منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الأصل الجاري في آخر الشهر ، إذ لا معنى لجريان الأصل النافي للتكليف أول الشهر في آخر الشهر. إذن فلا تعارض بين الأصلين (١).

وأورد عليه : بان هذا البيان وإن كان موافقا لمقتضى الصناعة العلمية ، لكن يمكن منعه ، لأن العقل مستقل بقبح الإقدام على ما يؤدي إلى تفويت مراد المولى ، فان المقام لا يقصر عن مقام المقدمات المفوتة التي بيّن فيه استقلال العقل بحفظ القدرة عليها مع عدم فعلية الخطاب والملاك ، بل ما نحن فيه أولى من المقدمات المفوّتة ، لاحتمال ان يكون ظرف الوطء في كل زمان هو ظرف الملاك والخطاب.

وجملة القول : انه ذهب قدس‌سره إلى ان تنجيز العلم الإجمالي من باب وجوب حفظ الغرض والملاك الملزم الّذي يعلم بتحققه إجمالا في أحد الزمانين ، وان لم يعلم فعلا بثبوت تكليف فعلي على كل تقدير (٢).

أقول : إن كان مراده قدس‌سره ان العلم بالغرض الملزم المردد بين الزمانين يوجب امتناع جريان الأصل في كل من الطرفين في نفسه مع قطع النّظر عن المعارضة ، بحيث يكون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز ونفي الترخيص في أحد الطرفين ، فهذا البيان جار في جميع موارد العلم الإجمالي بالتكليف ، لأن العلم بالتكليف يلازم العلم بالغرض الملزم ، مع انه قدس‌سره لم يلتزم بالعلية التامة.

وإن كان نظره إلى ان العلم المزبور يوجب المعارضة ، فقد عرفت تسليمه عدم تحقق المعارضة ، لأن الزمان الحالي ليس ظرف كلا الأصلين ، فظرف أحدهما غير ظرف الآخر ، فلا معارضة.

وتحقيق الكلام في المقام : انه قد عرفت انه نسب إلى الشيخ انه فصل بين

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٤ ـ ١٠٩ ـ ١١٠ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١١١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٨١

الصورتين ـ أعني صورة ما إذا كان الزمان الاستقبالي غير دخيل في فعلية الخطاب كمثال الرّبا ، وصورة ما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب والملاك كمثال الحيض ـ. ونسب له القول بالتنجيز فيما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب دون الملاك ، ولعله لأجل تفريقه بين مثال الحيض ومثال الرّبا والنذر أو الحلف على ترك الوطء ، مع فرض كون المحذور في التكليف الفعلي بالفعل الاستقبالي ثبوتيا ، فلا يمكن حمل المثالين في كلامه على الواجب المعلق وفعلية الخطاب ، بل على ما كان الملاك فعليا فقط دون الخطاب. فانتبه والأمر سهل.

أما صورة ما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب والملاك كمثال الحيض.

فالتحقيق : عدم منجزية العلم الإجمالي فيها.

أما على القول بالاقتضاء والالتزام بوجوب الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول ، فواضح لما عرفت من عدم تعارض الأصول لاختلاف ظرف جريانها ، سواء من جهة العلم بالتكليف أم العلم بالملاك والغرض الملزم الّذي يحكم العقل بلزوم تحصيله وقبح تفويته.

وأما على القول بالعلية التامة ، فلأن العلم الإجمالي المردد بين التكليف والملاك الفعلي والاستقبالي لا يصلح للتنجيز.

وذلك ، لأن التكليف اللاحق لا يقبل ان يتنجز بواسطة العلم التفصيليّ الفعلي ، فإذا علم تفصيلا في هذا اليوم بثبوت تكليف فعلي في غد ، فلا يكون العلم التفصيليّ في هذا اليوم منجزا للتكليف في غد وموجبا لترتب العقاب عليه ، بل التنجيز انما يكون للعلم في ظرف التكليف والمقارن له ، ولذا لو تبدل علمه إلى شك في ظرف التكليف أو الغرض ، لا يكون منجزا ، مع انه لو فرض تنجزه سابقا يمتنع ارتفاعه ، لأن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

نعم ، بما انه عند علمه التفصيليّ في هذا اليوم بالتكليف في غد لا يتأتى

١٨٢

لديه احتمال الشك في غد ، لأنه خلف فرض حصول العلم لديه ، فهو يرى فعلا ان التكليف في غد منجز عليه ، لكنه انما يتنجز عليه بالعلم في ظرفه ، فهو يرى انه في ظرفه منجز لا انه فعلا منجز.

ولذا لو فرض ان المنجز الفعلي مما يطرأ فيه فعلا احتمال الزوال لا يمكن الحكم بالتنجيز فعلا ، كما لو قامت الأمارة فعلا على ثبوت التكليف في غد ، وكان هناك احتمال زوال حجية الأمارة في غد أو زوالها نفسها ، لم يحكم بان التكليف في غد منجز فعلا. إذن فالتكليف الاستقبالي يستحيل ان يتنجز بالعلم الفعلي.

وعليه ، فالعلم الإجمالي بتكليف مردد بين الفعلي والاستقبالي ليس علما فعليا بما يقبل التنجيز على كل تقدير ، إذ لا يصلح لأن يكون بيانا على التكليف الاستقبالي ، لأن شأنه لا يزيد على العلم التفصيليّ. وقد عرفت انه لا يصلح لتنجيز التكليف الاستقبالي.

نعم ، لو كان للتكليف الاستقبالي مقدمات وجودية مفوّتة ، كان العلم التفصيليّ موجبا لتنجزه بلحاظ مقدماته ، لأن التكليف الاستقبالي قابل للتنجز فعلا بهذا المقدار ومن هذه الحيثية ، فكان العلم صالحا للتأثير فيه فعلا.

وهذا يختلف عما نحن فيه ، إذ المفروض انه ليس للطرف الاستقبالي مقدمة وجودية فعلية ، بل ليس هناك إلا مقدمة علمية ، ولزومها يتوقف على تنجيز ذي المقدمة ، وهو غير منجز كما عرفت.

ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين مورد حكم العقل بوجوب المقدمة المفوّتة من جهة قبح تفويت الغرض الملزم ، وانه لا ملازمة بين وجوب المقدمات المفوتة وبين تنجيز العلم الإجمالي فيما نحن فيه بلحاظ الغرض الملزم فضلا عن الأولوية التي ادعاها في تقريرات الكاظمي. فالتفت.

وأما صورة ما إذا لم يكن للزمان دخل في فعلية الخطاب ، بل كان الخطاب فعليا وانما الزمان قيد المتعلق.

١٨٣

فقد ذهب الكل إلى منجزية العلم الإجمالي ، لأنه علم بتكليف فعلي على كل تقدير فيكون منجزا ، كما ان حديث المعارضة يأتي فيها لاتحاد ظرف الأصل في كل طرف مع ظرفه في الطرف الآخر. إذن فالعلم منجز على كلا المسلكين في العلم الإجمالي : ـ أعني : مسلك العلية التامة ومسلك الاقتضاء ـ.

لكن الإنصاف هو عدم منجزية العلم في هذه الصورة كسابقتها لنفس البيان السابق ، فان العلم بالتكليف لا يصلح لتنجيزه إلا إذا كان متحققا في ظرف العمل نفسه ، ولذا لو علم بالتكليف الفعلي وكان زمان المكلف به متأخرا وزال العلم في وقت العمل لم يكن التكليف منجزا.

وبالجملة : العلم المنجز هو العلم بالحكم أو بالغرض الملزم في ظرف الطاعة والامتثال لا السابق عليه ولا المتأخر عنه ، لأن الحكم المتنجز هو الحكم بثبوت العقاب على تقدير مخالفة الحكم ، وهو انما يكون بلحاظ قيد المنجز في ظرف المخالفة. فالتفت.

وعليه ، فالعلم الإجمالي فيما نحن فيه ليس علما بما يقبل التنجيز فعلا على كل تقدير ، إذ هو لا يصلح للبيانية وتنجيز التكليف المتعلق بما يكون زمانه متأخرا.

ومن هنا ظهر حكم صورة ما إذا كان الزمان دخيلا في الخطاب دون الملاك. فلاحظ ولا تغفل.

ومحصل القول : هو انه لنا ان نقول ان العلم الإجمالي في التدريجات غير منجز بقول مطلق.

هذا بحسب وجوب الموافقة القطعية.

وأما من جهة حرمة المخالفة القطعية ، فالأمر فيه كذلك ، إذ عرفت عدم قابلية العلم الإجمالي للتنجيز ، فكما لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية ، سواء قلنا بالعلية التامة أم بالاقتضاء.

١٨٤

نعم ، من يقرّب نفي وجوب الموافقة القطعية بعدم تعارض الأصول لا ينبغي له القول بجواز المخالفة القطعية ، إذ لا ملازمة بينهما ، فان حرمة المخالفة القطعية ـ على هذا المبنى ـ ليست من جهة تعارض الأصول كي تنتفي بانتفاء التعارض ، بل العلم علة تامة لها.

فتعليل عدم حرمة المخالفة القطعية بعدم تعارض الأصول ـ كما جاء في تقريرات الكاظمي ـ غير وجيه.

ثم ، إنه إذا لم يكن العلم الإجمالي فيما نحن فيه منجزا كما عرفت ، كان المرجع في كل طرف الأصل الجاري فيه.

وعليه ، ففي مثال العلم الإجمالي بابتلائه بمعاملة ربوية إما في يومه أو غده يقع الكلام في جهتين أشار الشيخ رحمه‌الله إلى كلتيهما :

الجهة الأولى : في أنه حيث يشك في صحة المعاملة وفسادها ، فهل المرجع عمومات الصحة أو أصالة الفساد؟.

ذكر الشيخ رحمه‌الله أولا : ان المرجع هو أصالة الفساد لا عمومات الصحة ، للعلم بخروج بعض الشبهات التدريجية عن العموم ، لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العام عن الظهور بالنسبة إليها ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد. ثم قال بعد ذلك : « اللهم إلا ان يقال : ان العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجية كما لا يقدح في إجراء الأصول العملية فيها كذلك لا يقدح في الأصول اللفظية ، فيمكن التمسك فيا نحن فيه لصحة كل واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكن الظاهر الفرق بين الأصول اللفظية والعملية ، فتأمل » (١).

أقول : إن عدم صحة التمسك بالعموم في مورد الشك فيما نحن فيه ليس من جهة العلم الإجمالي بفساد إحدى المعاملتين كي يتأتى ما ذكره من الحديث ،

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥٦ ـ الطبعة الأولى.

١٨٥

بل من جهة انه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص ، وهو غير جائز ، ولذا يمتنع التمسك بالعموم حتى في الشبهة البدوية.

وظاهر الشيخ رحمه‌الله وإن كان إناطة المحذور في ما نحن فيه بوجود العلم الإجمالي. لكن يمكن ان يكون قوله : « فتأمل » إلى ما ذكرناه من كون المورد من موارد الشبهة المصداقية ، فلا يتأتى فيه حديث العلم الإجمالي والفرق بين الأصول اللفظية والعملية.

وعلى هذا فلا يتجه رمي كلامه بالفساد كما جاء في تقريرات الكاظمي (١). فالتفت ولا تغفل.

الجهة الثانية : انه حيث يشك في حلية المعاملة وحرمتها لاحتمال انها ربوية ، فتكون مجرى لأصالة الحل. وحينئذ يقع الكلام في ان أصالة الحل هل تكون حاكمة على أصالة الفساد أو لا؟ ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى الأول في عموم المعاملات ، وان لم يلتزم به في فرض المسألة ، باعتبار ان فساد الرّبا ليس ناشئا من الحكم التكليفي.

وبالجملة : التزم قدس‌سره بان الحلية التكليفية تلازم الحلية الوضعيّة.

ومحصل ما جاء في تقريرات الكاظمي في تقريبه يرجع إلى وجهين :

الأول : ان حرمة المعاملة بما انها آلة لإيجاد النقل والانتقال لا بما هي عقد لفظي. وبعبارة أخرى : حرمة المعنى الاسم المصدري باعتبار صدوره من العاقد بما انها تستتبع الفساد ، لأنها تستلزم نفي السلطنة شرعا ، كان نفيها بأصالة الحل موجبا لنفي أثرها وهو الفساد أو عدم السلطنة.

الثاني : انه كما ان حرمة المعاملة تستلزم الفساد كذلك الحلية التكليفية للمعاملة بالنحو المزبور تقتضي الصحة.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٤ ـ ١١٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٨٦

ولأجل ذلك يلتزم بدلالة آية : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) على صحة البيع ولو مع إرادة الحلية التكليفية منها (٢).

وفي كلا الوجهين منع.

أما الأول : ففيه ـ بعد تسليم ما أفاده من اقتضاء النهي للفساد ـ.

أولا : ان الترتب بين الفساد والنهي أو عدم السلطنة والنهي ليس ترتبا شرعيا كي ينتفي بانتفاء موضوعه ، بل هو ـ بحسب ما أفاده ـ ترتب عقلي نظير التلازم بين حرمة الشيء وعدم وجوبه. فدليله انما يتكفل الملازمة عقلا بين الحرمة وعدم السلطنة باعتبار عدم إمكان تصور الجمع بينهما ، إذن فلا ينتفي الفساد بانتفاء الحرمة بالأصل.

وثانيا (٣) : انه لو فرض كون الترتب شرعيا ، فأصالة الحل انما تنفع في نفى الفساد لو فرض ان دليلها يتكفل جعل الحلية بلحاظ جميع آثارها.

أما لو فرض ان دليلها انما يتكفل جعل الحالية ونفي الحرمة بلحاظ خصوص المعذرية وعدم العقاب ، كما يحتمل قويا ذلك ، فلا يترتب عليها نفى الفساد.

وأما الثاني : ففيه ـ مضافا إلى ما ورد على الأول ـ : انه لا تلازم بين الحلية التكليفية والصحة ـ لو سلمت الملازمة بين الحرمة والفساد ـ للقطع بحلية كثير من المعاملات الفاسدة كالمعاملة الغررية ونحوها ، فانه يكشف عن عدم الملازمة بين الحلية والصحة.

وأما فهم جعل الصحة من آية حلّ البيع ، فهو من جهة ان نفس التصدي

__________________

(١) سورة البقرة. الآية : ٢٧٥.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١١٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) قد يقال بإمكان الرجوع إلى استصحاب عدم الحرمة في نفي الفساد. فلا حاجة إلى أصالة الحل كي يأتي الإشكال المذكور. فتأمل. منه عفي عنه.

١٨٧

لبيان حليته تكليفا ظاهر عرفا في أنه نافذ وصحيح ، كما لا يخفى. فتدبر.

التنبيه السادس : في الكلام عما إذا كان في أحد الأطراف أصول طولية دون الآخر. فانه بناء على الالتزام بتعارض الأصول ومنجزية العلم الإجمالي من جهة الموافقة القطعية بسبب المعارضة ، يقع الكلام في ان المعارضة هل تكون بين مجموع الأصول الطولية في طرف والأصل المنفرد في الطرف الآخر ، أو انها تكون بين الأصل المنفرد في طرف والأصل المتقدم رتبة في الطرف الآخر ، فيكون الأصل المتأخر في ذلك الطرف رتبة سليما عن المعارض ، فلا مانع من جريانه؟.

ومثال ذلك : ما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، وكان أحدهما متيقن الطهارة قبل العلم الإجمالي دون الآخر ، فان متيقن الطهارة مجرى لأصلين الاستصحاب وقاعدة الطهارة ، وهي في طول الاستصحاب لحكومته أو وروده عليها. وأما الإناء الآخر ، فهو ليس مجرى إلا لقاعدة الطهارة.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى القول الأول ، فالتزم بمعارضة مجموع الأصول الطولية المرخصة في طرف للأصل المنفرد في الطرف الآخر.ببيان : ان تعارض الأصول بتعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها الّذي ينافى بنفسه المعلوم بالإجمال ، والمجعول في كل من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة المشكوك ، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة لكلا الإناءين.إذن فمؤدى الاستصحاب وقاعدة الطهارة في طرف يعارض مؤدى قاعدة الطهارة في الطرف الآخر فيتساقطان في عرض واحد.

وبالجملة : المحذور في عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي يرجع إلى مقام الثبوت ، وهو منافاة الترخيص في كلا الطرفين للمعلوم بالإجمال ، فلا ينفع حديث الحكومة والطولية ، وليس يرجع إلى مقام الإثبات ، حتى ينفع حديث حكومة أحد الأصلين على الآخر.

نعم لو كان أحد الأصلين سببيا والآخر مسببيا ، كان طرف المعارضة

١٨٨

خصوص الأصل السببي ، فلا مانع من جريان الأصل المسببي عند سقوط السببي بالمعارضة ، لعدم المعارض ، كما تقدم في مسألة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ،. لأن المحذور في جريان الأصلين هناك إثباتي لا ثبوتي (١).

وهذا البيان مندفع ، وذلك لأن المحذور في جريان كلا الأصلين المنتهى إلى المخالفة القطعية العملية وإن كان ثبوتيا ، لكن المحذور في جريان أحدهما المنتهى إلى عدم الموافقة القطعية ليس ثبوتيا ، إذ لا محذور فيه عقلا بنظره قدس‌سره ، وإنما هو ناشئ من المعارضة بين إطلاقي الدليلين الشاملين لكلا الطرفين الناشئة من عدم الترجيح بلا مرجح.

ومن الواضح أن التعارض انما يكون بين الأدلة بما هي أدلة ، فالمحذور المستلزم لسقوط الأصلين إثباتي لا ثبوتي ، وحينئذ ينفع فيه حديث الطولية ، إذ مع وجود الأصل الحاكم لا تصل النوبة إلى الأصل المحكوم ولا يكون إطلاق دليله شاملا للمورد في حد نفسه ، فلا معنى لأن يكون طرف المعارضة ، فلا تصل النوبة إليه إلا بعد سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر.

وعليه ، فهو يجري بلا معارض. وبذلك يظهر أن القول الثاني هو المتعين.وهذا البيان يختلف عما تقدم منّا في مناقشة المحقق النائيني في مبحث الاضطرار إلى المعين ، فراجع. وكلاهما صالح لردّ ما التزم به قدس‌سره. فتدبر.

التنبيه السابع : في الكلام عن استصحاب الاشتغال.

لا يخفى عليك ان ما ذكرناه في أحكام العلم الإجمالي وخصوصياته يتأتى في مطلق العلم الإجمالي بالتكليف تحريما كان أو إيجابا. إلا في بعض الخصوصيات التي نبهنا عليها في بعض التنبيهات (٢).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) راجع بحث الشبهة غير المحصورة.

١٨٩

ولكن العلم الإجمالي بالحكم الإيجابي بين طرفين ـ كالعلم بوجوب صلاة القصر أو التمام عليه ـ يختص ببحث تعرض له الشيخ (١) وغيره ، وهو انه إذا جاء بأحد الطرفين كصلاة القصر ، فهل يمكن إجراء استصحاب الوجوب المعلوم سابقا ثبوته عليه والمشكوك في بقائه فعلا بعد إتيان أحد الطرفين أو لا يمكن (٢)؟.

فنقول ـ وعلى الله سبحانه الاتكال ـ : ان الحديث يقع في جهتين :

الأولى : في استصحاب الفرد المردد من الوجوب ، بحيث تترتب عليه آثار الفرد.

والثانية : في استصحاب كلي الوجوب المتحقق في ضمن أحد الفردين.

أما استصحاب الفرد المردد ، فهو مما لا يصح إجراؤه ، وذلك لأن الاستصحاب يتقوم بركنين أحدهما اليقين بالحدوث. والآخر الشك في البقاء. وكلاهما مفقودان في المقام.

أما الشك في البقاء فلوجهين ـ أشار إليهما المحقق النائيني في كلامه ـ.

الأول : ان البقاء عبارة عن الوجود بعد الوجود وعلى تقدير الحدوث ، ولا شك في المقام في بقاء الفرد الحادث المردد على أي تقدير من تقديري حدوثه ، لأنه على أحد تقديريه مقطوع العدم وعلى التقدير الثاني مقطوع البقاء.

الثاني : ان المطلوب في باب الاستصحاب هو تحقق الشك في بقاء الحادث على ما هو عليه وعلى جميع تقادير حدوثه ، بحيث يحاول في الاستصحاب الحكم ببقاء ذلك الحادث على ما هو عليه ، ومن الواضح انه لا شك في الحادث

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢٦٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) وقد أطال المحقق النائيني رحمه‌الله في تحقيق هذا المبحث ، وتعرض سيدنا الأستاذ ( مد ظله ) في مجلس الدرس أولا إلى كلامه ، ثم عقّبه بتحقيق المطلب ، ونحن لا نرى لزوما في نقل ما أفاده النائيني قدس‌سره ، بل المهم بيان تحقيق المبحث وبه يتضح كلام الاعلام صحة وفسادا.

١٩٠

ـ المطلوب إبقاؤه ـ على كلا تقديريه ، لأنه على أحد تقديريه مرتفع قطعا ، وعلى التقدير الآخر باق قطعا. فلا شك في بقاء ما تحقق سابقا على ما هو عليه وكيف ما كان.

وأما اليقين بالحدوث ، فعدمه واضح ، بناء على الالتزام بان العلم الإجمالي متعلق بالجامع وعدم سرايته إلى الخصوصية أصلا ، إذ الفرد لا يقين به كما لا يخفى.

ولا ندري لما ذا لم يتعرض المحقق النائيني رحمه‌الله إلى هذا الإيراد مع التزامه بالمسلك المزبور.

وأما بناء على ما اخترناه من تعلق العلم بالجامع وسرايته إلى الخارج وارتباطه بواقع معين خارجا ، بحيث يكون الجامع مشيرا إليه ، ويمكن ان يقول العالم إجمالا : ان هذا هو معلومي بالإجمال لو انكشف له الحال ، بناء على هذا المسلك قد يتخيل تعلق اليقين بالفرد المردد. لكنه تخيل فاسد ، لما عرفت سابقا من ان الفرد المردد لا علم به بخصوصياته ، بل بمقدار الجامع المشير إليه.

وعليه ، فالفرد الواقعي متعلق لليقين من جهة واحدة مجملة ومجهول من سائر الجهات المميزة لها.

ومن الواضح : ان ظاهر اليقين بالشيء المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين به بقول مطلق وبجهاته المميزة ، بحيث يصح ان يقال له عرفا انه معلوم ، والمعلوم بالإجمال لا يقال له انه معلوم ، بل يقول القائل انه لم يكن يدري به ، ولذا قلنا انه مردد لدى العالم ، وهو يعني انه ليس بعالم به ، فالحرمة الثابتة للإناء النجس الواقعي المردد بين إناءين لا يقال عرفا إنها معلومة.

وبعبارة أخرى : ان المعلوم شخصا هو الكلي المرتبط بواقع معين خاص ، والمنطبق على أحد الفردين خاصة واقعا والمتشخص به في الواقع.

أما المنطبق عليه فليس معلوما وان ارتباط به المعلوم ، إذ عرفت ان العلم

١٩١

الإجمالي هو العلم بالجامع. غاية الأمر انه يرتبط بالخارج وينطبق عليه ، وهذا لا يصحح تعلق العلم بالخارج ، بحيث يقال عرفا انه معلوم. بخلاف موارد العلم التفصيليّ ، فانه يقال انه معلوم بنفسه وان كان مجهولا من سائر جهاته.

فالواقع في مورد العلم الإجمالي معلوم لكنه بالإجمال ، وهو كما عرفت يرجع إلى تعلق العلم بالصورة الإجمالية الجامعة ، فالعلم لم يتعلق بالفرد ، بل تعلق بالكلي وهو غير الفرد.

والنتيجة : ان استصحاب الفرد المردد مما لا يمكن الالتزام به لفقدانه ركني الاستصحاب.

وأما استصحاب الكلي المتحقق في ضمن أحد الفردين ، فلا إشكال فيه من جهة اليقين بالحدوث والشك في البقاء فانهما متوفران فيه.

ولكن يشكل من جهة أخرى ، وهي : ان المقصود به.

إن كان إثبات وجوب الفرد الباقي الّذي لم يأت به المكلف فهو أصل مثبت.

وإن كان المقصود به إثبات لزوم الخروج عن عهدة التكليف ، فهو ثابت بقاعدة الاشتغال الثابتة بمجرد الشك ، فلا حاجة في ذلك إلى الاستصحاب لأنه لغو ، أو تحصيل للحاصل ، بل قيل انه أردأ أنحاء تحصيل الحاصل ، لأنه من باب إحراز موضوع الأثر الثابت لما هو محرز بالوجدان بالتعبد.

وهذا إشكال ذكره المحقق النائيني على الاستصحاب هنا ، وفي موارد البراءة ، فذهب إلى : انه لا مجال لإجراء استصحاب البراءة لإثبات عدم العقاب لترتبه على مجرد الشك ، فيكون الاستصحاب لإثبات ذلك تحصيلا للحاصل ، بل من أردأ أنحائه.

وقد يقال : ان الاستصحاب هاهنا وارد على قاعدة الاشتغال ، لأن موضوع القاعدة هو الضرر المحتمل ، وهي ثابتة بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل.

١٩٢

ومن الواضح انه باستصحاب التكليف يرتفع احتمال الضرر للقطع به بعد القطع بالتكليف تعبدا. فالأثر وان اتحد ، لكن لا مانع من جريانه بعد انتفاء قاعدة الاشتغال به لارتفاع موضوعها ، وإلا لأشكل الأمر في كل وارد ومورود متفقين في الأثر وهو خلاف المتسالم عليه عند الكل.

وبمثل ذلك يقال في استصحاب عدم التكليف وانه وارد على قبح العقاب بلا بيان ، لأنه يكون بيانا على العدم فيرتفع اللابيان. إذن فلا لغوية فيه وليس هو من تحصيل الحاصل ، فضلا عن ان يكون من أردإ أنحائه.

ويمكن المناقشة في هذا القول :

أولا : بان قاعدة الاشتغال ليست بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل ، لما عرفت ـ في مبحث البراءة العقلية في تفسير كلام الشيخ ـ من أن وجوب دفع الضرر المحتمل على تقدير ثبوته يتفرع على تنجيز التكليف الموجب لاحتمال الضرر ، إما بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال قبل الفحص أو بقيام الدليل على وجوب الاحتياط في الشبهة ، فالتنجيز في مرحلة سابقة على وجوب دفع الضرر المحتمل ، وقاعدة الاشتغال ترجع إلى الحكم بتنجز التكليف وثبوت العقاب على مخالفته.

ومن الواضح ان تنجز التكليف في كل من الطرفين فيما نحن فيه ناشئ من العلم الإجمالي بالتكليف واحتمال انطباقه على كل طرف من أطرافه ـ سواء أقلنا بالعلية التامة أم بالاقتضاء وتعارض الأصول ـ ، فمجرد حدوث العلم يوجب الحكم بالتنجيز وترتب العقاب على مخالفته ، وهذا هو معنى قاعدة الاشتغال فيما نحن فيه. ولا يخفى ان الاستصحاب لا يرفع موضوعها ، إذ هو لا يرفع العلم السابق ، كيف؟ وهو يتقوم بثبوته. كما لا ينفي أو يثبت الانطباق ، بل غاية ما يثبت هو التعبد بثبوت الحكم بقاء ، وهو لا يزيد على العلم به ، وقد عرفت ان العلم الحادث دخيل في تحقق القاعدة لا رافع لها. مع أن الأثر العقلي يترتب على

١٩٣

مجرد حدوث العلم بالتكليف للزوم الخروج عن عهدته ولو حصل الشك بعد ذلك في بقائه ، كما عرفت ذلك في مبحث الاضطرار فراجع. ولعل هذا هو مقصود المحقق النائيني من ان الأثر يترتب على مجرد الحدوث ، فإحراز البقاء لا فائدة فيه.

وثانيا : لو سلمنا ان قاعدة الاشتغال بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل لا بملاك التنجيز ، فالاستصحاب لا يوجب القطع بالضرر.

أما بناء على انه لا يتكفل سوى التنجيز والتعذير فواضح جدا ، إذ هو يتكفل بيان ثبوت العقاب على الواقع لو كان ثابتا ، وهذا لا يزيد على ما هو ثابت في نفسه بواسطة العلم الإجمالي واحتمال الانطباق ، فلا يرفع موضوع قاعدة الاشتغال.

وأما بناء على تكفله جعل حكم ظاهري مماثل للواقع ، فلأن العقاب في مورده على مخالفة الواقع لو صادفه ، ولا عقاب على مخالفة الظاهر لو لم يصادف الواقع. وعليه فهو لا يفيد أكثر من تنجيز الواقع ، فلا يكون واردا على قاعدة الاشتغال.

نعم ، قد يتوهم حكومة الاستصحاب على قاعدة الاشتغال ، لأنها وان تكفلت بيان احتمال الضرر ، لكن بلسان إثبات الواقع وثبوته.

ولكنه توهم فاسد ، إذ لا معنى للحكومة في باب الأحكام العقلية ، بل هي تختص بالأدلة اللفظية الشرعية.

نعم ، إذا التزم بثبوت العقاب على مخالفة الحكم الظاهري وعدم تعدد العقاب مع موافقة الواقع للظاهر ، يكون المورد ـ بالاستصحاب ـ من موارد القطع بالعقاب ـ إذ لو التزم بالتعدد ، فالعقاب على الواقع يكون محتملا لا مقطوعا ، كما لا يخفى وجهه فانتبه ـ ، نظير موارد العلم التفصيليّ بالحكم الشرعي فلا موضوع لقاعدة الاشتغال حينئذ ، ولكنه مبنى فاسد لا نلتزم به.

١٩٤

وجملة القول : ان مبنى قاعدة الاشتغال على حدوث اليقين بالتكليف واحتمال انطباقه على كل طرف ، والاستصحاب لا يتصرف في شيء من ذلك. ولو فرض كون الشك في البقاء دخيلا أيضا في قاعدة الاشتغال ، بمعنى عدم الدليل على التكليف وجودا أو نفيا ، فهو انما يسلم في مورد العلم التفصيليّ بالحكم الشخصي ، فان قاعدة الاشتغال تنشأ من الشك في الفراغ ، إذ قبل الشروع في الامتثال لا معنى لقاعدة الاشتغال للعلم بالحكم. لا فيما نحن فيه مما كانت قاعدة الاشتغال تتقوم بالعلم الإجمالي والشك في الانطباق ، فان قاعدة الاشتغال لا تتقوم بعدم الدليل على ثبوت التكليف كالاستصحاب ، إذ الاستصحاب غاية ما يثبت التكليف الإجمالي ويرفع الشك في بقاء الكلي ، أما تعيين انطباقه فلا يتكفله فلا يستغنى به عن قاعدة الاشتغال بل نحتاج إليها ، ولذا قلنا انه لا يزيد على العلم بالحدوث. نعم هي تتقوم بعدم الدليل على ارتفاع التكليف ، وهو محرز بالوجدان ولا ربط للاستصحاب فيه كما لا يخفى. هذا مضافا إلى ان الاستصحاب لا يرفع الشك في العقاب لأنه إنما يتكفل تنجيز الواقع لا أكثر.

فظهر بذلك : ان الاستصحاب لا مجال له فيما نحن فيه ـ وفاقا للشيخ ـ لأنه من تحصيل الحاصل ، أو أردأ أنحائه كما قيل.

نعم ، لو فرض ان للاستصحاب أثرا آخر غير أثر قاعدة الاشتغال ، فلا مانع من جريانه بلحاظ ذلك الأثر ، إذ لا يكون حينئذ لغوا ، كما التزم به الشيخ في استصحاب البراءة إذا ترتب عليها أثر غير الأثر العقلي بملاك قبح العقاب بلا بيان (١).

ومن هنا يظهر أنه لا وقع للإيراد على الشيخ في التزامه بإجراء الاستصحاب في مورد الشك في بقاء التكليف الشخصي ، كاستصحاب وجوب

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٤ ـ الطبعة الأولى.

١٩٥

الظهر عند الشك في أدائها. ببيان : انه يكفي في لزوم الخروج عن عهدتها قاعدة الاشتغال المترتبة على حدوث اليقين بالوجوب والشك في الامتثال.

وجه ظهور فساد هذا الإيراد : ما أشار إليه الشيخ رحمه‌الله في ذيل كلامه من : انه يترتب على استصحاب التكليف الشخصي أثر آخر ، وهو جواز الإسناد والاستناد بحيث يصح له الإتيان بصلاة الظهر بنية الظهر جزما ، وهذا مما لا يترتب على قاعدة الاشتغال ، كما لا يثبت في موارد استصحاب الكلي الّذي هو محل الكلام.

هذا غاية ما يمكن أن نقوله في هذا المجال ، فتدبره فانه لا يخلو من دقة.

١٩٦

المقام الثاني :

في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين يقع في صورتين :

الصورة الأولى : في الشك في الجزئية.

كتردد الواجب بين كونه واجد السورة أو فاقدها.

ولا يخفى عليك ان البحث في الأقل والأكثر يكون بعد الفراغ عن جهتين :

الأولى : الالتزام بالبراءة في الشبهات البدوية.

الثانية : الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي عند دوران الأمر بين المتباينين.

وذلك ، لأن غاية ما يحاوله القائل بالاحتياط في مورد الدوران بين الأقل والأكثر ، هو دعوى عدم انحلال العلم الإجمالي وإلحاق الأقل والأكثر بالمتباينين ، فإذا لم يثبت الاحتياط في المتباينين فلا يثبت فيما نحن فيه ولا مجال لتوهمه.

كما ان غاية ما يحاوله القائل بالبراءة هو دعوى انحلال العلم الإجمالي ، وكون شبهة وجوب الأكثر بدوية ، فإذا لم تثبت البراءة في الشبهات البدوية فلا مجال لتوهمها فيما نحن فيه.

١٩٧

إذن ، فلا بد من فرض هاتين الجهتين مفروغا عنهما ، والبحث في أن الأقل والأكثر من قبيل المتباينين فيجب الاحتياط ، أم من قبيل الشبهة البدوية فلا يجب الاحتياط.

وبعد ان عرفت ذلك ، نقول : إن الوجه الّذي يرتكز عليه القائل بالاحتياط هو أمران :

الأمر الأول : العلم الإجمالي بوجوب العمل المردد بين الأقل والأكثر ، إذ العلم الإجمالي يوجب تنجيز كلا طرفيه فيجب الإتيان بالأكثر.

وأساس القول بالبراءة على الالتزام بانحلال العلم الإجمالي وعدم تأثيره.

وقد اختلفت كلمات الاعلام في هذا المجال تفصيلا وإطلاقا.

ويمكننا ان نشير إلى المسالك المذكورة في تقريب الانحلال بأربعة وجوه :

الأول : الانحلال في حكم العقل ـ بمعنى الانحلال الحكمي الراجع إلى عدم تأثير العلم الإجمالي في التنجيز ـ بقيام العلم التفصيليّ بتنجز الأقل وعدم تنجز الأكثر.

الثاني : الانحلال الحقيقي في حكم الشرع بقيام العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك في وجوب الأكثر.

الثالث : الانحلال الحكمي بجريان الأصل المؤمن في الأكثر بلا معارض ، وهو يبتني على القول بالاقتضاء.

الرابع : الانحلال بواسطة حكومة دليل البراءة على أدلة الأجزاء والشرائط ، وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه‌الله.

وقد نسب إلى الشيخ رحمه‌الله القول بالانحلال في حكم الشرع.

ببيان : ان الأقل معلوم الوجوب تفصيلا إما بالوجوب النفسيّ أو المقدمي الغيري ، والأكثر مشكوك الوجوب فينحل العلم الإجمالي.

١٩٨

واستشكل فيه : بعدم الأثر العملي العقلي للوجوب الغيري لعدم قابليته للتنجز ، وبأنه قدس‌سره لا يلتزم باتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري (١).

والّذي يظهر لنا ان نظر الشيخ رحمه‌الله إلى الانحلال في حكم العقل لا في حكم الشرع.

وقد يقرّب الانحلال في حكم العقل بدوا : بان الأقل منجز على المكلف وفي عهدته قطعا سواء كان هو الواجب أم كان الأكثر هو الواجب. بخلاف الأكثر. فانه لا يعلم بوجوبه فلا يكون منجزا ، وبذلك ينحل العلم الإجمالي بلحاظ أثره العقلي وهو التنجيز ، فلا يؤثر في تنجيز الأكثر.

ولكن صاحب الكفاية ذهب إلى استحالة الانحلال المزبور ، لأنه يستلزم الخلف ، كما انه يستلزم من فرض وجوده عدمه. وذلك.

أما استلزامه الخلف ، فلأن تنجز الأقل على كل حال يتوقف على فرض تنجز الأكثر ، إذ لا يكون الأقل منجزا مطلقا إلاّ إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال منجزا مطلقا حتى لو فرض تعلقه بالأكثر ، فلو كان تنجز الأقل مطلقا مستلزما لعدم تنجز الأكثر كان خلفا ، لأنه خلاف المفروض ، أو لأنه يلزم ان يكون المعلول للتنجز مانعا عنه ، فيكون الشيء سابقا ولاحقا في آن واحد.

وأما استلزام عدمه من فرض وجوده ، فلأنه إذا كان تنجز الأقل على كل حال مستلزما لعدم تنجز الأكثر كان ذلك مستلزما لعدم تنجز الأقل مطلقا لعدم تنجز التكليف على كل حال ، وهو يستلزم عدم الانحلال ، لأن أساس الانحلال بتنجز الأقل مطلقا. فيلزم من الانحلال عدمه (٢).

هذا ما أفاده في الكفاية ، وعليه بنى عدم انحلال العلم الإجمالي وعدم

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٦٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٩

جريان البراءة العقلية من الأكثر لقيام البيان.

وهو ينظر إلى ما سلكه الشيخ رحمه‌الله من دعوى الانحلال في حكم العقل التي تظهر من كلماته الأخيرة ، حيث ذهب إلى العلم التفصيليّ بثبوت العقاب على ترك الأقل ، إما لوجوبه لنفسه أو لأنه سبب لترك الأكثر ، بخلاف الأكثر فيكون العقاب عليه عقابا بلا بيان.

ولكن كلام الشيخ ودعواه تبتني على أمر غفل عنه صاحب الكفاية وغيره ، فكان نتيجته هو إيراد الكفاية على دعوى الانحلال بما عرفت.

بيان ذلك : ان التكليف بمركب ذي أجزاء عديدة ..

تارة : يلتزم بان له تنجيز واحد بلحاظ مجموع الأجزاء ، فاما ان يتنجز مطلقا واما ان لا يتنجز كذلك.

وأخرى : يلتزم بأنه قابل للتبعض في التنجيز بلحاظ تعدد أجزائه ، فيكون منجزا من جهة بعض أجزائه ، ولا يكون منجزا من جهة بعض آخر ـ نظير بطلان العمل ، فانه تارة يستند إلى ترك الكل ، وأخرى يستند إلى ترك أحد الاجزاء خاصة ـ. فإذا علم المكلف بوجوب بعض اجزاء المركب وجهل البعض الآخر ، فلو ترك الاجزاء المعلومة وظهر وجوب الكل المركب منها ومن المجهول ، كان للمولى ان يعاقبه على ترك الأكثر المستند إلى ترك الاجزاء المعلومة له ، لأن المركب بذلك المقدار مما قام عليه البيان. أما إذا جاء بها فليس له أن يعاقبه على ترك الأكثر المستند إلى ترك الاجزاء المجهولة لأنه عقاب بلا بيان.

ولا يخفى عليك انه مع الالتزام بالتبعض في التنجيز بالتقريب الّذي عرفته ، يتم الانحلال في حكم العقل بلا تأتي محذور الكفاية عليه.

وذلك ، لأنه إذا علم إجمالا بوجوب الأقل أو الأكثر فقد علم بوجوب الأقل تفصيلا ، إما لنفسه أو لكونه جزء الأكثر ، وهذا يستلزم العلم بان ترك الأقل موجب للعقاب إما لوجوبه لنفسه أو لتنجز الأكثر من جهته ، فمخالفة الأقل

٢٠٠