منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الثاني : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله وأشار إليه في الكفاية ، وهو استصحاب الوجوب النفسيّ الشخصي الثابت سابقا بدعوى المسامحة عرفا في موضوعه ، إذ العرف يرى الباقي والمركب التام شيئا واحدا ، ولذا يرى عدم ثبوت الحكم للباقي ارتفاعا للحكم السابق كما انه ثبوته بقاء له. فيقال حينئذ : هذا ـ ويشار إلى الباقي ـ كان واجبا والآن كذلك. ونظيره استصحاب كرية الماء الّذي كان كرا وأريق منه بعضه فشك في كريته (١).

وقد أورد عليه : بأنه يبتني على المسامحة في الموضوع مع كون الباقي مما يتسامح فيه عرفا ، كما إذا كان المتعذر جزء واحدا ـ مثلا ـ لا ما إذا تعذرت كمية من الاجزاء معتد بها ، لعدم صدق الوحدة عرفا بين الباقي والمركب حينئذ (٢).

هذا ، ولكن الّذي نراه عدم تأتي المسامحة في مثل ما نحن فيه. وبيان ذلك : ان المراد بالمسامحة العرفية والنّظر العرفي هو ما يراه العرف بحسب مرتكزاته وبحسب ربطه بين الحكم وموضوعه موضوعا للحكم ، فهو يرى ان الموضوع في مثل : « أطعم العالم » ذات العالم ، وجهة العلم جهة تعليلية ، إذ لا ربط للإطعام بجهة العلم ، بل يرتبط بالذات نفسها ، فإذا زال العلم لا يزول الموضوع بنظر العرف ، وانما يرى انه قد زالت بعض حالاته ، فيصح استصحاب وجوب الإطعام مع الشك.

أما في مثل : « قلّد العالم » فانه يرى ان الموضوع العالم بما هو عالم ، لارتباط التقليد وأخذ الأحكام بجهة علمه لا بذاته خاصة. فمع زوال العلم يزول الموضوع عرفا. فلا مجال للاستصحاب مع الشك.

ومن الواضح انه هذا الاختلاف في النّظر انما يتأتى في موضوعات

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢٩٤ ـ الطبعة الأولى.

الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٨١

الأحكام ، إذ ارتباط الحكم بها بلحاظ متعلقه وارتباط المتعلق بها ارتباط تكويني ، فيمكن ان يختلف نظر العرف في تشخيصه بحسب اختلاف الموارد وان اتحد لسان الدليل كما عرفت في المثالين.

أما بالنسبة إلى متعلقات الأحكام ، فلا يتأتى فيها المسامحة العرفية ، إذ ارتباط الحكم بمتعلقه جعلي يرتبط بالمولى الجاعل نفسه وان كان المولى عرفيا ، فإذا أثبت الحكم لمركب ذي أجزاء عشرة لا يرى العرف وجوب التسعة وان متعلق الحكم هو الجامع بين العشرة والتسعة ، بل نظر العرف هاهنا يتبع ما قرره المولى داعيا إلى أي مقدار كان من الاجزاء. فإذا أوجب المولى المركب ذي الاجزاء العشرة ، كان المركب ذو الاجزاء التسعة مباينا لمتعلق الحكم عرفا لا متحدا معه ، وإن كان الجزء المفقود ضئيلا جدا.

وإذا ظهر ذلك تعرف بطلان دعوى تأتي المسامحة العرفية فيما نحن فيه ، إذ موضوع الكلام فيما نحن فيه هو تعذر الجزء من متعلق الحكم لا موضوعه.

وما ذكرناه كما يكون إشكالا على نفس تقرير الاستصحاب بهذا الوجه يكون إشكالا على الاعلام قدس‌سرهم ، حيث التزموا بهذا الاستصحاب في الجملة مبنيا على المسامحة في الموضوع. فلاحظ.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله في حاشيته على الكفاية وهو استصحاب شخص الوجوب الثابت سابقا للباقي مع قطع النّظر عن كونه نفسيا أو غيريا لعدم الفرق والتمايز بينهما بنظر العرف ، إذ العرف لا يرى جهة الغيرية والنفسيّة من الجهات المقومة للوجوب وانما هي من طوارئ الوجوب ، فالتسامح الموجود في هذا الاستصحاب في المستصحب لا في الموضوع ، كما انه لا يرجع إلى أخذ الجامع (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٢

وقد ناقشه قدس‌سره بما لا يخلو عن نظر ولا يهمنا التعرض إليه. والعمدة في مناقشة هذا الوجه هو انه يبتني على تعلق الوجوب الغيري بالاجزاء ، وقد عرفت امتناعه ، فأساس هذا الوجه غير مسلم.

الرابع : ما أشار إليه المحقق الأصفهاني أيضا في حاشيته ، وهو استصحاب الوجوب النفسيّ مع قطع النّظر عن تعلقه بالباقي ، نظير استصحاب وجود الكر في إثبات كرية الموجود ، فيقال : إن الوجوب النفسيّ للصلاة كان ثابتا والآن يشك في بقائه ، فيحكم به بمقتضى الاستصحاب. وبعبارة أخرى : المستصحب هو وجوب الصلاة بمفاد كان التامة ، لا الناقصة (١).

وفيه : ان نسبة الصلاة إلى مجموع الاجزاء ليست نسبة المسبب إلى السبب ، بل نسبة اللفظ إلى المعنى ، فالمراد بالصلاة هو الاجزاء الخاصة.

وعليه ، فالمراد بالصلاة في استصحاب وجوب الصلاة ، إن كان المركب التام ، فهو مما لا إشكال في ارتفاع وجوبه فلا معنى لاستصحابه. وان كان المراد الأعم من المركب التام والناقص بدعوى المسامحة العرفية في موضوع الوجوب ، فهو راجع إلى الوجه الثاني الّذي قد عرفت الإشكال فيه.

هذا ان أريد بالاستصحاب استصحاب الوجوب الشخصي السابق المتعلق بشخص الصلاة والحصة الخاصة منها. وإن أريد به استصحاب الوجوب المتعلق بكلي الصلاة ، فلا يرد عليه ما تقدم ، إذ لا يتوقف على المسامحة وتنزيل الفاقد منزلة الواجد عرفا ، إذ الكلي ينطبق على الفاقد والواجد حقيقة. لكن يرد عليه : انه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، لأن وجوب الكلي كان متحققا في ضمن فرد خاص ، وهو قد ارتفع قطعا ويشك في حدوث فرد جديد ، ولا مجال لتوهم ان الفرد الجديد هو نفس الفرد السابق لتباينهما بتباين موضوعهما

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٣

الشخصي ، فتدبر جيدا.

وأما الإيراد على هذا الوجه بأنه مثبت بلحاظ إثبات وجوب الباقي. فهو قابل للمنع. فتأمل. فالعمدة في الإيراد ما ذكرناه.

الخامس : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله أيضا تحت عنوان : « يمكن ان يقال ». وتوضيحه مع شيء من التصرف فيه : ان الاجزاء الباقية كانت متعلقة للوجوب النفسيّ المنبسط على الكل ، فهي متيقنة الوجوب سابقا ، لكن وجوبها وجوب ضمني ، إذ الوجوب الاستقلالي انما يتعلق بالكل ، وبملاحظة المسامحة العرفية في الوجوب الضمني والاستقلالي ، فان العرف لا يرى تعددهما ، بل يرى الضمنية والاستقلالية من الحالات الطارئة. يمكن ان يستصحب الوجوب النفسيّ المتعلق بالأجزاء لليقين بحدوثه مع الشك في بقائه ، والجزم بارتفاع صفة الضمنية بارتفاع الأمر بالكل لا يضر بعد دعوى المسامحة المزبورة (١).

وهذا الوجه قابل للمناقشة أيضا كسوابقه ، وذلك لأن وجود الوجوب الضمني للاجزاء متقوم بوجود الوجوب الاستقلالي للكل ، ولا يمكن فصله عن وجوب الكل ، وبما ان وجوب الكل متقوم بالمركب التام لتقوم الصفة التعلقية بمتعلقها ، فان نسبته إليه نسبة الوجود إلى الماهية ، كان الوجوب الضمني متقوما بالتام ، فمع تعذر التام ينعدم الوجوب الضمني ، فإذا ثبت الوجوب للاجزاء الباقية بعد التعذر فهو فرد آخر للوجوب ، فلا يكون استمرارا لذلك الوجوب لاختلاف الموضوع.

نعم ، إذا بني على التسامح في متعلق الوجوب النفسيّ الثابت أولا وتنزيل الباقي منزلة التام عرفا ، فيتحد الموضوع بلحاظ المسامحة في المتعلق. كان أمرا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٤

آخر ، لكن عرفت المناقشة فيها في رد الوجه الثاني الّذي تقدمت المناقشة فيه. فراجع.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه : انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيما نحن فيه ، فلا مانع من جريان البراءة من الباقي من جهة الاستصحاب.

هذا فيما يرتبط بالأصل العملي.

٢٨٥

« قاعدة الميسور »

وأما فيما يرتبط بالدليل الاجتهادي ، فقد ادعي ثبوت الاخبار الدالة على وجوب الباقي عند تعذر بعض الاجزاء. واستفيد من هذه الاخبار قاعدة يصطلح عليها بـ : « قاعدة الميسور ». وهذه الاخبار ثلاثة مروية في غوالي اللئالي :

الأول ـ النبوي الشريف وهو ـ : انه خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « ان الله كتب عليكم الحج. فقام عكاشة أو سراقة بن مالك فقال : في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ، حتى أعاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » (١).

والثاني ـ العلوي الشريف وهو ـ : قول علي عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (٢).

والثالث ـ العلوي الشريف أيضا وهو ـ : قوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (٣).

ويقع الكلام في كل واحد من هذه الاخبار على حدة.

أما النبوي : فمحل الاستشهاد به هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ». فانه ظاهر في وجوب الإتيان بالاجزاء التي يتمكن منها ،

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ ـ ٥٨.

(٢) عوالي اللئالي ٤ ـ ٥٨.

(٣) عوالي اللئالي ٤ ـ ٥٨.

٢٨٦

مع تعذر الباقي.

وقد استوضح الشيخ رحمه‌الله دلالتها على المدعى جدا ، وبنى ذلك على ظهور لفظ : « من » في التبعيض (١).

وتوضيح ذلك كما أشار إليه المحقق الأصفهاني قدس‌سره : ان لفظ : « شيء » اما ان يراد منه المركب أو العام أو الكلي والطبيعة. ولفظ : « من » إما ان يراد بها معنى التبعيض أو تكون بيانية أو بمعنى الباء.

ومن الواضح انها انما تفيد المدعى لو أريد من الشيء المركب وكانت : « من » تبعيضية ، فانها تكون ظاهرة في انه إذا تعلق الأمر بمركب ذي اجزاء فأتوا بعضه الّذي تستطيعونه.

أما إذا أريد من : « من » معنى الباء ، فتكون ظاهرة في إرادة انه إذا تعلق الأمر بشيء فأتوا به مدة استطاعتكم ، ومن الواضح انه أجنبي عما نحن فيه.

كما أنه إذا كان المراد من : « من » البيان ، كانت ظاهرة في انه إذا تعلق الأمر بكلي فأتوا من افراده ما استطعتم. وذلك أجنبي عن المدعى بالمرة.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في تقريب كلام الشيخ : انه لا معنى لكون « من » بيانية في خصوص الرواية ، ضرورة ان مدخولها لا يصلح بيانا للشيء ، لأنه الضمير وهو مبهم.

وأما كونها بمعنى الباء ، فالذي يوهمه عدم تعدي الإتيان بنفسه ، وانما يتعدى بالباء ، فيقال : « أتيت به » بمعنى أوجدته. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الإتيان يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) (٢) وقوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٣). ويتعدى بالباء أخرى كقوله تعالى :

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٩٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة النساء الآية : ١٥.

(٣) سورة الأحزاب الآية : ١٨.

٢٨٧

( يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) (١). وعليه فلا يتعين كونها بمعنى الباء في الرواية.

وأما لفظ : « الشيء » ، فلا يراد به العام الاستغراقي ، لأنه يعبر به عن الواحد ولا يعبر عن المتعدد ، وانما يعبر عنه بأشياء ، فلو أراد العام لناسب أن يعبر بأشياء.

كما ان إرادة الطبيعة والكلي في : « منه » ممكنة في حد نفسه ، إلا ان إرادة الكلي في المقام ممتنعة ، إلاّ انه لا يناسب التبعيض ، إذ الفرد مصداق للكلي لا بعضه ، فيتعين ان يراد به المركب ذو الاجزاء. فتكون دالة على المدعى (٢).

هذا تقريب دلالة الرواية على المدعى.

لكن هاهنا إشكالا نبّه عليه في الكفاية (٣) وتبعه عليه غيره (٤) وهو : أن مورد الرواية لا يتلاءم مع المركب ذي الاجزاء ، بل يلائم الكلي ذي الافراد ، إذ المسئول عنه هو وجوب تكرار الحج وعدمه بعد تعلق الأمر به ، وبمقتضى البيان المزبور للجواب لا يكون الجواب مرتبطا بالسؤال ، ولأجل ذلك ذهب البعض إلى إجمال الرواية أو التصرف في لفظ : « من » بحمله على معنى الباء أو كونها بيانية ، إذ يرتفع التنافي بذلك كما لا يخفى.

واما المحقق الأصفهاني ، فقد ذهب إلى كون مقتضى التحقيق : ان : « من » ليست بمعنى التبعيض بعنوانه كي لا يتلاءم مع إرادة الكلي من الشيء ، بل هي لمجرد اقتطاع مدخولها من متعلقه ، وهذا الاقتطاع قد يوافق التبعيض أحيانا ، وبما ان الفرد منشعب من الكلي لانطباقه عليه ، صح اقتطاع ما يستطاع منه ، فلا يتعين مع ذلك إرادة المركب ، بل يراد من : « الشيء » الكلي ويراد من لفظ : « منه »

__________________

(١) سورة النساء الآية : ١٩.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٨ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٣٧٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٤) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٤ ـ ٢٥٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٨٨

من افراده ، وتكون ما موصولة لا مصدرية ظرفية. فيتلاءم مع مورد الرواية والسؤال (١).

أقول : ما أفاده قدس‌سره وان استلزم حل المشكلة ، لكن كون : « من » بمعنى الاقتطاع لا بمعنى التبعيض لا طريق إلى إثباته ، وانما هو مجرد تصور وفرض ، فلا نستطيع الجزم به كما لا نجزم بعدمه ، ومثله لا يكفينا في حلّ المشكلة.

فالمتعين أن يقال في معنى الرواية : انه لا يحتمل ان يكون المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » هو الأمر بتكرار المأمور به قطعا إذ ظاهر الصدر انه ليس بواجب ـ بملاحظة قوله : « ويحك ... ». وبذلك يظهر غفلة الاعلام ( قدّست أسرارهم ) عن هذا الأمر الواضح ، إذ تصوروا دلالة الرواية على التكرار لو حملت : « من » على معنى الباء أو البيانية ، فلاحظ كلماتهم ـ. مضافا إلى ان عدم وجوب تكرار الحج من القطعيات ، بل الّذي يراد به هو الأمر به في حال الاستطاعة.

ولا يخفى ان عدم عموم قوله المزبور ـ على هذا التفسير ـ ، للأمر بالطبيعة والأمر بالمركب إنما ينشأ من تخيل ان مقتضى حمله على المركب يقتضي تقييد الموضوع بصورة تعذر بعض اجزائه ، ومقتضى حمله على الكلي يقتضي عدم تقييده ، إذ المفروض تعلق الأمر به والبعث نحوه بلا نظر لمرحلة تعذر بعض اجزائه. ولكنه تخيل فاسد ، إذ لا داعي لهذا التقييد لو أريد به المركب ، إذ ليس المراد هو الأمر بالمستطاع من الاجزاء مع تعذر البعض ، بل المراد هو الأمر بالمركب بمقدار ما يستطيعه المكلف منه ، فان كان مستطيعا على الكل وجب الجميع ، وإلا وجب البعض.

وهذا نظير ان يقول المولى لعبده بعد أمره بمجموعة أجزائه : « ائت

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٩

بالذي تستطيعه » فإذا استطاع على الكل وجب عليه الكل. إذن فقوله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » ، يمكن ان يعم حالتي التعذر وعدمه ، فيمكن ان يعم الكلي وهو مورد الرواية ، وانه يلزم الإتيان به ، ويعم المركب الّذي تعذر بعض أجزائه مع التحفظ على ظهور « من » في التبعيض.

وبالجملة : يكون قوله المزبور كناية عن ان الأمر بالمركبات بنحو تعدد المطلوب. إذن فهذه الجملة قابلة للدلالة على المدعى مع عدم منافاتها لمورد الرواية.

يبقى شيء وهو : ان هذا الجواب بهذا المقدار لا يرتبط بالسؤال عن وجوب التكرار في الحج وعدمه ، إذ وجوب الإتيان بالمأمور به معلوم لدى السائل ، ولزوم الإتيان ببعض اجزائه مع تعذر غيرها لم يقع موردا للسؤال.

فنقول : ان الجواب مرتبط بالسؤال بلحاظ إفادته الحصر الدال على نفى التكرار ، فان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما وبّخ السائل على تطفله وإلحاحه وطلب منه الانصراف عن كثرة السؤال ، ذكر له انه عند الأمر بشيء يلزم الإتيان به خاصة وبهذا المقدار ولا يلزم شيء آخر.

وهذه الجهة ـ أعني : جهة الحصر ـ لا بد من ملاحظتها على أي تقدير ، سواء أريد من : « من » التبعيض كما قربناه ، أم كونها بمعنى الباء أو غير ذلك ، إذ لو كانت بمعنى الباء كان معنى قوله : « إذا أمرتكم ... » هو انه يجب الإتيان بالشيء المأمور به عند الاستطاعة ، وهذا ليس محل سؤال بل مما لا يجهله السائل ، فلا يرتبط الجواب بالسؤال ، إلا بتضمين الجواب جهة الحصر. نعم لو احتمل كونه في مقام لزوم التكرار بمقدار الاستطاعة لم نحتج إلى الحصر ، إذ الجواب يرتبط بالسؤال بوضوح. ولكن عرفت انه لا مجال لتوهم إرادة ذلك ، بل الجواب اما يتكفل الأمر بالشيء حال الاستطاعة لو أريد من لفظ : « من » معنى الباء أو يتكفل ما ذكرناه لو أريد من لفظ : « من » التبعيض. وعلى أي تقدير لا

٢٩٠

يرتبط بالسؤال إلا بتضمينه معنى الحصر. فهذه الجهة مما نحتاج إليها على كل تقدير بملاحظة السؤال ، وهي مستفادة على ما عرفت من كيفية الجواب ومقدماته ، وليست أمرا خفيا في الكلام.

ومحصل ما ذكرناه : ان الرواية تتكفل بيان أمرين :

أحدهما : لزوم الإتيان بالشيء خاصة عند الأمر به وعدم لزوم شيء آخر وراءه.

والآخر : ان الأمر بالشيء المركب بنحو تعدد المطلوب والمراتب.

وبلحاظ هذه الجهة الثانية تكون دالة على المدعى بوضوح.

وما ذكرناه واضح بنظرنا من الرواية وظاهر بقليل من التأمل ، وبذلك تنحل المشكلة ، ونجمع بين تكفل الرواية لما نحن فيه مع ارتباطها بمورد السؤال. فالتفت وتدبر ، فانه لم يسبق بيانه فيما تقدم.

وأما قوله عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور ». فجهة الاستدلال بها واضحة ، لكن نوقش في دلالتها : بان المراد بها ان حكم الميسور لا يسقط بسبب سقوط حكم المعسور. وذلك لأن السقوط لا يحمل على نفس الميسور ، لأنه فعل المكلف ، ولا معنى لسقوطه وبقائه ، وانما الّذي يقبل السقوط هو الحكم ، فيراد من النص ما عرفت. ولا يخفى ان مرجع ذلك إلى الحكم ببقاء الحكم الثابت للميسور واستمراره.

ومن الواضح ان النص بهذا المعنى لا يشمل المركب الّذي يتعذر بعض اجزائه ، إذ الحكم الّذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الأمر الضمني ، وهو مرتفع قطعا بتعذر الكل لسقوط الأمر بالكل ، فلا مجال للحكم بعدم سقوطه. وببيان آخر : ان الأمر الّذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الأمر الضمني ، وهو مرتفع بارتفاع الأمر بالكل ، فإذا فرض ثبوت أمر للميسور بعد التعذر كان أمرا استقلاليا ، وهو لا يعد بقاء للأمر الأول. وقد عرفت ان مفاد النص هو الحكم

٢٩١

ببقاء الحكم الأول وعدم سقوطه.

وعليه ، فلا بد ان تحمل الرواية على موارد الأحكام المستقلة التي يتوهم سقوط بعضها بسقوط الآخر ، كما إذا كانت منشأة بدليل واحد ، نظير : « أكرم كل عالم » مع تعذر إكرام بعض افراد العالم ، فتحمل على مورد العموم الأفرادي.

والجواب عن هذه المناقشة بما ذكره الشيخ رحمه‌الله :

أولا : من إمكان التحفظ على اسناد السقوط إلى الميسور نفسه بلا حاجة إلى تقدير الحكم ، بان يراد من عدم سقوطه بقاؤه في العهدة وفي عالم التشريع والجعل ، فانه وظيفة الشارع ، فيدل على تعلق الأمر به بقاء ، ولو كان أمرا آخر غير الأول ، إذ تعدد الأمر لا يغيّر ثبوت المتعلق في العهدة ويصدق معه بقاء المتعلق في العهدة حقيقة.

وعليه ، فتكون الرواية شاملة للمركب إذا تعذر بعض اجزائه.

وثانيا : لو سلم ان المسند إليه السقوط هو الحكم بتقديره في الكلام ، فهي تشمل المركب أيضا ، لأن بقاء الحكم صادق عرفا عند ارتفاع الأمر الضمني عن الميسور من الاجزاء وتعلق الأمر المستقل بها ، لمسامحة العرف في النفسيّة والغيرية ، فلا يرونهما إلا من حالات الوجوب لا من مقوماته ، ولذلك يعبّرون عن تعلق الوجوب بالميسور ببقاء وجوبه وعن عدم تعلقه بارتفاع وجوبه. وقد تقدم نظير هذا الكلام في استصحاب الوجوب (١).

والحاصل : ان الرواية ظاهرة في بقاء الميسور في عهدة المكلف ، لا بهذا اللفظ ـ أعني : لفظ العهدة كي يدعى عدم شمولها للمستحبات ، لأنها لا عهدة لها ، وإن كان هذا الكلام محل نظر ـ ، بل بما يساوقه من كونه مجعولا على المكلف ونحو ذلك ، فيدل على بقائه بما له من الحكم سابقا من وجوب أو استحباب ، فيعم

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٩٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٢

الواجبات والمستحبات.

ولوضوح الكلام في هذه الرواية تماما لا بد من التنبيه على جهتين :

الجهة الأولى : قد عرفت في مقام بيان معنى الرواية تفسير السقوط وعدمه بما يساوق الارتفاع والبقاء الظاهر في لزوم تحقق الحكم حدوثا كي يرتفع أو يبقى ، نظير مفاد دليل الاستصحاب.

هذا ولكن المراد بالسقوط هاهنا عدم الثبوت أعم من الارتفاع بعد الحدوث ومن عدم الحدوث ، نظير ما يقال في حديث الرفع من ان المراد بالرفع أعم من الدفع والرفع ، فلا يراد من عدم السقوط هو الحكم بالبقاء ، بل أعم من الحكم بالبقاء ومن الحكم بالحدوث. وذلك لوجهين :

الأول : ان السقوط عرفا يستعمل في الأعم من الارتفاع بعد الحدوث ومن عدم الحدوث رأسا ، فيقال للنائم قبل الوقت إذا استغرق نومه جميع الوقت ان التكليف بالصلاة عنه ساقط ـ بلا أي مسامحة في التعبير ـ ، مع انه لم يسبق حدوث التكليف في حقه. وهكذا للمسافر قبل الوقت ، يقال له إن التكليف بالتمام عنه ساقط مع انه لم يحدث في حقه. ويقال للحائض ان التكليف بالصلاة ساقط عنها ، مع عدم حدوثه في حقها. والأمثلة على ذلك كثيرة مما يدل على ان السقوط بنظر العرف أعم من الارتفاع بعد الحدوث ومن عدم الحدوث رأسا.

الثاني : ان العلماء جميعا يتمسكون بالقاعدة في موارد تحقق التعذر من أول الوقت ولم يعهد من أحد منهم تخصيص النص بما إذا طرأ العذر بعد دخول الوقت ، والتوقف فيه فيما إذا تحقق العذر من أول الوقت ، وهذا الأمر أوضح من أن يخفى. فيدل على ان المرتكز في أذهانهم ما ذكرناه من عموم السقوط ، وإن جاء في كلماتهم في مقام بيان معنى الرواية حملها على إفادة الحكم بالبقاء كدليل الاستصحاب. فتدبر.

هذا ، ولكن مجرد عدم الحدوث لا يصحح صدق السقوط ، إذ كثيرا ما لا

٢٩٣

يصدق السقوط عند عدم حدوث التكليف ، بل انما يصدق السقوط على عدم الحدوث فيما كان هناك مقتض للثبوت ، سواء كان مقتضيا بلحاظ مقام الثبوت أم بلحاظ مقام الإثبات ، وانما لا يثبت الحكم لوجود مانع ـ مثلا ـ.

أما مع عدم المقتضي فلا يصدق السقوط على عدم ثبوت الحكم ، كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية.

ومن هنا قد يشكل صدق السقوط على عدم ثبوت التكليف بالاجزاء الميسورة مع تعذر بعضها ، لعدم إحراز المقتضي ثبوتا فيها وهو الملاك ، إذ لا يعلم انها واجدة لملاك الوجوب أو لا. وعدم وجوب المقتضي إثباتا وهو الدليل ، إذ الموجود من الدليل على ثبوت الحكم هو الدليل على الأمر بالكل وهو مرتفع قطعا بالتعذر ، فلا دليل على ثبوت الحكم في الميسور كي يكون عدم ثبوته سقوطا.

ولكن يمكن التفصي عن هذه المشكلة بوجهين ـ بعد الجزم بصدق السقوط وعدمه بالنسبة إلى الاجزاء في هذا الحال عند عدم ثبوت التكليف بها أو ثبوته ـ :

أحدهما (١) : الالتزام بالاكتفاء بالمقتضي على تقدير عدم التعذر وعدم لزوم وجود المقتضي الفعلي ، فان ملاك الحكم في الاجزاء الميسورة ثابت عند عدم تعذر غيرها. وهذا الملاك الثابت يصحح صدق السقوط عند حصول التعذر.

والآخر : ان نفس المقتضي لثبوت التكليف بالكل المصحح لصدق سقوطه ، يكون مقتضيا لثبوت التكليف بالميسور من الاجزاء ، بنحو من المسامحة

__________________

(١) لعله إلى ذلك ينظر الشيخ في قوله ( يعني ان الفعل الميسور إذا لم يسقط. ). خصوصا بملاحظة قوله عند التكلم في الشروط : « واما الثانية فاختصاصها كما عرفت سابقا بالميسور الّذي كان له مقتضى للثبوت ... » إذ لم يسبق منه ما يشير إلى ذلك غير تلك العبارة. وان كان بعيدا لعله ينظر إلى ما رامه السيد الأستاذ في تعميم القاعدة لصورة التعذر من أول الوقت فتأمل في كلامه. منه.

٢٩٤

في متعلق الحكم النفسيّ وفرضه الأعم من الواجد والفاقد ـ كما تقدم نظيره في الاستصحاب ـ.

والفرق بين هذين الوجهين من الناحية العملية ، هو انه ان بنينا على الثاني وصححنا صدق السقوط بناء عليه ، لم تجر القاعدة إلا في ما كان الميسور معظم الاجزاء ، بحيث تصح المسامحة فيه عرفا بفرضه نفس الواجب النفسيّ ، دون ما كان الباقي اجزاء قليلة من المركب ، إذ لا يرى العرف وحدته مع الكل ، فلا يثبت له المقتضي لثبوت الحكم فيه.

وأما إن صححنا صدق السقوط بناء على الوجه الأول ، كانت القاعدة جارية ولو مع كون الميسور قليلا جدا ، لثبوت المقتضي التقديري فيه ، فيصح نسبة السقوط وعدمه إليه.

وبما انا نرى صدق السقوط عرفا على الأجزاء الميسورة ولو كانت قليلة ، كان ذلك كاشفا عن كون الملحوظ في المصحح هو الوجه الأول لا الثاني. فانتبه.

الجهة الثانية : قد عرفت تقريب دلالة الرواية على بيان عدم سقوط الميسور من الاجزاء عند تعسر بعضها. وقد ناقشها صاحب الكفاية باحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها (١).

وهذه المناقشة بهذا المقدار خارجة عن الأسلوب العلمي ، ومجرد الاحتمال لا ينفع في قبال الظهور المدعى ، فمع الاعتراف بالظهور لا معنى للتوقف لمجرد الاحتمال. ولو كان هو في مقام التشكيك في الظهور ـ كما يظهر من كلامه ـ فكان يلزمه أن يبين جهة التشكيك وينبّه عليها ولا معنى للاكتفاء بإلقاء الاحتمال فقط.

ثم إنه لا مانع من شمول النص لكلا الموردين ، فيدلّ على عدم سقوط

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٥

الميسور من الاجزاء بمعسورها ، كما يدل على عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها ، فلا وجه لترديده بينهما وتوقفه عن الجزم بأحدهما.

وكيف كان لا بد من تحقيق هذه الجهة ـ أعني الالتزام بعموم النص للمركب الّذي تعذر بعض اجزائه وللطبيعة التي يتعذر بعض افرادها. وبعبارة أخرى : للأحكام المستقلة التي يتعذر بعضها ـ بنحو يرتفع الغموض عن بعض جهاتها. فنقول : إنه كما يتأتى احتمال سقوط الأجزاء الميسورة عند تعذر غيرها ، كذلك يتأتى هذا الاحتمال لبعض في الأحكام الاستقلالية ، بأن يكون هناك حكمان استقلاليان مجعولان بنحو يتوهم الارتباط بينهما في الثبوت والسقوط. وهذا لا ينافي استقلاليتهما إذ الارتباط بين الحكمين لا يلازم الارتباط في متعلقيهما ، بل يكون لكل منهما إطاعة وعصيان على حدة ، لكن لا يثبت أحدهما بدون الآخر لمصلحة تقتضي جعلهما كذلك ، فإذا تعذر امتثال أحدهما جاء احتمال سقوط الآخر.

وإذا تصورنا هذا ثبوتا في الأحكام الاستقلالية. فنقول : ان الحكم الميسور امتثاله من الحكمين إن كان له دليل إثباتي بعد التعذر واضح ، فهو يدفع احتمال سقوطه ، فلا تكون القاعدة ناظرة إليه.

وذلك نظير الأحكام التي يتكفلها دليل واحد بنحو العموم ـ مثل : « أكرم كل عالم » ـ ، فانه مع تعذر إكرام بعض العلماء يكون العام حجة ودليلا على ثبوت الحكم للباقي ، وحجيته في الباقي عرفا لا تقبل التشكيك والإنكار ، وإن اختلف العلماء في وجهها ، من كونه أقرب المجازات ، أو بالدلالة الضمنية ، أو غير ذلك على ما تقدم تحقيقه في محله.

ففي مثل ذلك يستبعد جدا نظر الرواية إليه ، لعدم توهم السقوط بلحاظ الدليل الإثباتي الواضح على عدمه ، فلا نقول بأنه ممتنع ـ كما جاء في كلمات

٢٩٦

المحقق الأصفهاني (١) ـ ، بل نقول بأنه مستبعد جدا.

وأما إذا لم يكن له دليل إثباتي بعد التعذر ، فالرواية ناظرة إليه ، نظير ما لو قال : « أكرم العشرين عالما » بنحو يكون كل فرد محكوما بحكم مستقل وتعذر إكرام زيد العالم منهم ، فاحتمل سقوط الباقي ، فان لفظ : « العشرين » ليس من ألفاظ العموم كي يكون حجة فيما بقي ، بل هو عنوان يعبر عن المجموع ، فلا يمكن ان يصدق على الأقل منه.

وعليه ، فلا يكون حجة فيما بقي كما حققناه في مبحث العموم والخصوص. ولذا التزمنا هناك ، بان الدليل الدال على عدم إكرام أحد العشرين يكون معارضا للدليل الدال على إكرام العشرين لا مخصصا له. إذن فتوهم السقوط لا دافع له في مثل ذلك ، فالرواية تنظر إليه وتفيد عدم سقوط الميسور من الافراد بسبب المعسور. ومثله ما لو قال : « صم شهر رجب » فتعذر صوم بعض أيامه ، وكان صوم كل يوم ملحوظا واجبا مستقلا ، لا ان المجموع محكوم بحكم واحد.

فظهر مما حققناه : ان الرواية كما تشمل المركبات إذا تعذر بعض اجزائها ، تشمل موارد الأحكام الاستقلالية التي يتكفلها دليل واحد بعنوان يعبر عن عدد خاص لا بعنوان عام. فالتفت وتدبر.

وأما العلوي الآخر ، وهو قوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله ». فجهة الاستدلال به على المدعى واضحة ، وقد نوقش الاستدلال به بمناقشات تعرض إليها الشيخ وأجاب عنها فلا يهمنا التعرض إليها (٢).

وإنما المهم تحقيق المراد بالرواية ، وهو يظهر بمعرفة المراد من الموصول ولفظ : « كل » في الموضعين. فنقول :

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٩٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٧

أما الموصول ، فهو ـ كما أفاد الشيخ ـ لا يكنّى به عن المتعدد ، وانما يكنّى به عن الواحد ، فيراد به الفعل الواحد لا الأفعال المتعددة كي يدعى انه يكون دالا على ان الأفعال المتعددة لا يسقط بعضها إذا تعذر البعض الآخر ، فيكون مختصا بمورد تعلق الحكم بافراد العام بنحو العموم الاستغراقي ، فلا يشمل صورة تعذر بعض أجزاء المركب الّذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه. فالمراد بما هو فعل المكلف ، أعم من الطبيعة والمركب ، فيكون النص دالا على عدم سقوط بعض افراد الطبيعة عند عدم إدراك البعض الآخر ، كما يكون دالا على عدم سقوط بعض اجزاء المركب إذا تعذر البعض الآخر.

واما لفظ : « كل ». فقد ذكر الشيخ رحمه‌الله ان المراد به المجموع ، ولا يمكن ان يحمل على العموم الاستغراقي ، إذ إرادة العموم الاستغراقي منه تقتضي ان يكون المفاد : ان الافراد والاجزاء التي لا يدرك شيء منها لا يترك كل واحد واحد منها ، وهذا مما لا معنى له ، إذ مع عدم التمكن من كل فرد فرد كيف يؤمر بكل فرد فرد؟.

ولكن نقول : انه كما لا يمكن ان يراد بـ : « كل » ما أفاده الشيخ رحمه‌الله لا يمكن ان يراد به المجموع أيضا ، إذ بعد فرض عدم التمكن من المجموع كيف يؤمر به؟ ، فانه متعذر على الفرض.

وحل المشكلة بما أفاده المحقق العراقي وتوضيحه : ان الامتناع إرادة العموم الأفرادي من لفظ : « كل » انما يتم لو فرض ان العموم وارد على السلب ـ المعبر عنه اصطلاحا بعموم السلب ـ بحيث يراد سلب القدرة عن كل فرد فرد ، ومعه لا معنى للنهي عن ترك كل فرد فرد ـ كما أفاد الشيخ ـ. وليس الأمر كذلك بل السلب وارد على العموم ، فالمراد هو سلب العموم الّذي يتحقق بانتفاء بعض الافراد ، نظير قولنا : « ليس كل عالم عادل » ، فان النفي لم يتوجه للمجموع ، إذ العدالة ليست من صفات المجموع ، كما انه لا يراد نفي العدالة

٢٩٨

عن كل فرد فرد من افراد العالم ، بل المقصود بيان نفي العدالة عن عموم الافراد وبيان انها ليست ثابتة لكل فرد فرد.

وعليه ، فالمراد في قوله : « ما لا يدرك كله » عدم إدراك عموم الافراد أو الاجزاء بنحو سلب العموم. وهكذا المراد بقوله : « لا يترك كله » يراد به النهي عن الترك بنحو سلب العموم الراجع بحسب الظهور العرفي إلى النهي عن الجمع بين التروك ، فلفظ : « لا » متعلق بالترك بنحو سلب العموم لا عموم السلب.

ومثل هذا الاستعمال كثير عرفا ، ويراد به ما ذكرناه من انه إذا لم يدرك المكلف إتيان جميع الافراد والاجزاء فلا يترك الجميع بنحو لا يأتي بأي فرد أصلا.

وقد عرفت ان أساس ذلك على توجه النفي إلى ترك الجميع ، ونفي ترك الجميع يتحقق بالإتيان بالبعض. فالتفت ولا تغفل (١).

وكيف كان فقد عرفت دلالة النص على المدعى بحسب الظهور العرفي.

وقد استشكل فيه صاحب الكفاية : بأنه لا ظهور له في حرمة الترك لعموم الموصول للمستحبات ، وتخصيص الموصول بالواجبات ليس بأولى من حمل النهي على الكراهة أو مطلق الطلب (٢).

وقد تعرض الشيخ رحمه‌الله إلى هذا الإشكال ، ودفعه : بان الموصول في نفسه يشمل المباحات بل المحرمات ، وانما خصصناه بالراجح بقرينة قوله : « لا يترك » ، فإذا كان قوله : « لا يترك » قرينة على المراد بالموصول لزم حمل الموصول على خصوص الواجبات عملا بظهور القرينة ، ولا مجال لتخيل تقدم ظهور

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ـ ٣ ـ ٤٥٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٩

الموصول ، إذ ظهور القرينة هو المحكم والمقدم عرفا (١). وهذا الكلام للشيخ متين جدا.

لكن الّذي نستظهره من الرواية عموم الموصول للمستحبات ، مع التحفظ على ظهور : « لا يترك » في الوجوب. بيان ذلك : ان الإنسان قد يطلب منه شيء وتعرض حالة يتوهم فيها المأمور عدم لزوم العمل ، فيقول له القائل لا تترك العمل في هذه الحالة ، أو لا يسوغ لك ترك العمل لأجل هذه الجهة ، ومقصود القائل ليس إنشاء الأمر والإلزام ، بل قد لا يكون ممن شأنه الأمر والإلزام ، بل مقصوده الكناية عن بقاء الأمر السابق وعدم سقوطه في هذه الحالة ، ويتأتى هذا حتى فيما كان الأمر السابق هو الاستحباب لا الوجوب ، فيقول له ـ مثلا ـ ان التعب لا يسوّغ لك ترك صلاة الليل ، أو لا تترك صلاة الليل لأجل التعب ، إذا تخيل المكلف سقوط استحبابها لأجل التعب. ومن الواضح ان : « لا يسوّغ » صحيح في الإلزام. لكن قد عرفت ان هذا الالتزام لا يعدو مجرد اللفظ وليس القصد إنشاء الإلزام حقيقة في هذا الكلام ، وانما القصد إلى بيان بقاء الأمر وعدم سقوطه.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان قوله : « لا يترك كله » وان أنشئ به الإلزام لكن ليس المراد الأصلي به في هذا الكلام هو الإلزام بعدم الترك كي يختص بالواجبات ، بل يراد به بيان ان تعذر بعض الاجزاء لا يسوّغ ترك المطلوب بالكلية وهو كناية عن بقاء الأمر الأول ، فلا مانع من عمومه للمستحبات ، فيكون مثل العلوي الأول الّذي يعم الواجبات والمستحبات.

وبالجملة : الأمر هاهنا لا يراد به إلا المدلول الكنائي وهو لازمه من بقاء الأمر الأول على ما كان وعدم سقوطه ، فلا مانع من استعماله في الوجوب وعموم

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢٩٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٠