منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

فصل في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة

إذا دار أمر الفعل بين أن يكون واجبا أو حراما بحيث علم إجمالا تعلق الوجوب أو الحرمة به ـ كما إذا علم انه حلف على الجلوس في هذا المكان في هذه الساعة أو على تركه. أو حلف أما على وطء زوجته هذه الليلة أو على ترك وطئها في الليلة نفسها ـ ، فتارة : يكون الوجوب والحرمة توصليين. وأخرى : يكون أحدهما أو كل منهما تعبديا.

وقد جعل الشيخ قدس‌سره محل الكلام هو الصورة الأولى دون ما لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك ، وذلك للتمكن من المخالفة القطعية العملية في هذه الصورة ، فلا يمكن إجراء الإباحة المستلزمة لطرح كلا الاحتمالين ، وهي أحد الوجوه في المسألة (١).

ولكن صاحب الكفاية قدس‌سره ذهب إلى انه وان كانت الإباحة غير جارية في هذه الصورة ، إلا ان الحكم فيها هو التخيير عقلا بين الفعل بنحو قربي أو الترك كذلك ، لعدم التمكن من الموافقة القطعية (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٣٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١

وبما أن المهم في هذا المقام هو تحقيق أصالة التخيير بين الفعل والترك ، لم يكن وجه لتخصيص المورد بالتوصليين.

ولا يخفى عليك أن تعميم المورد للتعبديين أو تخصيصه بالتوصليين غير مهم إنما المهم معرفة حكم كلتا الصورتين ، وسيتضح إن شاء الله تعالى بعد ذلك ان الحق في جانب الشيخ رحمه‌الله لا في جانب صاحب الكفاية. فيقع الكلام في مسألتين :

المسألة الأولى : ما إذا كان الوجوب والحرمة توصليين يسقطان بمجرد الموافقة بلا احتياج إلى قصد التقرب.

ولا يخفى ان المكلف لا يقدر في هذه الصورة على الموافقة القطعية لعدم قدرة المكلف على الفعل والترك معا ، كما لا يتمكن من المخالفة العملية القطعية لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك. ومنه يظهر ان كلا من الموافقة الاحتمالية والمخالفة الاحتمالية قهرية الحصول لا دخل لاختيار المكلف فيها.

والأقوال المذكورة في المسألة خمسة :

الأول : جريان البراءة نقلا وعقلا.

الثاني : الأخذ بأحدهما تعيينا.

الثالث : الأخذ بأحدهما تخييرا.

الرابع : التخيير بين الفعل والترك عقلا مع جريان أصالة الإباحة شرعا.

الخامس : التخيير بين الفعل والترك عقلا ، مع عدم جريان البراءة والإباحة وعدم الحكم بشيء أصلا.

واختار الرابع صاحب الكفاية (١).

وتحقيق الكلام على نحو يتضح به ما هو الصحيح من هذه الأقوال : هو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٢

أنك عرفت انه لا تمكن موافقة ومخالفة العلم الإجمالي قطعا ، والموافقة الاحتمالية والمخالفة كذلك قهرية الحصول. وعليه نقول :

أما جريان البراءة شرعا ، فقد يقرب ـ كما أشار إليه في الكفاية ـ : بان كلا من الوجوب والحرمة مجهول ، فيعمه حديث الرفع ونحوه مما دل على رفع الحكم عند الجهل به (١).

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى نفيه لوجهين :

الأول : ان الحكم الظاهري لا بد له من أثر شرعي وإلا لكان لغوا ، وجعل البراءة فيما نحن فيه لا أثر له بعد عدم خلو المكلف من الفعل أو الترك قهرا ، لحكم العقل بالترخيص والتخيير بين الفعل والترك.

الثاني : ان رفع الإلزام انما يصح في المورد القابل لوضعه بجعل الاحتياط ـ كما تقدم بيانه في حديث الرفع ـ ، وفي ما نحن فيه لا يتمكن الشارع من جعل الاحتياط لعدم التمكن من الاحتياط ، فلا معنى لرفع التكليف (٢).

كما ان المحقق الأصفهاني رحمه‌الله نفي البراءة الشرعية بدعوى : ان ظاهر أدلة البراءة كونها في مقام معذورية الجهل وارتفاعها بالعلم ، فما كان تنجزه وعدمه من ناحية العلم والجهل كان مشمولا للغاية والمغيا ، وما كان من ناحية التمكن من الامتثال وعدمه فلا ربط له بأدلة البراءة ، وما نحن فيه من الثاني لعدم القصور في العلم ، وانما القصور من جهة عدم التمكن من امتثال الإلزام المعلوم. فلاحظ (٣).

أقول : أما محذور اللغوية في جريان البراءة الشرعية ، فهو محذور عام يقال في جميع موارد البراءة لفرض حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وعدم لزوم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٣٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٣

الاحتياط ، بناء على الالتزام بحكم العقل المزبور الّذي عليه الكل ، والجواب هناك هو الجواب هنا. فراجع (١).

وأما الوجه الثاني ، فهو يبتني على ملاحظة أصالة البراءة بالنسبة إلى الجامع المعلوم وفرض الطرفين طرفا واحدا ، إذ لا يتصور الاحتياط حينئذ ، مع انه لا ينبغي ذلك ، إذ البراءة تلحظ بالنسبة إلى كل طرف بخصوصه ، وجعل الاحتياط والضيق بالنسبة إليه ممكن للشارع ، إذ للشارع أن يجعل الاحتياط بلحاظ احتمال الوجوب ، فيلزم بالفعل كما له ان يجعله بلحاظ احتمال الحرمة ، فينفي الاحتياط بلحاظ كلا الحكمين تسهيلا ومنة ، برفع كل منهما على حدة.

ومنه ظهر الإشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني ، فان عدم التمكن من الامتثال إنما هو بملاحظة الجامع المعلوم. وإلا فبملاحظة كل احتمال بحياله يكون المكلف قادرا على امتثاله ، فتجري أصالة البراءة فيه للجهل به بخصوصه وإن كان الجامع معلوما.

وبالجملة : فإيراد المحققين قدس‌سرهما ناش من ملاحظة الطرفين طرفا واحدا ، وقياس البراءة بالنسبة إلى جامع الإلزام المعلوم. وهو ليس كما ينبغي.

ولكن هذا الإيراد عليهما بدوي ، إذ يمكن توجيه كلامهما بما يرتفع به الإيراد فنقول : انه بناء على ان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك ـ كما يراه صاحب الكفاية ـ يكون مورد الوجوب والحرمة شيئا واحدا وهو الفعل. إذن فالجامع بين الوجوب والحرمة معلوم التعلق بالفعل ، والفعل يعلم بورود الجامع بينهما عليه ، ولنسمه الإلزام ـ تبعا للأعلام ـ ، فالإلزام الجامع يعلم تفصيلا بتعلقه بالفعل. وإنما الشك في خصوصية الإلزام من وجوب أو حرمة.

__________________

(١) راجع ٤ ـ ١٩٦ من هذا الكتاب.

٢٤

ولا يخفى عليك ان هذا الإلزام لا أثر له عملا بعد تردده بين الوجوب والحرمة ، فلا يكون سببا للتنجز ولا منشئا للمؤاخذة على المخالفة ، لما عرفت من أنه مما لا يتمكن المكلف من موافقته ومخالفته العملية القطعية ، ومما لا يخرج المكلف عن موافقته ومخالفته الاحتمالية. إذن فانطباق الإلزام واقعا على أي الاحتمالين من الوجوب والحرمة لا أثر له.

وعليه ، فان أريد إجراء البراءة من خصوصية الوجوب أو الحرمة. ففيه : أن إجراء البراءة من كل منهما باعتبار جهة الإلزام والكلفة التي فيه ، وهي معلومة بالفرض.

وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الشك في انطباق الإلزام المعلوم على الوجوب أو على الحرمة ، نظير الشك في انطباق النجس المعلوم على أحد الإناءين. ففيه : ان الانطباق الواقعي على كل من الحكمين إذا لم يكن بذي أثر ـ كما عرفت ـ فلا معنى لنفيه ورفعه بدليل البراءة مع الشك فيه ، لأنه لا يمكن وضع الإلزام.

وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الإلزام المعلوم المتعلق بالفعل. ففيه : أولا : انه معلوم تفصيلا. وثانيا : انه مما لا يمكن جعل الاحتياط بالنسبة إليه ومما لا يتمكن من امتثاله.

وهذا البيان لا يتأتى بناء على كون النهي عبارة عن طلب الترك ، لاختلاف متعلق الإلزام المعلوم ، إذ الوجوب والحرمة لا يردان على شيء واحد ، فكل من الفعل والترك مشكوك الإلزام ، فقد يقال بجريان البراءة فيه لعدم العلم بالإلزام في كل طرف ، نظير تردد الوجوب بين تعلقه بالظهر والجمعة.

ولكن لا يمكن الالتزام بجريان البراءة حتى على هذا المبنى ، وذلك لأن الحكم بالبراءة شرعا انما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع ، وبملاك معذورية المكلف بالنسبة إلى الواقع المحتمل ، وهذا إنما يصح فيما كان احتمال

٢٥

التكليف قابلا لداعوية المكلف وتحريكه نحو المكلف به ، بحيث يكون المكلف في حيرة منه وقلق واضطراب ، فيؤمنه الشارع ، أما إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل كان المكلف آمنا لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره.

وما نحن فيه كذلك ، لأن احتمال كل من الحكمين بعد انضمامه واقترانه باحتمال الحكم المضاد له عملا لا يكون بذي أثر في نفس المكلف ولا يترتب عليه التحريك والداعوية ، لأن داعوية التكليف ومحركيته بلحاظ ما يترتب عليه من أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصلحة أو دفع مفسدة. وإذا فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركا للمكلّف لا محالة.

ومن هنا أمكننا ان نقول : بامتناع جعل مثل هذا الحكم واقعا ، بناء على ان الحكم يتقوم بإمكان الداعوية ، إذ لا يمكن كل من الوجوب والحرمة ان يكون داعيا إلى متعلقه مع تساوي احتمالهما ، فلا حكم واقعي أصلا ، بل نلتزم بعدم الحكم واقعا ، بناء على ما قربناه في حقيقة الحكم من أنه جعل ما يقتضى الداعوية ، إذ لا اقتضاء في كل منهما للداعوية ، فان عدم الداعوية راجع إلى قصور المقتضي لا لوجود المانع ، إذ اقتضاء الحكم للداعوية باعتبار العلم أو احتمال ترتب الأثر الحسن عليه فإذا كان هذا الاحتمال مقرونا بعكسه كان المقتضي قاصرا ، نظير العلم بثبوت مصلحة ومفسدة متساويتين في الفعل ، فانه لا تكون المصلحة في هذا الحال ذات اقتضاء للداعوية والتحريك. فانتبه.

أو فقل : ان التكليف هاهنا لغو بعد عدم تأثيره الفعلي في المتعلق ، ولو قلنا بان التكليف ما فيه اقتضاء الداعوية ، فان جعل ما يقتضى الداعوية مع عدم انتهائه إلى التأثير فعلا في متعلقه ، فيكون محالا ، وإلاّ لصح تعلق التكليف على هذا المنهج بغير المقدور ، وهو مما لا يمكن الالتزام به.

ومن هنا يظهر انه لا مجال لإجراء البراءة العقلية في خصوص كل من

٢٦

الحكمين ، إذ لا موضوع لها بعد خروج المورد عن مقسم التعذير والتنجيز. مضافا إلى ما أفاده صاحب الكفاية من ان البيان هاهنا تام ، وهو العلم الإجمالي ، وانما القصور من ناحية عدم القدرة فهو نظير ما لو علم بالتكليف المعين بأمر غير مقدور ، فلا يقال انه يقبح العقاب لعدم البيان ، بل لعدم التمكن من الامتثال ، ولا يخفى ان العلم الإجمالي مانع من جريان البراءة العقلية في كل من الطرفين ولو لوحظ كل منهما بنفسه وعلى حدة. فانتبه (١).

وبذلك يتضح عدم تمامية القول الأول.

وأما لزوم الالتزام والأخذ بأحدهما ـ بحيث لو ثبت كان مانعا من إجراء أصالة الإباحة.

ولا مجال لدعوى : أن الالتزام بالوجوب أو الحرمة واقعا لا يتنافى مع الإباحة الظاهرية ، إذ لا تنافي واقعا بين الحكم الواقعي والظاهري ، فلا تنافي بين الالتزام بهما.

وذلك لأن المراد من الالتزام بأحدهما هو الالتزام مقدمة للعمل على طبقه لا مجرد الالتزام بلا عمل به ، وهو يتنافى مع الإباحة الظاهرية. وقد أشار الشيخ رحمه‌الله إلى هذا المعنى (٢) ـ.

فهو يقرّب بوجهين :

الوجه الأول : انه حيث تجب موافقة الأحكام التزاما ، بمعنى انه يجب الالتزام بالحكم الواقعي ، فيجب الالتزام بكل من الوجوب والحرمة ، للعلم بثبوت أحدهما ، وبما أنه غير متمكن عقلا من ذلك لأن الالتزام بالضدين محال ، فان الإيمان بثبوت الضدين محال كثبوتهما ، فتمتنع الموافقة القطعية ، وإذا امتنعت

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٧

الموافقة القطعية وجبت الموافقة الاحتمالية لتنزل العقل من الموافقة القطعية إلى الموافقة الاحتمالية ولا مجال لسقوط العلم الإجمالي عن التجزئة رأسا ، فيلتزم بأحد الحكمين.

وببيان آخر : ان المكلف مضطر إلى ترك أحد طرفي العلم الإجمالي ، وقد قرر في محله انه مع الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه يلتزم بالتوسط في التنجيز ونتيجته لزوم الموافقة الاحتمالية.

والفرق بين البيانين ، هو عدم ابتناء الأول على التوسط في التنجيز في مورد الاضطرار.

وهذا الوجه مردود.

أولا : ان الواجب من الالتزام على تقدير ثبوته هو الالتزام بالحكم الواقعي على واقعه لا بعنوانه الخاصّ وهو لا ينافي إجراء الأصل لأنه حاصل فعلا مع إجراء الأصل.

أما الالتزام بالحكم بعنوانه الخاصّ بما هو وجوب أو حرمة الّذي يتنافى مع إجراء الأصل كما عرفت ، فليس وجوبه ثابتا ولا دليل عليه ، إذ الدليل على لزوم الالتزام لو تم فانما هو لزوم الالتزام بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يقتضي أكثر من الالتزام بالواقع على واقعه.

وثانيا : لو سلم انه يجب الالتزام بالحكم بعنوانه ، فصاحب الكفاية (١) ممن لا يلتزم بالتوسط في التنجيز مع الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه بل يرى عدم منجزية العلم بالمرة ، فالمسألة مبنائية.

وثالثا : ان الالتزام مع الشك تشريع محرم ، فلا يحكم العقل بمنجزية العلم إذا استلزمت موافقته الاحتمالية الوقوع في الحرام القطعي. بل ذهب الأصفهاني

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨

( قدس‌سره ) إلى ان الالتزام مع الشك محال لأن الإيمان بالشيء مع الشك فيه لا يجتمعان (١).

الوجه الثاني : قياس المقام بمورد تعارض الخبرين الدال أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة ، فانه يلتزم بالتخيير بينهما ، وعبارة الشيخ (٢) هاهنا لا تخلو عن غموض وعلى كل فالوجه المصحح للقياس أحد أمور.

الأول : دعوى ان الملاك في الحكم بالتخيير في مورد تعارض الخبرين هو مجرد إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة فيسري الحكم إلى كل مورد كذلك ومنه ما نحن فيه.

الثاني : دعوى ان الملاك هو نفي الثالث. وما نحن فيه كذلك.

الثالث : ان رعاية الحكم الظاهري وهو الحجيّة يدل بالفحوى على رعاية الحكم الواقعي فإذا ثبت التخيير بين الحجتين وعدم طرحهما فثبوت التخيير بين الحكمين الواقعيين أولى.

ولكن جميع هذه الوجوه ممنوعة.

أما الأول : فلأنه تخرص وتحكم على الغيب ، بل بناء على السببية لا مجال له لأن التخيير يكون من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وأي ربط لذلك بما نحن فيه.

وأما الثاني : فهو كالأول ، مع ان نفي الثالث قد لا يقول به الكل ، لا بهما ـ كما يراه الشيخ ـ لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية كتبعيتها لها في أصل الثبوت. ولا بأحدهما ـ كما يراه صاحب الكفاية ـ لعدم تصور ما أفاده في تقريبه في محله فراجع. مع ان الكل يرى التخيير ولو لم يتكفل الخبران نفى الثالث.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية ٢ ـ ٢٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٩

وأما الوجه الثالث : فلأن الأولوية انما تتم لو فرض ثبوت الموضوع لكل من الحكمين الواقعيين كثبوته للحكمين الظاهريين ، وليس الأمر كذلك ، بل هو حكم واقعي مردد بين الحكمين ، بخلاف الحكمين الظاهريين فان كلاّ منهما واجد لموضوعه وهو الخبر التام الشرائط ، وببيان آخر نقول : ان الطريقية بأي وجه صورت في باب الطرق مشوبة بالموضوعية وإلا لزم اعتبار كل طريق وكاشف ، فللطريق الخاصّ موضوعية كانت منشأ لجعله حجة كثرة انضباطه ونحوها ، وقد ادعى صاحب الكفاية (١) ان الموضوع هو احتمال الإصابة.

وأورد عليه الأصفهاني : بأنه شرط للحجية لا موضوع وان الموضوع هو عنوان التسليم (٢).

إذن فموضوع الحكم الظاهري الناشئ من مصلحة معينة ثابت ، وتردد الحال بينهما وأين ذلك مما نحن فيه. فيما هناك موضوع واحد لحكم واقعي واحد غير معلوم. فلا يقال بعد هذا أنه بناء على الطريقية يكون المدار على الواقع المنكشف بلا خصوصية للطريق ، والواقع المحتمل هو امر واحد ، فيكون مورد الخبرين المتعارضين مثل ما نحن فيه ، فيتحقق التخيير فيما نحن فيه. فتدبر والتفت.

والمتحصل : انه لا وجه للزوم الالتزام بأحدهما ، ومنه ظهر انه لا وجه للالتزام بأحدهما المعين ، لأنه يتفرع على لزوم الالتزام بأحدهما فيلتزم بترجيح جانب الحرمة أو الوجوب على الآخر.

فظهر بطلان القولين الثاني والثالث.

وأما الالتزام بالإباحة ، فيوجّه بعموم قوله : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام » للمورد.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٠

ولكن يرد عليه وجوه :

الأول : انها تجري في المورد بتمامية مقدمتين :

الأولى : إرجاع الوجوب إلى الحرمة بمعنى حرمة الترك كي تشمل الشبهة الوجوبية.

الثانية : كون الغاية عقلية لا شرعية ، لأنها ان كانت شرعية فالعلم بظاهره أعم من الإجمالي ، وهو حاصل فيما نحن فيه ، للعلم إجمالا بحرمة الترك أو الفعل ، فلا تجري أصالة الإباحة واما إذا كانت عقلية ، فان الغاية هي العلم المنجز لا ذات العلم ، وهو غير متحقق فيما نحن فيه ، فيثبت المغيا.

وكل من المقدمتين قابل للمناقشة.

أما الأولى ، فقد تقدم الحديث فيها في أخبار البراءة.

وأما الثانية ، فلظهور الغاية في كونها شرعية جعلها الشارع ، لا انها إرشاد إلى حكم العقل ، فانه خلاف الظاهر.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله في خصوص المقام ، من انه يعتبر في جريان الأصل احتمال مطابقته للواقع لأخذ الشك في موضوعه ، اما مع العلم بعدم مطابقته للواقع فلا يجري.

وبما ان أصل الإباحة هاهنا أصل واحد يرجع إلى مساواة الفعل مع الترك ـ لا انه يجري في كل من الفعل والترك على حدة نظير أصالة البراءة ، إذ إجراؤه في الفعل يعني انه مع الترك على حد سواء ، فلا معنى لإجرائه في الترك ـ ، فلا يمكن إجراؤه للعلم بخلافها للعلم بالإلزام. وعدم تساوي الفعل مع الترك ، يعلم بعدم مطابقتها للواقع (١).

الثالث : ما تقدم منّا في نفي إجراء البراءة من ان الحكم الواقعي لا يقبل

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٤٤٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣١

التحريك ، فلا يقبل جعل المعذر بلحاظه ، وقد عرفت ان جعل الحكم الظاهري انما هو بلحاظ التعذير عن الواقع ، بل عرفت انه لا ثبوت للواقع بعد عدم قابليته للتحريك. فراجع.

فظهر بذلك بطلان القول الرابع. فيتعين الالتزام بالتخيير لا من قبيل الوجوب التخييري شرعا ، ولا من قبيل التخيير العقلي في باب التزاحم ، لأن مرجع التخيير في هذين المقامين إلى الإلزام بأحد الأمرين ، وهو غير متصور فيما نحن فيه ، إذ واحد من الفعل والترك قهري الحصول ، فلا معنى للإلزام بأحدهما ، فالمراد من التخيير هو عدم الحرجية في الفعل والترك ، وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني. فانتبه وتدبر.

هذا كله إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة ، كما إذا علم أنه حلف أما على وطء زوجته في ليلة الجمعة الخاصة أو على تركه فيها.

واما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في وقائع متعددة ، كما إذا علم انه حلف اما على الجلوس في الصحن أو على تركه في صباح كل يوم. فانه في صباح كل يوم يدور أمره بين الوجوب والحرمة.

ولا يخفى انه لا يختلف الحال فيما ذكرناه بلحاظ كل واقعة بنفسها.

وإنما الكلام في هذه الصورة في ان التخيير بدوي أو استمراري ، بمعنى انه هل يلزمه في الواقعة الثانية اختيار ما اختاره أولا أو له اختيار خلافه؟.

وجهة الإشكال بدائيا في التخيير الاستمراري هو : انه قد يستلزم المخالفة القطعية فانه إذا اختلف اختياره في الواقعتين يعلم أنه خالف الحكم الشرعي قطعا.

وتحقيق الكلام : ان العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة لا أثر له كما عرفت ، لكن لدينا علما إجماليا آخر ، وهو العلم إجمالا إما بوجوب الفعل في هذه الواقعة أو بحرمته في الواقعة الثانية ، وهذا العلم الإجمالي تحرم مخالفته

٣٢

القطعية ، فإذا اختار الترك في هذه الواقعة كان عليه ان يترك في الواقعة الثانية ، وإلا أدى ذلك إلى المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المزبور.

إلا انه قد يقال : ان هذا العلم الإجمالي ينضم إليه علم إجمالي آخر إما بحرمة الفعل في هذه الواقعة أو بوجوبه في الواقعة الثانية ، وتأثير كل من العلمين في كل من الطرفين على حد سواء ، فلا يكونان منجزين ، بل يكونان من قبيل العلم الإجمالي الأول بلحاظ كل واقعة بحيالها.

ولكننا نقول : إنه يمكن تقريب التخيير البدوي على أساس هذين العلمين الإجماليين المتعاكسين بأحد وجهين :

الأول : ان الموافقة القطعية لأحدهما تستلزم المخالفة القطعية للآخر. وبعبارة أخرى : ان التخيير الاستمراري كما يستلزم المخالفة القطعية لأحدهما يستلزم الموافقة القطعية للآخر ، وبما ان حرمة المخالفة القطعية أهم ـ بنظر العقل ـ من لزوم الموافقة القطعية ، ولذا قيل بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ، وتوقف في عليته لوجوب الموافقة القطعية ، فيتعين رفع اليد عن لزوم الموافقة القطعية لأحدهما والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية حذرا من الوقوع في المخالفة القطعية للآخر ، فيتعين التخيير البدوي.

الثاني : ان تحصيل الموافقة القطعية لكلا العلمين الإجماليين غير مقدورة عقلا ، فيتنزل العقل عنها إلى الموافقة الاحتمالية. بخلاف الاجتناب عن المخالفة القطعية ، فانه مقدور لكل من العلمين ، فيحكم العقل بحرمتها. فيتعين التخيير البدوي.

وهذا الوجه يتم حتى بناء على المساواة بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في الأهمية ، وكون العلم بالنسبة إليهما على حد سواء فلا يؤثر في إحداهما مع التعارض ، إذ الملاك فيه هو عدم القدرة عقلا من الموافقة القطعية ، فالعلم الإجمالي لا يؤثر فيها لعدم القدرة لا للتعارض ، كي يقال ان مقتضى المعارضة

٣٣

عدم تأثيره في حرمة المخالفة القطعية أيضا. فتدبر.

وبالجملة : يتعين بهذين الوجهين الالتزام بالتخيير البدوي ومنع التخيير الاستمراري.

وأما ما أفاده المحقق العراقي رحمه‌الله من الإيراد على الوجه الأول : بأنه خلاف ما هو التحقيق من كون العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية علة تامة كالمخالفة القطعية ، مع ان البحث في الاقتضاء والعلية بالنسبة إلى الموافقة القطعية انما هو بلحاظ جريان الأصول بمناط عدم البيان ، لا بالنسبة إلى الترخيص بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق ، إذ لم يلتزم أحد في هذه الحال بمنجزية العلم التفصيليّ فضلا عن الإجمالي (١).

ففيه ما لا يخفى ، فانه أشبه بالمغالطة ، فانه وان كان البحث عن ذلك بلحاظ تلك الجهة غير الثابتة فيما نحن فيه لفرض الاضطرار وعدم القدرة ، لكن لا ينافي ذلك الاستشهاد بما يقال في ذلك المقام على ما نحن فيه ، لدوران الأمر بين تحصيل الموافقة القطعية لأحد العلمين وترك المخالفة القطعية للعلم الآخر. فنقول ان : مقتضى ما حرر في ذلك المقام ان الثاني أولى بنظر العقل وأهم ، فيتعين. فالتفت.

ولعل مثله ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من : ان لدينا تكاليف متعددة في الوقائع المتعددة ، فلدينا علوم متعددة بتكاليف متعددة بتعدد الوقائع ، وكل علم انما ينجز ما هو طرفه ، والمفروض عدم قبول طرفه للتنجيز كما بيّن. وهذه العلوم المتعددة لا تستلزم علما إجماليا أو تفصيليا بتكليف آخر يتمكن من مخالفته القطعية. نعم ينتزع طبيعي العلم من العلوم المتعددة وطبيعي التكليف من التكاليف المتعددة ، وتنسب المخالفة القطعية إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٩٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٤

بالعلم الواحد ، فتتحقق المغالطة المدعاة ... إلى آخر ما أفاده (١).

وأنت خبير : بان العلم الإجمالي في واقعتين يستلزم حدوث علمين إجماليين حقيقيّين بتكليف مردد بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعلين في الواقعتين ، وهو مستلزم لتنجيز المعلوم بنحو تحرم مخالفته قطعا ، ولا نلحظ العلم الإجمالي في كل واقعة كي يقال ان المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المزبور مخالفة غير مؤثرة ، بل الملحوظ هو العلم الإجمالي الحاصل بضم الواقعتين إحداهما إلى الأخرى ، وهو لا ينافي عدم تنجز العلم الإجمالي بالنسبة إلى كل واقعة بحيالها ، وعدم ثبوت تكليف آخر غير المعلوم بالعلم الإجمالي غير المنجز ، ولا يتنافى مع تعلق علم إجمالي به آخر يستلزم تنجيزه بالنسبة إلى المخالفة القطعية. فلاحظ وتدبر ولا تغفل.

المسألة الثانية : ما إذا كان أحد الحكمين المعلومين أو كلاهما تعبديا لا يسقط إلا بقصد القربة.

والكلام فيها في جهتين :

الجهة الأولى : في حكم المسألة.

ولا يخفى ان العلم الإجمالي المزبور وان لم تمكن موافقته قطعا لكن مخالفته القطعية ممكنة ، إذ لو دار الأمر مثلا بين وجوب الصلاة وحرمتها ذاتا ، فانه إذا جاء بالصلاة بدون قصد القربة كان مخالفا قطعا ، إما للوجوب لعدم قصد القربة أو للحرمة للفعل وعدم الترك.

وعليه ، فيقال : إن العلم الإجمالي الّذي لا يتمكن الشخص من موافقته القطعية عقلا ، ويتمكن من مخالفته القطعية ، يحكم العقل بحرمة مخالفته وإن لم يحكم بوجوب موافقته ، فمثل هذا العلم الإجمالي قابل للتنجيز بحكم العقل

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٥

بلحاظ المخالفة القطعية ، فلا يجوز ترك امتثال كلا الحكمين المحتملين. ولا يسقط عن التنجيز بالمرة ، كما يأتي في محله. وببيان آخر : ان المكلف مضطر إلى مخالفة أحد الطرفين لا بعينه ، وبمقتضى ما سيجيء في صورة الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه ، هو الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي في الطرف الآخر ، وحرمة مخالفته قطعا.

وهذا الأمر التزم به صاحب الكفاية هاهنا (١). مع انه لا يرى منجزية العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ، بل يرى سقوطه عن المنجزية رأسا حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، ولذا التزم في مبحث دليل الانسداد سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية للاضطرار إلى بعض الأطراف للزوم اختلال النظام بالاحتياط التام ، وان استفادة الاحتياط في باقي الأطراف لا بد أن يكون بدليل آخر من إجماع أو غيره (٢).

ولأجل ذلك أورد عليه : بان التزامه بحرمة المخالفة القطعية فيما نحن فيه لا يتلاءم مع مختاره فيما يأتي إن شاء الله تعالى ، لأن المورد من موارد الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه. فلاحظ (٣).

الجهة الثانية : فيما ذكره من عموم محل الكلام لهذه الصورة وعدم اختصاصه بالتوصليين ، وقد تقدم نقل كلامه واعتراضه على الشيخ في تخصيصه الكلام في التوصليين.

والّذي نراه ان ما ذكره الشيخ رحمه‌الله هو الصحيح المتعين ، فان جميع الوجوه التي تذكر في التوصليين لا تتأتى في هذه الصورة. بيان ذلك : أما جريان أصالة البراءة بالتقريب السابق ، فهو لا يمكن الالتزام به هاهنا لأن إجراء

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ـ ٣ ـ ٢٩٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٦

الأصل في كل من الطرفين يستلزم المنافاة للعلم الإجمالي المنجز بلحاظ المخالفة القطعية.

ومثله الكلام في إجراء أصالة الإباحة ، فانه يتنافى مع منجزية العلم الإجمالي.

كما ان ما ذكرناه في منع إجراء البراءة من قصور الإلزام المعلوم بالإجمال عن التنجيز لا يتأتى هاهنا ، لما عرفت من قابلية العلم الإجمالي للتنجيز بلحاظ المخالفة القطعية.

وأما لزوم الالتزام بأحدهما ، فهو على تقدير تماميته إنما يلتزم به في مورد لا يكون للعلم الإجمالي أي تأثير في مقام العمل ، بحيث يكون الالتزام بأحدهما هو الطريق إلى العمل بأحد الطرفين. أما في الموارد التي يكون العلم الإجمالي منجزا ومؤثرا في مقام العمل ، سواء كان تأثيرا تاما أو وسطا ، فلا يجيء حديث لزوم الالتزام بأحدهما.

والشاهد عليه انه لم يخطر في بال أحد أنه يجب الالتزام بأحد الحكمين في موارد العلم الإجمالي الموجب للتنجز ، كالعلم إما بوجوب هذا أو حرمة ذاك ، أو يجب الالتزام بثبوت الحكم في أحد الطرفين ، كما لو علم بوجوب هذا أو ذاك ، ولم يقع الكلام في ذلك الا في موارد دوران الأمر بين محذورين ، لعدم وجود ما يدل على تعيين الوظيفة الإلزامية لأحد الطرفين.

وهذا لا يسرى إلى صورة كون أحدهما تعبديا ، لحكم العقل بلزوم الإتيان بأحدهما ، لما عرفت من أن العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى المخالفة القطعية.

وأما التخيير ، فقد عرفت انه في التوصليين ، بمعنى اللاحرجية في الفعل والترك ـ لا الإلزام ـ بأحدهما لقهرية حصول أحدهما.

وهذا لا يتأتى في ما نحن فيه ، لعدم قهرية حصول أحدهما ، فالتخيير بين الفعل والترك فيما نحن فيه بملاك منجزية العلم الإجمالي وحكم العقل بلزوم

٣٧

أحدهما فرارا من المخالفة القطعية.

نعم ، التخيير هاهنا مع التخيير في التوصليين يتفقان عملا ونتيجة.

فظهر انه لا جامع بين الصورتين ولا تلتقي إحداهما مع الأخرى إلا من حيث النتيجة العملية بناء على الالتزام بالتخيير ، فكيف يدعى عموم الكلام لكلتيهما؟. فلاحظ وتدبر.

تنبيه : ذكر صاحب الكفاية ان استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه ، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام (١).

وتحقيق المقام فيما أفاده قدس‌سره : ان لدوران الأمر بين التعيين والتخيير موارد ثلاثة :

الأول : مورد تعارض النصين مع وجود مزية في أحدهما يحتمل ان تكون مرجحة لأحدهما على الآخر مع عدم دليل يدل على التخيير يقول مطلق ، بل ليس الثابت سوى العلم بعدم مشروعية التساقط وطرح كلا النصين ، بل لا بد من الأخذ اما بذي المزية أو بأحدهما مخيرا ، فانه يدور أمر الحجية بين التخيير بينهما وبين تعيين ذي المزية ، وفي هذا المورد يلتزم بالتعيين ولزوم الأخذ بذي المزية.

والوجه فيه : هو ان ذا المزية معلوم الحجية على كل تقدير ، وغيره مشكوك الحجية ، إذ يحتمل الترجيح بالمزية بلا دليل ينفيه ، وقد تقرر ان الشك في الحجية يلازم الجزم بعدم الحجية ، فيتعين لزوم الأخذ بما يعلم جواز الأخذ به والاستناد إليه ، وعدم جواز الأخذ بما يشك في جواز الاستناد إليه.

الثاني : مورد تزاحم الواجبين مع احتمال أهمية الملاك في أحدهما ، فان مقتضى التزاحم هو ترجيح الأهم منهما والتخيير بين الواجبين مع التساوي ، فإذا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٨

احتمل أهمية أحدهما يدور الأمر بين تعيين محتمل الأهمية والتخيير بينهما لو كانا متساويين واقعا. وهاهنا يلتزم بالتعيين أيضا بملاك ان مرجع الالتزام بالتخيير مع التساوي في الملاك إلى الالتزام بتقييد إطلاق كل من الحكمين بحال إتيان الآخر ، لأن منشأ التزاحم هو إطلاق دليل كل منهما الشامل لحال الإتيان بالآخر ، فيقع التزاحم لعدم التمكن من إتيانهما معا ، فيرفع اليد عن الإطلاق بالمقدار الموجب لعدم التزاحم ، فيقيد إطلاق كل منهما بحال إتيان الآخر ، فيكون كل منهما واجبا عند ترك إتيان الآخر ، فلا يتحقق التزاحم. وعليه فإذا احتمل أهمية أحدهما كان ذلك ملازما لاحتمال تقدمه على الآخر الملازم لعدم تقيد إطلاقه وبقائه على حاله ، بل يتقيد إطلاق الآخر فقط ـ بنحو الترتب كما حقق ـ. إذن فهو يعلم بسقوط إطلاق الآخر على كل تقدير ولا يعلم بسقوط إطلاق محتمل الأهمية ، فيتعين الأخذ به عملا بالإطلاق ، ولا يجوز الأخذ بالآخر.

الثالث : مورد تعلق الأمر بعمل خاص ثم يشك في التخيير بينه وبين عمل آخر ، كما إذا علم بلزوم الصوم وشك في ان وجوبه تعييني أو انه يتخير بينه وبين العتق.

وفي هذا المورد مذهبان :

أحدهما : الالتزام بالتخيير بملاك ان الوجوب التخييري حقيقته هو التعلق بالجامع بين الفعلين. إذن فهو يعلم بتعلق التكليف بالجامع بين الصوم والعتق ويشك في خصوصية زائدة عليه ، وهي خصوصية الصوم ، فيكون من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر والمرجع فيه البراءة.

والآخر : هو الالتزام بالتعيين بدعوى ان التكليف بالجامع غير معلوم ، وانما المعلوم هو تعلقه رأسا بالحصة الخاصة فيشك في الامتثال بغير هذا العمل ، ومقتضى الاشتغال هو التعيين. فالالتزام بالتعيين هاهنا استنادا إلى قاعدة الاشتغال.

٣٩

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان ما نحن فيه لا يكون من أحد هذه الموارد ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فان العلم الإجمالي بثبوت أحد الحكمين ، واحتمال أهمية الوجوب على تقدير ثبوته واقعا ليس من قبيل العلم الإجمالي بلزوم الأخذ بإحدى الحجتين ويحتمل تعين إحداهما الملازم لعدم حجية الأخرى ، كما انه ليس من قبيل دوران الأمر بين الإطلاقين مع العلم بتقيد أحدهما وعدم العلم بتقيد الآخر ، ولا من قبيل دوران أمر التكليف بين تعلقه بخصوص عمل أو التخيير بينه وبين غيره ، إذ لا يعلم بثبوت الوجوب ، فقد لا يكون له ثبوت بالمرة ، فلا يتم فيه أحد هذه الملاكات المتقدمة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بل لنا ان نقول إن المورد ليس من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فلا وجه للالتزام بتعيين محتمل الأهمية فيما نحن فيه.

ودعوى : ان تقديم محتمل الأهمية ليس بأحد هذه الملاكات ، كي يقال بعدم انطباقها على المورد ، بل بملاك مستقل في نفسه لا يرتبط بموارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير المعهودة ، وهو ان حكم العقل بالتخيير انما هو بملاك ان إلزامه بأحدهما ترجيح بلا مرجح ، وهذا البيان لا يتأتى مع احتمال أهمية أحدهما ، فان إلزامه بأحدهما لا يكون من الترجيح بلا مرجح.

مندفعة : بان هذا البيان غير صحيح ، لأن المنظور في حكمه بالتخيير لأجل عدم صحة الترجيح بلا مرجح هو عدم المرجح بلحاظ مقام الإطاعة والعصيان ، لعدم تنجز أحد الحكمين بالعلم الإجمالي ـ كما تقدم ـ ، وإذا لم يترجح أحدهما بلحاظ هذا المقام كان كل منهما بنظر العقل على حد سواء. ومن الواضح ان احتمال أهمية الوجوب أو الحرمة ، لا يكون موجبا لترجيح جانب الوجوب أو الحرمة على غيره في مقام الإطاعة ، لعدم المنجز ، لأن نسبة العلم الإجمالي إلى كليهما على حد سواء ، ومجرد الاحتمال لا يكون نافعا في التعيين.

وبالجملة : فما أفاده صاحب الكفاية لا يمكن ان نوافق عليه. فلاحظ.

٤٠