منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

وإلى هذا الجواب أشار الشيخ رحمه‌الله في كلامه (١).

وقد تعرض المحقق النائيني رحمه‌الله إلى هذا الوجه ، وذكر : بان العلم الإجمالي بثبوت أحكام في الشريعة ينحل بعلم إجمالي صغير آخر ، وهو العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعية تؤديها الأمارات الموجودة في ضمن الكتب التي بأيدينا ، وهي بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحل العلم الإجمالي العام بالعلم الإجمالي الخاصّ ، ومقتضى ذلك لزوم الفحص في خصوص ما بأيدينا من الكتب لا أزيد وقد بنى بهذا الوجه على لزوم الفحص في الكتب التي بأيدينا الّذي هو المدعى.

ثم انه تعرض إلى مناقشة في العلم الإجمالي الصغير : بأنه لا يستدعي الفحص في مطلق الشبهات ، لأن العلم الإجمالي المزبور ينحل باستعلام جملة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها. فيكون هذا الوجه أخص من المدعى.

ودفع هذه المناقشة بإنكار الانحلال باستعلام جملة من الأحكام بالنحو المزبور ، ببيان : ان الانحلال انما يتحقق إذا كان متعلق العلم الإجمالي مرددا من أول الأمر بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بوجود الموطوء في القطيع من الغنم وتردد بين الأقل والأكثر ، لأن العلم الإجمالي لا يوجب سوى تنجيز الأقل ، فإذا علم ، موطوئية هذه العشرة من هذا القطيع ينحل العلم الإجمالي.

ولا يتحقق الانحلال فيما إذا كان متعلق العلم الإجمالي عنوانا واقعيا بما له من الافراد وتردد أفراده بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بموطوئية البيض في هذا القطيع وترددت بين العشرة والعشرين. فانه بالعلم بموطوئية عشرة من الغنم لا ينحل العلم الإجمالي ، لأنه يستلزم تنجيز متعلقه بما له من العنوان على

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠١ ـ الطبعة الأولى.

٣٤١

واقعه ، فهو يوجب ـ في المثال ـ تنجيز التكليف المتعلق بافراد الغنم البيض الواقعية ، فلا يتحقق الانحلال بالعثور على جملة من الافراد يحتمل انها تمام افراد المعلوم بالإجمال ، بل لا بد من الفحص التام في جميع الافراد.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأن المعلوم بالإجمال هو الأحكام الموجودة في الكتب التي بأيدينا ، فيستلزم تنجيز جميع الأحكام الموجودة في الكتب على واقعها ، ولازمه الفحص التام عن جميع ما في الكتب التي بأيدينا وعدم انحلال العلم الإجمالي باستعلام جملة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها.

واستشهد على ذلك : بأنه لو علم المكلف باشتغال ذمته لزيد بما في الطومار وتردد ما في الطومار بين الأقل والأكثر ، لا يجوز للمدين الاقتصار على القدر المتيقن ، بل لا بد من الفحص التام ، وهو مما يشهد به بناء العرف والعقلاء ، فلا يرى العقلاء أن المدين معذور إذا ترك الفحص واقتصر على الأقل (١).

أقول : الحديث في ثبوت الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيليّ ببعض الأطراف قد مرّ مفصلا وعرفت منّا إنكاره ، وان الثابت ليس إلا الانحلال الحكمي بوجه تفردنا به. فراجع تعرف. وهذا ليس بمهم.

إنما المهم ما أفاده من عدم انحلال العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الكتب المعتبرة ، بواسطة العلم بمقدار من التكاليف يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

فان ما أفاده في مقام بيان عدم الانحلال مردود.

أما ما ذكره شاهدا ـ أخيرا ـ ، فهو لا يرتبط بما نحن فيه بالمرة ، لأن لزوم الفحص ثابت لدى العقلاء حتى مع عدم العلم بأنه مدين أصلا ، وإنما كان

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٧٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٤٢

يحتمل ذلك بدوا ، فانه إذا كان البناء على تسجيل كونه مدينا لزيد في دفتره ، فجاءه زيد وطلب منه فحص دفتره ليجد أنه مدين له أم لا؟ ليس له رفض ذلك والتمسك بالأصل ، وبناء العرف والعقلاء على لزوم الفحص في مثل ذلك مما لا ينكر. إذن فلزوم الفحص في مثال الدين أجنبي عن عدم انحلال العلم الإجمالي للزومه في الشبهة البدوية ، بل له وجه آخر غير مرتبط بما نحن فيه.

وأما ما أفاده من انه إذا تعلق العلم الإجمالي بعنوان ، وترددت افراده بين الأقل والأكثر ، فلا ينحل العلم الإجمالي بالعلم بجملة من الافراد يحتمل انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي عليها ، فهو مسلم فيما إذا كان الفرد المعلوم بالتفصيل غير معلوم المصداقية للعنوان المعلوم بالإجمال ، كما لو علم بان إناء زيد نجس. واشتبه إناء زيد بغيره ، ثم عثر على إناء نجس لا يعلم انه إناء زيد أم لا ، فانه لا ينحل العلم الإجمالي الّذي استلزم تنجيز التكليف المتعلق بإناء زيد.

وأما إذا كان الفرد المعلوم بالتفصيل من افراد العنوان المعلوم بالإجمال ، كان ذلك موجبا للانحلال ، لأن العلم الإجمالي بالعنوان وان أوجب تنجيزه ، لكنه انما ينجزه بما له من الأفراد المعلومة لا غير ، فإذا عثر على مقدار من افراده يحتمل انها تمام أفراده ينحل العلم الإجمالي ، إذ لا علم بتكليف زائد على أكثر مما عثر عليه ، فتكون سائر الأطراف مجرى الأصل المؤمن ـ على ما بيناه في وجه الانحلال ـ. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ التكاليف المعلومة بعد الفحص معلومة بعنوان انها تكاليف واقعية لا بعنوان آخر ، فيلزم انحلال العلم الإجمالي ، وهو ما نبّه عليه في الكفاية.

وجملة القول : ان الاستدلال بالعلم الإجمالي على لزوم الفحص ، استدلال بما هو أخص من المدعى. فتدبر جيدا.

الرابع : الأخبار الدالة على وجوب التعلم ، مثل الخبر المروي عن أمالي

٣٤٣

الشيخ في تفسير : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (١) من : أنه يقال للعبد يوم القيامة هل كنت عالما؟ فان قال : نعم. قيل له : لما ذا لم تعمل بما علمت؟. وان قال : كنت جاهلا. قيل له : هلا تعلمت حتى تعمل. فيخصم. فتلك الحجة البالغة (٢).

وتقريب الاستدلال بها : أنها تدل على ترتب العقاب عند ترك التعلم. فتدل على عدم معذورية العبد عند ترك التعلم والفحص.

وتحقيق الكلام في دلالة هذه الاخبار ، هو : انه قد يستشكل في دلالتها باعتبار أنها تتكفل الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك التعلم ، وهذا يستلزم ان يكون الحكم منجزا في نفسه ومع قطع النّظر عن هذه الاخبار ، إذ لو لم يكن الحكم منجزا في نفسه لما اتجه ترتب العقاب عليه الّذي تتكفل هذه النصوص الاخبار به.

وبالجملة : الحال في هذه الاخبار كالحال في اخبار التوقف التي مرّ في مناقشة دلالتها على وجوب الاحتياط بأنها لا تتكفل تنجيز الواقع ، بل هي متفرعة عن تنجزه لفرض ترتب العقاب مفروغا عنه فيها ، فتختص بموارد قيام المنجز على الواقع من علم إجمالي ونحوه ، فان اخبار التعلّم قد أخذ فيها ترتّب العقاب مفروغا عنه ، فلا تتكفل تنجيز الواقع قبل الفحص ، بل تختص بموارد يثبت المنجز للواقع قبل الفحص من علم إجمالي ونحوه ، على ما سنشير إليه.

وقد يدفع هذا الإشكال : بان الجملة وان كانت خبرية تتكفل الاخبار بثبوت العقاب عند ترك التعلم ، لكنها مسوقة في مقام إنشاء الحكم بالتنجيز عند ترك التعلم ، نظير كثير من الاخبار التي ينشأ فيها الحكم ببيان لازمه من ترتب الثواب على الفعل أو العقاب عليه ، لأن ترتب الثواب والعقاب ملازم للحكم

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٩.

(٢) الطوسي المحقّق الشيخ محمد بن الحسن ، الأمالي : ١ ـ ٨ ـ باب ١ ، حديث ١٠.

٣٤٤

عرفا ، فيكون المقصود الأصلي من الإخبار بهما إنشاء الحكم على سبيل الاستعمال الكنائي ، حتى انه يصح ذلك ولو علم المولى من نفسه انه لا يرتب الأثر من ثواب أو عقاب. إذن فيكون النص فيما نحن فيه دالا على وجوب التعلم وتنجيز الواقع به.

وتحقيق الحال في ذلك : ان الاخبار عن ترتب العقاب تارة يكون مسبوقا بأمر المولى بالفعل أو نهيه عنه. وأخرى لا يكون مسبوقا به ، بل يكون اخبارا ابتداء عن العقاب.

ففي مثل الأول : لا ظهور للكلام في الإنشاء وإرادة المدلول الالتزامي وهو جعل الحكم ، بل يكون محمولا على ظاهره من الاخبار إرشادا إلى ثبوت أمر المولى أو نهيه ، نظير ما يتصدى له الواعظ من بيان أثر العمل المحرم من العقاب والمؤاخذة ، فانه ليس بصدد إنشاء الحكم أصلا ، بل بصدد محض الاخبار عن لازم الحكم ترهيبا.

وأما في مثل الثاني : فيكون للكلام ظهور في جعل الحكم وإنشائه على سبيل الكناية على ما تقدم ، كقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ... ) (١) ، فانه ظاهر في حرمة القتل ، لعدم الوجه في ترتب العقاب سوى الحرمة.

وإذا ظهر ذلك ، فالشبهة التي يترك المكلف فيها الفحص ذات فردين : أحدهما : يكون الحكم فيه منجزا مع قطع النّظر عن وجوب التعلم كموارد العلم الإجمالي. والآخر : لا يكون منجزا في نفسه ومع قطع النّظر عن وجوب التعلم كالشبهة البدوية.

وأخبار ترتب العقاب عند ترك التعلم إن كانت ناظرة إلى النحو الأول ،

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٩٣.

٣٤٥

كانت ظاهرة في مجرد الاخبار بلا تكفل لإنشاء وجوبه ، بل هي نظير اخبار الواعظين تتكفل الإرشاد إلى تنجيز الواقع في حد نفسه والتحذير عن مخالفته. وان كانت ناظرة إلى النحو الثاني ، كانت ظاهرة في إنشاء وجوب التعلم لتنجيز الواقع ، والجمع بين كلتا الشبهتين لا دليل عليه ولا وجه له إذا أمكن صرف الكلام إلى ما يبقي الاستعمال معه على ظاهره من الإخبار.

وعليه ، فيدور الأمر بين نظرها إلى النحو الأول أو النحو الثاني ، ولا معين لأحدهما فتكون مجملة ، فتكون قاصرة عن الدلالة على التنجيز في الشبهة البدوية ، وقد مرّ نظير هذه المناقشة ودفعها في اخبار التوقف فراجع.

وقد يدعى : ان ظاهر الخبر المؤاخذة والتأنيب من جهة ترك التعلم ، إذ التكبيت والتنديم على ترك التعلم ، وهذا لا يتناسب مع نظرها إلى موارد العلم الإجمالي ، إذ المؤاخذة فيه من جهة العلم ومنجزيته ولم تنشأ عن ترك التعلم.

ولعل هذا هو نظر صاحب الكفاية في قوله : « لقوة ظهورها في ان المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا .. » (١).

ولكن هذه الدعوى تندفع بان العلم الإجمالي ..

تارة : يتعلق بعنوان معين مردد بين أمرين ، نظير العلم بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر ، ففي مثله يكون التنديم على ترك العمل لأجل العلم ولا يقال له هلا تعلمت لتعمل.

وأخرى : يتعلق بثبوت أحكام بنحو الإجمال بلا تعينها بعنوان خاص ، كما يحصل لمن يدخل في الإسلام حديثا. أو للشخص في أول بلوغه وقبل تعلمه. فانه إذا ترك الجاهل بعض الأعمال في مثل هذا الحال ، كان له ان يقول لم أكن أعلم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٤٦

به ، وصح ان يقال له لما ذا لم تتعلم.

وعليه ، فيمكن ان تكون الرواية ناظرة إلى هذا النحو من الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي المنجز. ولا تكون ناظرة إلى الشبهة البدوية التي هي محل الكلام.

والنتيجة : ان هذا الوجه كسوابقه قابل للمناقشة.

الخامس ـ وهو عمدة الوجوه ـ : ان الغرض من إنشاء التكليف هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا ومحركا للمكلف.

ومن الواضح ان هذا إنما يصح إذا كان للمكلف طريق عادي للوصول إليه ، بحيث يمكن ان يعتمد عليه المولى في وصول حكمه ، إذ مع عدم الطريق العادي للوصول إليه يكون جعل التكليف مستهجنا عرفا للغويته.

وعليه ، فإذا جعل المولى أحكاما على عبده فليس له أن يسد باب طريق وصولها العادي عليه ، فانه عرفا يعد مستهجنا منه ، وأشبه بالتناقض.

وعلى ذلك ليس للمولى أن يرخص عبده في ترك الفحص عن أحكامه المحتملة وإيكال الأمر إلى الصدفة والاتفاق في تحصيل العلم ، خصوصا مع علمه بعدم تحقق الاتفاق ، فان جعل الأحكام واقعا مع الترخيص في ترك الفحص يعد عرفا من المستهجنات ، لأن الطريق العادي لوصول الحكم هو الفحص عنه وبدونه لا يصل عادة بل من باب الاتفاق. وقد عرفت ان جعل الحكم مع عدم الطريق إليه عادة مستهجن لدى العرف فانه من المستهجن جدا ان يجعل المولى أحكاما على عبده ويبيّنها إلى شخص زيد مثلا ، ثم يقول لعبده لا يلزم ان تفحص عن أحكامي إذا احتملتها ولا يجب عليك ان تسأل زيدا عنها ، ولا يوجب على زيد بيانها لعبده.

نعم قد يكون الغرض الباعث نحو التكليف والمصلحة الداعية إليه بنحو لا يكون لازم التحصيل كيف ما كان ، بل إذا وصل من باب الصدفة والإنفاق ، وفي

٣٤٧

مثله لا يجب الفحص بلا إشكال. لكن اللازم في مثله إنشاء الحكم مقيدا بما يلازم الوصول الاتفاقي ، فانه لا مانع منه ولا محذور فيه ولا معنى لإنشائه مطلقا ، والالتزام بعدم إيجاب الفحص لأنه مستهجن كما عرفت.

كما انه قد يكون الغرض الباعث نحو التكليف بمكان من الأهمية بنحو يلزم على المولى إيصاله للمكلف بأي نحو كان ، ولو بمثل إيجاب الاحتياط وعدم الاعتماد على الطرق العادية ، كما هو الحال في باب الشبهات المتعلقة بالدماء والفروج.

لكن نوع الأحكام الشرعية حد وسط بين هذين ، فان الغرض من التكليف بنحو يلزمه تحصيله بإيصاله بالطرق العادية. وفي مثله يمتنع تجويز ترك الفحص لاستلزامه تفويته.

والسر في ذلك : هو عدم تصدي الشارع لجعل الاحتياط في الشبهات حتى يستكشف منه أنه من قبيل الثاني. كما ان الأحكام لم تقيد بصورة الوصول اتفاقا كي يستكشف أنها من قبيل الأول. بل جعلها مطلقة غير مقيدة ، وقد عرفت ان لازم ذلك منع سد الطريق العادي ، فلا بد من إيجاب الفحص لاستهجان العرف عدم إيجابه والحال هذه فيكشف عن أن نحو الغرض ما ذكرناه.

نعم بعد نصب الطرق العادية وفحص المكلف ، وعدم عثوره على الحكم ، لا يعدّ جعل الحكم مستهجنا مع وجود الطريق العادي وقصور المكلف عن الوصول إليه لجهة خاصة.

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام المحقق الأصفهاني من الإشكال فراجع تعرف (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٠٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٨

وهذا الوجه هو الّذي ينبغي ان يعتمد عليه ، ويؤيده جعل الطرق الشرعية إلى الأحكام ، والحث والترغيب على طلب العلم وحفظ الأحكام وإرشاد الجهّال ، فانه يؤكد كون الغرض من الحكم بنحو يلزم إيصاله بالطرق الاعتيادية ، لا انه بنحو لا يلزم إلا إذا وصل من باب الصدفة والاتفاق.

ولعل نظر الشيخ رحمه‌الله في الركون إلى الإجماع ـ في آخر كلامه ـ إلى ذلك ، وان هذا الأمر من المسلمات العقلائية ، لا انه يحاول الاستناد إلى الإجماع تعبدا (١). فالتفت.

هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.

وأما مقدار الفحص اللازم ، فالمعتبر فيه بحسب ما تقدم من الأدلة هو الوصول إلى حد اليأس عن الظفر بالدليل ، وهو عقلائيا يحصل بالاطمئنان بعدم الدليل.

أما على دعوى عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص بعد ملاحظة كون بناء المولى على تبليغ أحكامه بالطرق الاعتيادية ، ان الطريق حينئذ إذا كان في معرض الوصول كان حجة ، فلأنه مع الاطمئنان بعدم الدليل يتحقق موضوع القاعدة ، وهو عدم الحجة والبيان.

وأما على دعوى العلم الإجمالي بالتكاليف قبل الفحص فيما بأيدينا من الكتب فلان الطرق يخرج عن أطرافه مع الاطمئنان بعدم الدليل في الكتب التي بأيدينا.

وأما بناء على دلالة الاخبار على وجوب التعلم ، فمع حصول الاطمئنان بعدم الدليل يحصل العلم العادي بعدمه ، فيتحقق التعلم بالفحص ، وسيأتي ان المنظور في اخبار التعلم تنجيز الطرق لا الواقع مباشرة.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠١ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٩

كما انه لو كان المنظور هو تنجيز الواقع ، فوجوب التعلم انما يثبت مع التمكن منه ، ومع اليأس عن الدليل يحصل الاطمئنان بعدم التمكن منه فلا يجب.

وأما بناء على دعوى الإجماع ، فهو لم يقم على أكثر من ذلك.

وأما على المختار من الوجه الّذي ذكرناه أخيرا ، فلأنه مع الاطمئنان بعدم الطريق واليأس عنه لا مخصص لأدلة البراءة ، إذ غاية ما يدل عليه هو وجوب الفحص عن الطرق الاعتيادية للحكم. فتدبر.

ثم ان هاهنا شبهة أشير إليها في الرسائل ، وهو : انه بناء على دعوى لزوم الفحص لأجل العلم الإجمالي بالتكاليف لا يكون اليأس عن الدليل على الحكم مؤثرا في إجراء البراءة ، وذلك لأن احتمال التكليف لا يزول بالفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، فيكون منجزا بالعلم الإجمالي لكونه من أطرافه ، فهو نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وفحص عن النجس فلم يعثر عليه ولم يستطع تشخيصه وتعيينه ، فإنه لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي ولزوم الاجتناب عن الإناءين.

وتندفع هذه الشبهة : بان المعلوم بالإجمال فيما نحن فيه بنحو يكون الفحص وعدم العثور على الدليل موجبا لخروج المحتمل عن أطرافه ، فان العلم الإجمالي لم يتعلق بثبوت تكاليف وأحكام بنحو الإجمال ، بل تعلق بثبوت تكاليف فيما بأيدينا من الكتب ـ كما أشرنا إليه في انحلال العلم الكبير ـ ، أو تعلق بثبوت تكاليف لو تفحص عنها لظفر بها. ومن الواضح انه مع الفحص واليأس عن الدليل يكون التكليف المحتمل خارجا عن أطراف العلم الإجمالي ، إذ يعلم إنه ليس من الأحكام الموجودة في الكتب التي بأيدينا ، كما انه ليس مما لو فحص عنه لظفر به. فلاحظ جيدا.

هذا تمام الكلام في لزوم الفحص ومقداره.

٣٥٠

ويقع الكلام بعد ذلك في ما يترتب على العمل بالبراءة قبل الفحص ، والبحث عنه في جهتين :

الجهة الأولى : في حكمه من حيث العقاب وعدمه.

والجهة الثانية : في حكمه من حيث صحة العمل وفساده.

أما الجهة الأولى : فترتب العقاب على العمل بالبراءة قبل الفحص في الجملة ، كما إذا انكشف انه مخالف للواقع ، مما لا إشكال فيه على جميع وجوه لزوم الفحص لتنجز التكليف وعدم قيام المؤمّن عقلا ولا شرعا.

إنما الكلام في موضوع العقاب ، فهل هو مخالفة الواقع ، أو انه ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة ، أو انه ترك التعلم مطلقا ولو لم يؤد إلى المخالفة؟.

وتحقيق ذلك : انه بناء على وجوب الفحص بملاك عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص وثبوت قاعدة الاشتغال بملاك دفع الضرر المحتمل ، يكون العقاب على مخالفة الواقع ، لأن قاعدة الاشتغال لا تنجز غير الواقع المحتمل كما لا يخفى.

كما انه بناء على وجوب الفحص بملاك العلم الإجمالي يكون العقاب على مخالفة الواقع أيضا ، لأن العلم ينجز الواقع المعلوم. وهكذا الحال بناء على المختار ، لأنه يرجع إلى تقييد الأدلة الشرعية على البراءة بصورة الفحص ، فلا يحكم الشارع بالمعذرية قبل الفحص ، فالمنظور فيه هو الواقع نفسه.

وبالجملة : بناء على هذه الوجوه لا موهم لثبوت العقاب على ترك الفحص والتعلم ، لعدم كونه واجبا شرعيا.

وإنما الموهم لثبوت العقاب على ترك التعلم ـ في صورة عدم المخالفة ـ أحد وجهين :

الأول : التجري ، فان الإقدام على ما يحتمل معه مخالفة المولى مع عدم

٣٥١

المؤمن شرعا ولا عقلا تجر على المولى. وقد تقدم الكلام في التجري بشئونه في مبحث القطع. فراجع.

الثاني : ما دل من الاخبار على وجوب التعلم ، فانه قد يدعى ظهورها في الوجوب النفسيّ ، فيترتب العقاب على مخالفته مع قطع النّظر عن الواقع.

ولكن هذا الوجه قابل للمناقشة ، ببيان : ان محتملات مفاد اخبار وجوب التعلم متعددة ، أحدها : ان يكون الوجوب غيريا مقدميا. والثاني : ان يكون الوجوب إرشاديا. والثالث : ان يكون الوجوب طريقيا. والرابع : ان يكون الوجوب نفسيا استقلاليا. والخامس : أن يكون الوجوب نفسيا تهيئيا.

والّذي نستظهره منها هو الاحتمال الأول ، فان ظاهر الخبر هو ثبوت العقاب على مخالفة الواقع وكون سببه هو الجهل ، وان ترك العمل كان ناشئا عن الجهل ، فالتنديم وان كان موضوعه ترك التعلم ، لكنه بلحاظ ان التعلم مقدمة للواقع لا لموضوعيّة نفسه ، فهو نظير ما لو أمر المولى عبده بشراء اللحم ، فلم يشتر العبد اللحم واعتذر بأنه لم يدخل السوق ، فان المولى يقول له مستنكرا : لما ذا لم تدخل السوق لتشتري اللحم ، فان المنظور الأصلي هو الواجب النفسيّ.

وبالجملة : ظاهر الرواية خصوصا بملاحظة قوله : « هلاّ تعلمت حتى تعمل » فرض التعلم مقدمة للعمل ، فلا ظهور في الاستنكار على تركه في كونه واجبا نفسيا ، بل يكون ظاهرا في كونه بلحاظ مقدميته ، وهو كثيرا ما يقع كما عرفت في المثال العرفي.

يبقى سؤال وهو : انه كيف يكون التعلم مقدمة وفي أي حال؟. والجواب عنه : انّ له موردين :

الأول : مورد الجهل بمتعلقات الأحكام المستحدثة شرعا ، كالصلاة والحج والوضوء والغسل ، فان ترك التعلم فيها يؤدي إلى عدم أدائها بالنحو المطلوب.

الثاني : مورد العلم الإجمالي بثبوت أحكام في الشريعة بنحو الإجمال من

٣٥٢

دون تمييز متعلقاتها ، كما أشرنا إليه سابقا. فان ترك التعلم قد يؤدي إلى الوقوع في خلاف الواقع لأجل الغفلة عنه بالمرة.

ولو تنزّلنا عن البناء على هذا الاحتمال ، فالذي نلتزم به من الاحتمالات الأخرى هو الثاني ـ أعني : كون مفادها الوجوب الإرشادي ـ ، لما عرفت من أن الإخبار بالعقاب لا ظهور له في الإنشاء إذا كان مسبوقا بقيام المنجز على العمل ، بل يبقى على ظاهره من الإخبار ويكون إرشادا إلى وجود المنجز ، وقد عرفت قيام الدليل على التنجيز قبل الفحص في الشبهة ، ولو لم يكن الدليل تاما في مطلق موارد الشبهة ، فقد عرفت تماميته في بعض افرادها ، فراجع ما تقدم تعرف.

ولو تنزلنا عن هذا الاحتمال أيضا والتزمنا ان. الاخبار تتكفل جعل حكم مولوي لا إرشادي ، فهو يدور بين كونه طريقيا بداعي تنجيز الواقع ، وبين كونه نفسيا. والأول هو المتعين.

ولكن الّذي نلتزم به أنه ليس لتنجيز الواقع المحتمل بل لتنجيز الطريق المحتمل. وذلك لأنه وان لم نعتبر ان يكون الوجوب الطريقي المنشأ بداعي التنجيز ، ان يكون بمضمونه مطابقا للحكم المنجز على تقدير المصادفة كوجوب الاحتياط ، أو كوجوب تصديق العادل والعمل بقوله الّذي يكون منجزا للواقع ، الا انا نعتبر ان يكون له نحو ارتباط بالحكم المنجز بحيث يتناسب مع تنجيزه وكونه في عهدته ، كي يدل الحكم التنجيزي على تنجيز الحكم الّذي يراد تنجيزه.

ومن الواضح ان وجوب التعلم لا ربط له بالواقع المحتمل ، إذ متعلق الوجوب فيه أمر غير متعلق الوجوب الواقعي على تقدير ثبوته ، فليس هو كوجوب الاحتياط. كما ان التعليم ليس من آثار تنجز الواقع ، كي يكون إيجابه مقتضيا لتنجيز الواقع بالملازمة ، ويصح إيجابه بهذا الداعي لأجل وجود هذا الربط ، إذ لو فرض تنجز الواقع المحتمل فلا يكون باعثا عادة للتعلم ، بل يكون باعثا

٣٥٣

نحو الاحتياط. إذن فهو لا يصلح ان يكون تنجيزا للواقع ، وإنما هو منجز للطريق. ببيان : ان الطريق الواقعي للحكم الشرعي إذا فرض انه ليس منجزا بوجوده الواقعي وإلا كان وجوب التعلم إرشاديا ، والمفروض التنزل عنه. وإنما يكون منجزا بوجوده الواصل ، فمع احتمال وجود الطريق في الواقع ـ لو فرض ثبوت تنجزه بمعنى انه فرض ان الطريق المحتمل منجز ـ لا إشكال في انه يكون باعثا نحو الفحص والتعلم تحصيلا للمنجز أو دفعا له. إذن فالتعلم من لوازم تنجيز الطريق المحتمل عادة ، فيصح إنشاء وجوبه بداعي تنجيز الطريق الواقعي المحتمل لكفاية هذا المقدار من الربط في تصحيح إيجاب التعلم بداعي التنجيز ، وان لم يكن التعلم عين الواجب الواقعي المنجز على تقدير ثبوته ، فيكون مقتضى وجوب التعلم تنجيز المنجز للواقع.

يبقى سؤال ، وهو : ان هذا البيان لا يعدو كونه تصويرا لكون وجوب التعلم تنجيزيا طريقيا في قبال من أنكر صحة ذلك ـ كالمحقق العراقي (١) ـ ، بدعوى : ضرورة كون الواجب الطريقي المنجز عين الواجب المنجز على تقدير الموافقة. فان هذه الدعوى عرفت انّها مردودة بالتصوير المزبور ، لكفاية وجود نحو ارتباط بين الواجب الطريقي وذي الطريق ، بحيث يناسب الوجوب الطريقي كون ذي الطريق في العهدة ولو بنحو الملازمة.

ولكن ما الوجه في كون الوجوب طريقيا لا نفسيا؟.

والجواب عن هذا السؤال : بان استفادة كون الوجوب طريقيا لا نفسيا إنما هو باعتبار المناسبة العرفية التي يجدها العرف بملاحظة الحكم والموضوع ، فانه يرى ان الملحوظ في وجوب التعلم هو الوصول إلى الواقع بطريقه بعد ان عرفت المناسبة بينهما ، فالإيجاب هنا نظير إيجاب تصديق العادل والعمل بقوله ،

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٤٧٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٥٤

فانه وان أمكن كونه إيجابا نفسيا مستقلا ، لكن العرف لا يستظهر ذلك ، بل يستظهر انه إيجاب طريقي يكون الغرض منه الوصول إلى الواقع والتحفظ عليه.

والمتحصل : ان اخبار وجوب التعلم لا تقتضي ترتب العقاب على ترك التعلم نفسه ، بل غاية ما يقتضيه هو ترتب العقاب على مخالفة الواقع. فالذي ينتج أن جميع أدلة وجوب الفحص لا تقتضي ترتب العقاب إلا على ترك الواقع.

وهذا السلوك الّذي التزمناه في تحقيق هذه الجهة من ملاحظة أدلة وجوب الفحص وملاحظة مقتضاها ، هو الّذي ينبغي أن يلتزم. لا ما نهجه المحقق الأصفهاني ( رحمه‌الله في تحقيق هذه الجهة والتزامه ترتب العقاب على الواقع ، وردّد وجهه بين وجوه ثلاثة نفي اثنين منها وعيّن الثالث فإنّه فرض كون الاحتمال منجزا ، وردّد ذلك بين محتملات ثلاثة ثم نفي الأولين وعيّن الثالث بتقريب عقلي.

ومن الواضح انه لا ملزم لأخذ الاحتمال هو المنجز ، وأي وجه لذلك حتى يدور الأمر بين هذه المحتملات؟. بل قد فرض قدس‌سره أولا كون المنجز هو الطريق في معرض الوصول ثم انتقل إلى هذا البحث فلاحظ كلامه تعرف حقيقة الحال (١).

ثم ان الشيخ رحمه‌الله تعرض في هذه الجهة إلى اختيار صاحب المدارك وأستاذه الأردبيلي قدس‌سرهما من كون العقاب في حال الغفلة عن الواقع على ترك التعلم لا الواقع ، وحاول نفيه وتوجيه ترتب العقاب على الواقع ، ولكن من حين الغفلة ، ولكنه ذكر انه خلاف ظاهر المشهور من التزامهم بثبوت التكليف في حال الغفلة وتعرض إلى بعض فروع الصلاة في المغصوب

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٠٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٥

جهلا بالحكم والموضوع أو نسيانا ، أو اضطرارا عن اختيار (١).

ولا يخفى ان التعرض لهذه الفروع له محل آخر مرّ سابقا ، وهو مبحث اجتماع الأمر والنهي. فليراجع.

كما ان كون ظرف العقاب حين الغفلة أو حين العمل مرّ تحقيقه في مبحث مقدمة الواجب في ترتب الثواب على الواجب الغيري.

وأما صاحب الكفاية ، فقد يبدو من كلامه في هذه الجهة لأول وهلة انه خلط بين بحثين وأقحم أحدهما في الآخر (٢) ، بيان ذلك : ان لدينا بحثا هاهنا ، وهو أن المكلف إذا ترك التعلم والفحص وعمل بالبراءة ، فهل يستحق العقاب على ترك التعلم أو على ترك الواقع لو صادف عمله بالبراءة مخالفة الواقع؟. وبعبارة أخرى : ان الواقع المحتمل هل يكون منجزا عند ترك التعلم أو لا؟. وعلى تقدير تنجزه فهل يثبت العقاب على تركه أو ترك التعلم؟. من دون ان يفرض في هذا المبحث كون التعلم من مقدمات امتثال الواقع ، ولم ينظر إلى ذلك أصلا.

كما أنه قد مرّ في مبحث مقدمة الواجب بحث آخر ، وهو أن التكليف إذا كان منجزا ، وفرض ان له مقدمات مفوتة بحيث يلزم من تركها ترك الواجب في ظرفه وعدم التمكن منه ، نظير الغسل قبل الفجر لأجل الصوم ، فهل يلزم الإتيان بمقدماته المفوتة أو لا؟. وعلى تقدير اللزوم فما هو الوجه فيه؟.

ومن الواضح انفصال المبحثين موضوعا ومحمولا وملاكا ولا ربط لأحدهما بالآخر.

والّذي يظهر من صاحب الكفاية هاهنا خلطه بين المبحثين ، لاستدلاله

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٥٦

على ثبوت العقاب هاهنا عند ترك التعلم بما يرجع إلى الاستدلال على لزوم المقدمة المفوتة من : ان تركها يؤدي إلى ترك الواجب وامتناعه بالاختيار لا ينافى الاختيار ، ثم استدراكه بقوله : « نعم يشكل في الواجب المشروط والموقت ... » ، وهو إشكال راجع إلى لزوم المقدمة المفوّتة ، وانه لا يتم في الواجبات المشروطة والموقتة بالبيان الّذي أشار إليه ، ولا يرتبط بما نحن فيه من المبحث.

نعم ، في بعض الحالات قد يكون التعلم من المقدمات المفوتة بحيث يكون تركه موجبا لترك الواجب ، لكن البحث عنه فيما نحن فيه ليس من جهة مقدميته ، بل من جهة منجزيته للواقع كما عرفت ، ولا مضايقة في البحث عنه من جهة مقدميته أيضا ، لكن لا بنحو يخلط بين الجهتين وتدرج إحداهما في الأخرى.

ولم أجد من تنبه إلى هذا الخلط في ظاهر كلامه قدس‌سره.

هذا ، ولكن يمكن أن يصحح كلامه بربط إحدى الجهتين بالأخرى ، ببيان : انه إذا التزم بان العقاب عند ترك التعلم على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم نفسه ، فقد يتوجه سؤال ، وهو ان التعلم قد يكون في بعض الأحيان من المقدمات التي يفوت الواجب بفواتها ، وذلك في موردين :

أحدهما : ما إذا كان الوقت مضيقا ولم يكن يعرف متعلق الحكم بخصوصياته ، فان ترك التعلم خارج الوقت يستلزم ترك الواجب في وقته لجهله به وضيق الوقت عن التعلم في ظرفه.

والآخر : ما إذا كان وقت الواجب موسعا ، لكن كان عدم تعلم الواجب يستلزم الغفلة عنه في وقته بالمرة ، فلا يتمكن من الإتيان به لأجل غفلته عنه.

وإذا فرض ان التعلم كان من المقدمات المفوتة ، فيشكل وجوبه قبل الوقت في الواجبات الموقتة أو قبل الشرط في الواجبات المشروطة ، كسائر المقدمات المفوتة التي استشكل في وجوبها في مثل ذلك ، وقد تصدي إلى حلّ هذا الإشكال بوجوه ، كالالتزام بالواجب المعلق أو الواجب المشروط بالشرط

٣٥٧

المتأخر ، فتكون المقدمات المفوّتة واجبة فعلا قبل الوقت لفعلية وجوب ذيها. وكالالتزام بلزوم حفظ الغرض الملزم في ظرفه ممن لا يرى إمكان الواجب المعلق والمشروط كالمحقق النائيني (١).

ومنهم من لم يرتض جميع هذه الوجوه والتزم بوجوب المقدمة المفوتة وجوبا نفسيا تهيئيا ، بمعنى كون الغرض التهيؤ لامتثال الواجب الآخر.

ومن الواضح انه بناء على هذا الالتزام يشكل الأمر في التعلم فيما نحن فيه ، فانه إذا التزم ان التعلم إذا كان مقدمة مفوّتة كان وجوبه نفسيا فيعاقب المكلف على تركه ، لا يمكن الالتزام بوجوبه الطريقي حينئذ في سائر موارده مما لا يكون فيه مقدمة أصلا ، أو كان ولكن لم يكن من المقدمات المفوّتة. وذلك : لأنه من الواضح ان اخبار وجوب التعلم تشمل مورد ما إذا كان التعلم مقدمة مفوّتة.

ومن الواضح انه لا يمكن ان تتكفل غير وجوبه النفسيّ لامتناع وجوبه الطريقي في ذلك الحال ، لعدم قابلية الواقع للتنجز بعد ان كان مشروطا بشرط لم يحصل بعد. فإذا كان مفاد الاخبار في هذا المورد هو خصوص الوجوب النفسيّ ، فهو ثابت في جميع موارده لامتناع التفكيك بين الموارد في إنشاء واحد.

إذن ، فالالتزام بثبوت العقاب على الواقع مشكل على هذا النبأ في المقدمات المفوّتة الملازم لكون وجوب التعلم وجوبا نفسيا بقول مطلق وفي جميع موارده.

وبذلك يتضح الربط جيدا بين المسألتين ، ويكون نظره في قوله : « نعم يشكل ... » أنه يشكل الأمر بملاحظة بعض الوجوه في حل مشكلة المقدمات المفوتة ، وهو الالتزام بالوجوب النفسيّ التهيئي بضميمة شمول اخبار التعلم لمورد ما إذا كان من المقدمات المفوّتة ، ووحدة الوجوب المنشأ فيها.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٨١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٥٨

ولقد كان من الجدير ببعض مدققي المحشين التعرض إلى إيضاح نظر الكفاية وكلامه. وكيف كان فقد عرفت مراده. وقد مرّ منا في محله تحقيق الحال في المقدمة المفوّتة والوجه في لزومها بما لا يرجع إلى الوجوب النفسيّ التهيئي كي يقع الإشكال فيما نحن فيه بما عرفت. فراجع.

نعم هاهنا أمر يحسن التنبيه عليه ـ وقد مرّ منا في محله ذكره ـ وهو : انه إذا كان ترك التعلم موجبا لفوات الواجب من جهة الغفلة عنه لا من جهة ضيق الوقت ، فيشكل الالتزام بوجوبه لأجل مقدميته ، وذلك لأن التعلم في مثل ذلك يكون من مقدمات التحفظ وعدم الغفلة ، فيكون مقدمة للمقدمة.

وقد نبّه ـ في حديث الرفع ـ على ان مرجع رفع النسيان إلى رفع إيجاب التحفظ على المكلف ، فإذا كان التحفظ ليس بواجب بحكم الشارع لم تكن مقدمته وهي التعلم واجبة. فالالتزام بوجوب التعلم لأجل التحفظ من الغفلة الموجبة لفوات الواجب بملاك الوجوب المقدمي غير سديد ، فالالتزام بالواجب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر لا ينفع في إثبات وجوب التعلم في مثل ذلك. فانتبه.

ثم إنك قد عرفت ان أدلة وجوب الفحص انما تنهض على ترتب العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك الفحص ، فيقع الكلام في ان العقاب هل يترتب على مخالفة الواقع مطلقا ، أو في خصوص ما كان عليه طريق قائم واقعا؟. فلو فرض انه خالف الواقع ولكن لم يكن عليه طريق في الواقع ، بحيث لو كان يتفحص لا يصل إلى الواقع فلا عقاب.

الحق هو الثاني خلافا للشيخ رحمه‌الله حيث انه اختار الأول (١).

والوجه فيما ذكرناه : أن أدلة وجوب الفحص لا تقتضي أكثر من تنجيز

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٩

الواقع إذا كان في معرض الوصول بالعلم أو بالطريق.

أما إذا لم يكن في معرض الوصول ، فلا يكون منجزا بأدلة وجوب الفحص ، فيكون العقاب على مخالفته عقابا على تكليف غير منجز وهو قبيح.

أما إذا كان الدليل على وجوب الفحص هو العلم الإجمالي بثبوت الأحكام الشرعية ، فلأنك عرفت ان متعلق العلم الإجمالي ـ المدعى ـ هو التكاليف التي لو فحص عنها لعثر عليها ، أو التكاليف في ما بأيدينا من الكتب. والمفروض ان الواقع الّذي خالفه ليس في الكتب ، وليس بنحو لو فحص عنه لعثر عليه ، فهو ليس من أطراف العلم الإجمالي فلا يكون منجزا به. نعم هو قبل الفحص يحتمل ان يكون التكليف المحتمل من أطراف العلم ، فيكون منجزا عليه ، لكنه بعد انكشاف الحال يعلم انه ليس من أطراف العلم وان الحكم الثابت لم يقم عليه منجز ، نظير ما لو علم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ، فاشتبه إناء زيد بإناء بكر ، فان إناء بكر بما هو مشتبه وان صار فعلا من أطراف العلم بالنجاسة ، لكنه واقعا ليس من أطراف تلك النجاسة المعلومة ، فلو ارتكب إناء بكر فظهر انه نجس بنجاسة أخرى لم يكن منجزا عليه ، لأن العلم انما استلزم تنجيز ما تعلق به لا مطلق الأحكام الواقعية. فالتفت.

وأما إذا كان الدليل هو أخبار وجوب التعلم ، فقد عرفت انها تتكفل تنجيز الطريق المحتمل ، والمفروض انه لا طريق واقعا ، فلا تشمل اخبار وجوب التعلم هذا المورد ، فلا منجز للواقع.

وأما إذا كان الدليل ما ذهبنا إليه من التنافي بين عدم وجوب الفحص وجعل الحكم ، فتتقيد أدلة البراءة بالفحص عند احتمال الطريق ، فهو غاية ما يتكفل تقيد أدلة البراءة ، فيرجع إلى سلب جعل الحكم الظاهري قبل الفحص ، وهو لا ينافي ثبوت العذر العقلي بواسطة البراءة العقلية ، كما يأتي بيانها. فعلى هذا البناء وان لم يكن منجزا ، لكن لا معذّر شرعي أيضا لتقيد أدلة البراءة بوجوب

٣٦٠