منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

بالعمل الفاقد الصحيح أو ما يتكلم في صحته.

والسر فيه : هو انه ينبعث عن الأمر المتعلق بالتام لغفلته عن نقصان العمل وعن ارتفاع الأمر ، بل هو يرى نفسه كالذاكر ، فالأمر بالناقص لا يترتب عليه التحريك والانبعاث بالنسبة إلى الناسي فيكون لغوا.

هذا مع ما يرد على الوجه الأول من : ان التكليف المختص بالذاكر بالجزء الّذي يذكره إما ان يكون تكليفا نفسيا استقلاليا غير التكليف بما عدا المنسي من الاجزاء ، واما ان يكون تكليفا ضمنيا متحدا مع التكليف بما عدا المنسي ، بحيث يكون للذاكر تكليف واحد لا تكليفان.

فالأوّل أجنبي عن محل الكلام ، فانه ليس من تخصيص التكليف بالناقص بالناسي ، بل من تخصيص الذاكر بتكليفه بشيء وعدم تكليف الناسي به.

وعلى الثاني كما هو المفروض ، إما ان يكون التكليف بما عدا المنسي ثبوتا عاما للناسي والملتفت. أو يكون مهملا. أو يكون خاصا بالناسي.

فالأوّل خلف الفرض ، لأن الذاكر مكلف بالعمل التام دون الفاقد. والثاني محال لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت. فيتعين الثالث ، فيعود المحذور.

ويرد على الطريق الثاني : انه مجرد فرض ووهم لا واقع له ، إذ ليس لدينا من العناوين ما هو ملازم لنسيان الجزء بلحاظ جميع المكلفين مع فرض عدم التفات الناسي إلى الملازمة وإلا لالتفت إلى نسيانه فيزول ، خصوصا بملاحظة اختلاف المنسي ، فتارة يكون هذا الجزء. وأخرى يكون ذاك وهكذا ، ولأجل ذلك لا نطيل البحث فيه.

وقد التزم المحقق النائيني قدس‌سره بالوجه الأول من وجهي الكفاية. ولكنه التزم بتعدد التكليف حقيقة لا وحدتهما ، وان كانا في مقام الامتثال مرتبطين لارتباط حصول الغرض في كل منهما بحصول الآخر. فهو نظير الالتزام بتعدد

٢٦١

الأمر في أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فان التكليف وان تعدد لكنه ناشئ من غرض واحد ينحصر طريق تحصيله بتعدد الأمر ، ولأجل ذلك كان لهما امتثال وعصيان واحد (١).

وبهذا البيان يتخلص عن الإيراد الّذي ذكرناه على صاحب الكفاية ثانيا ، إذ هو يلتزم بان التكليف بما عدا المنسي عام للذاكر والناسي ، وهناك تكليف آخر يختص بالذاكر بخصوص الجزء الذاكر له.

لكن يرد عليه : ان داعوية الأمر الضمني بالجزء لا تتحقق إلا في ظرف الإتيان بالجزء الآخر وداعوية الأمر به إليه ، فالأمر بالناقص لا يصلح للداعوية إلا في ظرف داعوية الأمر بالجزء الآخر ، أو في ظرف عدم تعلق الأمر بجزء آخر.

فعدم تعلق الأمر بجزء آخر مأخوذ في موضوع داعوية الأمر بالناقص ، وهذا مما لا يمكن الالتفات إليه إلا بالالتفات إلى الجزء والجزم بعدم الأمر به ، وهو ملازم لزوال النسيان عنه ، فداعوية الأمر بالناقص المتوجه إلى الناسي لا تتحقق إلا في ظرف زوال نسيانه ، وهو المحذور المزبور. فالتفت.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني في تصحيح اختصاص التكليف بالناسي ـ بعد مناقشته صاحب الكفاية في وجهه الأول ، بأنه خلاف ما وصل إلينا من أدلة الاجزاء ودليل المركب ، فان الأمر فيها بالتمام لا بما عدا المنسي مطلقا ، مضافا إلى عدم تعين المنسي حتى يؤمر بما عداه ذهب ـ إلى : ان الأمر بما عدا الاجزاء الركنية متعلق بالاجزاء على تقدير الالتفات إليها ، واما الاجزاء الأركانية ، فالأمر متعلق بها بقول مطلق بلا تقييد بالالتفات (٢).

وكلامه بحسب ظاهره يرجع إلى نفس وجه الكفاية الأول ، ولا يظهر لنا

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢١٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٨٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٢

وجه الفرق بينهما أصلا ، فما أورده على الكفاية يرد عليه. ولعل في نظره نكتة لا تظهر من كلامه ، فتأمل فيه تعرف.

وجملة القول : ان اختصاص الناسي بالتكليف بالناقص مما لا يمكن الالتزام به تبعا للشيخ رحمه‌الله. وخلافا لصاحب الكفاية ومن تأخر عنه.

وعلى هذا فلا موضوع للبحث في المقام الثاني وتحقيق مقام الإثبات ، وانه هل هناك دليل على ثبوت الأمر بالعمل الّذي أتى به الناسي أو لا؟.

ومنه ظهر ان التمسك بحديث : « رفع ما لا يعلمون » في نفي جزئية المنسي وتعلق الأمر به وإثبات الأمر بالباقي لا وجه له ، ولأجل ذلك نفي الشيخ جريان الحديث في نفي الجزئية ، والتزم ببطلان العمل.

ولكن يقع الكلام في المقام الثاني تنزلا ، فيبحث عن الدليل العام الدال على تعلق الأمر بما عدا المنسي على تقدير إمكان ذلك. فنقول : الدليل المتوهم دلالته على ذلك بنحو عام هو حديث الرفع بكلتا فقرتيه ـ أعني : « رفع ما لا يعلمون » و: « رفع النسيان » ـ. وتحقيق الكلام فيهما :

أما : « رفع ما لا يعلمون » ، فقد يقال فيه : ان جزئية المنسي في حال النسيان مجهولة ، فيتكفل الحديث رفعها فيثبت ان الواجب هو الأقل في حق الناسي.

ولكن فيه : ان إجراء حديث الرفع إن كان بلحاظ حال النسيان ، فلا معنى له ، إذ لا جهل في حال النسيان للغفلة فلا موضوع للرفع. وان كان بلحاظ ما بعد زوال النسيان ، فيقال : ان جزئية السورة المنسية ـ مثلا ـ مجهولة فعلا ، فهي مرفوعة ، فهو مما لا محصل له ، إذ حديث الرفع يتكفل بيان المعذورية وعدم تنجيز التكليف في حال الجهل.

ومن الواضح انه لا معنى له بعد ظرف العمل ، فلا معنى لبيان المعذورية فعلا بالنسبة إلى العمل السابق ، إذ العمل السابق حين صدر إما كان صادرا بنحو يعذر فيه المكلف فلا حاجة إلى حديث الرفع. واما كان صادرا بنحو لا

٢٦٣

يعذر فيه ، فهو لا ينقلب عما وقع عليه ، فلا مجال لحديث الرفع. فالتفت.

وأما : « رفع النسيان » ، فهو بلحاظ حال النسيان لا مجال لجريانه لأجل الغفلة عن موضوعه فلا يكون الرفع فعليا ، كما لا يصح الوضع في حال الغفلة.

وأما بعد زوال النسيان ، فقد يتمسك به في إثبات الرفع الواقعي في حال العمل ، إذ هو حال النسيان وان التفت إليه متأخرا ، فليس الحال فيه كرفع الجهل ، إذ الجهل متأخر عن العمل.

لكن يشكل التمسك بحديث رفع النسيان أيضا : بأنك قد عرفت فيما تقدم من مباحث الانحلال ان الحكم السابق لا معنى لتنجيزه في الزمان اللاحق ، ولا معنى لإثباته أو نفيه بلحاظ كونه حكما شرعيا مجعولا يترتب عليه الداعوية والتحريك ، لفوات ظرف التحريك.

وعليه ، فلا معنى لتكفل حديث رفع النسيان تعلق الأمر بالمأتي به بعد مضي وقته. نعم بلحاظ كون ثبوت الأمر في الزمان السابق موضوعا لآثار شرعية متأخرة لا مانع من جريان الحديث فيه.

وبالجملة : فبما أنه حكم شرعي مجعول لا معنى لإثباته بالحديث فعلا ، إذ لا يترتب عليه أي أثر من هذه الجهة. وبما انه موضوع لحكم شرعي له كلام آخر.

والّذي يبدو لنا ان النكتة في نظر الشيخ هي ما ذكرناه ، ولذا أخذ عدم جريان الحديث في إثبات الأمر مفروغا عنه لوضوحه ، وانما تكلم في رفع الحكم بلحاظ أثره من وجوب الإعادة والقضاء. ومن الغريب عدم تفصيل القول في الكفاية ، بل فرض جريان الحديث مفروغا عنه بلا إشارة إلى اختلافه مع الشيخ في ذلك.

وجملة القول : ان حديث الرفع لا مجال لجريانه في نفي جزئية المنسي وإثبات الأمر بالباقي ، لاستحالة تعلق الأمر بالناقص أولا ، وقصور دليل الرفع

٢٦٤

عن إثبات الأمر بعد زوال النسيان ثانيا.

ثم انه قد يفصل فيما نحن فيه بين ما إذا كان الدليل الدال على الجزئية بلسان الإخبار والوضع كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (١). وما إذا كان الدليل بلسان التكليف كقوله : « اركع في الصلاة ». فيلتزم بعموم الجزئية في القسم الأول لحالتي الذّكر والنسيان عملا بإطلاق الدليل ، ومقتضاه بطلان العبادة بترك الجزء نسيانا. ويلتزم باختصاص الجزئية في القسم الثاني بحالة الذّكر ، لاختصاص التكليف به بالذاكر فتختص الجزئية به.

ويرجع في غير الذاكر إلى إطلاق دليل المركب الّذي يقتضي نفي اعتبار الجزء الزائد. ويلحق بذلك ما إذا كان دليل الجزئية هو الإجماع ، فان القدر المتيقن منه هو الجزئية حال الذّكر ، ويرجع في غير حالة الذّكر إلى إطلاق دليل المركب ، أو أصالة البراءة.

وقد نفي الشيخ رحمه‌الله هذا التفصيل : بان التكليف الّذي يتكفله دليل الجزئية هو التكليف الغيري لا النفسيّ ، إذا التكليف النفسيّ لا يستلزم جزئية متعلقه. ومن الواضح ان التكليف الغيري معلول للجزئية لا علة لها ، فارتفاعه في حال النسيان لا يكشف عن ارتفاع الجزئية فيها (٢).

وهذا النفي من الشيخ رحمه‌الله انما يتم لو كان منظور المدعي هو ظهور الدليل في اختصاص الجزئية بحال الذّكر كاختصاص التكليف نفسه ، ولكن نظره ليس إلى ذلك ، بل نظره إلى انه لا دليل على الجزئية في غير حال الذّكر ، لأن الكاشف عن الجزئية هو التكليف الغيري وهو يختص بحال الذّكر ، فيرجع في غير حال الذّكر إلى إطلاق دليل الواجب ، نظير ما إذا ثبتت الجزئية

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٤ ـ باب ١ من أبواب القراءة الحديث : ٨ ـ تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٥

بالإجماع. فجواب الشيخ قاصر.

ولا يخفى عليك ان البحث في هذه الجهة انما هو بعد الفراغ عن إمكان تعلق التكليف بالناسي واختصاصه به ، وإلا فلا مجال له كما هو أوضح من أن يخفى.

وقد عرفت ان الشيخ نفي التفصيل المزبور والتزم بعموم الجزئية في كلا القسمين ، إلاّ أنّك عرفت قصور كلامه في تحقيق ذلك.

فالصحيح ان يقال في نفي التفصيل والالتزام بعموم الجزئية في كلا القسمين : ان التكليف المتعلق بالجزء ظاهر في كونه تكليفا إرشاديا إلى جزئية متعلقه ، فان ذلك هو الظاهر من الأوامر الواردة في باب المركبات.

وعليه ، فيكون حالها حال الدليل المتكفل للجزئية بلسان الاخبار. وذلك ..

أما على المسلك القائل بان الأوامر الإرشادية حقيقتها الاخبار والاعلام ، وانها إنشاء بداعي الاعلام فواضح ، لرجوع الأمر الإرشادي هاهنا إلى الاخبار عن جزئية متعلقه للمركب ، وإن كان إنشاء بحسب الصورة. فيكون حاله حال الدليل بلسان الإخبار رأسا.

وأما على ما استقربناه تبعا للفقيه الهمداني من ان الأمر الإرشادي أمر حقيقة على حد سائر الأوامر الحقيقية المولوية ، لكنه في فرض خاص وموضوع معين وهو فرض إرادة الإتيان بالعمل الصحيح وكون المكلف بصدد إتيان العمل التام بجميع اجزائه وشرائطه. ومن هنا كان إرشاديا ، إذ لا استقلالية فيه ، بل هو ثابت لأجل التوصل إلى الغير ، فالدليل يعم الذاكر والناسي أيضا. وذلك ، لأن المراد بذلك ليس هو تكفل الأمر الإرشادي للبعث والتحريك كي يدعى انه لا يصح إلا بالنسبة إلى المتمكن دون غيره ، بل المراد انه أمر حقيقة وطلب واقعا في قبال من يذهب إلى انه في واقعه اخبار وانما صورته صورة إنشاء ، فاللفظ في الحقيقة مستعمل في النسبة الطلبية حقيقة والمراد الواقعي ذلك واقعا ، لكن لم

٢٦٦

يصدر ذلك بداعي التحريك والبعث كما هو الحال في الأوامر الإنشائية ، بل صدر بداعي بيان لا بدية متعلقه في العمل ولزومه فيه.

وبالجملة : تترتب على الأمر الإرشادي جميع آثار الأمر المولوي غير التحريك والداعوية من انتزاع اللزوم واللابدية والثبوت.

ومن الواضح انه بهذا المعنى يصح عمومه للمتمكن وغيره. فالأمر الإرشادي على هذا المبنى حد وسط بين كونه اخبارا حقيقة وبين كونه بعثا في موضوع معين. فانّ البعث في موارد الأوامر الإرشادية لا يترتب على الأمر الإرشادي وانّما يترتب على الأمر بالمركب. فانتبه.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني رحمه‌الله إلى نفي التفصيل المزبور ، لكنه التزم باختصاص القسم الأول بالذاكر كالدليل المتكفل للتكليف. ببيان : ان مثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » يتكفل الاخبار عن جزئية الفاتحة للمأمور به.

ومن الواضح ان الأمر بالتام في حال النسيان محال ، فالجزء المنسي ليس جزء للمأمور به قطعا.

نعم ، لو كان يتكفل بيان جزئيته لما هو الدخيل في الغرض لكان للعموم وجه ولكنه ليس في هذا المقام (١).

وما أفاده قدس‌سره لا يمكن الالتزام به ، إذ ليس مفاد قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » هو جزئية الفاتحة لما هو مأمور به فعلا وما يفرض تعلق الأمر به فعلا ، كي يقال : إن التام ليس بمأمور به في حال النسيان فلا تكون الفاتحة جزء له قطعا. بل مفاده انه لا يكون العمل مأمورا به ومتعلقا للأمر إلا إذا انضمت إليه الفاتحة ، أما انه أي ظرف يثبت الأمر وأي ظرف لا يثبت فذلك خارج

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٨١ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٧

عن مدلول الكلام.

ومن الواضح ان المفاد المزبور يعم حالتي النسيان والذّكر ، فيدل على عدم تعلق الأمر بما لا يشتمل على الفاتحة مطلقا في حالة الذّكر وحالة النسيان. فالتفت ولا تغفل.

وأما ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره في مطاوي هذا البحث من : ان المرجع بعد قصور دليل الجزئية وعدم إطلاق دليل الأمر بالمركب هو أصالة البراءة (١) ، فقد تقدم البحث فيه مفصلا وعرفت أنه محل خدشة ومنع ، فراجع.

وأما الطريق الثاني : وهو إثبات مسقطية المأتي به للأمر مع قطع النّظر عن كونه مأمورا به أو ليس بمأمور به.

والّذي ذكره الشيخ وجها لذلك هو حديث رفع النسيان ، ببيان : ان الترك إذا كان عن عمد يستلزم وجوب الإعادة ، وبما ان حديث رفع النسيان يتكفل رفع الآثار المترتبة على الأمر العمدي إذا صدر عن نسيان ، فيكون متكفلا لرفع وجوب الإعادة المترتب على الترك لصدور الترك عن نسيان.

ولا يخفى ان أثر ذلك هو إثبات صحة العمل فيما لم يقم دليل على الصحة أو البطلان.

وناقش الشيخ رحمه‌الله هذا البيان بان وجوب الإعادة ليس من آثار ترك الجزء رأسا ، بل هو من آثار ترك الكل المسبب عن ترك الجزء. وحديث الرفع انما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على المنسي ، لا الآثار العقلية ولا الآثار الشرعية المترتبة على ما هو ملازم عقلا للمنسي. وشبّهه بالاستصحاب الّذي لا يكون حجة إلا في الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب ، كما يقرر ذلك في مبحث الأصل المثبت (٢).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٢٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٨

وقد يتساءل بان حديث رفع النسيان من الأدلة الاجتهادية وهي مما يلتزم بثبوت الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية لمجاريها ، فكيف جعله الشيخ كالاستصحاب الّذي هو أصل عملي؟.

والجواب عنه : ان الّذي يلتزم به هو ان الدليل الاجتهادي على تقدير جريانه يكون مقتضاه ثبوت الآثار الشرعية ولو كانت بوسائط عقلية متعددة. والّذي يدعيه الشيخ هاهنا هو قصور دليل الرفع عن شمول مثل هذا المورد واستظهاره انه انما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على نفس المنسي خاصة. لأنه ناظر إلى الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام في موارد المنسي ، فمع عدم ثبوت الأثر للمنسي يكون الدليل قاصرا ، فعدم شمول حديث الرفع هاهنا ليس لأجل عدم حجيته في اللوازم العقلية كي يقال ان هذا شأن الأصل العملي لا الدليل الاجتهادي ، وانما لأجل قصور دليله ، ولذلك جعله الشيخ نظير الاستصحاب لا أنه بحكمه. فالتفت.

وبذلك يظهر انه لا دليل على صحة العمل المأتي به الفاقد للجزء عن نسيان. وقد عرفت ان القاعدة تقتضي الاشتغال ولزوم الإعادة للشك في الخروج عن عهدة الأمر أو الغرض الملزم وهذا هو مراد الشيخ من ان كل ما ثبتت جزئيته في حال الالتفات تثبت جزئيته في حال الغفلة ، لا أن مراده ثبوت جزئيته قطعا ، كيف؟ والمفروض هو الشك ، بل المقصود ثبوتها حكما بلحاظ لزوم الإعادة. وان النتيجة العملية هي نتيجة ثبوت الجزئية بقول مطلق. فانتبه.

ومن مجموع ما تقدم تعرف ما في كلام الكفاية من التزامه بجريان حديث الرفع في نفي جزئية المنسي في حال النسيان مرسلا إرسال المسلمات ، إذ عرفت انه لا مجال له بالمرة بكلتا فقرتيه. فتدبر.

الجهة الثانية : في بطلان العمل بزيادته مطلقا عمدا أو سهوا.

ولا يختص الكلام بالزيادة السهوية ، كما هو الحال في النقص ، إذ بطلان

٢٦٩

العمل بالنقص العمدي هو المتيقن من مقتضى الجزئية ، فلا مجال للبحث عن بطلان العمل بترك الجزء عمدا وعدم بطلانه. وهذا بخلاف الزيادة العمدية ، فان عدم بطلان العمل بها لا يتنافى مع مقتضى الجزئية ، كما لا يخفى.

ووضوح الكلام في هذه الجهة يستدعي أولا تحديد موضوع البحث.

فنقول : ان الجزء ..

تارة : يؤخذ بشرط عدم الزيادة عليه ، فالزيادة تكون مبطلة ، لكن لا من جهة زيادة الجزء بل من جهة نقصه ، ولفقدان شرطه وقيده بالزيادة فلا يكون الجزء وهو الذات المقيدة بالعدم محققا فلنا ان نقول ان زيادة الجزء غير مقصودة في هذا الفرض.

وأخرى : يؤخذ لا بشرط من حيث الوحدة والتعدد ، بمعنى ان يكون الجزء هو الطبيعة الصادقة على الواحد وعلى المتعدد. وفي هذا الفرض لا تتصور الزيادة أيضا ، إذ كل ما يؤتى به من الأفراد يكون مقوما للجزء لا زائدا عليه لصدق الجزء على المجموع.

وثالثة : يؤخذ لا بشرط من حيث الزيادة وعدمها بالمعنى الاصطلاحي للابشرطية الراجع إلى رفض القيود ، وهو ان يكون الجزء هو ذات العمل ـ كالسورة مثلا ـ وصرف وجودها بلا دخل لتكراره وعدمه في جزئيته ، فسواء كرّر أو لم يكرر يكون هو جزء ولا يكون التكرار مضرّا بجزئيته كما لا يكون دخيلا فيها. فتكون زيادة الجزء وتكراره بالنسبة إلى الجزئية كسائر الأعمال الأجنبية عن الجزء غير الدخيل عدمها ولا وجودها في جزئية الجزء ، كالنظر إلى الجدار أو حركة اليد أو غير ذلك.

وفي هذا الفرض تتصور زيادة الجزء لتحققه بصرف الوجود ، فالإتيان به ثانيا يكون زيادة له ، ولو كانت الزيادة مانعة فهي ليست من جهة إخلالها بنفس الجزء ومنافاتها لجزئية الجزء ، بل من جهة إخلالها بالصلاة نظير التكلم المانع ، فانه

٢٧٠

مانع من الصلاة ، ولا يكون مضرا بجزئية ما تحقق من الاجزاء ، لأنها مأخوذة بلحاظه لا بشرط بالمعنى الاصطلاحي.

ومن هنا يتضح ان محل الكلام في بطلان الصلاة بزيادة الجزء هو هذا الفرض خاصة دون الفرضين الأولين ، لما عرفت من عدم تصور الزيادة فيهما. مضافا إلى بطلان العمل في الفرض الأول بالزيادة قطعا وعدم بطلانه في الثاني قطعا فلا شك فيهما. بخلاف الفرض الأخير ، لتصور الزيادة فيه ويأتي احتمال مبطليتها وكونها مانعة من الصلاة أو غيرها كسائر الموانع.

وإلى هذا التقسيم لاعتبارات الجزء وتحديد موضوع البحث فيما نحن فيه أشار الشيخ رحمه‌الله في الرسائل بقوله : « وانما يتحقق ـ يعني الزيادة ـ في الجزء الّذي لم يعتبر فيه عدم الزيادة ، فلو أخذ بشرطه فالزيادة عليه موجب لاختلاله من حيث النقيصة ، لأن فاقد الشرط كالمتروك. كما انه لو أخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدد لا إشكال في عدم الفساد » (١). فانه وان لم يصرح بالفرض الثالث ، لكنه يشير إليه بإخراج الفرضين الأولين.

ومع هذا البيان لا يبقى مجال لتوهم عدم صدق الزيادة ، والإشكال في ذلك : بان الجزء إما ان يؤخذ بشرط لا واما ان يؤخذ لا بشرط ولا ثالث لهما. وعلى الأول ترجع زيادته إلى النقيصة ، وعلى الثاني لا يكاد تتحقق الزيادة ، لأن الضمائم لا تنافي الماهية لا بشرط ولا تكون زيادة فيه بل المجموع يتصف بالجزئية.

لما عرفت من ان اللابشرطية من حيث الوحدة والتعدد غير اللابشرطية الاصطلاحية ، فهناك فرض ثالث غفل عنه المستشكل. بل مثل هذا الإشكال لا ينبغي أن يسطر ، فان منشأه عبارة الشيخ المتقدمة والغفلة عن مراد الشيخ

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٧١

وتعبيره باللابشرطية من حيث الوحدة والتعدد لا اللابشرطية الاصطلاحية. فلا وجه لذكره في تقريرات المرحوم الكاظمي.

كما ان الجواب عنه : بان مقام الإمكان الثبوتي غير مقام الصدق العرفي ، ولا إشكال في صدق الزيادة عرفا على الوجود الثاني فيما إذا كان الواجب صرف الوجود ـ كما جاء في تقريرات الكاظمي ـ (١).

غير سديد ، إذ ليس البحث فيما نحن فيه في مدلول دليل لفظي وارد على عنوان الزيادة كي يبحث في مفهوم الزيادة عرفا ، بل البحث فيما هو مقتضى الأصل العملي عند تكرار الجزء من حيث الابطال وعدمه ، فصدق الزيادة عرفا لا أثر له بعد الجزم بعدم الإضرار بالتكرار على تقدير والجزم بإضراره على تقدير آخر كما هو مقتضى الإشكال. فالمتعين في الجواب عنه ما ذكرناه. فانتبه.

ثم ان الشيخ رحمه‌الله أشار إلى اعتبار قصد الجزئية في صدق الزيادة ، وان الإتيان بصورة الجزء بلا قصد الجزئية لا يحقق الزيادة ، وإن ورد في بعض الاخبار (٢) إطلاق الزيادة على سجود العزيمة في الصلاة ، مع أنه لا يؤتى به بعنوان الزيادة.

وقد فصّل القول في ذلك هاهنا بعض الأعلام (٣).

والّذي نراه : انه لا مجال لهذا الحديث هاهنا بالمرة ، إذ ليس البحث عن مفاد الأدلة الدالة على مانعية الزيادة ـ بمفهومها ـ ، كي يبحث عن حدود مفهوم الزيادة ، وانه هل تتحقق الزيادة بكل عمل خارج عن الصلاة ولو لم يقصد به الجزئية ، أو انها تتقوم بما إذا قصد الجزئية فيه ، أو غير ذلك؟. بل البحث عن مقتضى الأصل العملي عند الشك في مانعية الزيادة. ومن الواضح انه

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٣٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الأسامي.

(٢) وسائل الشيعة ٤ ـ ٧٧٩ باب ٤٠ من أبواب القراءة في الصلاة. الحديث ١.

(٣) الشاهرودي السيد علي ، دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٩٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٢

لا خصوصية لعنوان الزيادة بملاحظة الأصل العملي ، بل المدار على كونها مشكوكة المانعية ، فلو شك في مانعية تكرار الجزء بذاته ولو بدون قصد الجزئية ، نظير التكلم الّذي يكون مانعا مع عدم قصد الجزئية كان موردا للبحث أيضا. فالذي ينبغي ان يجعل مورد البحث هاهنا ، هو انه مع العلم بالجزئية والشك في مانعية تكرار الجزء ـ بقصد الجزئية أو لا بقصدها ـ للمركب ، فما هو مقتضى الأصل؟. فموضوع الكلام هو تكرار الجزء لا زيادته.

وإذا عرفت موضوع الكلام ، فيقع الحديث في حكم الشك فيما نحن فيه ، ومن مطاوي ما تقدم تعرف ان مرجع الشك هاهنا إلى الشك في اعتبار عدم تكرار الجزء في المركب ، بحيث يكون وجوده مانعا من صحة المركب.

وحكم هذا الشك واضح ، فانه مجرى البراءة شرعا وعقلا على ما تقدم بيانه في الشك في الشرطية. فلا حاجة إلى الإطالة.

ومقتضى نفي مانعية الزيادة صحة العمل معها وعدم بطلانه بها بأي نحو تحققت.

نعم ، قد يكون وجودها ـ ببعض صورها ـ مخلا بالعمل العبادي ، لكن لا من جهة كونها من موانع العمل ، بل من جهة منافاتها لقصد التقرب على ما سيتضح بيانه. وهذه جهة أخرى لا ترتبط بما نحن فيه.

ثم ان الشيخ رحمه‌الله ـ بعد ان فرض تقوم الزيادة بقصد الجزئية ـ ذكر انها تتصور على وجوه ثلاثة :

الأول : ان يأتي بالزيادة بقصد كونها جزء مستقلا ، كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا ان الواجب في كل صلاة ركوعان كالسجود.

الثاني : ان يأتي بالزيادة وبقصد كون المجموع من المزيد والمزيد عليه جزء واحد ، كما لو اعتقد ان الواجب في الصلاة طبيعة الركوع الصادقة على الواحد والمتعدد.

٢٧٣

الثالث : ان يأتي بالزائد بدلا عن المزيد عليه ، إما اقتراحا أو لفساد الأول.

وحكم قدس‌سره : بفساد العبادة في الصورة الأولى إذا نوى ذلك قبل الدخول في العمل أو في أثنائه ، لأن ما أتى به وقصد الامتثال به وهو المجموع المشتمل على الزيادة لم يكن مأمورا به ، وما هو مأمور به واقعا لم يقصد الامتثال به.

وحكم في الصورتين الأخيرتين : بان مقتضى الأصل عدم البطلان لرجوع الشك فيهما إلى الشك في مانعية الزيادة والأصل عدمها (١).

وقد توقف صاحب الكفاية في البطلان في الصورة الأولى بقول مطلق ، والتزم بالتفصيل بين ما إذا جاء بالمجموع المشتمل على الزيادة بنحو التقييد ، وما إذا جاء به بنحو الخطأ في التطبيق.

بيان ذلك : ان المكلف تارة : يأتي بالمجموع المشتمل على الزيادة بداعي الأمر المتعلق به بخصوصيته بنحو لو كان الأمر الثابت غيره لم يكن في مقام امتثاله ، فهو لم يقصد سوى امتثال الأمر الخاصّ الّذي يعتقد ثبوته شرعا أو تشريعا بخصوصيته وليس في مقام امتثال غيره. وأخرى : يأتي بالمجموع بداعي الأمر الواقعي الموجود ، فهو يقصد إتيان الواجب الواقعي على واقعه ، لكنه بما انه يعتقد انه هو المجموع المشتمل على الزيادة جهلا أو تشريعا فهو يقصد الخصوصية.

ففي الصورة الثانية يكون عمله صحيحا ، لأنه أتى بالواجب الواقعي ، وقصده الزيادة لا يضر بعد ان كان قصد امتثال الأمر الخاصّ ينحل إلى قصدين ، ومن جهة الخطأ أو التشريع في التطبيق ، فهو يقصد امتثال الأمر

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٤

الواقعي على واقعة ولكنه يعتقد انه هو الأمر الخاصّ خطأ أو تشريعا ، وهذا لا يضر في الامتثال والتقرب ، فيبقى احتمال مانعية الزيادة وهو منفي بالأصل.

وبالجملة : لا يتأتى ما أفاده الشيخ من ان ما قصده لا وجود له وما له الوجود لم يقصد.

فهذا الفرض نظير من صلى خلف امام المسجد معتقدا انه زيد العادل ، فبان انه عمرو العادل وكان بحيث لا يختلف الحال لديه بين زيد وعمرو ، فانه يحكم بصحة صلاته لأن قصده ينحل إلى قصدين قصد الصلاة خلف العادل وقصد الصلاة خلف زيد ، فإذا تخلف الثاني ولم يتخلف الأول كان عمله صحيحا ، لأن المدار في الصحة على الأول.

وأما في الصورة الأولى ، فقد التزم ببطلان العمل فيها ، إذ هو لم يقصد امتثال الأمر الواقعي الموجود على ما هو عليه ، وما قصده لا ثبوت له. فما أفاده الشيخ يتم في الصورة الأولى خاصة.

ثم ان صاحب الكفاية ردد ـ في هذه الصورة ـ بين الالتزام بالبطلان في صورة عدم دخله واقعا وبين الالتزام به مطلقا ولو ثبت ان المزيد جزء واقعا.

ومبنى الترديد المزبور على الالتزام بدخل الجزم في النية في صحة العبادة وعدمه ..

فعلى القول باعتبار الجزم في النية ، يلتزم بالبطلان مطلقا ، لعدم تحقق الجزم بها ، إذ الفرض انه لم يقصد امتثال الأمر على كل حال ، بل على تقدير تخصصه بالخصوصية المعينة.

وعلى القول بعدم اعتبار الجزم بالنية ، يلتزم بالبطلان في خصوص صورة عدم دخله واقعا ، إذ في صورة الدخل لا قصور في الامتثال لقصد الأمر في المأتي به ولا مانع من صحة العمل.

ثم إن هاهنا شبهة قد تثار حول صحة العمل في الصورة الثانية إذا كان

٢٧٥

قصد الزيادة عن تشريع ، إذ التشريع حرام فينافي المقربية. وقد دفعها في الكفاية : بان حرمة التشريع لا تسري إلى العمل الخارجي ، لأنه فعل من أفعال القلب فحرمته أجنبية عن المأمور به خارجا. فلا تنافي صحة العمل.

هذا توضيح ما جاء في الكفاية بقوله : « نعم لو كان عبادة ... » (١). وهو كما يتكفل الإشكال على الشيخ من الجهة التي أوضحناها يتكفل الإشارة إلى إشكال آخر ، وهو ان الكلام فيما نحن فيه لا يختص بالواجبات العبادية ، بل يعم التوصليات ، فكان ينبغي تعميم الكلام للواجبات بقول مطلق. والبحث فيها عن الأصل العملي من جهة مانعية الزيادة ، وافراد البحث عن العبادات من جهة أخرى. فالجزم بالبطلان في الوجه الأول من وجوه الزيادة ـ كما ارتكبه الشيخ ـ لا يصلح بقول مطلق ، إذ لا يتم في الواجبات التوصلية ، لأنه لا يعتبر فيها قصد الامتثال.

ثم انه لا بد من الكلام في نقاط ثلاثة فيما أفاده صاحب الكفاية :

الأولى : ان مفروض الكلام هو الإتيان بالزيادة بحيث يكون الشك في ان المزيد هل هو مانع أو لا؟ ، ولا يحتمل أنه جزء للمركب ، وإلا لم يكن زيادة. وبعبارة أخرى : ان مورد البحث هو الشك في مانعية التكرار ، ولا شك في جزئيته.

وعليه ، فلا وجه لما جاء في الكفاية من الترديد بين تخصيص البطلان في الصورة الأولى بصورة عدم دخل الزائد واقعا ، أو تعميمه لصورة الدخل واقعا أيضا ، إذ فرض الدخل واقعا خلاف المفروض في محل الكلام.

الثانية : ان فرض الخطأ في التطبيق مع التشريع لا يمكن الالتزام به وبعبارة أخرى : ان فرض التشريع في قصد الزيادة مساوق للتقييد في مقام الامتثال. وذلك لأن مرجع التشريع إلى البناء على ان الواجب الواقعي الشرعي

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٦

هو المشتمل على الزيادة ، وان الأمر الثابت هو الأمر المتعلق بما يشتمل على الزيادة. وهذا لا يجتمع مع قصده امتثال الأمر الواقعي على واقعه ، إذ مرجعه إلى إلغاء ثبوت الأمر والمأمور به بنحو آخر وكيفية ثانية ، فكيف يتصور انه يقصد الواقع على واقعه ، وكيف يكون الأمر الواقعي محركا له بوجوده الواقعي؟.

الثالثة : قد أشرنا أخيرا إلى حديث حرمة التشريع وسرايته إلى العبادة ، ولا بأس بتفصيل القول فيه شيئا ما. فنقول : ان التشريع كما يفسر ، هو إدخال ما ليس في الدين في الدين. ومن الواضح انه بهذا المفهوم يكون فعلا من أفعال النّفس لا يرتبط بالفعل الخارجي المجعول له الحكم ولا ينطبق عليه. فمفهوم التشريع أو مفهوم إدخال ما ليس في الدين في الدين ونحو ذلك ، ليس مما ينطبق على الأفعال الخارجية ، بل هو يساوق مفهوم جعل القانون وسن الشريعة ، وهو يتمحض في إنشاء الأحكام ولا ينطبق على متعلقاتها.

ولكنه بهذا المفهوم لم يرد في لسان دليل شرعي ، بل ورد في الأدلة حرمة البدعة والافتراء والقضاء بغير العلم (١).

ولا يخفى ان هذه المفاهيم أيضا ليست منطبقة على الخارجيات ، إذ الابتداع في الدين يساوق التشريع ، والبناء على ثبوت حكم شرعا لا ثبوت له واقعا ، وهكذا القضاء بغير علم فانه الحكم بشيء بغير علم ، واما الافتراء فهو راجع إلى الكذب وهو أجنبي عن الفعل المشرع فيه.

إلا ان التشريع ـ كما قيل ـ من المحرمات العقلائية بلحاظ انه تصرف في سلطان المولى ، فلا بد من ملاحظة ما عليه بناء العقلاء والارتكاز العرفي من

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٥٩.

وسورة المائدة ، الآيات ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

وسائل الشيعة ٨ ـ ٥٧٥ ، باب : ١٢٩ من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج.

وسائل الشيعة ١٨ ـ ٩ ، باب : ٤ من أبواب صفات القاضي.

٢٧٧

ان المحرم هو فعل النّفس وما يساوق مفهوم التشريع خاصة ، أو ان الحرمة تسري إلى الفعل الخارجي المأتي به بعنوان موافقة أمر المولى؟. ولا يمكننا الجزم بالثاني ، والقدر المتيقن هو الأول. وعليه فلا دليل على قبح الفعل الّذي يشرع فيه ، فلا تسري حرمة التشريع إلى العمل الخارجي ، فلا يلزم من حرمته بطلان العمل. فتدبر.

التنبيه الثاني : فيما إذا علم بجزئية شيء أو شرطيته للمركب في الجملة

، ودار الأمر بين كونه كذلك مطلقا حتى في حال العجز عنه ، ولازمه سقوط الأمر بالمركب في حال العجز لعدم القدرة عليه. وبين كونه كذلك في خصوص حال التمكن منه فلا يكون جزء في حال العجز عنه ، ولازمه ثبوت الأمر بالباقي عند العجز عنه ، للقدرة على المركب ، لأنه خصوص الباقي في هذا الحال. ولا يخفى ان مرجع الشك المزبور إلى الشك في وجوب الباقي بعد العجز عن الجزء.

والكلام هاهنا تارة في ما هو مقتضى الأصل العملي. وأخرى في قيام دليل اجتهادي يدل على ثبوت الأمر بالباقي.

أما الكلام فيما هو مقتضى الأصل العملي ، فهو انما يقع بعد فرض عدم وجود إطلاق لدليل الجزئية ظاهر في ثبوت الجزئية في جميع الحالات. وعدم إطلاق لدليل الأمر بالمركب ـ لو لم يكن لدليل الجزئية إطلاق ـ يدل على ثبوت الأمر به في مطلق الحالات ولو مع تعذر الجزء.

وإلا فعلى الأول يكون مقتضى إطلاق دليل الجزئية ثبوت الجزئية المطلقة ، ومقتضاها سقوط الأمر بالباقي.

كما أنه على الثاني يكون مقتضى الإطلاق ثبوت الأمر بالباقي ، فلا مجال حينئذ للأصل العملي.

وإذا عرفت محل الكلام في الأصل العملي ، فاعلم ان الأصل العملي في المقام هو البراءة عن وجوب الباقي ، للشك في وجوبه بعد العجز عن الجزء ،

٢٧٨

فدليل البراءة محكّم من عقل ونقل.

وقد يتوهم عدم جريان البراءة في وجوب الباقي لوجهين :

الوجه الأول : ان مقتضى حديث الرفع ـ إذا يمكن ان يجري الحديث بلحاظ رفع الاضطرار وبلحاظ رفع ما لا يعلمون ، لأن جزئية المتعذر مجهولة حال التعذر ، فيكون مقتضى الحديث ـ هو عدم جزئية المتعذر في حال التعذر ، ومقتضى ذلك ثبوت الأمر بالباقي.

وأورد عليه في الكفاية بان حديث الرفع وارد مورد الامتنان ، فيختص جريانه في مورد يستلزم نفي التكليف لا إثباته ، فإذا كان جريانه مستلزما لإثبات التكليف كما فيما نحن فيه لم يجر لمنافاته للامتنان (١).

وزاد على هذا الإيراد بعض المحققين رحمه‌الله وجهين آخرين :

أحدهما : ان الجزئية للمأمور به المجعولة بالأمر المركب مقطوعة الانتفاء للقطع بانتفاء الأمر بالمركب لأجل التعذر. والجزئية بلحاظ مقام الغرض وان كانت مشكوكة الثبوت ، لكنها واقعية لا مجعولة ، فالجزئية القابلة للجعل والرفع غير مشكوكة ، والجزئية المشكوكة غير قابلة للرفع. إذن فلا مجال لحديث الرفع.

والآخر : ان دليل الواجب إما ان يكون له إطلاق أو لا يكون له إطلاق ، فان كان له إطلاق يدل على ثبوت الأمر بالباقي كفى ذلك في نفي الجزئية ولا مجال معه لحديث الرفع كما عرفت. وان لم يكن له إطلاق ، فحديث الرفع لا ينفع في إثبات الأمر بالباقي ، لأنه إنما يتكفل الرفع دون الإثبات (٢).

وبهذه الوجوه تعرف انه لا مجال للالتزام بإجراء حديث الرفع في جزئية المتعذر.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٩٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٩

الوجه الثاني : الرجوع إلى الاستصحاب في إثبات وجوب الباقي ، ومعه لا مجال لجريان البراءة منه ، لتقدم الاستصحاب على البراءة ـ كما حقق في محله ـ.

وقد قرّر الاستصحاب بوجوه عديدة :

الأول : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله وصاحب الكفاية ، وهو استصحاب كلي الوجوب الثابت سابقا للاجزاء المقدورة ، فان الباقي كان معلوم الوجوب لتعلق الوجوب الغيري به ، وهو وإن زال بزوال وجوب الكل ، لكن يحتمل تعلق الوجوب النفسيّ به فيكون سببا للشك في بقاء الوجوب الجامع فيستصحب.

وأورد عليه :

أولا : بأنه يبتني على تصحيح القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي ناشئا من الشك في حدوث فرد آخر ، مع العلم بزوال الفرد السابق الّذي حدث به الكلي. والتحقيق على بطلانه ، إلا إذا كان الفرد الحادث المشكوك يعد عرفا من مراتب الفرد السابق لا مباينا له ، كالشك في تبدل السواد إلى مرتبة أضعف منه مع العلم بزوال مرتبته الحادثة أولا. وليس الاختلاف بين الوجوب الغيري والوجوب النفسيّ في الشدة والضعف ، بل هما متباينان عرفا.

وثانيا : انه يبتني على تعلق الوجوب الغيري بالأجزاء ، وقد ثبت امتناعه ، كما مرّ في مبحث المقدمة الداخلية والخارجية من مسألة مقدمة الواجب.

وثالثا : بان الجامع بين ما لا أثر له عقلا في مقام الإطاعة وما له الأثر لا ينفع إثباته في الحكم بلزوم الإطاعة عقلا. والأمر كذلك في الوجوب الجامع بين النفسيّ والغيري ، إذ الوجوب الغيري ـ كما مر تحقيقه ـ مما لا إطاعة له ولا امتثال ، فاستصحاب الجامع لا يجدي فيما هو المهم من لزوم الإتيان بالباقي عقلا ، ولزوم الخروج عن عهدة التكليف به ، فإثبات كلي الوجوب يكون بلا أثر عملي ، فيكون لغوا.

٢٨٠