منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الجنس والفصل ، فإن وجود الجنس والفصل واحد. فالحيوان عام والإنسان خاص.

وبذلك يختلف عن المطلق والمقيد ، إذ الخصوصية في المقيد ليست موجودة بنفس وجود ذي الخصوصية وإن كانت متقومة به تقوم العارض بالمعروض ، لكن وجودها مغاير لوجود ذي الخصوصية ، فان وجود الإيمان غير وجود الرقبة ووجود العدالة غير وجود العالم ، كما ان الربط بينهما موجود بوجود انتزاعي غير وجود ذي الربط وان تقوّم به.

وإذا اتضح المراد بالخاص يتضح حكمه من حيث الانحلال وعدمه ، مع الشك في اعتبار الخصوصية ، فانه لا مجال لدعوى الانحلال ، إذ لا انبساط للتكليف على تقدير اعتبار الخصوصية بعد فرض وحدة الوجود دقة وعدم تعدده ، فليس الدوران بين العام والخاصّ من الدوران بين الأقل والأكثر في متعلق التكليف. فلا وجه للانحلال فيه حتى إذا قيل بالانحلال في مورد الشك في القيد ودوران الأمر بين المطلق والمقيد.

إذن ، لا بد من الاحتياط لمن يذهب إلى البراءة من باب الانحلال الحقيقي في حكم الشرع.

نعم ، على مسلكنا في إجراء البراءة لا مانع من جريانها هاهنا ، إذ التكليف من جهة الخصوصية الزائدة المشكوكة غير منجز ، لعدم العلم ، فيكون مجرى البراءة العقلية والشرعية الراجعة إلى عدم وجوب الاحتياط ـ كما أشرنا إليه ـ.

هذا ، ولكن لا يذهب عليك ان هذا البحث فرضي بحث ، إذ الخصوصيات المأخوذة في متعلقات التكاليف ليست من قبيل الفصل إلى الجنس ، لأن المتعلقات افعال المكلفين ، وهي من الاعراض ، وهي بسائط لا تركب فيها كي يجري فيها حديث العام والخاصّ والجنس والفصل.

وأما موضوعها ، فهو وان أمكن ان يكون من الجواهر المركبة من الجنس

٢٤١

والفصل ، لكن عرفت عدم الانحلال فيها حتى إذا كانت من قبيل المطلق والمقيد ، فلا أثر لكونها من قبيل العام والخاصّ.

ومن يدعي الانحلال في المطلق والمقيد من جهة ثبوت التقيد بين الفعل وخصوصية موضوعه ، فهو يقول به في العام والخاصّ أيضا ، لأن الفعل أيضا مقيد بخصوصية الموضوع في مورده وان اتحد وجود الخصوصية مع ذي الخصوصية.

وبالجملة : لا فرق بين العام والخاصّ والمطلق والمقيد من هذه الجهة. فلاحظ. هذا حكم دوران الأمر بين الطبيعي ونوعه.

وأما لو دار الأمر بين الطبيعي وفرده الجزئي ، كدوران الأمر بين الإنسان وزيد. فان قلنا : بان التفرد يحصل بنفس الوجود ، فالنوع والفرد متحدان وجودا لا تغاير بينهما أصلا ، لأن وجود الطبيعي بوجود فرده ، وليس لكل منهما وجود منحاز عن وجود الآخر ، فالحكم فيهما من حيث الانحلال المبتني على الانبساط حكم الطبيعي ونوعه. وان قلنا : بان التفرد لا يحصل بمجرد الوجود ، بل بلوازم الوجود من المكان والزمان وسائر العوارض ، فبما ان هذه من المقولات التي يلتزم بان لها وجود مستقل عما تقوم به ، فيكون الشك في الفرد نظير الشك في اعتبار شرط زائد ، وقد عرفت الكلام فيه. فتدبر.

المورد الثاني : في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ولا يخفى ان لدوران الأمر بين التعيين والتخيير موارد متعددة :

الأول : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المسألة الأصولية ، كمورد تعارض النصين مع ثبوت مزية في أحدهما يحتمل ان تكون مرجحة لذيها ، وعدم إطلاق يدل على التخيير حتى في هذه الصورة ، فانه يدور الأمر بين حجية ذي المزية خاصة وبين حجية أحدهما بنحو التخيير ، وفي مثل ذلك يلتزم بالتعيين ، لأن ذا المزية مقطوع الحجية على كلا التقديرين. وأما غيره فهو مشكوك الحجية ، وقد تقرر ان الشك في الحجية يلازم القطع بعدمها. فيتعين الالتزام بذي المزية.

٢٤٢

الثاني : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم ، كما إذا تزاحم واجبان كان أحدهما محتمل الأهمية ، فانه يدور الأمر بين تعيين محتمل الأهمية والتخيير بينه وبين غيره. وفي مثل ذلك يلتزم بالتعيين أيضا ، لأن مرجع التخيير إلى الالتزام بتقييد إطلاق كل منهما بصورة عدم الإتيان بالآخر ـ إذ المزاحمة تنشأ من تعارض الإطلاقين ـ.

وعليه ، فمع احتمال أهمية أحدهما ، يعلم بتقييد إطلاق الآخر ، على كلا التقديرين كما هو واضح. وأما محتمل الأهمية فلا يعلم بتقييد إطلاقه ، فيكون إطلاقه محكما ، وهو معنى الترجيح.

الثالث : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال. كدوران الأمر في مقام الطاعة مع التمكن من الإطاعة التفصيلية بين تعينها عقلا أو التخيير بينها وبين الإطاعة الإجمالية. والحكم هو التعيين أيضا ، للشك في تحقق الامتثال وسقوط التكليف بالاقتصار على الإطاعة الإجمالية ، وقاعدة الاشتغال تستدعي الفراغ اليقيني.

وجميع هذه الموارد الثلاثة ليست محل كلامنا فيما نحن فيه من البراءة والاحتياط. وانما محل الكلام هو المورد ..

الرابع : وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأمر معين وشك في انه واجب بنحو التعيين أو بنحو التخيير بينه وبين غيره ، كما إذا علم بوجوب العتق عند القدرة عليه على تقدير الإفطار عمدا ، وشك في انه واجب عليه خاصة أو انه مخير بينه وبين الصوم ـ مثلا ـ.

ومن هنا يظهر انه ليس من محل الكلام ما إذا تعلق الأمر بطبيعة وشك في أخذ خصوصية فيها ، فيشك في تعيين ذي الخصوصية أو التخيير بينه وبين غيره ، فان جميع موارد الأقل والأكثر في الجزئية والشرطية كذلك ، بل محل الكلام ما إذا علم ملاحظة ذي الخصوصية ـ كالعتق في المثال ـ وشك في اعتباره بخصوصه أو

٢٤٣

مخيرا بينه وبين غيره. فتدبر ولا تغفل.

وقد تعرض الشيخ رحمه‌الله إلى هذا المبحث بنحو مجمل (١). وأهمله صاحب الكفاية رحمه‌الله. وأسهب الكلام فيه المحقق النائيني رحمه‌الله (٢).

وتحقيق الكلام فيه بنحو يرتفع عنه الغموض ويتضح به كلام الاعلام في المقام صحة وسقما ، أن يقال : ان حديث جريان البراءة وعدمه يختلف باختلاف الأقوال في حقيقة الوجوب التخييري ، فلا بد من الإشارة إليها ومعرفة أثر كل منها من ناحية جريان البراءة وعدمه. وعمدتها أربعة أقوال :

الأول : انه عبارة عن وجوب كل من العدلين مشروطا بترك الآخر.

الثاني : انه عبارة عن وجوب أحدهما ، فمتعلق الوجوب التخييري هو عنوان انتزاعي في قبال موارد التخيير العقلي ، فان متعلق الوجوب فيه هو الجامع الحقيقي كالصلاة والصيام ونحوهما.

الثالث : انه سنخ خاص من الوجوب متعلق بكل من العدلين يعرف بآثاره. وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية (٣). وقد عرفت تصويره بأنه مرتبة وسطى بين الاستحباب غير المانع من الترك مطلقا وبين الوجوب التعييني المانع من الترك مطلقا.

الرابع : انه عبارة عن وجوب أحدهما المردد مصداقا. وبعبارة أخرى : انه وجوب الفرد المردد وعلى سبيل البدل كما قربناه ، ودفعنا ما توجه من الإشكال فيه.

أما على القول الأول : فالشك في التعيين والتخيير يرجع إلى الشك في إطلاق الوجوب المعلوم واشتراطه بترك العدل المشكوك. فيمكن إجراء البراءة

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى ، فرائد الأصول ـ ٢٨٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٤١٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٤

في إطلاقه ، لأن مرجع الإطلاق إلى ثبوت تكليف زائد. وبعبارة أخرى : المكلّف شك في ثبوت الوجوب على تقدير إتيان العدل المحتمل ، والأصل هو البراءة.

ولا يختلف فيما ذكرناه بين كون أساس جريان البراءة في الأقل والأكثر هو انحلال العلم الإجمالي حقيقة على مبنى الانبساط في التكليف وبين كونه ما ذكرناه من انحلاله حكما على مبنى التبعض في التنجيز.

إذ الشك كما عرفت يرجع إلى الشك في زيادة التكليف وثبوته على كلا التقديرين ، وقلته وثبوته على أحد التقديرين ، وهو تقدير عدم الإتيان بالعدل المشكوك ، فتكون الزيادة مجرى للتكليف ، للعلم التفصيليّ بثبوته على تقدير ترك الآخر ، أما على تقدير إتيان الآخر فالتكليف مشكوك فيكون مجرى البراءة.

وأما على القول الثاني : فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في ان الواجب هل هو الجامع الانتزاعي ـ أعني : عنوان أحدهما ـ أو انه الأمر المعين بعنوانه الخاصّ ، كالصوم ـ مثلا ـ ، فهو يعلم إجمالا بوجوب أحد الأمرين عليه؟.

لا مجال حينئذ لدعوى انحلال العلم الإجمالي حقيقة المبني على انبساط التكليف ، لعدم كون الدوران بين الأقل والأكثر ، فلا متيقن في البين.

وان توهم ذلك بدعوى : ان ثبوت التكليف بنحو التعيين يرجع إلى تعلق التكليف بالجامع وهو عنوان أحدهما وزيادة الخصوصية ، إذ عنوان أحدهما ينطبق على الصوم. إذن فيصح ان يقال ان تعلق التكليف بالجامع معلوم على كلا التقديرين والشك في اعتبار خصوصية زائدة عليه ، فيكون المورد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الشروط ، فيثبت الانحلال كما تقدم.

فان هذا الوهم باطل : لأن الجامع الانتزاعي لا يكون مأخوذا في متعلق التكليف لو ثبت الوجوب التعييني ، بل متعلق الوجوب ليس إلاّ المفهوم المعين الخاصّ كالصوم ـ مثلا ـ ، وانما يلتزم به على تقدير ثبوت الوجوب التخييري من باب ضيق الخناق في تصوير الواجب التخييري ، فليس الواجب على تقدير

٢٤٥

تعلق التكليف بالصوم بنحو التعيين سوى الصوم ، لا انه عنوان أحدهما المتخصص بخصوصية الصوم ، قياسا على الحال في الجامع الحقيقي كالصلاة مع الطهارة.

فالشك على هذا ليس شكا في كون متعلق التكليف هو المطلق أو المقيد ، بل الأمر دائر بين متباينين. وما نبهنا عليه واضح لكل من له قليل التفات وفضل.

ولأجل ذلك التزم المحقق العراقي بالاشتغال هاهنا (١) مع التزامه بالانحلال الحقيقي في الأقل والأكثر على ما عرفت (٢).

وأما الانحلال الحكمي الّذي قربناه مبنيا على التبعض في التنجيز ، فله على هذا القول مجال ، وذلك لأن العلم الإجمالي إنما يوجب تنجيز الجهة المشتركة بين طرفيه ، وترتب الأثر العقلي في مقام الإطاعة بالمقدار المتيقن ثبوته على كلا التقديرين إذا كانت هناك جهة جامعة. ولا يخفى ان المقدار الثابت الجامع بين الطرفين هو تنجيز التكليف المعلوم بالإجمال على تقدير ترك العدل الآخر المحتمل.

أما مع الإتيان به ، فلا يعلم بثبوت اقتضاء للتكليف في مقام العمل ، لاحتمال كون الواجب هو أحدهما. والعلم الإجمالي لا يصلح ان يكون بيانا لذلك ، لأنه يكون بيانا بالمقدار المعلوم ثبوته ، فيكون التكليف على هذا التقدير غير منجز ، فتجري فيه البراءة.

وبالجملة : بعد فرض إمكان التبعض في التنجيز من جهة متعلقه ، فالتبعض في التنجيز من جهة تقادير الوجوب ممكن أيضا ، بل الأمر فيه أوضح ، فيمكن ان يكون التكليف منجزا على تقدير وغير منجز على تقدير.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٨٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) راجع ٤ ـ ٢٠٢ من هذا الكتاب.

٢٤٦

وعليه ، فالعلم بثبوت الوجوب التعييني أو التخييري انما ينجز التكليف على تقدير عدم الإتيان بالآخر المحتمل. وأما على تقدير الإتيان به ، فليس الحكم منجزا فيكون موردا للبراءة. فانتبه.

واما على القول الثالث : فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في ثبوت أي السنخين من الوجوب وتعلقه بالفعل الخاصّ.

ومن الواضح انه لا مجال أيضا لدعوى الانحلال الحقيقي المزبور ، لأن الدوران بين المتباينين ، والشك لا يرجع إلى الشك في زيادة التكليف وقلته ، بل إلى ان الثابت هذا النحو أم ذاك ، فليس في المقام قدر متيقن يكون معلوم الثبوت تفصيلا ويشك في ثبوت الزائد عليه ، بل المورد من قبيل دوران الأمر بين ثبوت الوجوب للعمل أو الاستحباب ، فانه لا يقول أحد بأنه من موارد الدوران بين الأقل والأكثر.

نعم ، لدعوى الانحلال الحكمي الّذي بنينا عليه مجال ، وذلك لأن المقدار المعلوم ثبوته هو تأثير الحكم المعلوم بالإجمال في مقام الطاعة عند عدم الإتيان بالمحتمل الآخر.

أما على تقدير الإتيان به ، فلا علم بما له تأثير في مقام العمل من التكليف ، لاحتمال ان يكون الثابت هو الوجوب التخييري الّذي يكون قاصرا عن التأثير والمحركية على تقدير الإتيان بالعدل الآخر ، فالتكليف على هذا التقدير لا يكون منجزا ، فيكون موردا للبراءة.

وقد عرفت عدم صلاحية العلم الإجمالي للتنجيز لأكثر من الجهة الجامعة بين الطرفين في مقام الأثر العقلي في باب الإطاعة.

وأما على القول الرابع : فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في تعلق الوجوب بالفرد المعين أو تعلقه بالفرد المردد ، وهما متباينان ، وليس هناك قدر متيقن في البين.

٢٤٧

وعليه ، فلا مجال لدعوى الانحلال الحقيقي المبني على الانبساط لدوران الأمر بين المتباينين.

وأما الانحلال الحكمي الّذي قربناه ، فله مجال أيضا بعين التقريب على الأقوال السابقة ، فان التكليف المعلوم إجمالا لا علم بتأثيره على تقدير الإتيان بالعدل المحتمل ، والعلم الإجمالي انما ينجز التكليف المعلوم بالإجمال بمقدار ما يعلم تأثيره في مقام الطاعة على كلا تقديريه. فلا يكون التكليف منجزا على تقدير الإتيان بالعدل المحتمل ، فيكون مورد البراءة.

ويتلخص من جميع ما ذكرناه : ان جريان البراءة في الأقل والأكثر ..

ان كان مبناه هو الانحلال الحقيقي المبتني على انبساط الوجوب ووجود القدر المتيقن ، فلا يمكن إجراء البراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير على جميع الأقوال في الوجوب التخييري إلا على القول الأول.

وإن كان مبناه هو الانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز ، أمكن إجراء البراءة على جميع الأقوال. بل عرفت ان الالتزام بالتبعض في التنجيز هاهنا أوضح منه في متعلق التكليف ، لأنه هاهنا بلحاظ تقادير التكليف نفسه. فلاحظ. هذا غاية التحقيق في دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

المورد الثالث : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصل، بمعنى أن المأمور به يكون معلوما بحدوده وقيوده ، وإنما يشك فيما يحققه وما يكون سببا لحصوله في أنه الأقل أو الأكثر. كما لو فرض تعلق الأمر النفسيّ بالطهارة ، وقيل انها أمر بسيط مسبب عن الأفعال الخاصة من الوضوء والغسل والتيمم ، وليس الأمر متعلقا بنفس الأفعال المركبة كما هو ظاهر بعض النصوص الدالة على وجود أمر مستمر ، يتعلق به النقض والبقاء ، وهذا لا يتصور بالنسبة إلى نفس الأفعال لأنها تتصرم وتنعدم كما هو واضح.

٢٤٨

ولا يخفى ان الأصل هاهنا هو الاشتغال ، فإذا شك في ان السبب المحصّل للمسبب هل هو الأقل أم الأكثر فلا بد من الاحتياط بإتيان الأكثر ، وذلك لأن التكليف بالمسبب معلوم منجز ، والتردد في السبب يكون من التردد في تحقق الامتثال وحصول الواجب ، وقاعدة الاشتغال تلزم بتحصيل العلم بحصوله بإتيان الأكثر.

ولا فرق فيما ذكرناه بين ان يكون السبب والمحصل شرعيا أو غير شرعي ، إذ السببية غير مجعولة شرعا بجعل مستقل ، بل هي منتزعة من الحكم بحصول الواجب عند إتيان ذات السبب ، فلا موهم لجريان حديث الرفع فيها عند الشك.

نعم لو التزم بأنها مجعولة بجعل مستقل كان للحديث في جريان حديث الرفع مجال وإن كان ممنوعا. وتحقيقه في مقام آخر.

ثم إن هاهنا بحثا صغرويا في خصوص الطهارة والوضوء أو الغسل. وهو :

ان الشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء والغسل إنما يكون مجرى لأصالة الاحتياط لو فرض ان نسبة الوضوء إلى الطهارة المأمور بها نسبة السبب إلى المسبب ، بحيث يكون للطهارة وجود غير وجود نفس الوضوء ، نظير الملكية المسببة عن العقد ، فان العقد لا يقال عنه انه ملكية. وليس الأمر كذلك ، بل نسبة الطهارة إلى الوضوء نسبة العنوان إلى المعنون ، نظير التعظيم الحاصل بالقيام ، ولكنه عنوان له ، فالقيام بنفسه تعظيم لا أن التعظيم شيء وراء القيام ، فيقال للقيام انه تعظيم. ونظير الاستيلاء الاعتباري على الأرض الشاسعة الحاصل بمجرد ملك المفتاح وكونه مطلق العنان فيها ، فان نفس ذلك يقال عنه انه استيلاء اعتبارا لا حقيقة ، إذ الاستيلاء الحقيقي يحصل بالإحاطة الحقيقية وكون الشيء تحت قبضته حقيقة ، وهذا لا يتصور في مثل الأرض الشاسعة.

ويدل على ذلك ما ورد من النصوص مما ظاهره إطلاق الطهارة على نفس

٢٤٩

الوضوء وترتيب بعض آثارها عليه ، كقوله : « الوضوء نور » ونحو ذلك (١) ، فانه ظاهر ان الطهارة هي الوضوء ونسبتها إليه نسبة العنوان إلى المعنون.

وإذا فرض أن الأمر كذلك ، فالشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء يكون مجرى البراءة لاتحاده مع المأمور به وجودا. هذا ما ذهب إليه بعض الاعلام (٢).

وفيه : ـ مع الغض عن عدم تعقل كون الطهارة عنوانا للوضوء ، كما تقدم تفصيل الكلام فيه في مبحث مقدمة الواجب ـ ان كون نسبة الطهارة إلى الوضوء نسبة العنوان إلى المعنون لا يقتضي جريان البراءة مع دوران الوضوء بين الأقل والأكثر ، بل الحال فيه هو الحال على القول بكون نسبتها إليه نسبة المسبب إلى السبب.

والوجه في ذلك : انه بعد فرض ان المأمور به هو الطهارة : وهي أمر اعتباري بسيط يتحقق بالافعال الخاصة ، وليست نسبته إلى الأفعال الخاصة نسبة اللفظ إلى المعنى كي يكون الأمر به أمرا بها حقيقة ، بل هي عنوان اعتباري يتحقق بالافعال. فمع إتيان الأقل يشك في تحقق ذلك العنوان ، فيكون من الشك في الامتثال ، نظير ما إذا أمر المولى عبده بتعظيم زيد فشك العبد ان التعظيم هل يحصل بمطلق القيام أم القيام بضميمة التحية ، فانه ليس له الاكتفاء بمجرد القيام للشك في حصول الامتثال به.

نعم ، لو التزم بان الطهارة ذات مراتب يتحقق كل مرتبة منها بحصول جزء من الوضوء أو الغسل ، كما قد يظهر ذلك من بعض الروايات الواردة في الغسل ، كان الشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء أو الغسل شكّا في اعتبار المرتبة الزائدة في الطهارة ، فيكون الشك في متعلق التكليف ، فيكون مجرى

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ باب ٨ من أبواب الوضوء الحديث : ٨ وفيه : ( الوضوء على الوضوء نور على نور ) وسائل الشيعة ١ ـ باب ٨ من أبواب الوضوء الحديث : ٥ ( الوضوء شطر الإيمان ).

(٢) الغروي الشيخ ميرزا علي. التنقيح ٤ ـ ٦١ ـ كتاب الطهارة ـ الطبعة الأولى.

٢٥٠

البراءة.

لكن هذا خلاف المفروض في الكلام من انها أمر وحداني بسيط لا تعدد فيه ولا تشكيك.

المورد الرابع : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات ، كما لو دار أمر الغناء المحرم بين كونه خصوص الصوت المطرب أو انه الصوت المطرب المشتمل على الترجيع.

وقد يقال : أن الأمر فيه على عكس الأمر في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات ، إذ الأقل في مورد المحرمات غير معلوم التحريم ، والأكثر معلوم التحريم ، فلذا لا يلزم ترك الأقل.

ولكن لا يخفى ان الالتزام في باب الواجبات بالانحلال إذا كان من باب الانحلال الحقيقي المبتني على الانبساط ، باعتبار ان الأقل معلوم الوجوب إما نفسيا استقلاليا أو ضمنيا ، والزائد مشكوك. فهو بعينه يجري في باب المحرمات ، إذ حرمة المجموع تستلزم حرمة كل جزء جزء ضمنا. وعليه فمع دوران أمر المحرم بين الأقل والأكثر يصح ان يقال : إن الأقل معلوم الحرمة على كل حال اما استقلالا أو ضمنا. وأما الخصوصية الزائدة فهي مشكوكة الاعتبار.

نعم ، على مسلكنا في مقام الانحلال وهو الالتزام بالانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز ، يكون الأمر في المحرمات على عكسه في الواجبات. وذلك لأن فعل الأكثر مما يعلم بترتب العقاب عليه على كل حال ، وأما فعل الأقل فلا يعلم بترتب العقاب عليه على كل حال ، لاحتمال كون المحرم هو الأكثر ، فلا يكون فعله موجبا للعقاب ، إذ المخالفة في باب المحرمات إنما تتحقق بفعل المجموع. وأما في باب الواجبات ، فهي تتحقق بترك بعض الاجزاء ، لأن ترك البعض سبب لترك الكل دون فعل البعض ، فانه لا يكون سببا لفعل الكل. فلاحظ والتفت.

٢٥١

المورد الخامس : ما إذا كان منشأ الشك في الشرطية هو الشك في حكم تكليفي مستقل. كما لو كان منشأ اعتبار الشرطية حكما تكليفيا مستقلا ، نظير ما يقال في اشتراط عدم الغصب في الصلاة من جهة حرمة الغصب وثبوت التضاد بين الحرمة والوجوب ، فإذا شك في جواز الصلاة في مكان للشك في انه غصب أو لا ، فمنشأ الشك في جواز الصلاة في ذلك المكان هو الشك في حرمة الكون فيه.

وقد التزم الشيخ رحمه‌الله : بان جريان أصالة البراءة في الحكم التكليفي يكون حاكما على الأصل في الشرطية المشكوكة من براءة أو احتياط ، لأن نسبة الشك في الحكم التكليفي المستقل إلى الشك في الشرطية نسبة الشك السببي إلى المسببي ، والأصل الجاري في الشك السببي يكون حاكما على الأصل الجاري في الشك المسببي (١).

وقد استشكل فيه المحقق النائيني ـ بعد ان بيّن ان الشرطية قد تكون منتزعة عن تكليف غيري مع قطع النّظر عن الحكم التكليفي ، سواء كان في موردها حكم تكليفي كلبس الحرير في الصلاة ، أو لم يكن كالصلاة فيما لا يؤكل لحمه. وقد تكون ناشئة من الحكم التكليفي ، وعلى الأخير تارة : يكون منشأ الشرطية هو الحكم الواصل ، كاشتراط عدم الغصب في الصلاة باعتبار حرمته بناء على التزاحم. وأخرى : يكون منشؤها هو الحكم بوجودها الواقعي ، كالمثال المتقدم بناء على التعارض. وان محط نظر كلام الشيخ هو الصورة الأخيرة ، إذ الصورة الأولى لا يحتاج فيها إلى الأصل عند الشك ، بل مجرد عدم الوصول والشك يكفي في عدم المزاحمة وارتفاع الشرطية.

بعد أن بيّن ذلك استشكل قدس‌سره ـ : بأن الأصل الجاري في الحكم

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٢

التكليفي انما يكون حاكما على الأصل في الشرطية إذا كان من الأصول المحرزة ، كالاستصحاب ، لأنه يتكفل نفي الواقع ظاهرا ، فيرتفع به موضوع الشك المسببي. واما إذا لم يكن محرزا كالبراءة فلا ينفع في الحكومة ، لأن غاية مدلول البراءة هو الترخيص في الفعل والترك بلا تصرف في الواقع ، فيبقى الشك في الشرطية على حاله فلا بد من علاجه بإجراء الأصل فيه (١).

والّذي يبدو لنا : انه لا مجال لجريان الأصل في الحكم التكليفي النفسيّ ، لأجل رفع الشك في الشرطية ، إذا كان التكليف بوجوده الواقعي منشأ للشرطية ، سواء كان الأصل إحرازيا أم لم يكن.

وذلك لأن الحرمة الثابتة للغصب وان كانت منشأ لاعتبار شرطية عدم الغصب في الصلاة من جهة التعارض وغلبة ملاك الحرمة ، إلا ان الشرط ليس هو عدم الحرمة كي يكون إجراء الأصل في الحرمة رافعا للموضوع ونافيا للشك في الشرط ، إذ عدم الضد لا يؤخذ في متعلق الضد الآخر ، فلا معنى لأن يقيّد الواجب بعدم كونه حراما. وإنما الشرط هو عدم متعلق الحرمة ، وهو الغصب ، فالمعتبر في الصلاة هو عدم الغصب ، ومنشأ اعتبار عدمه هو حرمته ، فإذا شك في الحرمة فالأصل فيها لا ينفي الشرط وهو عدم الغصب إلا بالملازمة العقلية.

وبعبارة أخرى : إذا شك في مكان انه غصب أم لا ، يشك في اعتبار عدمه في الصلاة من جهة الشك في الحرمة ، ونفي حرمته واقعا وإن استلزم انتفاء اعتبار عدمه ، لكن ذلك لا يثبت بالأصل إلا على القول بالأصل المثبت ، لأن الملازمة بين الحرمة والشرطية ملازمة عقلية ، وترتب اعتبار العدم على حرمة الفعل مما يحكم به العقل لا الشارع. فمجرد منشئية الحرمة للشرطية لا يصحح الاقتصار على إجراء الأصل في الحرمة ، بل لا بد من إجراء الأصل في الشرطية المشكوكة

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١٩٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٥٣

أيضا. فالتفت ولا تغفل.

المورد السادس : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية.

وقد تعرض الشيخ رحمه‌الله لذلك. وفرض موضوع الكلام ما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي ، وهو ما بين الهلالين ، فشك في انه ثلاثون أو ناقص ، ومثل ما إذا أمر بالطهور لأجل الصلاة وهو الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشك في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين.

كما انه حكم قدس‌سره بلزوم الاحتياط هنا لتنجز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلا ، والشك انما هو في تحققه بالأقل ، وهو مجرى قاعدة الاشتغال (١).

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله ـ كما في تقريرات الكاظمي ـ إلى ان الشيخ رحمه‌الله أرجع الشبهة الموضوعية إلى ما يرجع إلى الشك في المحصّل ، كما يظهر من تمثيله بالشك في جزئية شيء للطهور الرافع للحدث ، ومن التزامه بأصالة الاشتغال خلافا لما التزم به في الشبهة الحكمية.

وذهب إلى ان ذلك منه قدس‌سره لعله للغفلة أو لتخيله عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية. ثم ذكر : انه يمكن تصور الشبهة الموضوعية في نفس متعلق التكليف. ببيان طويل محصله : ان التكليف تارة : يكون له تعلق بموضوع خارجي كوجوب إكرام العالم. وأخرى : لا يكون له تعلق بموضوع خارجي كوجوب السورة.

ومن الواضح ان التكليف في المورد الأول يختلف سعة وضيقا باختلاف سعة الموضوع وضيقه ، فإذا ثبت وجوب إكرام مطلق افراد العالم بنحو العموم

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٤

المجموعي كان هناك تكليف واحد بإكرام مجموع العلماء فإذا شك في فرد انه عالم أولا ، يشك في سراية الحكم إليه وكون إكرامه جزء من متعلق الحكم أولا ، فيكون من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف ، ومنشأ الشك هو اشتباه الموضوع الخارجي. نعم إذا لم يكن للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فلا يمكن ان تتحقق فيه الشبهة الموضوعية ، بل الشبهة فيه لا بد وان تكون حكمية.

وبالجملة : فالشبهة الموضوعية لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين متصورة فيما كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي.

وذكر قدس‌سره بعد ذلك : ان أمثلتها في الفقه كثيرة. ومنها : تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره بناء على مانعية غير مأكول اللحم لا شرطية كونه من مأكول اللحم ، إذ كل فرد فرد من اجزاء غير المأكول منهيا عن الصلاة فيه بالنهي الغيري ، ويكون عدمه مأخوذا في الصلاة ، فالشك في ان هذا اللباس من مأكول اللحم أو لا يستلزم الشك في أخذ عدمه في الصلاة ، فيكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية.

نعم ، لو أخذ كون اللباس من مأكول اللحم شرطا في الصلاة لم يتأت البيان المزبور ، إذ التكليف في الشروط لا ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد ما للموضوع من أفراد ، إذ لا معنى للأمر بإيقاع الصلاة في كل فرد من افراد مأكول اللحم ، بل التكليف متعلق بصرف الوجود. وهذا معلوم لا شك فيه ، فلا بد من إحراز امتثاله بإحراز كون اللباس من مأكول اللحم ، ولا مجال لجريان البراءة هنا ، لأن الشك في المحصل لا في نفس متعلق التكليف ، فالحال يختلف بين أخذ كون اللباس من مأكول اللحم شرطا وبين أخذ كونه من غير مأكول اللحم مانعا.

فعلى الأول : لا يرجع الشك في كون هذا اللباس من المأكول وعدمه إلى

٢٥٥

الشك في الأقل والأكثر.

وعلى الثاني : يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر.

ولذا كان الشك على الأول مجرى الاشتغال. وعلى الثاني مجرى البراءة.

كما يحقق ذلك في مبحث اللباس المشكوك. هذا ملخص ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله في المقام (١).

وقد ذهب المحقق العراقي إلى تقسيم صور الشك في المصداق إلى ما يكون من جهة الشك في اتصاف الموجود بعنوان الكبرى ، كالشك في اتصاف زيد بعنوان العالم في مثال : « أكرم العالم ». وإلى ما يكون من جهة الشك في وجود ما هو المتصف بعنوان الكبرى.

وذكر ان الأول على قسمين ، لأن الخطاب تارة يكون مبهما من جهة حدود الموضوع ، بحيث يقبل الانطباق على الكثير والقليل ، مثل إكرام العالم. وأخرى : يكون معينا بلا إبهام فيه من هذه الجهة أصلا ، كالأمر بإكرام عشرة علماء.

ثم ذكر : ان الشك في المصداق في مثل الأول يستلزم الشك في مقدار إرادة المولى وشمولها للمشكوك فيه وعدمه. وعليه يكون المورد من دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

ولكنه أفاد : بان نظر الشيخ رحمه‌الله إلى غير هذا الفرض ، كما يظهر من تمثيله بالأمر بصوم ما بين الهلالين والشك في المحقق ، فانه ظاهر في كون محط نظره ما إذا لم يكن في الخطاب إبهام من حيث مقدار دائرة الحكم ، بل الإبهام في مقام التطبيق.

وذكر : ان الفرض الأول مما لا يخفى على أصاغر الطلبة فضلا عن مثل الشيخ رحمه‌الله الّذي هو أستاذ هذا الفن ، فلا ينبغي نسبة الغفلة إليه أو تخيل

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٠٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٥٦

عدم إمكان فرض الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر. ثم تعرض لبيان عدم تصور دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الفرضين الآخرين ، ولا يهمنا التعرض إليه فعلا (١).

ولا يخفى عليك ، ان ما أفاده العراقي اعتراف بما أفاده المحقق النائيني في واقعه ، وإن جعل نظر الشيخ رحمه‌الله مقصورا على غيره ، إذ لا يرتفع التساؤل عن سبب إغفال الشيخ للفرض الأول مع انه هو المثال الواضح للشبهة الموضوعية ، والفرض ان موضوع كلامه فيها.

ومثاله الأول وان أمكن إرجاعه إلى الشبهة الموضوعية ودوران الأمر بين الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف كما لا يخفى ، لكن مثاله الثاني وتعليله لزوم الاحتياط بالعلم بتعلق التكليف بمفهوم مبين مردد مصداقه بين الأقل والأكثر يأبى عن ذلك ، ويظهر منه ان المفروض كون الشك في المحصّل.

وكيف كان ، فقد عرفت ان تصور الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر بمكان من الإمكان ، والحكم فيها من حيث جريان البراءة العقلية والنقليّة هو الحكم في الشبهة الحكمية ، لجريان نفس البيان هاهنا بجميع شئونه. فالتفت ولا تغفل.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٤٠٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٥٧

يبقى الكلام في تنبيهات المسألة.

التنبيه الأول : في الشك في ركنية الجزء مع العلم بأصل الجزئية.

وقد ذكر الشيخ رحمه‌الله : أن عنوان الركن لم يرد في النصوص كي يقع البحث في تشخيص مفهومه العرفي ، وانما هو اصطلاح فقهي يعبّر به عن بعض الاجزاء التي يختل العمل بتركها سهوا ـ كما هو تعريف بعض الفقهاء للركن ـ ، أو التي يختل العمل بتركها سهوا وزيادتها عمدا وسهوا ـ كما هو تعريف بعض آخر للركن ـ. إذن فالمهم هو البحث عن هذه الجهات في الجزء ، فيقال انه إذا ثبت جزئية شيء وشك في اختلال العمل بتركه سهوا أو بزيادته عمدا وسهوا فما هو مقتضى الأصل العملي؟. فالكلام يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في بطلان العمل بتركه سهوا.

ولا يخفى ان مفروض الكلام إنما في مورد يكون هناك أمر جزمي بالعمل. بحيث لو غفل عنه أو نام ثم التفت إلى وجوده لثبت في حقه قطعا.

وبعبارة أخرى : ان النافي للصحة والمثبت يلتزم كلاهما بأنه لو لم يقم دليل على الصحة كان اللازم إعادة العمل لوجود الأمر في حق المكلف والشك في الخروج عن عهدته.

والوجه في تصحيح العمل منحصر في طريقين :

أحدهما : إثبات ان عمل الناسي للجزء هو المأمور به في حقه.

والآخر : إثبات ان عمل الناسي مسقط للأمر وإن لم يكن مأمورا به ، بلحاظ وفائه بغرض المأمور به ، فان سقوط الأمر بغير المأمور به غير عزيز.

فإذا لم يثبت كلا الطريقين تعين الالتزام ببطلان العمل عملا بقاعدة الاشتغال.

وقد يتوهم ان قاعدة الاشتغال انما تتم لو كان المكلف ملتفتا في حال

٢٥٨

دخول الوقت للتكليف المتعلق بالتام ، بحيث يتنجز في حقه ثم يطرأ عليه النسيان ، فانه يشك في الخروج عن عهدة ذلك التكليف المعلوم بالمأتي به الناقص ، فالأصل يقتضي الاشتغال. ولا تتم فيما إذا كان المكلف ناسيا من أول الوقت ثم استمر نسيانه إلى حين العمل ، إذ لا أمر بالتام قبل العمل وفي أثنائه للنسيان ، وأما بعد العمل فهو يشك في حدوث الأمر بالتام ومقتضى الأصل البراءة لا الاشتغال.

ولكنه توهم فاسد ، لأنه في مثل هذا الفرض وان لم يكن هناك أمر ، إلا انه يعلم بوجود غرض ملزم في العمل التام وكان المولى بصدد تحصيله ، وانما ارتفع الأمر لمانع عقلي وهو النسيان ، وهو لا يعلم بأن ما أتى به هل يحصل الغرض أو لا؟. والعقل يلزم بتحصيل العلم بحصوله ، فمع الشك يكون مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان بالتام ليحصل العلم بحصول الغرض الملزم.

وإذا ظهر لك ما ذكرنا ، فيقع الكلام في الوجه الّذي يحاول به تصحيح العمل وإثبات سقوط الأمر بواسطة المأتي به الفاقد للجزء عن نسيان ، وقد عرفت انه ينحصر في طريقين ، فيقع البحث في كل واحد منهما على حدة.

أما الطريق الأول : وهو إثبات تعلق الأمر بالعمل الفاقد ، وأنه مأمور به في حق الناسي. فتحقيق الكلام فيه يدعو إلى التكلم في مقامين :

الأول : في إمكان تعلق التكليف بالناقص بالنسبة إلى الناسي وعدمه.

الثاني : انه على تقدير إمكانه فيقع البحث في الدليل على ثبوت الأمر بالناقص.

فالمقام الأول بلحاظ مقام الثبوت. والمقام الثاني بلحاظ مقام الإثبات.

أما المقام الأول : فقد ذهب الشيخ رحمه‌الله إلى استحالة تعلق التكليف بالناسي بعنوانه. والوجه فيه : ان التكليف لا يمكن ان يكون باعثا ومحركا للعبد نحو العمل إلا مع الالتفات إليه وإلى موضوعه ، فالتكليف بالحج المأخوذ في

٢٥٩

موضوعه الاستطاعة لا يصلح للمحركية إلا مع الالتفات إلى الاستطاعة. ومن الواضح ان الناسي لا يمكن أن يلتفت إلى موضوع التكليف وهو كونه ناسيا مع بقاء النسيان ، بل بمجرد الالتفات إليه يزول النسيان ، فالتكليف المأخوذ في موضوعه الناسي غير صالح للمحركية في حال من الأحوال. أما مع الغفلة عن النسيان فواضح. وأما مع الالتفات إليه فلزواله (١).

وهذا الوجه مما لم نجد من استشكل فيه ، بل الكل اتفق مع الشيخ في استحالة تكليف الناسي بعنوانه.

ولكن ذهب صاحب الكفاية إلى إمكان تعلق التكليف بالناسي واختصاصه به لكن لا بعنوانه ، وذكر في ذلك طريقين :

الأول : ان يتعلق التكليف بما عدا الجزء المنسي بمطلق المكلّف أعم من الذاكر والناسي للجزء ، ثم يثبت تكليف آخر للذاكر خاصة بالجزء الّذي يذكره ، فيختص الناسي بالتكليف بما عدا الجزء المنسي بلا لزوم المحذور المزبور ، إذ لم يؤخذ عنوان الناسي في موضوع الحكم بالمرة.

الثاني : ان يوجّه التكليف بالناقص للناسي بعنوان ملازم للنسيان ، بحيث يمكن الالتفات إليه مع عدم زوال النسيان ، كعنوان بلغمي المزاج ونحوه ، فيكون مثل هذا التكليف صالحا للداعوية في حال النسيان (٢).

ويرد عليه قدس‌سره ان التكليف المتعلق بالناقص بكلا نحويه لا يكون هو الداعي لإتيان المركب الناقص ، بل المكلف الناسي يأتي بالفاقد على كل حال ثبت هناك أمر في الواقع أو لم يثبت ، والشاهد على ذلك هو انه قد يأتي بالعمل الفاقد الباطل الّذي لا أمر به كفاقد الركن ، بنفس النحو الّذي يأتي به

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٠