة جهة تعدّيه إلى الغير.

وذلك لأن مرجع هذا القول إلى كون معنى الضرار هو حصة خاصة من الضرر ، ومن الواضح انه يكفي في نفيه نفي الضرر ، فالالتزام به لا يزيدنا شيئا.

كما ان الالتزام بان الضرار بمعنى التصدي إلى الضرر (١) ، ان أريد به مجرد التصدي ولو لم يتحقق الضرر ، فلا يلتزم بنفيه وحرمته قطعا. وان أريد به التصدي المقارن للضرر ، فهو مما يكتفي فيه بنفي الضرر. فلا أثر لتحقيق هذا القول أيضا.

كما انه لا أثر لتحقيق ما أفاده المحقق النائيني في معناه من : انه قصد الضرر وتعمده ، وتطبيقه على سمرة بهذه الملاحظة (٢).

وذلك لاندراجه في الفقرة الأولى ـ أعني : نفي الضرر ـ ، خصوصا إذا كان المقصود بنفي الضرر النهي عنه ، لاختصاص متعلق النهي بما إذا كان عن قصد وإرادة.

وبالجملة : جميع ما ذكر في معنى الضرار لا أهمية لتحقيقه ومعرفة الصحيح منه ، فلا داعي إلى إتعاب النّفس في ذلك ، بل الأولى صرفها في ما هو أهم.

وأما لفظ : « لا » : فلا يخفى انها نافية لا ناهية ، لأن : « لا » الناهية لا تدخل على الاسم ، بل تدخل على الفعل المضارع. فانتبه.

الجهة السادسة : في ما هو المراد من الهيئة التركيبية ـ أعني : « لا ضرر » ـ والمحتملات المذكورة فيها أربعة :

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣١٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر ـ ١٩٩ ـ المطبوعة ضمن غنية الطالب.

٣٩٨

الأول : ان يكون المقصود بها النهي عن الضرر وتحريمه ، وهو المنسوب إلى العلامة شيخ الشريعة قدس‌سره (١).

ويمكن أن يبيّن هذا المدعى بنحوين :

أحدهما : ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء ، فيكون الداعي إلى الاخبار عن نفي الضرر هو إنشاء النهي عن الضرر ، نظير استعمال الجملة الخبرية الموجبة بداعي إنشاء الوجوب ، مثل : « يعيد صلاته » و: « يغتسل ».

وقد ذكر في محله : ان الجملة الخبرية الإيجابية في مقام الإنشاء تكون في الدلالة على الوجوب آكد من الجملة الطلبية ، لكشفها عن شدة المحبوبية بنحو يرى الطالب حصول مطلوبه فيخبر عنه.

ونظير هذا البيان يتأتى في الجملة الخبرية السلبية المستعملة في مقام إنشاء الحرمة.

والآخر : ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الاخبار عن عدم الضرر حقيقة ، لكن المقصود الأصلي لهذا الاخبار هو الاخبار عن الملزوم ، وهو وجود المانع الشرعي من الضرر الخارجي ، وهو الحرمة ، بملاحظة ان العدم يكون لازما للمنع الشرعي والنهي الصادر من الشارع المتوجه للمكلف المطيع.

ومثل هذا النحو من الاستعمال كثير في العرفيات ، فكثيرا ما يخبر ـ رأسا ـ عن عدم المعلول ، ويكون المقصود الأصلي الاخبار عن وجود المانع ، فيقال انه لا يتحقق احتراق الثوب في البيت ، ويكون المقصود بيان رطوبته المانعة عنه. ونحو ذلك كثير. فلاحظ.

الثاني : ان يكون المقصود نفي الحكم الشرعي المستلزم للضرر ، فينفى

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٥٢٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٩

المسبب ويراد نفي السبب ، وهو الّذي قرّبه الشيخ رحمه‌الله (١).

وهو مما يمكن ان يبيّن بنحوين أيضا :

أحدهما : ان يكون المراد بالضرر في قوله : « لا ضرر » سببه ، وهو الحكم ، فيكون إطلاق الضرر عليه إطلاقا مسامحيا ادعائيا من باب إطلاق لفظ المسبب وإرادة السبب ، نظير إطلاق لفظ : « الإحراق » على إلقاء الثوب في النار وإطلاق لفظ : « القتل » على الرمي أو الذبح.

وبالجملة : يكون ما نحن فيه من استعمال لفظ المسبب في السبب ادعاء ، فيراد من : « لا ضرر » : « لا حكم ضرري ».

والآخر : ان يكون المراد نفي نفس الضرر حقيقة ، ولكن المقصود الأصلي هو الاخبار عن نفي سببه وهو الحكم الشرعي.

والأخبار عن ثبوت المسبب أو نفيه بلحاظ ثبوت السبب أو نفيه كثير عرفا ، نظير الاخبار عن مجيء المرض ويكون الملحوظ بيان مجيء سببه ، أو الاخبار عن عدم مجيء العدو للبلد ويكون المقصود بيان عدم توفر أسباب المجيء لديه ، أو الأخبار بمجيء الهلاك والمراد بيان مجيء سببه. ونحو ذلك.

الثالث : ان يكون المقصود نفي الضرر غير المتدارك ، وهو مما يمكن ان يبين بنحوين أيضا.

أحدهما : ان يكون المنفي رأسا هو الحصة الخاصة ، وهي الضرر غير المتدارك ، بان يراد من الضرر : الضرر الخاصّ ، ويكون المقصود بيان لازمه ، وهو ان كل ضرر موجود متدارك فيدل على ثبوت الضمان ، كما يقال : ان كل مجتهد يلبس العمامة ، في مقام بيان عدم اجتهاد شخص لا يلبس العمامة.

والآخر : ان يكون المنفي هو الطبيعة بلحاظ تحقق التدارك في الأضرار

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٠