منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الفحص الثابت بمجرد احتمال الطريق وان لم يكن طريق واقعا.

وهكذا الكلام على البناء على اخبار التعلم ، فانها وان كانت قاصرة عن تنجيز الواقع الّذي لم يقم عليه طريق واقعا ، لكنها مقيدة لاخبار البراءة بمجرد احتمال الطريق ، ولا يناط الحكم الظاهري بقيام الطريق واقعا ، بل بمجرد احتماله. وعليه فلا بد من الحكم بالمعذورية من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ التي سيجيء الحديث عنها ـ أو ما هو بمفادها من النصوص الشرعية على تقدير إنكار الحكم العقلي ، على ما تقدم.

وأما إذا كان الدليل حكم العقل بالاشتغال ، لعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان إذا كان الحكم في معرض الوصول ، إذ الطريق إذا كان في معرض الوصول كان حجة في نفسه ، فلا يحرز قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، قبل الفحص ، فلأن المفروض ان الحكم ليس في معرض الوصول ولا طريق واقعا ، فلا حجة ولا بيان ، فيكون المورد مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ودعوى : انه يكفي في العقاب عدم وجود المؤمّن منه على تقدير المخالفة ، فانه بنفسه منجز للواقع.

ومن الواضح ان المكلف إذا أقدم على إجراء البراءة قبل الفحص لا يعلم ان المورد من موارد البيان والحجة ، أو انه ليس من موارد البيان والحجة ، فهو لا يحرز موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يحرز ثبوتها ، فلا مؤمّن من مخالفة التكليف ، فيكون ذلك كافيا في التنجيز لوجوب دفع الضرر المحتمل.

تندفع : بان وجوب دفع الضرر المحتمل قد عرفت انه لا يصلح لتنجيز الواقع ، بل هو متفرع عن التنجيز. وعليه. فنقول : ان قبح العقاب بلا بيان حكم عقلي وارد على موضوع واقعي وهو عدم الحجة ، سواء أحرزه المكلف أم لم يحرزه.وعليه فإذا تردد المكلف بين قيام الطريق الواقعي المصحح للعقاب وعدمه ، فهو يتردد بين كون المورد من الموارد التي يستحيل فيها العقاب لعدم البيان والتي لا

٣٦١

يستحيل فيها العقاب لوجود البيان ، فالعقاب مردد بين كونه محالا وكونه ليس بمحال.

وفي مثل ذلك لا يكون التكليف منجزا على كل حال ، وان كان العقاب محتملا ، بل يتبع الواقع ، فإذا انكشف عدم الطريق الواقعي انكشف ان المورد من موارد قبح العقاب ، فكيف يلتزم بالعقاب حينئذ؟. ومجرد عدم المؤمن لا يصحح العقاب إذا لم يكن منجزا للواقع ، بل لا بد ان يكون المصحح ما ينجز الواقع ويجعله في عهدة المكلف.

وبهذا التحقيق تعرف ما في كلام الشيخ رحمه‌الله مما يرتبط بمحل الكلام. فراجع تعرف.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

وأما الكلام في الجهة الثانية : وهو الكلام في حكم العمل بالبراءة قبل الفحص من حيث الصحة والفساد.

وقد أوقع الشيخ رحمه‌الله الكلام في المعاملات وفي العبادات (١).

وقد أهمل صاحب الكفاية التعرض للمعاملات ، ولعله لأجل وضوح الحال فيها. وهو ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من. ان الحكم بصحة المعاملة وفسادها يناط بالواقع ، وذلك لأن موضوع ترتب الأثر على المعاملة وعدم ترتبه شرعا هو المعاملة الواقعية الخاصة من دون مدخلية للعلم والجهل ، فإذا أوقعها المكلف ترتب عليها حكمها وإن كان المكلف جاهلا بصحتها وفسادها.

وأما العبادات ، فقد توقف الشيخ في صحة العمل إذا جيء به مع التردد في صحته ، بل ظاهره المنع عن الصحة ولو فرض مطابقة العمل للواقع.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٢

ولا منشأ للإشكال في الصحة الا ما تقدم من الإشكال في الاحتياط مع التمكن من العلم باعتبار عدم تحقق قصد الإطاعة مع التردد. وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه‌الله هاهنا وبنى عليه المحقق النائيني رحمه‌الله بإصرار (١).

وقد تقدم منّا تحقيق هذه الجهة ، واختيار صحة الإتيان بمحتمل الأمر مع التمكن من تحصيل العلم ، فلا نعيد.

وعليه ، فإذا كانت العبادة التي جاء بها قبل الفحص بقصد احتمال الأمر ـ بالنحو الّذي قربناه ـ مطابقة للواقع كانت صحيحة ، وإن كانت غير مطابقة كانت باطلة.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان العبادة تقع باطلة في صورة المخالفة ، بل في صورة الموافقة أيضا فيما إذا لم يتأتّ منه قصد القربة (٢).

وما أفاده قدس‌سره لا يمكن ان يكون إشارة إلى مذهب الشيخ والنائيني قدس‌سرهما ، لأنه حكم بمنعه في محله.

ولأجل ذلك حمل كلامه على مورد تكون العبادة محرمة واقعا ، فلا يصح قصد القربة لعدم صلاحية الفعل للمقربية بعد أن كان الجهل عن تقصير ، كما في بعض موارد اجتماع الأمر والنهي. فلاحظ.

ثم ان الاعلام قدس‌سرهم تعرضوا في هذا المقام إلى فرع فقهي وهو : مسألة ما إذا أتم في موضع القصر عن جهل بالحكم ، وما إذا جهر في موضع الإخفات أو أخفت في موضع الجهر ، فانه يلتزم بصحة صلاة الجاهل في هذه المقامات ، وفي الوقت نفسه يلتزم بعدم معذوريته من العقاب إذا كان جهله عن تقصير.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٧٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٣

وجعلوا هذه المسائل مما استثني من مقتضى القاعدة في العمل بالبراءة قبل الفحص ، من دوران صحة العمل وبطلانه مدار الواقع.

وقد وقع الإشكال في الجمع بين صحة العمل وترتب العقاب على ترك الواقع.

وبيّنه الشيخ رحمه‌الله : بأنه إذا لم يكن معذورا من جهة العقاب كشف ذلك عن استمرار تكليفه بالواقع ، وحينئذ فما أتى به ان لم يكن مأمورا به فكيف يسقط معه الواجب؟. وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع مع الأمر بالواقع ، إذ المفروض عدم الأمر إلاّ بصلاة واحدة.

وقد تصدى الاعلام قدس‌سرهم إلى حله ، والجمع بين الأمرين صحة العمل وثبوت العقاب على ترك الواقع.

وذكر الشيخ في حله وجوها ثلاثة :

الوجه الأول : الالتزام بعدم تعلق التكليف الفعلي بالواقع المتروك ..

إمّا بدعوى : كون القصر ـ مثلا ـ واجبا على المسافر العالم بالحكم ، وهكذا في الجهر والإخفات.

وإما بدعوى : كونه معذورا فيه ، نظير الجاهل بالموضوع الّذي يحكم عليه ظاهرا ، بخلاف الواقع. والجهل هاهنا وإن لم يحكم في مورده بخطاب ظاهري كجاهل الموضوع ، لكنه مستغنى عنه باعتقاده وجوب الشيء في الواقع ، فلا حاجة إلى إنشاء وجوبه ظاهرا.

واما بدعوى : عدم تكليفه بالواقع المجهول ، لأجل الغفلة عنه. والمؤاخذة انما تترتب على ترك التعلم كما بنى عليه صاحب المدارك.

وإما بدعوى : انه وان كان مكلفا بالواقع لكن ينقطع تكليفه به عند الغفلة لقبح تكليف الغافل لعجزه ، ولكن بما ان العجز عن اختياره يعاقب على ترك الواقع من حين الغفلة ، وان لم يكن مأمورا به في حال الغفلة.

٣٦٤

وقد نفى قدس‌سره هذا الوجه بشقوقه : بأنه خلاف ظاهر المشهور ، حيث ان ظاهرهم بقاء التكليف بالواقع المجهول وعدم ارتفاعه.

ثم انه يمكن المناقشة في الدعوى الأولى بان لازمها عدم ترتب العقاب على ترك القصر لعدم حصول شرط وجوبه.

وفي الدعوى الثانية بذلك أيضا ، إذ الحكم بالمعذورية يستلزم انتفاء العقاب ، وهو خلف فرض المسألة.

وفي الدعوى الثالثة والرابعة : بان مفروض الكلام بالنسبة إلى من أجرى البراءة قبل الفحص ، وهذا يستلزم فرض المكلّف ملتفتا لا غافلا.

نعم ، الحكم المزبور يتأتى بالنسبة إلى الغافل أيضا ، لكن ما يرتبط بما نحن فيه هو الملتفت ، ولذا جعل استثناءه من مقتضى القاعدة في العمل بالبراءة قبل الفحص.

الوجه الثاني : الالتزام بعدم تعلق الأمر بالمأتي به ، ولكنه مسقط للواجب الواقعي ، وسقوط الواجب بغير المأمور به لا محذور فيه.

وناقشه الشيخ رحمه‌الله بان ظاهر الأدلة فيما نحن فيه تعلق الأمر بالمأتي به للتعبير في النصوص بتمامية الصلاة وصحتها ، وهو ظاهر في تعلق الأمر بها.

الوجه الثالث : ما ذكره كاشف الغطاء من تعلق الأمر بالتمام مترتبا على معصية الأمر بالقصر ، فيكون كل من العملين مأمورا به ، ولكن بنحو الطولية لا في عرض واحد ، فيرتفع التنافي بينهما حينئذ ، لأن الأمر بالضدين انما يمتنع إذا كانا في عرض واحد لا بنحو الترتب (١).

ورده الشيخ بعدم معقولية الترتب ، وانما المعقول هو حدوث التكليف

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٥

بالضد بعد تحقق معصية التكليف بالضد الآخر وسقوطه بحيث لا يجتمعان في زمان واحد.

وقد اكتفي الشيخ رحمه‌الله في تحقيق هذه الجهة بهذا المقدار (١).

ولا يخفى عليك ان مقتضى ما نقلناه عنه انه لم يتصدّ إلى حل الإشكال بنفسه وأنه ملتزم به ، إذ هو ذكر الإشكال وردّ الحلول المذكورة له ، فليتنبّه.

وكيف كان ، فلا بد من تحقيق الحال في المسألة بنحو يرتفع عنها الإجمال ، فنقول :

قد عرفت تصدي كاشف الغطاء رحمه‌الله إلى حلّ الشبهة بالالتزام بتعلق الأمر بكل من التمام والقصر بنحو الترتب ، وهذا وجه بنى عليه في مسألة الضد ، فالتزم بصحة تعلق الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم.

والكلام في كبرى الترتب طويل دقيق ، والّذي يظهر من الشيخ مناقشته كبرويا. وقد مرّ تحقيق صحة الترتب ومعقوليته.

ولكن قد يستشكل في صحة تطبيق كبرى الترتب على المورد ، فيكون الإشكال صغرويا.

وقد ذكر لتقريب الإشكال وجوه :

الأول : ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله من : ان موضوع الترتب ما إذا كان كل من الحكمين واجدا للملاك في متعلقه وانما كان المانع هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين في الامتثال ، بحيث لو لا ذلك لكان إطلاق كل من الدليلين محكما ، فيرفع اليد عن الإطلاق بمقدار ما يرتفع به التنافي.

ولذا ثبت ـ هناك ـ ان الالتزام بمعقولية الترتب مساوق للالتزام بوقوعه بلا حاجة إلى دليل خاص يدل على وقوعه.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٦

وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ لا دليل على الأمر بكل من القصر والتمام في نفسه حتى ترفع اليد عنه بمقدار ما يرتفع به التنافي ، فمعقولية الترتب لا تجدي فيما نحن فيه بعد عدم إحراز الملاك وعدم قيام الدليل على ثبوت الحكمين في حد أنفسهما.

الثاني : ما أفاده قدس‌سره أيضا من : ان الملتزم به في الترتب هو تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم ، وهو غير معقول في المقام ، إذ لا يعقل ان يعلّق وجوب التمام على عصيان الأمر بالقصر ، لغفلته عن الموضوع وهو العصيان لفرض جهله بالحكم ، ولو التفت إليه خرج عن كونه جاهلا بالحكم فلا تصح منه الصلاة التامة فيرتفع عنه الأمر بالتمام.

وبالجملة : تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر يستلزم عدم فعلية الحكم أصلا (١).

الثالث : ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من : ان تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم إنما يصح إذا لم يكن عصيان الأهم بنفس إتيان المهم ، وإلا فالأمر به غير معقول لأنه طلب الحاصل.

وما نحن فيه كذلك ، لأن عصيان الأمر بالقصر وفوات امتثاله انما يحصل باستيفاء مصلحته بفعل التمام ، إذ بدون فعل التمام لا يسقط القصر مع بقاء الوقت.

وعليه ، فيلزم من تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر تعليق الأمر بالتمام على فعله فيكون طلبا للحاصل (٢).

وجميع هذه الوجوه قابلة للمناقشة ..

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٩٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣١٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٧

أما الأول : فلأن موضوع الكلام في الترتب وان كان مورد ثبوت الإطلاق لكل من الحكمين ، لكنه لا ينافي تأتيه في مورد آخر إذا فرض قيام الدليل الخاصّ على تعلق الأمر بالضدين.

وعليه ، فإذا فرض معقولية الترتب فيما نحن فيه ثبوتا ، فيبقى الإشكال بحسب مقام الإثبات ، ويرتفع ذلك بملاحظة نفس الدليل الدال على الأمر بالتمام مع الجهل بالقصر ، فانه كاشف عن ثبوت الملاك في كل من العملين. كما انه إذا انحصر الجمع بينهما بطريق الترتب كانت معقوليته مساوقة لوقوعه كسائر الموارد. فلاحظ.

وأما الثاني : فلأنك قد عرفت في مبحث الترتب انه لا ملزم للالتزام بتعليق الأمر بالمهم على عصيان الأهم ، بل يجوز أخذ الشرط كل ما يصحح الطولية ويرفع التنافي في مقام الداعوية الفعلية ، ولذا قلنا بجواز أخذ الشرط ترك الأهم لا عصيانه.

وعليه ، فيمكننا ان نلتزم بان الأمر بالتمام مشروط بالعلم بعدم وجوب القصر ، وهو ممّا يلتفت إليه المكلّف ، ومما يصحح الترتب ويرفع التنافي بين الأمرين في مقام الداعوية ، إذ مع العلم بعدم وجوب القصر ، لا يكون وجوب القصر داعيا فعلا نحو متعلقه.

ومن هنا يظهر ما في الوجه الثالث ، إذ لا ملزم لأخذ الشرط عصيان القصر ، بل يؤخذ الشرط هو العلم بعدم وجوب القصر ولا محذور فيه.

فالمتجه أن يقال : انه إما ان يؤخذ في موضوع الأمر بالتمام عصيان الأمر بالقصر. ففيه ما عرفت من استلزامه طلب الحاصل ، لأن العصيان يتحقق بفعل التمام.

وإما أن يؤخذ في موضوعه العلم بعدم وجوب القصر. ففيه : انه في هذا الحال لا يتصور ثبوت الأمر الفعلي بالقصر ، لعدم إمكان داعويته. هذا في مورد

٣٦٨

الجهل المركب.

وأما مورد الجهل البسيط فالأمر بالقصر قابل للداعوية للالتفات إليه ، فلا يصح الأمر بالتمام ، للتزاحم. فتدبر.

والمتحصل : ان تطبيق كبرى الترتب على المقام غير صحيح ، فهذا الوجه مما لا يمكن رفع الإشكال فيه.

وأما الوجه الثاني (١) : ـ أعني : الالتزام بان التمام ليس بمأمور به ، لكنه مسقط عن الواجب ـ ، فقد عرفت ان الشيخ ناقشه بان ظاهر النصوص صحة العمل وتماميته ، ولازم ذلك تعلق الأمر به. ولعل السر فيه : ان العمل إذا كان عباديا فصحته تتوقف على تعلق الأمر به ، والمفروض ان التمام يقع عبادة ، فلا بدّ ان يكون مأمورا به إذا كان صحيحا ، كما هو ظاهر النصوص.

ولكن صاحب الكفاية رحمه‌الله التزم بهذا الوجه ودفع إشكال الشيخ رحمه‌الله ببيان : ان الصحة كما تنشأ من تعلق الأمر بالعبادة كذلك تتحقق باشتمال العبادة على ملاك ومصلحة يوجب المحبوبية وان لم تكن مأمورا بها لمانع.

وعليه ، فيلتزم باشتمال التمام في حال الجهل بوجوب القصر على مصلحة تامة ملزمة في نفسها ، كما ان صلاة القصر تشتمل على مصلحة ملزمة ولكنها أهم من مصلحة التمام.

ولأجل التضاد بين المصلحتين بحيث لا يمكن استيفاء إحداهما مع استيفاء الأخرى ، تعلق الأمر بالقصر لأهميته ، ولم يأمر بالتمام لأنه أمر بالقصر ذي المصلحة الأهم ، ولا يمكن استيفاؤهما معا كي يأمر بكلا الفعلين. فإذا جاء بالتمام جهلا بوجوب القصر كانت الصلاة صحيحة لاشتمالها على الملاك المقرّب ، ولا يجب عليه الإتيان بعد ذلك بالقصر لعدم التمكن من استيفاء مصلحته ، فلا

__________________

(١) من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ ( قده ) وقد تقدمت المناقشة في الوجهين الأول والثالث منها.

٣٦٩

تقع صحيحة حينئذ ، وإذا كان مقصرا في ترك التعلم كان معاقبا لتفويته الواجب وهو صلاة القصر.

وبهذا البيان يجمع بين صحة المأتي به وتعلق الأمر بالواقع وترتب العقاب على مخالفته.

وقد أورد على هذا البيان بوجهين :

الوجه الأول : ما أشار إليه الشيخ في رسائله (١) ، وصرح به في الكفاية ، من : ان التمام ـ على هذا البيان ـ يكون سببا لتفويت الواجب الفعلي وهو القصر ، وما يكون سببا لتفويت الواجب الفعلي يكون حراما فيكون فاسدا للملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.

وقد ردّه صاحب الكفاية : بان فعل التمام ليس سببا ، وإنما يكون مضادا لفعل القصر ، وقد تقدم في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده بيان عدم توقف وجود الضد على عدم ضده ، بل هما متلازمان لا أكثر (٢).

وقد يورد على صاحب الكفاية : بان الّذي حققه في مبحث الضد عدم وجود التوقف بين الضد وعدم ضده ، ولكنه التزم بان عدم علة أحد الضدين يكون من مقدمات الضد الآخر ، لأن علة أحد الضدين تكون مانعة من الضد الآخر ومزاحمة لتأثير مقتضية فيه.

وعليه ، فنقول : انه لا تضاد ـ فيما نحن فيه ـ بين صلاتي القصر والتمام لا مكان الجمع بينهما ، وإنما التضاد بين مصلحتيهما ، ونسبة كل منهما إلى مصلحته نسبة السبب التوليدي لمسببه.

وعليه ، فكل من فعل التمام والقصر مانع من تحقق مصلحة الآخر ، فيكون

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٠

عدمه مقدمة لتحقق مصلحة الآخر ، فيكون عدم التمام من مقدمات حصول المصلحة الملزمة ، فيكون مطلوبا لأن مقدمة الواجب واجبة. أو فقل : انه يكون منهيا عنه بمقتضى ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ بملاك المقدمية.

ويمكن دفع هذا الإيراد : بان ما يكون دخيلا في ترتب المصلحة على الواجب يكون مأخوذا في الواجب إما بنحو الجزئية إذا كان جزء المؤثر ، أو بنحو الشرطية إذا كان شرطا لتحقق التأثير. وبما أن عدم المانع يكون دخيلا في تأثير المقتضي في مقتضاه كان مأخوذا في الواجب بنحو الشرطية ، ففيما نحن فيه يكون عدم التمام قيدا للواجب وهو القصر ، لأن عدم التمام دخيل في تأثير القصر في المصلحة ، فالوجوب متعلق بصلاة القصر المقيدة بعدم وقوع التمام.

وعلى هذا يكون ترك التمام من مقدمات الواجب كسائر مقدماته الوجودية والعدمية.

فان لم نقل بوجوب المقدمة ، فلا محذور في فعل التمام ، إذ الفرض ان التمام واجد للملاك والمحبوبية في نفسه ، وتركه لم يتعلق به أمر شرعي كي ينافي صحة العمل. وان قلنا بوجوب المقدمة ، فالملتزم به ليس هو تعلق طلب شرعي وأمر إنشائي مولوي بالمقدمة كي تكون مخالفته عصيانا ومبغوضة للمولى ، بل الملتزم به ان المقدمة تكون متعلقة للمحبوبية الشرعية ليس إلا ، فيكون كل من الترك والفعل محبوبا ، ومحبوبية الترك لا تنافي إمكان التقرب بالفعل لمحبوبيته. كما مرّ نظير ذلك في العبادات المكروهة. فراجع.

وجملة القول ان الوجه الأول من وجهي الإيراد غير وارد.

نعم ، هنا شيء ، وهو : أن تفويت المصلحة مبغوض للمولى ، فإذا كان الإتيان بالتمام مانعا من تحقق مصلحة القصر كان سببا لتفويت المصلحة فيكون سببا للمبغوض. فلو لم نقل بان سبب الحرام حرام لا بالحرمة النفسيّة ولا

٣٧١

الغرية فلا إشكال. وإن قلنا بأنه حرام ومبغوض إما بالحرمة النفسيّة بدعوى ان النهي عن المسبب نهي عن السبب حقيقة ، كما مر في مبحث مقدمة الواجب. أو بالحرمة الغيرية من باب المقدمية. فقد يستشكل في صحة التمام حينئذ لأنه حرام ويمتنع التقرب به ، فلا يقع عبادة. ونظيره ما يقال في حمل المغصوب في الصلاة. فان الحركة الصلاتية تكون سببا للتصرف فيه بتحريكه فتكون محرمة.

لكن نقول بعد قيام الدليل على صحة التمام والحال هذه ـ أعني : مع كونها مفوتة لمصلحة القصر ـ ، نستكشف انه بالتمام لا تفوت مصلحة القصر وتتدارك بفعل التمام ـ وإلاّ لكانت باطلة لمبغوضيتها ـ ، وهذا ملازم لعدم ترتب العقاب على ترك القصر لعدم فوات مصلحته. ولا محذور في الالتزام بذلك على هذا التقدير بملاحظة دليل الصحة. فلاحظ.

ولا يخفى ان هذا الإشكال ـ أعني حرمة التمام لكونه مفوتا للواجب الواقعي وسبب الحرام حرام ـ لا يرد على خصوص صاحب الكفاية ، بل على جميع المسالك ، فلو تم لا محيص عن الالتزام بعدم العقاب ، بملاحظة دليل الصحة ، إذ بدون ذلك لا مجال للصحة. فانتبه.

وأما الوجه الثاني : فهو ما يمكن أن يستفاد من كلام المرحوم النائيني رحمه‌الله ، وإن كان كلامه في كلا تقريري بحثه لا يخلو عن اختلاف (١).

وقد ذكر هذا الوجه في الدراسات ، وبيانه : ان المصلحتين المفروضتين التي تقوم إحداهما بالطبيعي والأخرى بخصوص القصر ـ مثلا ـ ، اما ان تكونا ارتباطيتين بحيث لا يمكن حصول إحداهما بدون الأخرى ، فلا وجه للحكم بصحة التمام لعدم ترتب أي مصلحة عليه بعد ان لم تحصل المصلحة الزائدة. واما ان تكونا استقلاليّتين ، فلازمه تعدّد الواجب كون القصر واجبا في واجب ، وهو

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٩٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٣٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٢

يستلزم تعدّد العقاب عند ترك أصل الصلاة ، مع أنه مناف للضرورة وظواهر الأخبار (١).

وهذا الوجه كسابقه قابل للمنع بكلا شقيه.

فان لنا ان نختار الشق الأول ونلتزم بارتباطية المصلحتين ، ولكن نقول ان المترتب على التمام مصلحة وغرض غير ما يترتب على القصر من مصلحة وغرض ، وان كان بينهما جامع نوعي.

وعليه ، فمصلحة القصر بما لها من المرتبة الزائدة على مصلحة التمام مصلحة ارتباطية لا يتصور حصول جزء منها وحده ، وهذا لا ينافي ترتب مصلحة ارتباطية أخرى على التمام تمنع من حصول مصلحة القصر للتضاد بينهما.

ونظيره في العرفيات : ان يكون الشخص مبتلى بألمين ألم في أذنه وألم أشد في عينه ، وفرض ان الثاني أهم ، وكان هناك كأسان من الدواء يترتب على أحدهما رفع ألم الأذن وعلى الآخر رفع ألم العين ، وكان استعمال أحدهما موجبا لانتفاء الانتفاع بالآخر ، فانه إذا استعمل الكأس الرافع لألم الأذن يصح ان يقال بحصول مقدار من المصلحة بملاحظة المصلحة الجامعة ، فيقال ان بعض الألم ارتفع ، وان كان ارتفاع الألم في كل واحد من العين والأذن بنحو الارتباط لا يقبل التخفيف ، بل اما أن يرتفع كله أو يبقى كله.

وجهة التوهم المزبور هو : فرض وجود مصلحة واحدة تترتب بالنحو الأتم على القصر وبالنحو الناقص على التمام ، مع انه لا ملزم له ، بل يمكن الالتزام بتعدد نوع المصلحة مع التضاد بينهما. فانتبه.

ثم إن لنا ان نختار الشق الثاني : بان نلتزم باستقلالية المصلحتين ، ولكن نقول : إن ترتب مصلحتين في عرض واحد ـ لا بنحو الطولية كباب النذر للصلاة

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٣١٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٣

أول الوقت ، فان التداخل فيه محل كلام ـ لا يستلزم تعدد الحكم ، بل يكون هناك حكم واحد ، لكنه يكون آكد من الحكم الثابت للفعل ذي المصلحة الواحدة.

وعليه ، فالقصر وان كانت فيه مصلحتان ، لكن لا يدعو ذلك لتعلق وجوبين به ، بل يثبت وجوب واحد بنحو أكيد ، نظير المحرمات التي يترتب عليها مفاسد متعددة.

وعلى هذا فلا يتعدد العقاب بترك القصر ، لأن تعدد العقاب فرع تعدد التكليف لا فرع تعدد المصلحة.

نعم ، لا محذور في الالتزام بان العقاب عليه أشد من العقاب على ترك القصر لأهميته ، إذ لم تقم الضرورة على عدم ذلك. إذن فما أفاده المحقق النائيني ممنوع أيضا.

فيتحصل : ان ما أفاده صاحب الكفاية في دفع الإشكال في المسألة لا محذور في الالتزام به في مورد التمام والقصر والجهر والإخفات.

وأما الإيراد عليه : بان التضاد في الملاكات مع إمكان الجمع بين الفعلين في الخارج بعيد ، بل يكاد ان يلحق بأنياب الأغوال (١).

فهو مندفع :

أولا : بان الملاكات الشرعية غير معلومة لدينا كي نستطيع الحكم عليها بعدم التضاد.

وثانيا : ان الأمثلة العرفية على التضاد في الملاكات مع إمكان الجمع بين الفعلين أكثر من أن تحصى ، خصوصا في مثل باب الأطعمة والأشربة والأدوية. فان منافاة الطعام السابق لحصول الانتفاع باللاحق ملموسة في كثير من الموارد ، فلاحظ تعرف ، ولسنا بحاجة إلى الإطالة.

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٣١٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٤

ثم إنك عرفت أن أساس الإشكال في هذه الموارد هو ترتب العقاب على ترك العمل الواقعي مع الالتزام بصحة المأتي به. ولأجل ذلك ذهب المحقق النائيني في مقام دفعه إلى إنكار ترتب العقاب على العمل المتروك ، وذكر : ان الإجماع المدعى لا يمكن ان يعتمد عليه ، لأن استحقاق العقاب ليس حكما شرعيا ، والإجماع انما يعتمد عليه في كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام إذا كان إجماعا على حكم شرعي لا على أمر عقلي (١).

وهذا البيان لا يمكن الموافقة عليه بوجه من الوجوه ، لأنه لا يحتمل ان يكون إجماع المجمعين مستندا إلى مراجعة البحوث الفلسفية ، والالتزام بالعقاب على أساس فلسفي أو كلامي أجنبي عن ثبوت الحكم الشرعي ، وإنما هو مستند إلى التزام ثبوت الحكم الشرعي في هذا المورد ، فيترتب العقاب على مخالفته قهرا ، فإجماعهم على ترتب العقاب يرجع في الحقيقة إلى الإجماع على ثبوت حكم شرعي ، وهو وجوب العمل المتروك بنحو التعيين ، بحيث يكون تركه مستلزما لاستحقاق العقاب. فلا وجه لما أفاده قدس‌سره ، وتابعة على ذلك السيد الخوئي في الدراسات (٢).

والحاصل : انه في المورد الّذي يلتزم بثبوت التكليف الفعلي بالفعل المتروك وعدم تدارك مصلحته بالمأتي به يكون تفصي صاحب الكفاية هو المتعين ، بعد عدم إمكان الالتزام بالترتب في المقام ، فان ما أفاده قدس‌سره يدفع جميع جهات الإشكال. والله سبحانه العالم العاصم.

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٩٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٣١٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٥

وقد نقل الشيخ (١) وغيره (٢) ـ بعد ذلك ـ عن الفاضل التوني اشتراط العمل بالبراءة بشرطين :

أحدهما : ان لا يكون مستلزما لإثبات حكم تكليفي ، ومثاله إجراء أصالة البراءة من الدين ، فيثبت بها وجوب الحج لعدم المزاحم.

والآخر : ان لا يكون مستلزما للإضرار بالغير ، كفتح قفص طائر يستلزم طيرانه ، فانه لا مجال للتمسك بأصالة البراءة في إثبات جواز فتح القفص.

وقد توجهت المناقشات على الفاضل التوني ..

فنوقش الوجه الأول : بأنه لا مانع من جريان البراءة إذا كانت موضوعا للحكم الشرعي ، واما إذا لم تكن موضوعا للحكم الشرعي فلا تتكفل البراءة إثبات الحكم إلا على القول بالأصل المثبت.

ونوقش الوجه الثاني : بان المورد ان كان من موارد دليل نفي الضرر ، فعدم جريان البراءة لأجل وجود دليل اجتهادي مقدم عليها لا من جهة الضرر.

وان لم يكن من موارد دليل نفي الضرر ، فلا مانع من إجراء البراءة.

هذه خلاصة بعض المناقشات.

وقد تصدى المحقق النائيني قدس‌سره في مناقشة الوجه الأول إلى بيان الموارد التي ينفع إجراء البراءة في إثبات التكليف فيها ، والموارد التي لا ينفع إجراء البراءة في إثبات التكليف فيها ، وذكر تفصيلا رشيقا وإن كان لا يخلو عن بحث في بعض أمثلته وخصوصياته ـ كمثال الحج ، فانه التزم ان إجراء البراءة لا ينفع في إثبات وجوبه ، لأن الحج مقيد بعدم اشتغال الذّمّة واقعا ، والبراءة لا

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٠٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٥١٢ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٦

تتكفل نفي الشغل الواقعي. وفيه : انه لم يقم دليل خاص على أخذ عدم الشغل واقعا في موضوع وجوب الحج ، وانما يعتبر من باب أخذ الاستطاعة الشرعية في موضوعه ، وهي لا تتحقق مع وجوب أداء الدين ، بل مع مزاحمة أقل الواجبات ، ومن الواضح ان سلب القدرة شرعا يناط بفعلية وجوب أداء الدين ، وأصل البراءة ينفيه ، فلاحظ ـ. لكن لا يخفى ان هذا التفصيل العلمي الرشيق أجنبي عن كبرى دعوى الفاضل التوني ، وإنما هو تحقيق راجع إلى الصغرى.

فالمهم تحقيق الكبرى التي ادعاها الفاضل التوني.

ويمكن توجيه ما أفاده ـ مع قطع النّظر عما ينقل من كلامه في توجيهها ـ : بان المعروف بين الأصحاب كون حديث الرفع واردا مورد الامتنان وبملاكه نظير رفع الضرر ، فلا يجري في مورد يكون في جريانه منافاة للامتنان ، كما لو كان إجراؤه مستلزما لثبوت تكليف شرعي أكثر كلفة ومشقة من التكليف المنفي ، كمثال براءة الذّمّة من الدين الّذي يترتب عليه وجوب الحج ، فانه لا امتنان في رفع التكليف بالدين لوقوع المكلف بسببه في كلفة الحج.

وهكذا لو كان إجراؤه مستلزما للإضرار بالغير ، بملاحظة ان الملحوظ هو الامتنان على الأمة والنوع لا خصوص من يجري في حقه حديث الرفع ، فانه لا امتنان في إجراء البراءة مع استلزامها ضرر الغير ، فهي لا تجري مع قطع النّظر عن أدلة نفي الضرر.

فاشتراط هذين الشرطين انما هو بملاك عدم الامتنان في جريان البراءة.

فلا بد في تحقيق صحة ذلك من ملاحظة ان الملحوظ هل هو الامتنان في نفسه أو الامتنان الفعلي بملاحظة خصوصيات الواقعة وملازماتها؟. فإذا كان الملحوظ هو الأول لم يتوجه اعتبار هذين الشرطين ، إذ في إجراء البراءة امتنان في نفسه. وإذا كان الملحوظ هو الثاني توجه اعتبارهما كما عرفت. وظاهر الأصحاب هو الثاني ، نظير ما يلتزم به في حديث نفي الضرر كما سيأتي.

٣٧٧

وقد تقدم منّا في مبحث حديث الرفع إنكار هذا الاستظهار من أساسه ، وأنّه لا وجه لدعوى كون حديث الرفع واردا بملاك الامتنان ، ولو سلم أن يكون للامتنان فلم يظهر أنّه علة ، بل غايته أن يكون حكمة.

هذا مع أنه لا يتعقد الأمر في مثال الحج لو فرض عدم جريان أصالة براءة الذّمّة من الدين لأجل عدم الامتنان ، إذ في استصحاب عدم التكليف غنى وكفاية ، وقد عرفت انه لا مانع من جريانه إذا كان موضوعا لحكم شرعي. فلاحظ.

هذا تمام الكلام في شروط العمل بالبراءة.

وقد تعارف لدى الاعلام تذييل مباحث البراءة والاشتغال بالبحث عن قاعدة نفي الضرر ، ونحن نجاريهم في هذا الأمر ونوقع البحث فيها ، ومن الله سبحانه نستمد المعونة والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل (١).

__________________

(١) تم البحث في يوم الأحد ٥ ـ ٨ ـ ٩١ ه‍.

٣٧٨

قاعدة

نفي الضرر

٣٧٩
٣٨٠