منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

ولا يخفى انه إذا قام دليل على كون الواجب هو الأقل دون الأكثر لا يبقى مجال لهذا القول ، لتشخيص ما هو الواجب الّذي يلزم الخروج عن عهدته ، ولا طريق إلى ذلك فيما نحن فيه سوى الاستصحاب.

وقد عرفت توجيه الشيخ رحمه‌الله للاستصحاب بالنحو المتقدم ، ويظهر منه ارتضاؤه ، وإن استشكل فيه تحت عنوان « اللهم إلاّ ان يقال ... ».

ولكن يمكن ان يورد على استصحاب عدم الجزئية بالتقريب المتقدم : بأن المقصود ..

إن كان نفي الجزئية في مقام اللحاظ بحيث يرجع التركيب إلى لحاظ المجموع امرا واحدا ، فيقصد من نفي الجزئية نفي تعلق لحاظ المولى بالجزء المشكوك.

ففيه : ان اللحاظ ليس من الأمور الجعلية للمولى ، وانما هو من أفعاله التكوينية كما انه ليس موضوعا لحكم شرعي ، والاستصحاب يعتبر ان يكون مجراه امرا مجعولا أو موضوعا لأمر مجعول ، إذ التعبد انما يتصور في الأمور الجعلية لا الأمور التكوينية.

وإن كان المقصود من البيان السابق للتركيب كون التركيب اعتباريا لا لحاظيا ، كما قد يظهر ذلك من التعبير بالمركبات الاعتبارية ، بمعنى ان يعتبر الوحدة للأمور المتباينة لا انها تلحظ شيئا واحدا فقط. فنفي الجزئية يرجع إلى نفي اعتباره جزء.

ففيه : ان اعتبار جزئية الجزء عين اعتبار كلية الكل ، فنفي اعتبار الجزئية يرجع إلى نفي اعتبار كلية الأكثر ، وهو لا يثبت كلية الأقل إلا بالأصل المثبت.

وبالجملة : يرد على هذا التقدير ما يورد على نفي تعلق الأمر الضمني من انه راجع إلى نفي الأمر بالكل.

ولعله هو المقصود مما أفاده الشيخ رحمه‌الله تحت عنوان : « اللهم إلا ان

٢٢١

يقال ... » فراجع. وسيأتي توجيه كلامه بنحو آخر بعد التعرض لكلام النائيني.

وقد تصدى المحقق النائيني للبحث عن استصحاب عدم الأكثر بصورة مفصلة ، ونحن نذكر جملة من كلامه فنقول : ذكر قدس‌سره ان المستصحب تارة يكون عدم وجوب الجزء المشكوك. وأخرى يكون عدم وجوب الأكثر المشتمل على المشكوك.

وعلى كلا التقديرين اما ان يراد من العدم هو العدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام. واما ان يراد به العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات ، كقبل الزوال بالنسبة إلى صلاة الظهر. واما ان يراد به العدم السابق على البلوغ.

وعلى جميع التقادير لا يجري استصحاب العدم ، لكن يختلف الوجه في عدم الجريان باختلاف الوجوه ، إذ منها ما لا يكون له متيقن سابق. ومنها لا يكون لبقائه أثر شرعي. ومنها ما يجتمع فيه الأمران.

أما استصحاب عدم وجوب الجزء المشكوك بالعدم الأزلي ، فان أريد به العدم النعتيّ وما هو مفاد ليس الناقصة ، فيقال الأصل عدم تعلق الجعل واللحاظ بالمشكوك في ظرف تشريع المركب ، فهو مما لا حالة سابقة له ، إذ لم يسبق زمان شرّع المركب فيه بدون لحاظ الجزء ، بل المركب عند تشريعه إما شرع الجزء المشكوك في ضمن اجزائه أولا. وان أريد به العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة فهو وان كان متيقنا لأن اللحاظ والجعل أمر حادث مسبوق بالعدم ، إلا انه يرد عليه :

أولا : ان المقصود باستصحاب العدم هو إثبات تعلق الجعل بالأقل وإلا فلا أثر له. ومن الواضح انه لا يمكن إثبات ذلك بالأصل المزبور إلا على القول بالأصل المثبت.

وثانيا : ان عدم الجعل مما لا أثر له أصلا ، لأن الآثار الشرعية بل العقلية

٢٢٢

من الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك ، انما تترتب وجودا وعدما على الحكم المجعول لا على الجعل بما هو جعل إلاّ بلحاظ استتباعه للمجعول.

وعليه ، فأصالة عدم الجعل لا أثر لها إلا إذا أريد بها إثبات عدم المجعول ، وهو مما لا يمكن إلا بناء على حجية الأصل المثبت ـ إذ المجعول ليس من الآثار الشرعية للجعل بل من لوازمه ـ أو دعوى خفاء الواسطة.

وبالجملة : استصحاب العدم المحمولي لوجوب الجزء المشكوك مثبت من جهتين.

وأما استصحاب عدم وجوب الأكثر بالعدم الأزلي. بتقريب : ان تعلق الجعل بما يشتمل على السورة مثلا أمر حادث فالأصل عدمه. فيرد عليه :

أولا : ما تقدم من عدم الأثر لأصالة عدم الجعل إلا بلحاظ إثبات عدم المجعول فيكون الأصل مثبتا.

وثانيا : معارضته بأصالة عدم وجوب الأقل ، لأن لحاظ الأقل لا بشرط يباين لحاظه بشرط شيء وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم.

ثم أنه ذكر : أن هذا لا ينافي ما تقدم في رد المحكي عن صاحب الحاشية من أن الماهية لا بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فان ذلك باعتبار نفس الملحوظ لا باعتبار نفس اللحاظ ، وإلاّ فهما متباينان ، وكل منهما حادث والأصل عدمه. ثم تعرض إلى سائر صور الاستصحاب ، ونكتفي فعلا بهذا المقدار من كلامه (١).

ولا بد من البحث في جهات عديدة في كلامه :

الأولى : ـ وهي أهمها ـ في ما أفاده من عدم جريان استصحاب عدم الجعل

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٣٩٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٢٣

لعدم الأثر المترتب عليه ، فانه لا بد من البحث في ذلك ، فانه محل كلام ، وعلى جريان هذا الاستصحاب يبتني عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لابتلائه بالمعارض دائما وهو أصالة عدم الجعل ، كما ذهب إليه المحقق النراقي (١) وتبعه عليه غيره (٢).

الثانية : فيما أفاده من عدم جريان أصالة عدم لحاظ الجزء بنحو العدم المحمولي ، من دون تعرض لكلام الشيخ حيث قرّبه بما عرفت من تقوّم الأقل بجنس وجودي وفصل عدمي ، وان استشكل فيه بعد ذلك. فلا بد من الكلام في هذه الجهة ومعرفة مقدار ارتباطها بكلام الشيخ.

الثالثة : في ما أفاده من معارضة استصحاب عدم جعل وجوب الأكثر باستصحاب عدم جعل وجوب الأقل ، مع التزامه سابقا بعدم معارضة أصالة البراءة في الأكثر بأصالة البراءة في الأقل ، فلا بد من معرفة انه هل هناك فرق بين الاستصحاب والبراءة أولا؟.

أما الكلام في الجهة الأولى ـ وقد عرفت أنها ذات أهمية جدا ـ ، والّذي نتعرض للكلام فيه فعلا هو خصوص أصالة عدم الجعل وانها هل تجري أو لا تجري لعدم الأثر أو لغيره؟.

أما الجهات الأخرى التي ترتبط باستصحاب الأحكام الكلية ، فالكلام فيها موكول إلى محله.

وكيف كان ، فقد عرفت توقف المحقق النائيني من جريان أصالة عدم الجعل لعدم أثر عملي يترتب عليه ، إذ الأثر العملي الشرعي أو العقلي انما يترتب على المجعول وجودا وعدما ، وعدمه لا يثبت بأصالة عدم الجعل إلاّ بالملازمة

__________________

(١) النراقي المحقّق ملاّ أحمد ، المستند ـ ١٥٦ ـ الطبعة القديمة.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٤

وبنحو الأصل المثبت.

وقد قيل في دفع ما أفاده قدس‌سره وجهان :

الأول : ما ذكره المحقق العراقي قدس‌سره من ان الأثر غير الشرعي انما لا يترتب على المستصحب الثابت بالاستصحاب إذا كان أثرا لخصوص الوجود الواقعي للمستصحب ، فيقال إن ثبوته بالاستصحاب يبتني على القول بالأصل المثبت لأنه لازم غير شرعي للمستصحب. أما إذا كان لازما وأثرا للمستصحب بوجوده المطلق أعم من الواقعي والظاهري ، ترتب على الاستصحاب قهرا ، إذ يثبت المستصحب ظاهرا فيترتب عليه الأثر ، وذلك نظير وجوب الإطاعة العقلي ، فانه يترتب على الحكم الشرعي الثابت واقعا أو ظاهرا ، فإذا ثبت الحكم بواسطة الاستصحاب ترتب عليه وجوب الإطاعة عقلا.

ولا يخفى ان ترتب المجعول على الجعل كذلك ، فانه يترتب على الجعل بوجوده الواقعي والظاهري ، فالجعل الظاهري يستتبع المجعول ظاهرا.

وعليه ، فنفي الجعل ظاهرا يستتبع نفي المجعول ، لأنه من آثار عدم الجعل الواقعي والظاهري. فلا يكون ثبوته من باب الأصل المثبت.

ولو لا ذلك لما صح استصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ لإثبات المجعول ، مع ان جريانه وترتب المجعول عليه عند تحقق الموضوع من المسلمات ، وذلك كاستصحاب بقاء جعل وجوب الحج على المستطيع مع كون الشخص مستطيعا فعلا ، فانه يترتب عليه ثبوت الوجوب عند تحقق الاستطاعة.

وليس ذلك إلا لما ذكر من ان المجعول لازم للجعل أعم من وجوده الواقعي والظاهري (١).

الثاني : ان الجعل والمجعول متحدان وجودا مختلفان اعتبارا ، كالإيجاد

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٩٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٢٥

والوجود ، فليس أحدهما غير الآخر. وعليه فاستصحاب الجعل بنفسه إثبات للمجعول ، كما ان استصحاب عدم الجعل بنفسه إثبات لعدم المجعول ، ولا ملازمة ولا ترتب بينهما.

ولو لا ذلك لما صح استصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ لغرض إثبات المجعول في ظرفه ، مع انه من المسلمات غير القابلة للإنكار ، بل عليه يبتني بقاء الشريعة (١).

أقول : الوجهان يشتركان في النقض باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ ، ويختلفان في الحل.

ولكن كلاهما قابل للدفع ...

أما استصحاب عدم النسخ ، فهو ـ على ما حققناه ـ لا يرجع إلى الاستصحاب المصطلح ، بل يرجع إلى التمسك بإطلاق دليل كل حكم الدال بنفسه على الاستمرار ، حتى انه لا حاجة أيضا إلى التمسك بما ورد من : « ان حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (٢).

ولو سلم انه يرجع إلى الاستصحاب المصطلح كما بنى عليه المحقق النائيني ، فانه بنى على ان طريق إثبات استمرار الأحكام هو استصحاب عدم النسخ (٣). فهناك فرق بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.

ولا وجه لكلا الوجهين :

أما ما أفاده المحقق العراقي من ان المجعول وجودا وعدما يلازم الجعل وجودا وعدما أعم من الواقعي والظاهري.

ففيه : انه مسلم في طرف الوجود دون العدم.

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ١٦٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرّأي والمقاييس الحديث ١٩.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥١١ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٦

وذلك لأن مرجع الجعل إلى إنشاء الحكم. ومن الواضح ان الإنشاء بلا منشأ محال ، فالإنشاء يتقوم تكوينا بالمنشإ.

وعليه ، فيمكن ان يقال : كما ان الجعل والإنشاء الواقعي يلازم المنشأ والمجعول واقعا ، كذلك الإنشاء والجعل ظاهرا يلازم المنشأ والمجعول ظاهرا ، إذ لكل إنشاء منشأ ولكل جعل مجعول. فالإنشاء الظاهري يلازم المنشأ ظاهرا ، فاستصحاب الجعل الّذي يرجع إلى ثبوت الجعل ظاهرا يترتب عليه ثبوت المجعول ظاهرا ، فتترتب عليه آثاره العملية العقلية والشرعية.

أما عدم الجعل ظاهرا ، فهو أيضا يلازم عدم المجعول ظاهرا ، كالملازمة بين عدم الجعل واقعا وعدم المجعول واقعا ، لكن مجرد عدم الجعل والمجعول ظاهرا لا ينفع في إثبات المعذورية من الواقع المحتمل ، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع انما هو على نفس الواقع ، فعدم جعل الظاهر جزما لا أثر له في نفى العقاب على الواقع المحتمل.

كما ان مفاد استصحاب العدم ليس مجرد ثبوت عدم الجعل ظاهرا ، إذ هو مقطوع به فلا حاجة إلى الاستصحاب. فيحتاج في مقام المعذورية من الواقع المحتمل إلى التعبد ظاهرا بعدمه باستصحاب أو غيره. ومن الواضح ان التعبد ظاهرا بعدم الجعل في الواقع لا يمكن ان يثبت به عدم المجعول واقعا ، كي يتحقق العذر ، وذلك لأن ثبوت عدم المجعول واقعا بواسطة التعبد بعدم الجعل إما من جهة ان التعبد بعدم الجعل عين التعبد بعدم المجعول ، أو من جهة الملازمة بين التعبد بعدم الجعل والتعبد بعدم المجعول ، أو من جهة الملازمة الواقعية بين عدم الجعل وعدم المجعول.

والأول باطل قطعا كما لا يخفى. والثاني لا وجه له ، إذ أي ملازمة بين التعبد بعدم الجعل والتعبد بعدم المجعول ، إذ يمكن التفكيك بين التعبدين. والثالث يرجع إلى الأصل المثبت وهو باطل.

٢٢٧

وبالجملة : إشكال الأصل المثبت يتأتى في استصحاب عدم الجعل دون استصحاب بقائه ، فلا يصح النقض ، كما لا يصح ما أفيد من ان عدم المجعول أثر لعدم الجعل الأعم من الظاهري والواقعي ، إذ عرفت ان التعبد بعدم الجعل لا يترتب عليه التعبد بعدم المجعول ، إذ لا ملازمة بين التعبدين ، فينحصر وجه ترتب عدم المجعول على الاستصحاب عدم الجعل بالملازمة الواقعية بينهما فيرجع إلى الأصل المثبت. نعم عدم المجعول يترتب على عدم الجعل ، لكن عرفت انه لا ينفع في المعذورية ، وان مفاد الاستصحاب هو التعبد بعدم الجعل لا نفس عدم الجعل. فانتبه.

فما أفاده المحقق النائيني من ان أصالة عدم الجعل لا أثر لها إلا بناء على الأصل المثبت متين جدا.

وأما حديث وحدة الجعل والمجعول كوحدة الإيجاد والوجود ، فهو يبتنى على الالتزام بان الإنشاء ليس هو التسبيب للاعتبار العقلائي في ظرفه ، كما هو مسلك المشهور ، بل هو إبراز للاعتبار النفسانيّ الشخصي ، فليس لدينا اعتبار عقلائي ، بل لدينا اعتبار شخصي يبرزه الإنشاء. ومن الواضح عدم انفكاك الاعتبار عن المعتبر ، فالمعتبر موجود من حين الإنشاء لكنه على تقدير ، بمعنى ان مورد الاعتبار هو الأمر على تقدير خاص ، فالموصي حين يوصي بداره لزيد بعد موته ، يعتبر الملكية فعلا لكن لزيد بعد موته ، فالملكية متحققة من الآن. وهكذا الوجوب على تقدير شرط خاص ، فان الوجوب فعلي قبل حصول الشرط بفعلية الإنشاء والاعتبار ، لكن متعلقه امر على تقدير خاص.

وبالجملة : الجعل والمجعول يراهما هذا القائل بمعنى الاعتبار والمعتبر.

ومن الواضح وحدتهما وجودا وتغايرهما اعتبارا.

ونحن نتكلم في مناقشة هذا القول مع قطع النّظر عن أصل مبناه وبطلانه ، فان له محلا آخر قد تقدم إسهاب الكلام فيه فراجع. فنقول : ان

٢٢٨

الاعتبار الشخصي يطرأ على الموضوع الكلي كوجوب الحج على المستطيع. ويثبت الوجوب من حين الاعتبار وان لم يكن للموضوع وجود أصلا ، فالوجوب ثابت فعلا قبل صيرورة الشخص مستطيعا ، وبعد الاستطاعة يتصف الشخص بأنه من وجب عليه الحج. ولا يخفى ان هذا الوجوب الحادث غير الوجوب الثابت بمجرد الاعتبار ، إذ ذلك كان ثابتا ولم يكن الشخص متصفا به. وهذا يكشف عن وجود مرحلة أخرى للوجوب هي مرحلة التطبيق الحاصلة عند حصول الموضوع خارجا. ومن الواضح ان هذه المرحلة هي محط الآثار العملية العقلية ، إذ لا أثر لمجرد اعتبار الحكم الكلي مع قطع النّظر عن انطباقه على موضوعه الخارجي.

وعليه ، نقول : إن استصحاب عدم الجعل الكلي لا ينفع في إثبات عدم المجعول بمرحلته الثانية ذات الأثر العملي إلا من باب الأصل المثبت. كما ان استصحاب عدم اللون الأبيض لا ينفع في إثبات عدم المرتبة الخاصة من اللون الأبيض المشكوكة إلا من باب الأصل المثبت.

وبالجملة : يتأتى هاهنا نفس البيان الّذي ذكرناه على تقدير الالتزام بتغاير الجعل والمجعول.

والمتحصل : ان ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله من ان استصحاب عدم الجعل لا أثر له إلا بناء على القول بالأصل المثبت مما لا محيص عنه. هذا مع قطع النّظر عن عدم قابلية العدم للتعبد ، وإلا فالإشكال فيه أوضح. فانتبه.

ثم انه قد أشرنا إلى ارتباط هذا البحث بجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية. وبيان ذلك بنحو الإجمال : ان الشك في الحكم الشرعي إيجابا كان أو تحريما تارة : يكون في ثبوته لحصة في عرض سائر الحصص ، كالشك في حرمة الصوت مع عدم الترجيع أو الطرب ، مع العلم بحرمة الفرد المشتمل على الترجيع والطرب. وأخرى : يكون في ثبوته لحصة في طول سائر الحصص من حيث الزمان ،

٢٢٩

ومرجعه إلى الشك في استمرار الحكم المتيقن حدوثه ، كالشك في بقاء النجاسة للماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه.

ولا يخفى ان الشك بالنحو الأول لا مسرح للاستصحاب فيه ، لأن موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء الحكم واستمراره ، وإنما يجري حديث الاستصحاب بالنسبة إلى الشك بالنحو الثاني ، فيتكلم في إمكان جريان استصحاب النجاسة الثابتة سابقا ـ مثلا ـ ، وفي هذا المقام يقع حديث استصحاب عدم الجعل ، فيقال بأنه يعارض استصحاب بقاء الحكم المجعول دائما. ببيان يذكر في محله. ونتيجته يلتزم بعدم جريان استصحاب المجعول لأجل المعارضة دائما.

فإذا ثبت انه لا مجال لاستصحاب عدم الجعل كان استصحاب بقاء المجعول سليما عن المعارض.

إذن فتحقيق صحة جريان استصحاب عدم الجعل وعدم صحته له الأثر المهم في صحة جريان استصحاب بقاء الأحكام الكلية عند الشك في استمرارها وعدم صحته.

وكما يكون لاستصحاب عدم الجعل ارتباط بتلك المسألة ، فان له ارتباطا أيضا بمسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وهي : انه هل يمكن إثبات وجوب الأقل بأصالة عدم الجعل الجارية في خصوص الجزء المشكوك أو لا؟. وسبب الاهتمام في ذلك يبتني على الالتزام بعدم انحلال العلم الإجمالي وجريان قاعدة الاشتغال عقلا في حد نفسها ، فانه إذا كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان بالأكثر لعدم العلم بالامتثال بمجرد الإتيان بالأقل لفرض كون الواجب ارتباطيا ، فلا رافع لذلك إلا قيام الدليل التعبدي على تعيين كون الواجب هو الأقل دون الأكثر ، لكي يرتفع موضوع قاعدة الاشتغال ، إذ بعد حكم الشارع بان الواجب هو الأقل وتعيين تعلق الأمر بالأقل دون الأكثر لا مجال حينئذ

٢٣٠

لحكم العقل بالاحتياط ، بل يكون المورد من قبيل موارد جريان قاعدة الفراغ مع العلم التفصيليّ بالتكليف.

ولا يخفى ان هذا يختص بالأقل والأكثر الارتباطيين ، إذ لا مجرى لقاعدة الاشتغال في الاستقلاليين ، كي يحتاج إلى تعيين الواجب في ضمن الأقل. فالتفت.

وعلى كل حال. فقد عرفت ان المحقق النائيني ذهب إلى ان استصحاب عدم الجعل لا يتكفل هذه المهمة ، لأنه أصل مثبت بلحاظ هذه الجهة. ولكنه ذهب سابقا إلى إثبات تعيين الواجب هو الأقل بأصالة البراءة ، وانها تتكفل إثبات الإطلاق الظاهري للمأمور به. ومن هنا قد يورد عليه بالتهافت في كلامه ، إذ كيف تتكفل البراءة تعيين الواجب ولا يتكفله الاستصحاب الا على القول بالأصل المثبت؟.

ولكن يمكن بيان الفرق بين البراءة والاستصحاب : بان المفروض في الاستصحاب كون المستصحب هو العدم بنحو العدم المحمولي ، ومن الواضح انه لا يتكفل تعيين الواجب في الأقل إلاّ بالملازمة العقلية. نعم لو جرى الاستصحاب في العدم النعتيّ ثبت تعيين الأقل ، لأن مفاده ذلك رأسا ، إذ مفاده عدم أخذ الجزء في المركب المأمور به ، ولكن عرفت المناقشة باختلال اليقين السابق الّذي هو ركن من أركان الاستصحاب.

أما البراءة ، فمفادها مفاد الاستصحاب الجاري في العدم النعتيّ. وقد عرفت انه لا إشكال عليه من جهة انه أصل مثبت ، بل الإشكال فيه من جهة أخرى ، وذلك لأن مفادها عدم جعل الجزء المشكوك في المركب المأمور به وعدم ارتباط التكليف المعلوم بالإجمال فيه ، وهذا بنفسه يرجع إلى تعيين كون المأمور به هو الأقل. إذن فلا تهافت في كلامه.

وبذلك يظهر ان ما أفاده المحقق النائيني من عدم جريان أصالة عدم

٢٣١

الجعل فيما نحن فيه للوجهين المتقدمين متين جدا بكلا وجهيه.

ثم انه ظهر مما ذكرناه هاهنا : ان محط نظره قدس‌سره في حديثه عن إجراء البراءة الشرعية هو إثبات تعيين الواجب ، وانه الأقل ، ليرتفع بذلك حكم العقل بلزوم الاحتياط ، وان غرضه من إثبات الإطلاق الظاهري ذلك ، لا ما سبق منّا في بيان كلامه من رجوع مقصوده إلى انحلال العلم بجريان الأصل المثبت في أحد أطرافه والنافي في الطرف الآخر ، أو انحلاله بعدم تعارض الأصول. بل النكتة التي ينظر إليها قدس‌سره هو بيان ان مقتضى أصالة البراءة تعيين الشارع المأمور به ظاهرا مما يستلزم ارتفاع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، نظير موارد جريان قاعدة الفراغ الراجع إلى اكتفاء الشارع بما جاء به المكلف ، ولو لم يكن مصادفا للواقع. فانتبه ولا تغفل.

وأما ما أفاده قدس‌سره من ان جريان أصالة العدم في وجوب الأكثر يعارضه جريان أصالة العدم في وجوب الأقل ، لتباين لحاظ الشيء لا بشرط مع لحاظه بشرط شيء ، فقد أشرنا إلى انه مثار إيراد عليه : بأنه قد تقدم منه ان إجراء البراءة في الأكثر لا يعارضه إجراء البراءة في الأقل ، فأي فرق بين المقامين؟.

وكأنه انتبه إلى هذا الإيراد فذكر : ما تقدم منّا في عدم تباين لحاظ الأقل لا بشرط مع لحاظه بشرط شيء لا يتنافى مع ما ذكرناه هنا من تنافي اللحاظين.وذكر في وجه التنافي وجها مجملا ولأجله أورد عليه المقرر بما يرجع إلى عدم الفرق بين الموردين وان الحق عدم المعارضة.

والصحيح في الجواب عن هذا السؤال : انك عرفت أخيرا ان محط نظره في إجراء البراءة ليس هو نفي وجوب الأكثر ، بحيث يكون وجوب المجموع مجرى البراءة ، بل مجرى البراءة هو نفي اعتبار الجزء المشكوك في المركب المأمور به الّذي يحاول به تعيين كون الواجب هو الأقل.

ومن الواضح ان جريان البراءة في الجزء المشكوك لا يعارض جريان

٢٣٢

البراءة في الأقل ، لأنه معلوم الجعل على كل حال ، وانما الشك في أخذه لا بشرط وبنحو الإطلاق ، أو أخذه بنحو التقييد وبشرط شيء.

وهذا بخلاف فرض الاستصحاب ، إذ المفروض ان مجراه عدم وجوب الأكثر بنحو المجموع ، ونفي احتمال وجوب الأكثر بنحو الاستقلال يقابله احتمال وجوب الأقل بنحو الاستقلال وهو مشكوك ، فيكون مجرى لأصالة العدم أيضا. ولا فرق في هذه الجهة بين أصالة البراءة أو الاستصحاب.

فعمدة الفرق بين المقامين ليس راجعا إلى الاختلاف بين البراءة والاستصحاب بل إلى ان المفروض في مجرى الأصل هاهنا يختلف عن مجراه فيما تقدم ، وذلك سبب تحقق المعارضة في ما نحن فيه وعدم تحققها فيما تقدم. فانتبه.

يبقى أمر واحد في كلام المحقق النائيني وعدنا بالتنبيه عليه وهو مدى ارتباط كلامه بكلام الشيخ ، حيث ذهب إلى تقريب جريان أصالة عدم الجزئية بالبيان المتقدم.

وتوضيح ما أفاده الشيخ رحمه‌الله هو : انك عرفت انه فرض للجزئية مرحلة وسطى بين مرحلة الجزئية للمركب الواقعي الراجع إلى دخالة الجزء في المصلحة وبين مرحلة الجزئية للمأمور به ، وهي الجزئية في مقام اللحاظ.

وقد عرفت الإشكال فيه : بان اللحاظ ليس من المجعولات الشرعية كي يصح التعبد بها ، وانما هو من افعال الشارع التكوينية فلا معنى لاستصحابه.

ولكن يمكن توجيه كلامه بما أشار إليه المحقق العراقي قدس‌سره (١) بإرجاع ما أفاده إلى استصحاب عدم الجعل أو التعبد به ، ببيان : ان للأحكام الشرعية مرحلتين مرحلة الإنشاء والجعل. ومرحلة الفعلية. ولا يخفى ان موضوع الإنشاء والجعل هو لحاظ المركب بنحو الوحدة لتقومه به. فاذن لحاظ كل جزء

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٩٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٣٣

مأخوذ في موضوع جعل الحكم له ، فاستصحاب عدم اللحاظ إما يقصد به استصحاب عدم الجعل ، أو يقصد به التعبد بأثر اللحاظ ، وهو الجعل ، فينتفى بواسطة استصحاب عدم الموضوع ، إذ مرجع استصحاب الموضوع إلى التعبد بحكمه.

ونتيجة هذا البيان : انه لا إشكال في استصحاب عدم اللحاظ من الجهة التي عرفتها ، لرجوعه إلى التعبد بعدم الجعل.

أما تقريب إثبات وجوب الأقل به ، فقد تقدم بيانه بان الأقل مركب من جنس وجودي وفصل عدمي ، والجنس الوجوديّ وهو تعلق الحكم بغير المشكوك من الاجزاء محرز بالوجدان ، والفصل العدمي وهي عدم جعل الجزء المشكوك يثبت بأصالة عدم الجعل بنحو العدم المحمولي. ولكن هذا البيان إنما يتأتى لو تم ما ذكر من تقوّم الأقل بأمر وجودي وأمر عدمي بنحو التركيب.

أما إذا ادعى بان الأقل يتقوم بأمرين وجوديين : أحدهما ثبوت الجعل للاجزاء التسعة ـ مثلا ـ. والآخر لحاظ كونها لا بشرط بالنسبة إلى العاشر ، لا مجرد عدم لحاظ الجزء العاشر المشكوك. فأصالة عدم جعل الجزء العاشر لا يثبت تقيد الاجزاء الأخرى بالقيد الوجوديّ إلا بالملازمة العقلية فيكون الأصل مثبتا. كما تقدم بيانه في كلام المحقق النائيني.

وبما ان الأمر في الأقل كذلك ـ أعني انه يتقوم بأمرين وجوديين ـ ، وذلك لأن الاجزاء التسعة إما ان تلحظ مقيدة بالعاشر أو تلحظ غير مقيدة به ، إذ الإهمال ثبوتا ممتنع عقلا ، فلا يصح ان لا تلحظ مقيدة ولا غير مقيدة.

وعليه ، فيكون الأقل هو المركب الملحوظ عدم تقيده بالجزء العاشر ، فأصالة عدم الجعل بالنسبة إلى الجزء المشكوك لا يتكفل إثبات وجوب الأقل إلا بالملازمة والأصل المثبت. وإلى هذا يرجع ما أفاده الشيخ تحت عنوان : « اللهم إلا ان يقال .. ».

٢٣٤

والّذي يتحصل مما ذكرناه ان ما أفاده المحقق النائيني يوافق مختار الشيخ أخيرا ، فلا اختلاف بينهما.

هذا جميعه حول ما يرتبط بما أفاده المحقق النائيني بالنسبة إلى استصحاب عدم الأكثر بنحو العدم الأزلي.

وأما ما أفاده في استصحاب العدم قبل الوقت في الموقتات ، فلا يهمنا فعلا التعرض إليه لعدم الأثر العملي له فيما نحن فيه. والجهة المهمة فيما ذكره في هذا المقام هو بيان اختصاص الاستصحاب بلحاظ الوقت باستصحاب عدم المجعول ، ولا يتأتى استصحاب عدم الجعل ، واختصاص استصحاب العدم الأزلي باستصحاب عدم الجعل ، ولا يتأتى فيه استصحاب المجعول لاختلاف رتبة الجعل والمجعول ، ومقام كل منهما غير مقام الآخر. وهذه الجهة سنتعرض لها في المحل المناسب إن شاء الله تعالى. وهكذا الحال فيما أفاده في استصحاب العدم الثابت قبل البلوغ والمنع من جريانه لأجل ان العدم الثابت قبل البلوغ لا يستند إلى الشارع ، لامتناع جعل التكليف في حق الطفل ، فلا يستند العدم إلى الشارع ، بل هو عدم عقلي ، وهو مرتفع قطعا بعد البلوغ إما بجعل التكليف أو بتبدله إلى العدم المستند إلى الشارع ، فلا مجال على هذا لاستصحابه. فان تحقيقه فيما نحن فيه ليس بذي أثر كبير. فنوكل البحث فيه إلى محله إن شاء الله تعالى. هذا كله فيما إذا كان الشك في الجزئية.

الصورة الثانية : في الشك في الشرطية :

وفيما إذا كان الشك في شرطية شيء للمركب.

فقد فصّل الشيخ الكلام في الشروط بين ما كان منشأ الشرط فعلا خارجيا مغايرا للمقيد في الوجود الخارجي ، كالطهارة المنتزعة عن الوضوء وبين ما كان متحدا مع المقيد في الوجود الخارجي ، كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة في قوله :

٢٣٥

« أعتق رقبة مؤمنة » وقرّب أولا إلحاق القسم الأول بالجزء ، فيكون المرجع عند الشك فيه هو البراءة ، وإلحاق القسم الثاني بالمتباينين ، فيكون الشك فيه موردا للاحتياط. ثم اختار أخيرا أنّ حكم القسمين واحد وانّ الأقوى فيه إلحاقهما بالجزء ، فالمرجع عند الشك في الشروط هو البراءة (١).

وذهب صاحب الكفاية إلى : أنّ الشك في الشرط لا يكون مورد البراءة العقلية للعلم الإجمالي ، وإنّ الوجه في الانحلال المتوهم عند الشك في الجزئية لا يتأتى هاهنا (٢). وسيتّضح كلامه إن شاء الله تعالى.

وتحقيق الكلام أن يقال : انّه بناء على ما سلكناه في الشك في الجزء تبعا للشيخ رحمه‌الله من الالتزام بالانحلال في حكم العقل المبتني على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، وإمكان تنجز التكليف من جهة دون جهة وبمقدار دون آخر. فحكم الشك في الشرط بجميع أنحائه حكم الجزء ، إذ المقدار المنجز من التكليف هو التكليف بالمطلق. أما خصوصية الشرط ، فلا يعلم اعتبارها ، فالتكليف غير منجز من جهتها فيكون العقاب على إهمالها عقابا بلا بيان ، كما أنّه يمكن إجراء البراءة الشرعية في التكليف من تلك الجهة ، لأنّ مرجعها إلى عدم إيجاب الاحتياط ، وهو متصور بعد تصور التبعض في التنجيز.

وأما بناء على الالتزام في مورد الشك في الجزء بالانحلال الحقيقي في حكم الشرع ، بدعوى العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد. فقد أشير إلى أنه يبتني على القول بانبساط الوجوب النفسيّ المتعلق بالكل على الاجزاء ، بحيث يكون كل جزء متصفا بالوجوب ، بأن يكون الوجوب نظير الاعراض الخارجية كالبياض التي يتصف بها مجموع الجسم وفي الوقت نفسه

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٣٦

يكون كل جزء منه متصفا به. وبتعبير أوضح : يكون نظير الغطاء الواحد الّذي يغطي مجموع البدن ، ويتصف كل جزء من البدن بأنه تحت الغطاء أو مغطى.

أما على القول بعدم الانبساط وكون الوجوب نظير الحمى العارضة على مجموع البدن ولا يتصف كل جزء منه بها ، فلا يقال للرأس انّه محموم ، فلا مجال لدعوى الانحلال كما لا يخفى.

وإذا ظهر أنّ الانحلال المدعى يبتني على القول بانبساط الوجوب فيقع الكلام في انّ انبساطه هل يختص بالاجزاء أو يعم الشروط؟. ولا يخفى انّ الشرط بنفسه لا يكون موردا للأمر النفسيّ ، وانّما هو طرف للإضافة ، فما يتوهم اتصافه بالأمر النفسيّ الضمني هو التقيد بالشرط.

وقد ذهب صاحب الكفاية ـ كما أشرنا إليه ـ إلى عدم قابليته للاتصاف بالوجوب النفسيّ. بدعوى انّ الجزء التحليلي لا يتصف به.

ويمكن ان يوجّه ما أفاده قدس‌سره ويقرّب : بأنّ التقيد إذا لوحظ بنحو المعنى الاسمي كان كسائر المفاهيم الاسمية مما يمكن أن يتصف بالوجوب. اما إذا كان ملحوظا بنحو المعنى الحرفي الراجع إلى ملاحظة ذي القيد بنحو خاص ، لأنّ حقيقة المعنى الحرفي ـ كما مرّ إيضاحها ـ هي الوجود الرابط الّذي عبّر عنه بالربط بين المفاهيم الكلامية ونحو ذلك ، وهو كيفيّة من كيفيّات وجود المفهوم الاسمي المرتبط به. فليس له وجود غير وجود المعنى الاسمي المتقوم به ، بل هو نحو خاص من وجود المعنى الاسمي.

فإذا كان التقيد ملحوظا بنحو المعنى الحرفي ، كان فانيا في المقيد ، وكان الواجب في الحقيقة هو الحصة الخاصة من المطلق. فلا يكون الوجوب منبسطا على التقيد.

ولا يخفى أن الشرط على تقدير اعتباره انما يلحظ التقيد به بنحو المعنى

٢٣٧

الحرفي ، فيلحظ واقع التقيد به لا مفهومه ، فلا وجه حينئذ للانحلال ، لعدم القدر المتيقن في البين ، بل الأمر يدور بين تعلق الحكم بالحصة الخاصة أو بغيرها. هذا ما يمكن ان يقرّب به كلام الكفاية.

ويمكن الإشكال فيه : بان كون المعنى الحرفي كذلك لا ينافي تعلق التكليف به وكونه موردا للأثر الشرعي ، ولا ينافي لحاظه الاستقلالي في مقام ترتيب الأثر عليه. وان اشتهر بان المعنى الحرفي آلي لا استقلالي ، إذ معنى الآلية فيه ليس هو المرآتية والفناء في مقام التصور والملاحظة ، بل بمعنى انه سنخ معنى يتقوم بالغير ويفنى فيه ولا ينحاز عنه ، فيصح تعلق التكليف به كما بيّن ذلك في العبادات المكروهة. فقد أفيد في محله : ان الكراهة ـ في الصلاة في الحمام مثلا ـ راجعة إلى تقيد الصلاة بالكون في الحمام وإيقاعها فيه من دون حدوث حزازة في نفس الصلاة. كما ان الكون في الحمام لا كراهة فيه في نفسه لو لم يكن راجحا.وهكذا في مثل استحباب الصلاة في المسجد ، فان المرغوب للمولى هو إيقاع الصلاة في المسجد وتقيدها بالمكان الخاصّ ، وهو محط نظره في قوله : « صل في المسجد ».

وبالجملة : كون التقيد ملحوظا بنحو المعنى الحرفي لا ينافي تعلق التكليف به وانبساط التكليف عليه وسرايته إليه.

فالمتجه أن يقال : إن كل مورد تكون الخصوصية المشكوكة فيه راجعة إلى نفس متعلق التكليف ، بحيث توجب سعة التكليف وزيادته عرفا ودقة كانت مجرى البراءة شرعا ، لأنها تقبل انبساط التكليف ، فالشك فيها يكون شكا في تكليف زائد مع وجود قدر متيقن في البين هو ذات المقيد. فيتحقق الانحلال المدعى ، وذلك نظير الطهارة مع الصلاة ، فان الصلاة مع الطهارة والصلاة بدونها بنظر العرف من الأقل والأكثر ، فالصلاة مع الطهارة صلاة وزيادة ، وترك الطهارة وإتيان الصلاة بدونها يكون إيجادا للفرد الناقص دقة وعرفا.

٢٣٨

أما إذا كانت الخصوصية المشكوكة غير راجعة إلى متعلق التكليف ، بل إلى موضوع المتعلق بنحو لا يستلزم وجودها زيادة في المتعلق ولا فقدها نقصا فيه ـ وذلك نظير عتق الرقبة المؤمنة ، فان إيمان الرقبة أو عدم إيمانها لا يلازم زيادة في العتق أو نقصا ، بل نفس العتق على كلا التقديرين بنحو واحد لا اختلاف فيه ـ ، فالشك فيها لا يكون مجرى البراءة ، إذ لا يتصور الانبساط هاهنا ، إذ لا يكون المتعلق مقيدا بتلك الخصوصية ، إذ هي ليست من خصوصياته المضيقة له.

وبالجملة : لا متيقن في البين ـ في متعلق التكليف ـ يشار إليه ويقال انه معلوم الوجوب والشك في الزائد عليه ، بل الفعل بدون الخصوصية مباين للفعل المنضم للخصوصية ، فلا يتحقق الانحلال.

فالحق هو التفصيل بين الصورتين في مقام الانحلال المبتني على القول بانبساط الوجوب.

هذا ، ولكنك عرفت إننا في غنى عن الالتزام بالانحلال الحقيقي في حكم الشرع كي نضطر إلى التفصيل بين قسمي الشروط ، ولنا فيما سلكناه من طريق الانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز غنى وكفاية فانه يوصلنا إلى المطلوب.

وقد عرفت ان الحال فيه لا يختلف بين قسمي الشروط ، إذ الشك في كلا القسمين شك في اعتبار خصوصية زائدة لم يقم عليها المنجز ، فتكون موردا للبراءة العقلية والشرعية ، بمعنى عدم إيجاب الاحتياط شرعا من الجهة المشكوكة.

٢٣٩

يبقى الكلام في موارد :

المورد الأول : في دوران الأمر بين العام والخاصّ.

ولا يخفى انهما بحسب اللغة لا يختلفان عن المطلق والمقيد ، وانما الفرق بينهما اصطلاحي بحسب مقام الدال ، فإذا كان الدال على العموم وضعيا سمي عاما ، وإذا كان الدال عليه بمقدمات الحكمة سمي مطلقا.

والّذي يبدو من المحقق العراقي قدس‌سره انه جمع بين المطلق والمقيد وبين العام والخاصّ في الحكم ولم يفرز لكل منهما بحثا خاصا به (١).

وقد ذهب البعض في مقام بيان الفرق موضوعا فيما نحن فيه إلى : ان المراد بالعامّ والخاصّ هو ثبوت الحكم لعنوان عام ، ثم ثبوته لعنوان خاص من حيث الصدق مباين من حيث المفهوم ، نظير مفهوم الصلاة ومفهوم الجمعة.

فيختلف عن المقيد ، لأنه ما أخذ فيه نفس العنوان المطلق بإضافة القيد الزائد ، نظير الصلاة وصلاة الجمعة (٢).

وهذا الوجه لا يهمنا التعرض إلى تفنيده وبيان انه يرتبط بمقام الإثبات لا مقام الثبوت كما لا يخفى جدا.

وإنما المهم بيان الفرق الصحيح بين الموردين ـ أعني : مورد العام والخاصّ ، ومورد المطلق والمقيد ـ ، بحيث يصحح افراد كل منهما بالبحث والكلام فيه على حدة.

فنقول : ان المراد بالخاص ما كانت الخصوصية فيه متحدة في الوجود مع ذي الخصوصية بمعنى ان وجودها بعين وجوده واقعا ولا تعدد في وجودهما ، نظير

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٩٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٠٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٤٠