منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

معلومة القبح تفصيلا ، فهو منجز على كل حال كان هو الواجب أو كان الواجب الأكثر.

أما الزائد على الأقل ، فلا علم بقبح مخالفته وبترتب العقاب على تركه ، فيكون موردا للبراءة عقلا ، لأن العقاب عليه ـ يعني على الأكثر من جهته ـ عقاب بلا بيان ، لسقوط العلم الإجمالي عن صلاحيته للبيانية والتنجيز بعد العلم التفصيليّ بقبح المخالفة في أحد طرفيه وتنجزه.

ولا يخفى انه حينئذ لا مجال لإيراد الكفاية على دعوى الانحلال بما تقدم ، إذ لا خلف في فرض منجزية الأقل على كل حال ، إذ هو مستلزم لفرض تنجز الأكثر من جهة الأقل خاصة لا تنجزه بقول مطلق ، كي يكون فرض عدم تنجزه خلفا. كما انه لا يستلزم من فرض وجود الانحلال عدمه ، إذ الانحلال يبتني على فرض منجزية الأكثر من جهة الأقل المستلزم لعدم تنجز الأكثر من جهة الزائد المشكوك وهو لا يستلزم عدم الانحلال.

نعم ، إيراد الكفاية متجه على تقدير الالتزام بعدم التبعض في التنجيز ، وأن الأكثر إما أن يفرض تنجزه من حيث المجموع أو يفرض عدم تنجزه كذلك ، ولا معنى للتنجيز من جهة دون أخرى.

إذا عرفت ذلك. فاعلم ان أساس كلام الشيخ هو الالتزام بالتبعض في التنجيز كما هو ظاهر صدر كلامه (١) فلاحظه.

وعليه ، فلا يرتبط به إشكال الكفاية ، لما عرفت من انه يبتني على عدم فرض التبعض في التنجيز ، وهو غفلة من صاحب الكفاية عن أساس كلام الشيخ رحمه‌الله.

ولعله مما يؤيد غفلة الكفاية عن نظر الشيخ إلى التبعض في التنجيز هو :

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ٢٧٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٠١

ان المحقق الأصفهاني ـ وهو تلميذ صاحب الكفاية ـ ينقل كلاما لصاحب الحاشية (١) يشير فيه إلى التبعّض في التنجيز ويردّه ولا يشير إلى احتمال ذلك من كلام الشيخ (٢). مما يظهر منه انه قد أخذ عدم التبعّض في التنجيز مفروغا عنه في كلام الشيخ. فالتفت.

ثم إنه إذا ظهر لك ان مدار صحة تقريب الانحلال في حكم العقل على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، فلا بد من تحقيق هذه الجهة. فان الّذي نراه هو انحصار مستند القول بالبراءة على الانحلال في حكم العقل بالبيان المتقدم ، وإلا أشكل الأمر في باب الأقل والأكثر ، إذ ستعرف ما في الوجوه المذكورة من الضعف. وعلى كل حال فالذي نبني عليه ـ تبعا للشيخ ـ هو التبعض في التنجيز إذ هو مما يشهد له بناء العقلاء في مقام امتثال الأحكام ، ولا مجال لإنكاره.

وعلى هذا فالذي نبني عليه في مسألة الأقل والأكثر هو الانحلال في حكم العقل بالتقريب الّذي عرفته المستلزم لجريان البراءة عقلا ونقلا من الأكثر من جهة الزائد المشكوك جزئيته.

وهذا هو العمدة في هذه المسألة كما سيتضح.

وقد حمل المحقق النائيني رحمه‌الله كلام الشيخ على إرادة الانحلال في حكم الشرع ، لكن لا بالتقريب المتقدم ، بل بتقريب آخر وهو : انه يعلم تفصيلا بوجوب الأقل إما نفسيا استقلاليا أو ضمنيا ، فلا مجال لجريان أصل البراءة فيه لا عقلا ولا شرعا ، بخلاف وجوب الأكثر ، فانه مشكوك ، فلا مانع من إجراء البراءة فيه عقلا وشرعا ، إذ العلم الإجمالي لا يصلح للمانعية بعد انحلاله.

ثم انه أورد عليه : بان العلم التفصيليّ بوجوب الأقل هو عين العلم

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد تقي ، هداية المسترشدين : ـ ٤٤٨ ـ الطبعة الأولى. ٢ ـ ٢٦٢.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية ٢ ـ ٢٦٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٢

الإجمالي بين الأقل والأكثر ، إذ التردد بين الأقل والأكثر يرجع إلى التردد بين أخذ الأقل لا بشرط من جهة الجزء الزائد ، وبين أخذه بشرط شيء الّذي هو عبارة عن الأكثر ، والعلم التفصيليّ بوجوب الأقل إما لنفسه أو ضمنا هو عين ذلك العلم الإجمالي ، فيلزم ان يكون العلم الإجمالي موجبا لانحلال نفسه.

هذا خلاصة ما أفاده في نقل كلام الشيخ والإيراد عليه (١).

وهو متين ، لكن عرفت ان منظور كلام الشيخ ليس إلى الانحلال في حكم الشرع ، بل إلى الانحلال في حكم العقل بالتقريب الّذي عرفته ، فالتفت.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى الانحلال في حكم الشرع ببيان محصله : ان الاجزاء لا تكون واجبة بالوجوب الغيري المقدمي ، بل ليس هناك إلا وجوب واحد نفسي منبعث عن إرادة نفسية واحدة منبعثة عن غرض واحد قائم بالأجزاء بالأسر التي هي عين الكل. وعليه فهذا الوجوب النفسيّ الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة اجزاء مثلا بتعلق واحد وانبساطه بغير ذلك التعلق على الجزء المشكوك غير معلوم ، فالتكليف بالمقدار المعلوم يكون فعليا منجزا وبالمقدار المجهول لا مقتضي لفعليته وتنجزه. وبما ان التكليف المتعلق بالأقل هو الوجوب النفسيّ الّذي يترتب الثواب والعقاب على مخالفته وموافقته فلا تتوقف فعليته وتنجزه على تكليف آخر غير معلوم.

هذا خلاصة ما أفاده قدس‌سره (٢) ومرجعه كما يظهر إلى انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل بالوجوب النفسيّ الاستقلالي أو الضمني ، كما أن مبناه على الالتزام بقابلية الأمر الضمني ـ في حد نفسه ـ للتنجز ، بحيث تكون له إطاعة مستقلة. فيكون الأقل معلوم التنجز على

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١٥٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٦٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٣

كل حال ، والزائد مشكوك فيكون مجرى للبراءة.

وبذلك يختلف عما ذكرناه في تقريب الانحلال ، لأنا وان التزمنا بتنجز الأقل على كل حال لكن من باب تنجز الأكثر من جهة الأقل ، لا تنجزه على كلا تقديريه ولنفسه مع قطع النّظر عن تنجز الأكثر كما هو مبنى كلام الأصفهاني.

ونحن لا نريد أن نطيل في مناقشته والتعرض إلى جهات كلامه كلها فذلك مما لا يهمنا فعلا.

بل نقتصر في مقام المناقشة على بيان ان الأمر الضمني لا إطاعة له مستقلة ، فلا يقبل التنجيز المستقل ، فلا ثواب ولا عقاب على موافقته ومخالفته خاصة ، كما عرفت ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي. كما انه قد تقدم منه هناك ما ينافي ما التزم به هنا ، فراجع.

وعليه ، فالعلم بوجوب الأقل على كل حال لا ينفع في حلّ العلم الإجمالي ، إذ أحد تقديري وجوبه وهو الوجوب الضمني لا أثر له عقلا ولا معنى لتنجزه ، فلا يكون العلم به موجبا لانحلال العلم الإجمالي. فتدبر والتفت.

وقد ذهب المحقق العراقي رحمه‌الله إلى الانحلال في حكم الشرع أيضا ، بل ادعى انه ليس لدينا علم إجمالي في الحقيقة إلا وهما ، وانما الموجود ليس إلا العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك بدوا في وجوب الأكثر. ببيان محصله : ان الاختلاف بين الأقل والأكثر ليس ناشئا من اختلاف الوجوب المتعلق بالأقل مع الوجوب المتعلق بالأكثر ، بل الوجوب المتعلق بالأقل لا يختلف سنخا ووجودا ، سواء سرى الوجوب إلى الأكثر أم لم يسر ، وانما الاختلاف ناشئ من اختلاف حد التكليف من حيث وقوفه على الأقل أو سرايته إلى الجزء الزائد ، ومرجع الضمنية والاستقلالية إلى ذلك.

وهذا نظير الخطّ القصير والطويل ، فانه إذا رسم الشخص الخطّ القصير

٢٠٤

ثم أضاف إليه ما يوجب طوله فان واقع الخطّ القصير لم يختلف في كلا الحالين ، وانما الاختلاف نشأ من جهة الحد الخاصّ وثبوت الزيادة ، وهي لا توجب تغيرا في واقع القصير عما كان عليه قبل الزيادة.

وإذا ظهر ذلك ، فعند الشك بين الأقل والأكثر يكون مرجع الشك إلى الشك في ثبوت الزيادة على المقدار الأقل وعدمه ليس إلا ، واما وجوب الأقل فهو معلوم بالتفصيل سواء أكانت الزيادة أم لم تكن ، إذ المفروض ان حقيقته ووجوده واحد لا يختلف على كلا التقديرين ، فلا شك لدينا في وجوب الأقل أصلا وإنما الشك في ثبوت الوجوب للجزء الزائد المشكوك. إذن فليس لدينا إلا علم تفصيلي وشك بدوي (١).

وما أفاده قدس‌سره ـ مع قطع النّظر عن دعوى عدم اختلاف سنخ الوجوب الضمني والاستقلالي ـ لا يمكن المساعدة عليه لوجهين :

الأول : ان الوجوب الضمني للأقل لو كان الواجب هو الأكثر يختلف وجودا عن الوجوب الاستقلالي له لو كان الواجب هو الأقل ، إذ ما أفاده من عدم الاختلاف وجودا نظير الخطّ القصير والطويل انما يتم لو فرض رسم الخطّ تدريجا ، فان ضم الزيادة إليه لا يغير منه شيئا أصلا. لا ما إذا رسم الطويل دفعة ، كما لو كان بواسطة الطابعة ، فان وجود الأقل في ضمن الأكثر يختلف وجوده عن وجوده بنحو الاستقلال. فمع الشك يكون الدوران بين وجودين ، فلا علم تفصيلي بوجود خاص للأقل ، بل يشك بأنه بأي نحو وجد.

والأوامر الشرعية من هذا القبيل ، لأن تعلقها بالمجموع دفعي لا تدريجي ، فلا يحصل العلم التفصيليّ بالوجود الخاصّ للأقل ، بل يتردد أمره بين نحوي وجوده من الاستقلالي أو الضمني.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٨٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٠٥

الثاني : انه سلمنا وحدة وجود وجوب الأقل الضمني والاستقلالي ، لكن نقول : ان الوجود الضمني لا أثر له في مقام الطاعة ، فالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل على كلا التقديرين لا ينفع حينئذ في إثبات الانحلال ، إذ لا أثر له عقلا على تقدير كون الواجب هو الأكثر ، إلاّ إذا كان الأكثر منجزا ، ولكن يثبت محذور الكفاية المتقدم. نعم إذا التزم بالتبعض في التنجيز ـ كما يصرح به في أواخر كلامه ـ يتم الانحلال ، ومعه لا حاجة إلى إتعاب النّفس في إثبات الانحلال بالنحو المزبور ، بل يتحقق الانحلال ولو اختلفت حقيقة الوجوب الضمني مع حقيقة الوجوب الاستقلالي ووجوديهما.

وبالجملة : الانحلال يتوقف على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، وإلا فلا وجه له. فتدبر.

أما المحقق النائيني قدس‌سره ، فقد ذهب إلى عدم صحة الرجوع إلى البراءة العقلية للعلم الإجمالي الصالح لتنجيز كلا طرفيه ، ودعوى انحلاله بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل مدفوعة بما تقدم منه ، من ان العلم التفصيليّ المدعى هو عين العلم الإجمالي ، فلا معنى للانحلال به. ولكنه ذهب إلى صحة الرجوع إلى البراءة الشرعية وانحلال العلم الإجمالي حكما بواسطتها ، وذلك لوجهين :

الأول : ان العلم الإجمالي ينحل حكما بجريان الأصل المثبت في طرف والنافي في طرف آخر كما تقدم ، وما نحن فيه كذلك. غاية الأمر ان الأصل غير متعدد ، بل هو أصل واحد يتكفل كلتا الجهتين ، أعني : نفي التكليف في طرف وإثباته في طرف آخر ، وهو أصالة البراءة من الجزء الزائد المشكوك ، فانه بنفسه يثبت إطلاق الأمر ظاهرا وعدم تقيد متعلقه بالجزء المشكوك ، وهو معنى وجوب الأقل ، لأن وجوبه يرجع إلى أخذه لا بشرط وعدم لحاظ شيء زائد معه ، وهذا بنفسه يثبت بأصالة البراءة ، لأنه مفادها لا من باب الملازمة كي يرد عليه أنه يكون من الأصل المثبت. فأصل البراءة كما ينفي الأكثر يثبت الأقل ، وإطلاق

٢٠٦

الأمر ظاهرا من جهة الجزء المشكوك.

وهذا هو معنى ما يعبّر عنه بالإطلاق الظاهري.

الثاني : ان لزوم الاحتياط في باب العلم الإجمالي من جهة تعارض الأصول النافية في أطرافه ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك لجريان الأصل في الأكثر بلا معارض. أما جريانه في التكليف بالأكثر فلأنه مشكوك.

وأما عدم معارضته بجريانه في الأقل ، فلأن الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير ، فلا تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه ، فينحل العلم الإجمالي بذلك (١).

هذا توضيح ما أفاده في المقام ، وعبارته من حيث كون مجرى الأصل هو وجوب الأكثر أو جزئية المشكوك مختلفة لا يمكن ان يستفاد منها شيء واحد.

وما أفاده لا يمكننا الالتزام به ..

أما الوجه الأول ، ففيه : ان مجرى البراءة اما ان يكون جزئية المشكوك ، واما ان يكون وجوب الأكثر.

فان كان المقصود إجراء البراءة في جزئية المشكوك. فيدفعه : انه انما يتم لو التزم بالتبعض في التنجيز.

أما إذا لم يلتزم به ـ كما هو ظاهر كلامه ، ولذا منع من إجراء البراءة العقلية ـ ، فلا يصح إجراء البراءة في الجزئية ونفي اعتبار الجزء المشكوك بالأصل ، لأن مجرى البراءة على المسالك المختلفة في مفاد حديث الرفع من تكفله رفع الاحتياط أو جعل الإباحة ونفي الإلزام كناية ، لا بد أن يكون مما يقبل التنجيز ومما يكون فيه إلزام وكلفة بنفسه على المكلف.

ومن الواضح ان الجزء لا تنجيز فيه ولا معنى للاحتياط من قبله ، كي

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١٦٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٠٧

ينفي بحديث الرفع ، كما لا إلزام من جهته نفسه ، بل الإلزام به من جهة الأمر بالكل وأنه بعضه ، فلا معنى لجعل الإباحة ونفي الإلزام به كناية.

نعم لو فرض الالتزام بالتبعض في التنجيز كان الجزء قابلا للتنجّز وعدمه فيقبل الرفع ، لكن عرفت أنه خلاف مبناه ، إذ لازم التبعض هو إجراء البراءة العقلية وهو لا يلتزم به.

وإن كان المقصود إجراء البراءة في وجوب الأكثر ، فهي معارضة بإجرائها في وجوب الأقل استقلالا لأنه مشكوك أيضا ، كما ان إجراء البراءة في وجوب الأكثر لا يثبت وجوب الأقل إلا بالملازمة ، وليس حالها حال البراءة من جزئية المشكوك. فانتبه.

وأما حديث إطلاق الأمر وثبوت وجوب الأقل بإجراء البراءة من الزيادة المشكوكة ، فهو غير سديد ، لأن نفي الجزئية ظاهرا ـ كما التزم به قدس‌سره ـ يرجع إلى عدم وجوب الاحتياط من جهة الجزء المشكوك ، وهذا لا يتكفل إثبات إطلاق الأمر ونفي تعلقه بالمقيد الراجع إلى وجوب الأقل ، لأن عدم وجوب الاحتياط لا يتنافى مع وجود الواقع وثبوته.

هذا ، مضافا إلى ان الرفع الظاهري إنما يثبت إطلاق الأمر إذا كان الأمر ثابتا بدليل ظاهري بأن كان الأمر ظاهريا ، كوجوب الاحتياط إذا تردد بين الأقل والأكثر.

أما إذا كان الأمر المردد واقعيا ، فرفع الجزئية ظاهرا في مرحلة الشك وبلسان الغض عن الواقع وقطع النّظر عنه ، لا يثبت إطلاق الأمر الواقعي ظاهرا ، إذ الفرض انه لم ينظر فيه إلى الواقع ، بل أغفل أمر الواقع فيه وقطع النّظر عنه ، فتدبر فانه لا يخلو عن دقة (١).

__________________

(١) وبذلك يختلف عن الإطلاق الثابت بالأمارة ، فانه إطلاق ظاهري ويحكم على الواقع بأنه مطلق ظاهرا ،

٢٠٨

وأما الوجه الثاني ، ففيه : ان العلم بوجوب الأقل على كل حال لا يمنع من إجراء البراءة فيه ، لأن وجوبه الضمني لا أثر له عقلا وبلحاظه هو ، بل الأثر العقلي في مقام الإطاعة يترتب على الوجوب النفسيّ الاستقلالي ، وهو مشكوك ، فتجري فيه البراءة وتعارض البراءة في الأكثر. فالتفت.

وأما صاحب الكفاية فقد أشرنا إلى انه سلك في هذا المقام مسلكا يختلف عن مسالك القوم ، فانه بعد ما نفي البراءة العقلية لعدم انحلال العلم الإجمالي التزم بجريان البراءة الشرعية ، فتتكفل رفع جزئية المشكوك.

وأورد على نفسه : بان الجزئية لا يمكن أن يشملها حديث الرفع لأنها ليست بمجعولة ولا أثر لها مجعول وحديث الرفع انما يتكفل المجعول أو ذي الأثر المجعول.

وأجاب عن ذلك : بأنها وان لم تكن مجعولة بنفسها إلا انها مجعولة بمنشإ انتزاعها ، وهو الأمر الضمني ، وهو يكفي في صحة تعلق الرفع بها.

ثم أورد على نفسه : بان رفع الأمر الضمني انما يكون برفع الأمر بالكل ، إذ لا استقلال له في الوضع ، وإذا تكفل الحديث رفع الكل فلا دليل على ثبوت الأمر بالفاقد.

وأجاب عن ذلك : بان نسبة حديث الرفع إلى أدلة الأجزاء نسبة الاستثناء ، فكما انه لو ورد ما يدل على جزئية شيء وقيده بحال دون حال لا تثبت الجزئية إلا في ذلك الحال ويثبت الأمر بالفاقد في غيره ، فكذلك أدلة الاجزاء بضميمة حديث الرفع الناظر إليها ، يثبت الجزئية في حال دون حال ، ففي حال الجهل لا جزئية للسورة مثلا. فتدبر.

__________________

ـ إذ حكم الأمارة وان ثبت عند الشك لكن لوحظ فيه إثبات الواقع لا قطع النّظر عنه ، ومثل الأمارة الحكم الاستصحابي ، فافهم.

٢٠٩

ثم انه جاء في عبارته الأصلية لفظ : « السورة المنسية ».

وأبدلت في بعض النسخ بلفظ : « المجهولة » ، لأن البحث في مورد الجهل لا النسيان ، ولكن يمكن فرض صحة العبارة الأولى ، بان يكون ناظرا إلى بيان مورد من موارد الجهل بالجزئية ، وهي جزئية المنسي ، بان شك في ثبوت الجزئية حال النسيان ، فمقصوده تطبيق فقرة : « رفع ما لا يعلمون » على المورد ، لا تطبيق فقرة : « رفع النسيان » فان له مبحثا آخر يأتي التعرض إليه إن شاء الله تعالى ، وعلى كل فالأمر سهل.

وما أفاده قدس‌سره غير وجيه ، وذلك لأنه إما ان يلتزم بتكفل حديث الرفع في صورة عدم العلم للرفع الواقعي على حد سائر الفقرات. أو يلتزم بتكفله للرفع الظاهري.

فعلى الأول ـ كما قربناه في محله ـ يرد عليه :

أولا : ان الجزئية لا تقبل الرفع ، لأن المرفوع في حديث الرفع ما كان قابلا للوضع شرعا ، فان المراد به على ما حرر في محله هو رفع ما له اقتضاء الوضع لا رفع ما كان ثابتا ، وهذا ظاهر في إرادة رفع ما يقبل الوضع ، والجزئية ليست من الأمور المجعولة ، لأن جعلها مع عدم تعلق الأمر بالمجموع المشتمل على الجزء لا ينفع في لزوم الامتثال ، لأنه من توابع الحكم التكليفي. ومع تعلق الأمر بالمجموع المشتمل على الجزء لا أثر لجعلها ولا حاجة إليه لانتزاعها من تعلق الأمر بالمركب.

وثانيا : لو سلمنا قابلية الجزئية للرفع ولو لم تكن قابلة للوضع ، بدعوى انه لا يعتبر في صحة الرفع سوى كون المرفوع بيد الشارع ولو بالواسطة ، ولا يعتبر قابليته لوضعه مباشرة. فما أفاده من كون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء لحكومته على أدلة الاجزاء إنما يسلم فيما إذا كان الدليل الدال على رفع الجزئية خاصا بان يأمره بمركب ثم يقول له إذا عجزت أو عسر عليك الجزء الفلاني فانا

٢١٠

لا أريده فان مثل هذا الدليل ظاهر عرفا في ثبوت الأمر بالباقي عند العجز عن الجزء الخاصّ.

أما مثل حديث الرفع مما كان دليلا عاما يدل على رفع المجهول بهذا العنوان بقول مطلق لا بعنوان الجزئية ، فلا ظهور له في بقاء الأمر بالفاقد لو شمل الجزء المجهول ، بل هو ظاهر في رفع الجزئية برفع الأمر بالكل.

وأما ثبوت الأمر بالأقل الفاقد ، فهو مما يحتاج إلى دليل خاص.

فما أفاده رحمه‌الله من كون دليل الرفع مخصصا لدليل الجزئية ، بحيث يثبت الأمر بالفاقد غير تام ، لأن رفع الجزئية ملازم لرفع الأمر بالكل ولا ظهور للدليل حينئذ في ثبوت الأمر بالفاقد.

وعلى الثاني : ففيه :

أولا : ان رفع الحكم في مرحلة الظاهر لا يتنافى مع ثبوته واقعا ـ كما قرره في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ـ. وعليه فكيف يكون دليل الرفع حاكما على أدلة الجزئية الواقعية وموجبا لتخصيصها في غير حال الجهل؟.

وثانيا : ان مرجع الرفع الظاهري إلى عدم وجوب الاحتياط ـ كما تقدم تقريبه في محله ـ فرفع الجزئية يرجع إلى نفي تنجزها.

ومن الواضح انه بناء على عدم التبعض في التنجيز ـ كما هو مبنى كلامه ـ لا معنى لمنجزية الجزئية أو رفعها ، بل التنجيز بلحاظ الكل. وعليه فمرجع الرفع ظاهرا إلى نفي منجزية الأكثر ، وهي معارضة بنفي منجزية الأقل ، لأنها مشكوكة على مبنى عدم التبعض في التنجيز (١).

__________________

(١) ثم انّ سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) عدل عن تفسير عبارة الكفاية بما فسّرها به الاعلام والتي صارت محط الإشكال من الكل وهو أحدهم.

فذهب إلى أنّ المنظور في كلامه ليس هو إثبات تعلق الأمر بالباقي بواسطة دليل البراءة ، بل

٢١١

وخلاصة ما تقدم : ان جميع ما قيل في وجه الانحلال غير صحيح إلا ما ذهب إليه الشيخ على الوجه الّذي ذكرناه ، وهو يبتني على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، فان الأقل يكون معلوم التنجز ، والأكثر من جهة الزائد مشكوك ، فيكون مجرى لأصالة البراءة عقلا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وشرعا لأدلة البراءة الشرعية ، فانه لا قصور في شمولها إما للجزئية بنفسها لتصور التنجيز فيها لو قلنا بصحة رفعها ، أو لوجوب الأكثر من جهة الزائد خاصة ، لأنه مشكوك التنجز من جهته خاصة.

وظهر ان الوجوه المذكورة في رد لزوم الاحتياط لأجل العلم الإجمالي متعددة :

أحدها : ما ذهب إليه المحقق العراقي من عدم العلم الإجمالي أصلا ، وانه ليس لدينا سوى العلم التفصيليّ والشك البدوي.

__________________

ـ مقصوده ليس إلاّ دفع ما استشكله المستشكل من أنّ رفع الأمر بالجزء يلازم رفع الأمر بالكل فلا دليل على الأمر بالباقي.

فانّه أجاب عنه بعد الفراغ عن إمكان توجه الرفع إلى الجزئية وعدم المناقشة فيه ، بأن حديث الرفع يتكفل النّظر إلى أدلّة الاجزاء ، فيوجب تخصيصها بحال العلم ـ مثلا ـ ، أو بحال الاختيار بحسب اختلاف فقراته. ومن الواضح انّ ارتفاع الجزئية لازم أعم من ارتفاع الأمر بالمرة ومن تعلقه بالباقي في الحال الخاصّ. إذن فالدليل الدال على رفع الجزئية لا يدل على ارتفاع الأمر بالكل بالمرة. وهذا هو ما يريد إثباته قبالا للمستشكل ، إذ يضم إليه العلم التفصيليّ بوجوب الأقل ويترتب عليه الأثر حينئذ.

وجملة القول : انّ النكتة التي يحاول صاحب الكفاية التنبيه عليها ، هو عدم ملازمة رفع الجزئية لارتفاع الأمر بالعمل حتى يحتاج في إثباته إلى أمر جديد ، لا انّه يريد إثبات تعلقه بالباقي بواسطة رفع الجزئية كي يرد عليه ما تقدم ، لأنّه في مقام دفع الإشكال على نفسه ، وقد عرفت انّ الإشكال يرجع إلى ملازمة رفع الجزئية لرفع الأمر بالكل.

نعم ، ينحصر الإيراد عليه بأن ما أفاده لا يتم إلاّ بناء على الالتزام بالتبعض في التنجيز وهو واضح ، فالتفت.

٢١٢

والثاني : ما ذهب إليه بعض من انحلال العلم حقيقة إلى علم تفصيلي وشك بدوي ـ كما استظهر ذلك من عبارة الشيخ أولا ـ.

والثالث : ما وجهنا به كلام الشيخ من الانحلال في حكم العقل.

والرابع : الانحلال بواسطة جريان البراءة الشرعية خاصة في طرف الأكثر ، إما لأجل عدم المعارضة كما ذهب إليه النائيني. واما لحكومة دليلها على أدلة الاجزاء كما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية.

وقد جاء تحقيق المطلب في الدراسات متشتتا لا يخلو من خلط بين الكلمات. فقد قرب أولا الانحلال في حكم الشرع كالوجه الثاني ، ثم ذكر الانحلال في حكم العقل بنحو الّذي ذكره الشيخ بعنوان انه عبارة أخرى. ثم تعرض لكلام الكفاية ونفاه بدعوى الانحلال بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل بالنحو الّذي يظهر منه اختيار مذهب العراقي المتقدم (١).

وهذا يرد عليه :

أولا : انه قد عرفت ان نكتة الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية هي الالتزام بالتبعض في التنجيز وعدمه لا غير. وان المنظور في كلماتهما الانحلال في حكم العقل خاصة ، فإهمال هذه الجهة مستدرك.

وثانيا : انه لا يلتزم بمستلزمات مختار العراقي ، لأنه نفي تنجيز العلم بجريان الأصل في طرف الأكثر بلا معارض ، مما يكشف عن انه يختار وجود العلم الإجمالي.

ثم أنه ذكر في مقام بيان جريان الأصل بلا معارض : ان الأمر يدور بين إطلاق الواجب وتقييده بالزائد ، والأصل يجري في التقييد لأنه كلفة زائدة ، ولا يجري في الإطلاق لعدم الكلفة فيه.

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٧١ ـ الطبعة الأولى.

٢١٣

وهذا البيان ممنوع ، وذلك لأن الإطلاق والتقييد وان كانا طرفي العلم الإجمالي ، لكن هذا العلم الإجمالي لا يرتبط بالعلم الإجمالي المدعى تنجزه ، إذ العلم الإجمالي المدعى تنجزه هو العلم بتكليف وإلزام مردد. ومن الواضح أنه لا موهم لأخذ الإطلاق في متعلق الإلزام ، بحيث يتحقق الإلزام به ، لأن مرجع الإطلاق إلى عدم دخالة شيء في متعلق التكليف ولا معنى للإلزام بذلك. إذن فالعلم المدعى تنجزه هو العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ، وهذا وان لازم العلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد لكن لا ربط له بمحل الكلام ، فهو نظير العلم الإجمالي بان الزمان فعلا إما ليل أو نهار. إذن فمجرى البراءة على تقديرها هو وجوب ذات الأقل لا نفس الإطلاق ، وهي مما لا مانع من جريانها فيه ، فتعارض البراءة في وجوب الأكثر. فالتفت ولا تغفل. ونكتفي بهذا المقدار من التنبيه على بعض المؤاخذات على الدراسات ، والله سبحانه ولي العصمة.

وجملة القول : ان رد القول بالاحتياط لأجل العلم الإجمالي ينحصر في دعوى الانحلال في حكم العقل المبتني على الالتزام بالتبعض في التنجيز. فتأمل جيدا (١).

الأمر الثاني : من وجهي القول بالاحتياط ـ ما أشار إليه الشيخ في كلامه ، وهو انه لا إشكال في لزوم تحصيل غرض المولى الملزم بحكم العقل ، فيجب الإتيان بما يحققه ، وبما ان الواجبات الشرعية تنشأ من مصالح وأغراض

__________________

(١) ثم إن سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) ذكر في بداية هذا البحث ضرورة التعرض إلى تحقيق نحو نسبة وجوب الكل إلى اجزائه ، وانه هل يقبل التبعض بحيث يتصف كل جزء بحصة من الوجوب ، نظير اتصاف الجسم الأبيض بالبياض فان كل جزء منه يقال انه أبيض. أو لا يقبل التبعض بحيث لا يتصف كل جزء بالوجوب نظير الحمى العارضة على الجسم ، فانها وان سرت إلى جميع اجزاء الجسم لكن كل جزء منه لا يصلح ان يتصف بالحمى ، فيقال انه محموم؟. ولعل في بعض كلمات الكفاية في مبحث التعبدي والتوصلي ما يشير إلى التزامه بهذا المبنى. ولكنه ( دام ظله ) أغفل تحقيق ذلك ، لأجل عدم أهميته فيما نحن فيه ، وذكر انه سيتعرض له في المحل المناسب الّذي يكون لتحقيقه فيه أثر فانتظر.

٢١٤

واقعية ملزمة في متعلقاتها ، فمع العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر يعلم إجمالا بوجوب غرض ملزم واحد يدور أمره بين ترتبه على الأقل أو على الأكثر ، فيجب الإتيان بالأكثر للزوم تحصيل الغرض الملزم ، وهو لا يعلم إلاّ بإتيان الأكثر وهو غرض واحد بسيط ، فالشك بين الأقل والأكثر إنما هو فيما يحققه لا فيه نفسه ، وهو مجرى الاحتياط بالاتفاق ، لأنّه من موارد الشك في المحصل.

وقد استشكل الشيخ في هذا الوجه بإشكالين :

الأول : ان مسألة البراءة والاحتياط لا تبتني على مذهب المشهور من العدلية القائلين بنشوء الواجبات الشرعية عن مصالح ملزمة واجبة التحصيل عقلا ، بل هي يبحث فيها حتى على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح ، وعلى من يكتفي بثبوت المصلحة في نفس الأمر من العدلية ، فهذا البيان للاحتياط لا ينفع الجميع.

الثاني : عدم التمكن من إحراز تحقق الغرض الملزم بإتيان الأكثر ، وذلك لأن الغرض إنما يترتب على العمل إذا جيء به بقصد الامتثال. وعليه فيحتمل ان يكون الغرض متوقفا على الإتيان به بقصد الوجه لاحتمال اعتباره ، وهو متعذر فيما نحن فيه للجهل بما هو الواجب ، فإحراز تحقق الغرض غير متحقق ، فلم يبق سوى التخلص من تبعة الأمر الموجه إليه ، وقد عرفت الانحلال بلحاظه (١).

وقد التزم صاحب الكفاية بالوجه المزبور ، وردّ وجهي الشيخ.

أما الأول ، فبأن ما أفاده قدس‌سره لا ينفي لزوم الاحتياط على من يذهب مذهب المشهور من العدلية كالشيخ رحمه‌الله ، وعموم الحديث في مسألة البراءة لجميع المذاهب لا ينافي ذلك كما لا يخفى.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٧٣ ـ الطبعة الأولى.

٢١٥

وأما الثاني ، فقد ردّه بوجوه عديدة ...

أهمها : إنكار اعتبار قصد الوجه في العبادة لما أشار إليه في مبحث التعبدي والتوصلي ، من انه من الأمور التي يغفل عنها العامة غالبا. فعدم بيان اعتبارها من الشارع دليل على عدم اعتبارها.

كما انه ذكر إمكان الإتيان بالأكثر بداعي الوجوب ، إذ لا يعتبر تمييز الاجزاء ، إذ المراد وجه الواجب لا وجه الاجزاء ، والأكثر واجب ولو بلحاظ كون الأقل في ضمنه ، إذ الأقل مأخوذ لا بشرط.

وكيف كان فما أفاده الشيخ رحمه‌الله لا يخلو عن مسامحة وهو لا يتناسب مع مقامه العلمي (١).

وقد تصدى المحقق النائيني قدس‌سره إلى حلّ هذه الشبهة ـ أعني : شبهة الغرض ـ والتخلص من وجوب الاحتياط ، ببيان مفصل محصله : ان الغرض من المأمور به ..

تارة : تكون نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة ، وهذا كمطلق موارد المسببات التوليدية إذا تعلق الأمر بأسبابها ، كالأمر بالإلقاء في النار لغرض تحقق الإحراق.

وأخرى : تكون نسبته إليه نسبة المعلول إلى مقدمته الإعدادية ، فلا يترتب الغرض مباشرة على المأمور به ، وانما يحتاج إلى انضمام مقدمات أخرى لا تكون اختيارية ، كالأمر بالزرع لغرض صيرورة الزرع سنبلا. فان ما يصدر من الفاعل من افعال اختيارية من الحرث والبذر والسقي لا يكفي في حصول السنبل ، بل يحتاج إلى مقدمات أخرى غير اختيارية كإشراق الشمس ونحوها من الأمور الإلهية. نعم فعل المأمور مقدمة إعدادية للغرض.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٦

فإذا كان الغرض بالنحو الأول ، كان واجب التحصيل ، بل قد يقال ان التكليف متعلق به حقيقة. بخلاف النحو الثاني ، فانه لا يجب تحصيله لخروجه عن الاختيار فلا يتعلق به الأمر.

وبما ان الأغراض والمصالح التي تبتني عليها الأحكام الشرعية من قبيل الثاني الّذي يصطلح عليه بالعلل الغائية ، فانها مما لا تترتب مباشرة على فعل المأمور به بل تتحقق بتوسط مقدمات غير اختيارية ، فتكون نسبة الفعل إليها نسبة المقدمة الإعدادية ، لم يلزم تحصيلها لعدم تعلق الإرادة التشريعية بها. ومما يكشف عن ذلك عدم وقوع الأمر بتحصيل الملك أصلا ، ولو كانت من المسببات التوليدية لتعلق الأمر بها في غير مقام ، لأن المسبب التوليدي هو المأمور به حقيقة ، وتعلق الأمر بسببه لكونه آلة إيجاده.

ثم انه لا أقل من الشك في ذلك ، وهو يكفي في عدم لزوم تحصيلها. هذا محصّل ما أفاده قدس‌سره (١).

ويرد عليه : ما ذكره جملة من الاعلام من سابق الأيام من أن المأمور به له غرضان غرض أقصى وغرض أدنى. والأول ما تكون نسبته إليه نسبة المعد. والثاني ما تكون نسبته إليه نسبة السبب التوليدي ، وهو تهيئة المكلف وإعداده لحصول الغرض الأقصى ، وهذا مما يلزم تحصيله باعترافه قدس‌سره ، فإذا شك فيما يحصّله بين الأقل والأكثر لزم الاحتياط ، لأنه شك في المحصّل ، كما إذا شك في ان الاعداد لحصول السنبل هل يتحقق بمجرد البذر أو يتوقف على ضميمة الحرث إليه ، فانه لا بد من الاحتياط. فالتفت.

فالتحقيق أن يقال في حلّ شبهة الغرض : انه لا وجه لدعوى لزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يكن المولى بصدد تحصيله بالأمر به مع التمكن.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١٦٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢١٧

وما جيء به شاهدا على حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم من أنه لو وجد عبد المولى ولد مولاه في حالة الغرض وكان أبوه المولى نائما فلم يتصد العبد لإنقاذ ولد مولاه مع قدرته على الإنقاذ استحق العقاب والملامة والذم بنظر العقل. لا يصلح شاهدا على الدعوى ، إذ المفروض في المثال عدم تمكن المولى من الأمر لنومه أو غفلته. ولذا لو علم المولى بحالة ولده ، كما إذا كان بمرأى منه ولم يأمر عبده بإنقاذه لم يجب ـ بحكم العقل ـ على العبد إنقاذ ولد مولاه وتحصيل غرضه ، وليس للمولى والحال هذه ان يلوم عبده ويؤاخذه على عدم تحصيل غرضه.

وبالجملة : إذا كان الآمر متمكنا من الأمر فلم يأمر لم يكن تحصيل غرضه الملزم واجبا عقلا ، ولا شاهد عليه.

وعليه ، ففيما نحن فيه لا بد من ملاحظة الأمر ومقدار فعليته ، فان المولى وإن تصدى فيما نحن فيه لتحصيل غرضه بالأمر لثبوت الأمر واقعا ، لكن عرفت ان الأمر بالأكثر ـ لو كان واقعا ـ لا يصلح للداعوية إلا بالمقدار الّذي تعلق به العلم ، واما الزائد عليه فهو مجهول ، يكون مجرى البراءة عقلا وشرعا في حد نفسه ، ولا معنى لنفي البراءة بواسطة لزوم تحصيل الغرض المردد لعدم لزومه مع تمكن المولى من إيصاله في حال الجهل بجعل إيجاب الاحتياط ، فلا يلزم تحصيل غرض المولى على تقدير كونه يترتب على الأكثر لتمكنه من الأمر بما يحصله ولو بواسطة جعل الاحتياط عند الجهل فلم يفعل ، فلا يلزم تحصيله. وأمره الواقعي لا ينفع بعد عدم العلم به وعدم تنجزه في حق المكلف وعدم داعويته إلا بمقدار خاص وهو الأقل. فتدبر واعرف.

هذا تمام الكلام في إجراء أصالة البراءة في الأقل والأكثر.

ويقع الكلام بعد ذلك في التمسك لإثبات عدم لزوم الأكثر بالاستصحاب.

٢١٨

وقد تعرض له الشيخ رحمه‌الله هاهنا ، كما تعرض له في ذيل الكلام في البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية.

وكما منع جريانه هناك منع جريانه هنا. وتوضيح ما أفاده هاهنا : انه قد يتمسك لإثبات عدم وجوب الأكثر باستصحاب عدم وجوبه. لكنه منعه : بان التمسك بأصالة عدم وجوب الأكثر ان قصد به نفي العقاب على ترك الأكثر ، فقد عرفت فيما تقدم ان انتفاء العقاب لا يحتاج فيه إلى الاستصحاب ، بل مجرد الشك فيه كاف في نفيه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فيكون الاستصحاب من تحصيل الحاصل. وان قصد به نفي آثار الوجوب النفسيّ الاستقلالي للأكثر ، فهو معارض بأصالة عدم وجوب الأقل كذلك.

ثم إنه قدس‌سره تعرض بعد ذلك إلى وجهين آخرين للاستصحاب.

الأول : أصالة عدم وجوب المشكوك في جزئيته ، وحكم بان حاله أردأ من حال سابقه ، لأن المقصود به ان كان نفي وجوبه الضمني ، فهو يرجع إلى نفى وجوب الكل ، لأن الوجوب الضمني هو عين وجوب الكل وليس مغايرا له. وان كان نفي الوجوب المقدمي ، بمعنى اللابدية ، فهي ليست حادثة ، بل من لوازم ذات الجزء كزوجية الأربعة. وان كان نفي وجوبه المقدمي ، بمعنى الطلب الغيري ، فهو وإن كان حادثا مغايرا ، لكنه لا ينفع في إثبات كون الواجب هو الأقل إلا بنحو الأصل المثبت.

الثاني : استصحاب عدم جزئية الشيء المشكوك للمركب. ومنعه قدس‌سره بان المقصود إن كان نفي جزئية السورة ـ مثلا ـ للمركب الواقعي. فهي ليست من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم كي يستصحب ، بل من الأمور الأزلية. وإن كان نفي جزئية السورة للمأمور به ، فمرجعه إلى نفي وجوب الأكثر المشتمل على هذا الجزء ، وهو لا يثبت تعلق الأمر بالأقل إلا على القول بالأصل المثبت.

٢١٩

ولكنه حاول تقريب هذا الأصل بإرجاع الجزئية إلى مرحلة ثالثة وسط بين مرحلة دخالته في المركب الواقعي وبين مرحلة دخالته في المأمور به. ببيان : ان الماهيات المركبة كالصلاة انما يكون تركبها جعليا ، إذ هي في حد ذاتها اجزاء متباينة ومتنوعة المقولات لا ارتباط بينها في أنفسها ، وانما تصير شيئا واحدا بالاعتبار. بان يلحظ الآمر مجموع هذه الأمور المتباينة أمرا واحدا ، فيكون كل من هذه الأمور جزء ، بمعنى انه لوحظ مع غيره أمرا واحدا.

وعليه ، فإذا شك في جزئية شيء ، فيكون مرجع الشك إلى الشك في ملاحظته مع غيره شيئا واحدا ، وفي تعلق اللحاظ به كذلك ، فيجري استصحاب عدمه ، ويترتب عليه ثبوت كون الماهية هي الأقل ، وذلك لأن الأقل يتقوم بأمرين جنس وجودي ، وهو ملاحظة الاجزاء المعلومة. وفصل عدمي وهو عدم ملاحظة غيرها. واحد هذين الأمرين ثابت بالوجدان وهو الجنس والآخر يثبت بالأصل وهو الفصل ، فيثبت في مرحلة الظاهر كون الواجب هو الأقل (١).

ولا يخفى عليك ان فائدة التمسك بالاستصحاب لأجل إثبات وجوب الأقل ونفي وجوب الأكثر والاهتمام بهذه الجهة ، انما هي دفع من يذهب إلى الاحتياط بواسطة ان العلم الإجمالي وان انحل إلى العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك في وجوب الأكثر ، لكن وجوب الأقل المعلوم تفصيلا مردد بين كونه استقلاليا وكونه ضمنيا ، وإذا كان ضمنيا لا يتحقق امتثاله إلا بإتيان الأكثر. وعليه فمقتضى العلم التفصيليّ باشتغال الذّمّة بالأقل هو لزوم تحصيل الفراغ التفصيليّ عن الأقل ، وهو لا يكون إلاّ بإتيان الأكثر. وقد ينسب هذا البيان إلى صاحب الفصول (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٧٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٨٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٢٠