منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

هو ما يترتب على الشيء بحيث يكون بوجوده الخارجي معلولا للشيء ، وبوجوده التصوري علة وسابقا على الشيء.

ومن الواضح ان الأمر ليس مما يترتب على العمل ، بل هو سابق بوجوده على العمل ، ويكون سببا للتحرك نحو متعلقه. فالذي يراد من ذلك ليس هذا المعنى ، بل المراد دخل قصد الإطاعة في العبادية ، بمعنى انه يعتبر ان يؤتى بالعمل بداعي إطاعة الأمر وموافقته ، فانها مما تترتب على العمل. ولا يخفى عليك ان الطاعة عبارة عن موافقة إرادة المكلف لإرادة المولى والتحرك بتحريكه ، كما يقال هذا طوع إرادته ، بمعنى ارتباط إرادته بإرادته وطواعيته له.

وقصد الطاعة بهذا المعنى مما يتوقف على العلم بالأمر ، فانه في فرض العلم يمكن صدور العمل بداعي الموافقة والمطاوعة لإرادة المولى ، أما مع عدم العلم بالأمر ومجرد الاحتمال ، فلا يمكن ان يصدر العمل بداعي الإطاعة ، لأن الأمر غير معلوم فكيف يقصد تحقق إطاعته؟ ، إذ هو لا يعلم بتحقق موضوعها.

وقصد احتمال الأمر غير معقول كقصد الأمر ، لأنه سابق في الوجود على نفس العمل. نعم هو يقصد الموافقة احتمالا ، نظير سائر موارد الدواعي العقلائية غير المقطوع حصولها كشرب الدواء للاستشفاء ، وفتح الدكان للربح. ومرجع القصد في مثل ذلك إلى قصد الإتيان بما يكون معرضا لحصول الغاية.

وبالجملة : المقصود في مورد احتمال الأمر ليس هو الطاعة ، بل التعرض للطاعة والتهيؤ لها بالعمل. فإذا فرض اعتبار الطاعة لم يصح الإتيان مع الاحتمال عند التمكن من العلم وتحصيل الشرط. نعم مع عدم التمكن من العلم ، يكتفي بقصد الموافقة احتمالا لأجل قيام الإجماع والتسالم ـ بل النص (١) ـ على تحقق العبادة بالقصد الاحتمالي ، وان لم ينطبق عليه عنوان الطاعة.

__________________

(١) كإخبار من بلغ وسائل الشيعة ١ ـ ٥٩. باب : ١٨.

٣٢١

هذا غاية ما يمكن ان يقرّب به مختار المحقق النائيني ، وبه يتضح الفرق بين اعتبار الامتثال التفصيليّ واعتبار قصد الوجه.

فان اعتبار قصد الوجه ـ على تقديره ـ ليس لأجل تقوم مفهوم الطاعة به ، وانما هو خصوصية زائدة تعتبر في المأمور به ، وقد ثبت جزما عدم اعتبارها ـ كما تقدم ـ.

أما الامتثال التفصيليّ ، فاعتباره من جهة تقوّم مفهوم الإطاعة به ، والمفروض اعتبار الإطاعة في العبادة بلا كلام.

كما انه ليس من جهة دخله في حسن الطاعة ، كي يرد عليه ما أورده على قصد الوجه من عدم دخل العقل في ذلك ، بل من جهة دخله في أصل تحققها ، وهو أمر عقلي.

كما ظهر الوجه في اختيار إجراء الاشتغال لو وصلت النوبة إلى مرحلة الشك. وذلك إما من جهة ان الشك يرجع إلى تحقق الإطاعة المعتبرة في العبادة بغير الامتثال التفصيليّ ، فيكون من الشك في المحصل ، وهو مجرى الاشتغال.

واما من جهة ما أفاده قدس‌سره من ان الشك يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير لعدم الجامع بين الامتثال التفصيليّ وغيره ، إذ عرفت بالبيان السابق ان الامتثال الاحتمالي ليس من مصاديق الإطاعة ، فاعتباره لو فرض يكون في عرض اعتبار الامتثال التفصيليّ ، فيدور الأمر عند الشك بين تعيين الامتثال التفصيليّ وعند التخيير بينه وبين غيره. والأصل في مثل ذلك يقتضي التعيين.

وبذلك يختلف عن قصد الوجه ، إذ الشك فيه يرجع إلى الشك في اعتبار خصوصية زائدة في المأمور به وهو مجرى البراءة ـ على مختاره ـ.

وأما تعبيره قدس‌سره : بان الامتثال الاحتمالي مرتبة من مراتب الإطاعة ، فلا يريد به انه إطاعة حقيقة ، بل مسامحة ، نظير قول القائل : « النصف الأكبر للشيء » مع ان أحد النصفين لا يمكن ان يكون أكبر من النصف الآخر ،

٣٢٢

فهو يريد انه يكتفي به في مقام العبادية عند تعذر الامتثال التفصيليّ.

وعلى هذا فلا يصلح قوله المزبور سندا للإشكال عليه : بان المورد ليس من موارد الشك في التعيين والتخيير ، لوجود الجامع بين الامتثالين كما صرح به قدس‌سره ، نظير سائر الطبائع التي تصدق على أفرادها بالتشكيك. فالتفت ولا تغفل.

هذا غاية توضيح ما اختاره المحقق النائيني رحمه‌الله بنحو يدفع عنه كثير من الإيرادات الناشئة من عدم تشخيص مراده.

وقد يورد عليه بوجوه :

الأول : ان أساس ما أفاده هو اعتبار قصد الإطاعة في العبادة ، وهو مما لا دليل عليه ولا ملزم به ، بل الأمر المعتبر في العبادة هو الإتيان بالعمل المأمور به بقصد القربة ، وهو يتحقق بالامتثال الاحتمالي لأنه انقياد فيتحقق به التقرب.

وفيه : ان قصد التقرب أو القربة لا يصلح ان يكون مأخوذا في العبادة ، لأن التقرب لا يمكن ان يكون داعيا إلى نفس العمل ، لأنه لا يترتب على ذات العمل ، لأن ذات العمل لا يكون مقربا كي يؤتى به بداعي القربة ، بل المقرب هو العمل المأتي به بداعي الموافقة ونحوها من الدواعي الموجبة للقرب. فقصد القربة يكون داعيا للداعي لا انه داع لنفس العمل.

نعم لو أريد من قصد القربة الداعي الموجب للقربة ، فيلتزم بان المعتبر في العبادة الإتيان بها بداع مقرب ، بمعنى انه يتحقق بسببه التقرب ، لا أن الداعي نفس التقرب.

لو التزم بذلك لم يرد عليه ما تقدم. لكن هذا مما لا يلتزم به المخالفون للمحقق النائيني رحمه‌الله ، لأن مقتضاه ان المرجع عند الشك في تحقق القربة بشيء هو الاشتغال ، لأن الشك في المحصل ، كما لو شك في ان الامتثال الاحتمالي موجب للقربة أو لا؟. مع ان بناءهم على إجراء البراءة في مثل ذلك مما يكشف

٣٢٣

عن عدم أخذهم الداعي المقرب في المأمور به.

الثاني : ان أساس ما أفاده قدس‌سره على اعتبار قصد الطاعة بنحو الداعي في العبادة ، وهو مما لا ملزم به ، لعدم تقوّم مفهوم الإطاعة بذلك ، بل الإطاعة تتحقق بالإتيان بالمأمور به عن قصد واختيار. وهو كما يتحقق مع العلم بالأمر كذلك يتحقق مع احتماله والإتيان بالعمل الموافق على تقدير ثبوت الأمر.

فانه مع احتمال تحقق المسبب عند حصول السبب إذا التفت الفاعل إلى هذه الجهة وصدر منه السبب يكون وقوع المسبب اختياريا ، نظير ما إذا رمى زيدا بسهم وهو يحتمل انه يصيبه ، فان اصابته تكون قصدية ـ على تقدير تحققها ـ ويترتب عليها آثار العمل الاختياري.

ففيما نحن فيه مع احتمال ترتب الموافقة على العمل لأجل احتمال الأمر ، إذا جاء المكلف بالعمل قاصدا للموافقة على تقدير الأمر ، فصادف تحقق الأمر ، كانت الموافقة اختيارية فيتحقق ما هو المعتبر في المأمور به ـ وهو الإطاعة ـ اختيارا.

وفيه : انه ليس المعتبر تحقق الإطاعة عن قصد واختيار فقط ، بل المعتبر تحقق الإطاعة بنحو تكون داعيا للعمل ليتحقق التقرب ، لوضوح بطلان العمل مع الموافقة الاختيارية بداع دنيوي كالرياء مثلا ، وهو ثابت بالضرورة. فيكشف عن اعتبار الإطاعة بنحو الداعي.

وقد عرفت عدم صلاحيتها للدعوة إلا في مورد العلم بالأمر.

الثالث : ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من ان الإتيان بالعمل بداعي الأمر المحتمل يوجب التقرب ، لأنه انقياد ، بل حسنه أكثر من حسن الانقياد للأمر المعلوم. بنظر العرف والعقلاء (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٠٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٤

وفيه :

أولا : ما سبق تحقيقه من ان الانقياد وان كان حسنا ، لكنه ليس من العناوين المنطبقة على الفعل بحيث توجب صيرورة الفعل حسنا ، بل حسنه وتحقق التقرب به من جهة كشفه عن الحسن الفاعلي ، فهو نظير التجري الّذي يلتزم بأنه لا يسرى قبحه إلى الفعل لأنه ليس من عناوينه ، بل هو قبيح من جهة القبح الفاعلي ، وهو كون الشخص بصدد الطغيان وهتك المولى. فما أفاده من حسن الانقياد ، بل أهميته من الإطاعة ، أمر مسلم لكن لم يثبت انه لأجل خصوصية في الفعل ، بل انما هو لخصوصية في الفاعل.

وثانيا : انه إذا فرض كون الإطاعة معتبرة في العبادة ، وعرفت ان الإتيان بالفعل بداعي الأمر المحتمل لا يمكن ان يؤتى به بقصد الإطاعة ، لم ينفع فرض الفعل بالانقياد حسنا ، إذ التوقف فيه ليس من جهة حسنه ، بل من جهة فقدانه لما يعتبر في المأمور به. وإجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل.

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله أيضا من ان القائل نفسه قد اعترف بحسن الانقياد والإطاعة الاحتمالية. غاية الأمر انه قيد ذلك بصورة عدم التمكن من الإطاعة التفصيلية. ومن الواضح ان الشيء إذا كان حسنا بذاته لا يمكن ان يزول حسنه إلا بعروض عنوان قبيح عليه. كالضرر في الصدق الّذي يكون في نفسه حسنا ومقتضيا للحسن.

ومن الواضح انه ليس التمكن من الامتثال التفصيليّ من العناوين الموجبة للقبح كي تستلزم زوال حسن الانقياد ، فيكون الانقياد حسنا في كلتا الصورتين. هذا ما أفاده قدس‌سره بتلخيص (١).

وفيه : انه مع الغض عما سنذكره في مناقشة المحقق النائيني رحمه‌الله ،

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٣٠٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٥

يمكن التقضي عن هذا الإشكال بدعوى دخالة عدم التمكن من الإطاعة التفصيلية في حسن الإطاعة الاحتمالية ، لا ان التمكن مانع ، بل يكون اقتضاؤها للحسن قاصرا في صورة التمكن بان نقول : انه في موارد استلزام الاحتياط للتكرار ، بما ان كل عمل لا يمكن ان يصدر بداعي الموافقة لعدم العلم بترتبها عليه ، فلا محالة يصدر عن داعيين أحدهما دنيوي والآخر إلهي ـ كما أوضحناه سابقا في مبحث القطع ، ونشير إليه عن قريب في مناقشة النائيني ـ فيحصل التشريك في الداعي. ومن الواضح ان التشريك لا يحسن مع التمكن من انحصار داعي العمل بداع إلهي كما في مورد العلم بالأمر.

نعم مع عدم التمكن تحسن الإطاعة الاحتمالية ولو كان لها شريك في مقام الداعوية. لأنها أولى من ترك الإطاعة بالمرة ، وقد قامت الضرورة الفقهية والإجماع على الاكتفاء بها. فتدبر جيدا.

الخامس : ما ذكره المحقق العراقي قدس‌سره ـ وتبعه عليه السيد الحكيم رحمه‌الله في المستمسك (١) ـ من ان الفعل في مورد الاحتمال يؤتى به بداعي امتثال الأمر المحتمل ، فالمقصود هو امتثال الأمر في كلتا صورتي العلم والاحتمال ، وليس الداعي هو احتمال الأمر ونحوه (٢).

وأنت خبير : بأنه عند احتمال الأمر يمتنع قصد الإطاعة لعدم العلم بتحققها ، كما بيناه في توضيح مراد النائيني رحمه‌الله ، وعرفت ان المأخوذ في المأمور به هو الإطاعة. فانتبه.

ونتيجة ما تقدم : أنّ ما وجّه على المحقق النائيني بعد بيان كلامه بما عرفت غير وارد عليه.

__________________

(١) الحكيم الفقيه السيد محسن. مستمسك العروة الوثقى ١ ـ ٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٤٦٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٢٦

والعمدة في الإيراد عليه أن يقال : ان المعتبر في العبادة أمران : أحدهما الإطاعة والآخر الإتيان بها بنحو عبادي من طريق قصد الإطاعة. وكلاهما متحقق في مورد الاحتمال ، وذلك بالإتيان بالعمل بداعي الموافقة على تقدير تعلق الأمر به.

وتوضيح ذلك : ان كلا من العملين المحتمل تعلق الأمر به في مورد العلم الإجمالي يترتب عليه عنوان الموافقة على تقدير ، لأن هذا المعنى ـ أعني : الموافقة على تقدير الأمر ـ ذو ثبوت حقيقي واقعي ، نظير الحكم التعليقي الثابت على تقدير المعلق عليه ، كالحرمة المعلقة على الغليان ، فانها حكم على تقدير ولها نحو ثبوت ، ولذا تكون مجرى الاستصحاب وغيره من الآثار.

ويمكن ان نعبر عن ذلك بالملازمة بين المعلق والمعلق عليه. فالفعل الّذي يحتمل تعلق الأمر به يترتب على إتيانه ـ والموافقة على تقدير الأمر ـ. وبتعبير آخر : الملازمة بين الموافقة والأمر. وهذا مما لا تحقق له قبل العمل ، إذ بدون العمل لا يترتب هذا المعنى ، فلا يحكم بتحقق الموافقة على تقدير الأمر.

وإذا فرض ترتب هذا العنوان عليه صح الإتيان به بداعي حصول هذا العنوان ، وترتبه عليه متيقن لا شك فيه. وانما المشكوك هو الموافقة الواقعية الخارجية التنجيزية ، وهي غير مقصودة بنحو الداعي ، بل الداعي هو الموافقة التقديرية ، والإتيان بالعمل بداعي الموافقة على تقدير الأمر موجب للتقرب والعبادية ، فإذا صادف الفعل الواقع وكان متعلقا للأمر واقعا ، تحققت الإطاعة والموافقة الواقعية. فيتحقق كلا الأمرين المعتبرين في العبادة ، فلا إخلال بقصد الإطاعة المعتبر في العبادة بهذا البيان.

وبهذا البيان يندفع ما تقدم منا في مباحث القطع في مقام المنع عن الامتثال الاحتمالي المقتضي للتكرار من : ان كلا من العملين بما انه لا يعلم بتعلق الأمر به ، فالجمع بينهما لا بد ان ينشأ من داعيين أحدهما موافقة الأمر والآخر داع

٣٢٧

دنيوي ، كالتخلص من التعب في تحصيل العلم. ونسبة كلا الداعيين إلى كل من الفعلين على حد سواء ، ولا يتعين الداعي الإلهي لما هو الموافق للأمر واقعا.فيكون كل من الفعلين صادرا عن داعيين فيتحقق التشريك في الداعي ، ويبطل العمل.

وجه الاندفاع : ان الملتزم به ليس هو صدور الفعل عن داعي الموافقة الواقعية كي يمتنع ان تكون داعيا إلا بنحو التشريك ، بل هو صدوره بداعي الموافقة على تقدير ، وهي كما عرفت مما تترتب على كل من العملين جزما ، فلا تشريك في الداعي.

كما اتضح أيضا اندفاع ما أوردناه سابقا على دعوى إمكان الإتيان بالعمل بداعي موافقة الأمر على تقدير ثبوته ، فعلى تقدير ثبوت الأمر يكون قد أتى بالعمل بداعي الموافقة ، لأن حصول المقدّر عليه يقتضي حصول المقدر. فقد أوردنا عليه : ان الإرادة التنجيزية يمتنع ان تصدر عن مجرد الموافقة على تقدير الأمر ، إذ من المحتمل ان لا يحصل التقدير ، والحال ان الإرادة حاصلة ، فلا بد ان تتحقق بلحاظ كلا تقديري الفعل ، والداعي يختلف باختلاف التقديرين ، فيصدر الفعل عن داعيين ، فيلزم التشريك في الداعي.

ووجه اندفاعه بما ذكرناه هنا : ان الداعي ليس هو الموافقة الواقعية التنجيزية كي يقال انها لا تحقق لها إلا على تقدير دون آخر ، بل الداعي هو الموافقة على تقدير بهذا العنوان ـ وبمفاد الحكم التعليقي ـ ، وهذه مما تترتب على العمل جزما بلا تردد. فتدبر والتفت.

هذا تمام الكلام في العمل بالاحتياط. وقد ظهر انه حسن عقلا وشرعا ، ولا يعتبر في حسنه شيء سوى عدم اختلال النظام.

٣٢٨

المقام الثاني : في العمل بالبراءة.

وقد قيل : انه يعتبر في إجرائها الفحص.

والكلام تارة في إجراء البراءة في الشبهة الموضوعية وأخرى في إجرائها في الشبهة الحكمية.

أما البراءة في الشبهة الموضوعية : فقد قيل بعدم اعتبار الفحص في إجرائها بل يجوز إجراؤها بدون فحص.

وتحقيق ذلك يستدعي الكلام في جهتين :

الأولى : في البراءة العقلية بملاك قبح العقاب بلا بيان.

الثانية : في البراءة الشرعية.

أما البراءة العقلية: فالكلام في اعتبار الفحص في جريانها يتفرع عن أصل الالتزام بجريانها في الشبهة الموضوعية ، إذ قد تقدم بيان شبهة عدم جريان قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعية ، وقد تقدم منا دفع تلك الشبهة تبعا للمحقق النائيني رحمه‌الله.

ولكن في النّفس منه شيء ، فلا بد من تحقيق ذلك قبل تحقيق اعتبار الفحص وعدمه.

فنقول : انه قد عرفت سابقا الإشكال في أصل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل إنكار القاعدة بقول مطلق.

وعلى تقدير الالتزام بتمامية هذه القاعدة يقع الإشكال في جريانها في موارد الشبهة الموضوعية ، ولوضوح الإشكال في ذلك لا بد من الإشارة إلى محتملات مفاد العمومات بلحاظ افراد الموضوع. بيان ذلك : ان العام الّذي يتكفل إثبات الحكم على الموضوع العام نظير : « إكرام كل عالم » ..

تارة : يلتزم بان حجيته في مدلوله منوطة بوجود الموضوع ، فكل فرد يوجد من افراد الموضوع يكون العام حجة في ثبوت الحكم له عند وجوده ، وعلى هذا

٣٢٩

الاحتمال تكون أصالة العموم منحلة إلى حجج متعددة تدريجية بعدد ما يوجد من افراد الموضوع تدريجا.

وإلى هذا الاحتمال يشير التعبير المألوف عند وجود أحد افراد الموضوع وتكوّنه ، بأنه صار الآن مشمولا للعام وان العام شمله فعلا.

وأخرى : يلتزم بأن حجيته في مدلوله فعلية لا تناط بوجود الموضوع ، بل قد يكون حجة ولا موضوع له أصلا ، وانما يكون وجود الموضوع منشئا لحصول الأثر العملي بانضمامه إلى العموم.

وهذا الاحتمال هو الصحيح ، ويساعد عليه الارتكاز والسيرة على الالتزام بتخصيص العام وحجيته في الباقي ونحو ذلك ، والالتزام بالاحتمال الأول يستلزم الالتزام بطريقة جديدة في أحكام العموم والخصوص وتأسيس أسلوب جديد في ذلك.

والالتزام بالاحتمال الثاني ..

تارة : بدعوى ان مفاد العموم ليس إلا الملازمة بين الحكم والموضوع ، فمفاده قضية شرطية ، وهي كما قيل لا يتوقف صدقها على صدق طرفيها ، فهو حجة في الملازمة ولو لم يكن موضوع. نعم إذا وجد الموضوع يتحقق الأثر العملي لثبوت الحكم بثبوته.

وأخرى : بدعوى ان مفاده الحكم على تقدير الموضوع ، وهو ..

تارة : يراد به إنشاء الحكم على تقدير فعلا ، بحيث يكون له وجود فعلي من حين الإنشاء ، لكن الموجود فعلا هو الحصة الخاصة من الوجوب ، وهي الوجوب على تقدير ، إذ الوجوب مفهوم عام يقبل التقييد وينشأ المفهوم المقيد خاصة ، فيكون للحكم وجود فعلي قبل وجود موضوعه ، نعم وجود موضوعه.يكون منشئا للآثار العملية من الداعوية أو وجوب الإطاعة. ولعل هذا يستفاد من كلمات المحقق العراقي الّذي يلتزم بان ظرف فعلية الحكم ظرف الإنشاء

٣٣٠

والجعل نفسه ، وانما وجود الموضوع ظرف فاعلية الحكم (١).

وأخرى : يراد به إنشاء الحكم الفعلي في ظرف وجود الموضوع ، فلا يكون الحكم فعليا ، إلا عند وجود الموضوع ، والعام يكون حجة فيه من الأول وقبل وجود الموضوع. فيلاحظ ثبوت الحكم عند حصول الموضوع وينشأ بواسطة العموم فيكون حجة في الحكم من حينه.

فظهر ان محتملات العام أربعة.

إذا عرفت ذلك. فاعلم : انه بناء على الاحتمال الأول يكون إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد الشبهة الموضوعية واضحا ، لأنه مع الشك في الموضوع يشك في قيام الحجة على الحكم في مورده ، لأن المفروض ان الحجية منوطة بوجود الموضوع ، ولا يكون العام حجة في الحكم إلا عند وجود الموضوع ، فمع الشك في تحقق الموضوع يشك في ثبوت الحجة على الحكم فيه ، والشك في الحجية مستلزم للقطع بعدمها ـ كما قيل ـ. إذن فلا حجة على الحكم في مورد الشك في الموضوع ، فيتحقق موضوع القاعدة وتثبت البراءة العقلية.

وهكذا الحال بناء على الاحتمال الثاني ـ وهو كون العام متكفلا لبيان الملازمة بين الحكم والموضوع لا أكثر ، من دون تعرض لثبوت الحكم ولا لثبوت الموضوع ـ ، وذلك لأن العام لا يكون حجة على الحكم عند وجود الموضوع ، بل هو حجة على الملازمة لا أكثر ، وبواسطة العلم بالملازمة يتحقق العلم بالحكم عند حصول الموضوع ، فالحجة على الحكم هو العلم به بواسطة العلم بالملازمة. ومع الشك في الموضوع لا علم بالحكم ، فلا حجة عليه ، فيكون المورد من موارد عدم البيان.

وأما على الاحتمالين الآخرين ، فيمتنع جريان القاعدة ، وذلك لأن

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٦٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٣١

المفروض ان العام حجة على الحكم الشرعي مع قطع النّظر عن وجود الموضوع ، ووجود الموضوع انما هو دخيل في ترتب الأثر العملي. فمع العلم بالموضوع يكون الحجة على الحكم هو نفس العموم من الأول.

وعليه ، فمع الشك في وجود الموضوع لا يشك في قيام الحجة على الحكم كي يكون مستلزما للقطع بعدمها فيتحقق موضوع البراءة العقلية ـ كما هو الحال على الاحتمالين الأولين ـ ، بل يشك في انطباق ما قامت عليه الحجة على المورد ، ومثل ذلك لا يكون موردا للبراءة العقلية ، بل هو مورد للاشتغال تحصيلا للعلم بالفراغ عما قامت عليه الحجة ، نظير مورد العلم الإجمالي ، فان كل طرف من أطرافه مما يشك في كونه مما قامت عليه الحجة وهو العلم. ولذا لا يكون مجرى للبراءة عقلا. فلاحظ وتدبر.

وإلى روح هذا الإشكال أشار المقرر الكاظمي رحمه‌الله ـ وإن كنا لا نجزم بأنه ملتفت إلى خصوصيته الدقيقة ـ ، فقد ذكر في تقريب الإشكال على البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية : بأنه ليس الشك في قيام الحجة كبرويا. بل الشك في صغرى ما قامت عليه الحجة الراجع إلى الشك في الانطباق.

ولكنه أجاب عنه بما لا يخلو عن خدش ، فانه ذكر في مقام الجواب : ان الحجية تتقوم بأمرين : العلم بالكبرى والعلم بالصغرى. وذلك لأن الحكم القابل للتنجيز هو الحكم الفعلي ، وهو متقوم بأمرين أصل الجعل ووجود الموضوع خارجا ، فبدون العلم بوجود الموضوع لا يعلم بالحكم الفعلي فلا حجة عليه. وقد تقدم منا بيان كلامه بنحو التفصيل.

وأنت خبير : بان ما أفاده لا يدفع به الإشكال ، إذ المستشكل لا يختلف معه في ان الحكم القابل للتنجيز هو الحكم الفعلي دون غيره ، وان الحكم الفعلي منوط بوجود الموضوع ـ كما هو الاحتمال الرابع ـ ، لكنه يرى ان الحجة على الحكم الفعلي في ظرفه هو نفس العموم بلا ضميمة شيء آخر ، فكان ينبغي في

٣٣٢

مقام الرد أن يرد بان الحجة ليس هو خصوص العموم ، بل بضميمة العلم بالموضوع ، فمع عدمه لا حجة على الحكم. لا أن يرد بان موضوع الحجية هو الحكم الفعلي ، وهو منوط بوجود الموضوع. فانه لا يدفع الإشكال بحال.

وجملة القول على هذين الاحتمالين في باب حجية العموم يكون منع جريان القاعدة متجها ، لما عرفت من ان العموم حجة في الحكم الفعلي مع قطع النّظر عن فعلية وجود الموضوع ، فيكون الشك في الموضوع شكا في انطباق ما قامت عليه الحجة لا في أصل قيام الحجة ، وهو مورد قاعدة الاشتغال ـ كما عرفت ـ ، نظير كل طرف من أطراف العلم الإجمالي.

وقد عرفت ان الاحتمال الأول من الاحتمالات الأربعة غير صحيح ، وان تعارف على الألسن من التعبير ما يتلاءم معه ، لأنه خلاف المرتكز. ويلحق به الاحتمال الثاني ، لأن جعل الملازمة غير معقول ، بل المجعول هو نفس الحكم الشرعي ، كما سيتضح في مبحث الأحكام الوضعيّة.

فيكون الأمر دائرا بين الاحتمالين الأخيرين ، وقد عرفت امتناع جريان البراءة العقلية بناء عليهما.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول : بمنع جريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية.

ومعه يرتفع موضوع البحث عن اعتبار الفحص في جريانها وعدمه.

نعم لا بأس بالبحث عنه تنزلا ، فيكون البحث عن لزوم الفحص فرض في فرض في فرض ، فانتبه.

وكيف كان ، فالوجه في عدم وجوب الفحص عن قيام الحجة على الموضوع ، هو ما سبق في مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية من : ان الشك في الحجية يستلزم القطع بعدمها لتقوم الحجية بالوصول ، فمع الشك في قيام الحجة على كون زيد عالما ـ مثلا ـ يقطع بعدم الحجة عليه ، فيتحقق موضوع البراءة

٣٣٣

عقلا وهو عدم البيان ، بلا توقف على الفحص.

لكن هذا الوجه لا يمكن ان يلتزم به من يرى ان الحجة إذا كانت في معرض الوصول ، كفى ذلك في حجيتها وصحة الاحتجاج بها ـ كما تقدم إيضاحه في مبحث تأسيس الأصل ـ. وعلى هذا الأساس بنى لزوم الفحص في موارد الشبهات الحكمية.

وذلك ، لأنه لا فرق حينئذ بين الشبهات الموضوعية والحكمية. فإذا كانت الحجة على الموضوع في معرض الوصول بحيث يظفر بها عند الفحص عنها كفى ذلك في حجيتها.

وعليه ، فمع احتمال قيام الحجة على الموضوع في مورد الشك والظفر بها لو تفحص عنها يحتمل ان يكون المورد من موارد قيام الحجة ، فلا يجز بعدم البيان قبل الفحص ، فلا يمكنه إجراء البراءة بدون الفحص ، لأن الشبهة مصداقية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهكذا الحال لو احتمل تحصيل العلم بالموضوع بالفحص ـ مع جزمه بعدم وجود حجة شرعية معتبرة أصلا ـ ، فان العلم وان كانت حجيته بحصوله ، وليس حجة إذا كان في معرض التحقق بدون أن يحصل ويتحقق ، فقبل العلم لا حجة جزما. لكن نقول : كما انه يكفي في الحجية كون الحجة في معرض الوصول ، كذلك يكفي في تنجيز الحكم عقلا وصحة المؤاخذة عليه كونه في معرض الوصول ، فلا يحكم العقل بقبح العقاب عند مخالفة الحكم إذا كان الحكم في معرض الوصول أو كانت الحجة عليه في معرض الوصول.

وعليه ، فمع احتمال تحصيل العلم بالموضوع والحكم ، لا يقين بتحقق موضوع القاعدة ، فلا يمكن تطبيقها لأن الشبهة مصداقية.

وبالجملة : فمع احتمال تحصيل العلم أو قيام الحجة لا يمكن إجراء البراءة العقلية ، بل لا بد من الفحص وإزالة هذا الاحتمال.

٣٣٤

نعم من يرى ان الحجية تتقوم بالوصول وانه لا أثر لمعرضية الوصول للحجة أو الحكم ، له ان يجري البراءة العقلية قبل الفحص.

ولا يخفى عليك ان تحقيق أحد الوجهين في ذلك لا يقوم على أساس البرهان ، بل على أساس الوجدان وما يراه العاقل ويدركه إذا راجع وجدانه. فلاحظ.

هذا كله في البراءة العقلية.

وأما البراءة الشرعية : فالذي يظهر من صاحب الكفاية انها جارية في الشبهة الموضوعية بلا تقييد بصورة الفحص ، بل تجري مع عدم الفحص لإطلاق أدلتها بلا مخصص ، بل فرض ذلك من المسلمات ، كما يظهر ذلك من قوله : « كما هو حالها في الشبهات الموضوعية » (١).

وأما الشيخ رحمه‌الله ، فقد أفاد : ان الشبهة ..

إن كانت تحريمية ، فلا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الفحص ، ويدل عليه إطلاق الاخبار ، كقوله عليه‌السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام » (٢) وغيره ، مع عدم وجود ما يصلح للتقييد.

وإن كانت وجوبية ، فمقتضى الأدلة عدم وجوب الفحص. لكن قد يتراءى ان بناء العقلاء على الفحص في بعض الموارد ، كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبائها.

كما ان بعض الفقهاء يظهر منه وجوب الفحص في موردين :

أحدهما : مورد الشك في تحقق الاستطاعة للحج ، فانه لا يجوز له إجراء البراءة قبل الفحص لعدم العلم بالوجوب ، بل يجب عليه المحاسبة.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) وسائل الشيعة ١٢ ـ ٦٠ حديث : ٤.

٣٣٥

الآخر : مورد العلم ببلوغ الخالص من الفضة المغشوشة النصاب والشك في مقداره ، فانه تجب التصفية للعلم بمقدار الفضة الخالصة أو الاحتياط بما يحصّل اليقين بالبراءة (١).

وقد استشكل الشيخ رحمه‌الله في وجوب الفحص في هذه الموارد ، وذكر :

ان الأمر أشكل في التفرقة بين الشك في بلوغ الخالص النصاب وبين العلم ببلوغه والشك في مقداره حيث حكم بعدم لزوم الفحص في الأول ولزومه في الثاني ، مع انهما من واد واحد ، لأن العلم بأصل النصاب لا ينفع بعد كون الموارد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، وثبوت الانحلال فيه لا ينكر ، ولذا لا يتوقف في إجراء البراءة قبل الفحص لو دار أمر الدين بين الأقل والأكثر.

ثم إنه قدس‌سره بعد ان ذكر ذلك ذكر تفصيلا في وجوب الفحص ، ومحصله : انه إذا كان العلم بالموضوع يتوقف غالبا على الفحص بحيث يكون إهمال الفحص وإجراء البراءة مستلزما للوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، وجب الفحص قبل العمل بالبراءة.

وذكر : ان من موارده مثال الاستطاعة ، فان العلم بالاستطاعة في أول أزمنة حصولها يتوقف غالبا على الحساب ، فيكون تركه وإجراء البراءة مستلزما لتأخير الحج عن أول أزمنة الاستطاعة بالنسبة إلى غالب الأشخاص ، وهو ينافى وجوب الفورية فيه (٢).

أقول : الاستشهاد بالمثال العرفي على وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية لا يرتبط بما نحن فيه ، لأن الكلام في البراءة الشرعية لا البراءة

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٦

العقلية ، فالمثال انما يصلح شاهدا على عدم جريان البراءة العقلية ، لا ما إذا صرح المولى نفسه بالبراءة عند الجهل ، فانه في مثل ذلك لم يعلم من حالهم لزوم الفحص على العبد بل يتمسك بإطلاق كلام المولى ويجري البراءة بلا فحص.

نعم لو أوكل المولى عبده إلى ما يراه عقله ، كان هذا المثال صالحا للاستشهاد على لزوم الفحص. فانتبه.

وأما ما أفاده من التفصيل فهو متين ، والوجه فيه هو : انه في الموارد التي يتوقف العلم بالموضوع غالبا على الفحص يكون جعل الحكم في مثل ذلك ظاهرا بالملازمة العرفية في لزوم التفحص عن أفراد الموضوع وعدم إيكال الأمر إلى حصول العلم به من باب الاتفاق ، فانه خلاف الظاهر عرفا في مثل هذا المورد ، بل يكون جعل الحكم العام مع عدم الإلزام بالفحص المستلزم للمخالفة الكثيرة أشبه بتخصيص الأكثر من حيث الاستهجان.

لكن تطبيقه على موارد الشك في الاستطاعة فيه منع ، لأن الأمر في باب الاستطاعة ليس كذلك ، إذ يغلب العلم بها بلا فحص ولا محاسبة ، لمعرفة غالب الكسبة ـ ذوي الشأن الكبير منهم والصغير ـ مقدار أرباحهم من السلعة ومقدار مصرفهم ، بحيث يعرف مقدار ما يحصّله في السنة بنحو التخمين ، فليس العلم بالاستطاعة مما يتوقف غالبا على الفحص.

وبالجملة : ما أفاده الشيخ رحمه‌الله مسلم كبرويا ممنوع صغرويا ، ولعله يشير إلى المناقشة الصغروية بقوله في آخر كلامه : « ولكن الشأن في صدق هذه الدعوى ».

وقد أضاف المحقق النائيني رحمه‌الله إلى هذا التفصيل تفصيلا آخر وهو : انه ..

تارة : تكون مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من التوجه والنّظر إلى تلك المقدمات.

٣٣٧

وأخرى لا تكون المقدمات حاصلة ، فتحصيل العلم يحتاج إلى تحصيلها والفحص عنها.

ففي الصورة الأولى يجب النّظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة وجوبية كانت أو تحريمية إلاّ بعد النّظر لعدم صدق الفحص على مجرد النّظر وانما يصدق على تمهيد مقدمات العلم وتحصيلها.

وعليه ، فإذا كان العلم بطلوع الفجر لا يتوقف على أزيد من رفع الرّأس والنّظر إلى الأفق فلا يجوز الأكل اعتمادا على استصحاب الليل كما انه لا يجوز شرب المائع المردد بين الخمر والخل إذا كان يتوقف العلم به على مجرد النّظر إلى الإناء.

نعم يستثنى من ذلك باب الحكم بالطهارة ، لظهور الأدلة في البناء على عدم الفحص بأي نحو كان بل ظاهر بعض الأدلة جواز ارتكاب ما يوجب التشكيك في التنجس ، كترطيب البدن حتى يحتمل إذا وجد على بدنه رطوبة ان تكون من الماء لا من البول. ونحو ذلك (١).

أقول : الّذي يبدو من هذا البيان الّذي نقلناه عن تقريرات الكاظمي هو التفرقة بين ما إذا كان الفحص لا مئونة فيه أصلا وبين ما فيه مئونة ومشقة ، فلو توقّف العلم بالفجر على مجرد النّظر إلى الأفق وجب الفحص ، أما لو توقّف على الصعود من السرداب العميق إلى السطح للنظر فلا يجب.

ولكن يستبعد جدا ان يكون مراده قدس‌سره ذلك فانه تفصيل بلا وجه ظاهر. بل القريب ان يكون نظره إلى التفصيل بين ما كان الموضوع بحسب وعائه المناسب له واضحا وجودا أو عدما ، بحيث يتضح لكلّ أحد إذا طلبه في وعائه المناسب له كالفجر في الأفق الصافي الّذي لا علة فيه ، وكرؤية الهلال

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٠٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٣٨

إذا كانت شائعة جدا ، وبين ما لم يكن الموضوع بهذه المثابة من الوضوح ، فالفحص واجب في الأول وان كانت فيه مشقة ومئونة ولا يجب في الثاني.

والوجه فيه : ان الموضوع إذا كان من النحو الأول ، يصدق عليه عرفا إنه معلوم وواضح ومعروف فيقال عن الفجر عرفا أنه معلوم.

والغاية المأخوذة في موضوع البراءة وان كانت هي العلم الظاهر بدوا في إرادة العلم الدقي الحقيقي ، فلا عبرة بالصدق العرفي.

إلا انه ، بملاحظة هذا الصدق العرفي يكون العلم المأخوذ غاية للأصول منصرفا إلى المصداق العرفي منه. فيثبت وجوب الفحص في مثل ذلك حينئذ.

هذا تمام الكلام في إجراء البراءة في الشبهة الموضوعية ولزوم الفحص فيها.

واما البراءة في الشبهة الحكمية : فقد اتفق الكل على لزوم الفحص قبل إجرائها وعدم جواز العمل بها قبل الفحص وإن كانت أدلتها بحسب الظاهر مطلقة من هذه الجهة.

وقد وقع الكلام في الدليل على لزوم الفحص وتقييد إطلاق أدلة البراءة الشرعية به.

وقد ذكر لذلك وجوه متعددة :

الأول : الإجماع القطعي على اعتبار الفحص في الشبهات الحكمية.

ونوقش الإجماع في الكفاية وغيرها بأنها غير صالح للحجية بعد وجود الوجوه الأخرى التي أقيمت على اعتبار الفحص. لاحتمال استناد المجمعين إليها فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام (١).

الثاني : حكم العقل بلزوم الفحص فيما كان بناء المولى على تبليغ أحكامه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٩

بالطرق المتعارفة العادية. بحيث لا يصل المكلف عادة إلى الحكم إلا بعد الفحص. ويكون ترك الفحص موجبا لاستحقاق العقاب على المخالفة. وبما ان بناء الشارع في تبليغ أحكامه على هذه الكيفية ، فيلزم الفحص عن الحكم الشرعي عند احتماله في مظانّ وجوده.

ولا يخفى عليك ان هذا الوجه يصلح لإنكار جريان البراءة العقلية قبل الفحص ، فان العقل لا يحكم بقبح العقاب إذا ترك العبد الفحص عن الأحكام التي بنى المولى على تبليغها بالطرق المتعارفة ، بل يحكم بحسن عقابه على تقدير المخالفة. ولكنه لا يصلح لتقييد البراءة الشرعية ، وذلك لأنه لو فرض تصريح المولى بالخصوص لعبده بأنه لا يعاقب على المخالفة إذا كانت عن جهل ولو لم يتصد العبد للفحص ، فلا إشكال في عدم حكم العقل بحسن العقاب عند ترك الفحص.

ومن الواضح ان إطلاق أدلة البراءة يقوم مقام التنصيص الخاصّ ، لشمول الإطلاق مورد الفحص وعدمه ، فيكون رافعا لحكم العقل. فانتبه.

الثالث : العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في الشريعة وهو لا ينحل إلاّ بالفحص ، فالعمل بالبراءة قبل الفحص غير جائز للعلم الإجمالي المنجز المانع من جريان البراءة في أطرافه.

وقد ناقشه صاحب الكفاية : بان هذا العلم الإجمالي البدوي منحل ـ بعد الشروع في الاستنباط ـ بالعلم بمقدار من التكاليف في أبواب الفقه المتفرقة يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها. وحينئذ فيلزم ان لا يجب الفحص في الشبهات الحكمية بعد تحقق الانحلال ، مع ان المفروض هو لزوم الفحص في جميع الشبهات بلا استثناء (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٤٠