منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

عند حصولها بلا حاجة إلى تعبد آخر ، لأن حرمة التصرف في المنافع ـ سواء أكانت مستقلة في الوجود كالثمرة أو غير مستقلة كمنفعة الدار ـ من شئون حرمة التصرف في ذي المنفعة ، فلا يتحقق امتثال المعلوم بالإجمال إلا بالاجتناب عن الثمرة عند تجددها. فتدبر.

ثم إنه قدس‌سره التزم بان الحال في الحكم الوضعي هو الحال في الحكم التكليفي ، فان دخول الأصل تحت اليد يستلزم ضمان المنفعة المتجددة بنفسه ، كما يستلزم حرمة التصرف في الأصل حرمة التصرف في المنفعة هذا ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله في كلا الموردين (١). وفي كلاهما كلام ..

أما مثال بيع أحد المشتبهين بالخمر ونحوه مما لا يصح بيعه شرعا ، فالأمر كما ذكره قدس‌سره من الحكم بفساد البيع وعدم ترتيب أثره بالنسبة إلى كل واحد من المشتبهين.

والسر فيه : انه لا يصح التمسك بعمومات الصحة والنفوذ بالنسبة إلى بيع أحد المشتبهين لتخصيصها بغير بيع الخمر مثلا ، والمفروض ان البيع الواقع يشك في أنه بيع خمر أو لا ، فيكون التمسك بالعمومات الدالة على الصحة من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. وهو غير جائز ، وإذا لم يتمسك بالعموم فالمرجع هو الأصل العملي ، وهو يقتضي الفساد في باب المعاملات ، لأصالة عدم ترتب الأثر كما يقرّر ذلك في محله.

وأما ما أفاده قدس‌سره من جريان أصالة الصحة في حد نفسه وسقوطها بالمعارضة ، فلا نعلم وجهه ، لأن الأصل العملي في باب المعاملات هو الفساد لا الصحة.

نعم ، تجري أصالة الصحة في العقد الصادر من الغير المشكوك واجديته

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٦٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٦١

لبعض شرائط الصحة ، وهو غير ما نحن فيه كما لا يخفى.

وأما ما ذكره من جعل السلطنة ، وانها ملازمة لجعل الصحة أو عينها وان عدم السلطنة ملازم للفساد أو عينه ففيه : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله في نفى إمكان جعل السببية ، بان الجاعل ان اقتصر على جعل السببية بلا جعل المسبب عند حصول السبب ، فلا أثر لجعل السببية ، لعدم تحقق المسبب بدون الجعل ، وان جعل المسبب عند حصول السبب كان جعل السببية لغوا مستغنى عنه (١) فانه يرد مثله في جعل السلطنة ، فان الجاعل ان اقتصر على جعل السلطنة على البيع بلا جعل الأثر عند حصوله ، فلا أثر لجعل السلطنة. وإن جعل الأثر عند حصول البيع ، كفى ذلك عن جعل السلطنة ، فكان جعلها لغوا محضا. إذن فلا وجه للالتزام بجعل السلطنة أو نفيها شرعا ، بل السلطنة وعدمها ينتزعان من جعل الأثر عند حصول البيع وعدمه. فالتفت.

وأما مثال النماء المتصل أو المنفصل لإحدى العينين المشتبهتين بالغصبية ، فحديث ضمان المنفعة المتجددة بمجرد جعل اليد على العين له مجال آخر ، فنوكله إلى محله ، وانما نتكلم فيه من جهة الحكم التكليفي ، وان لزوم الاجتناب عن النماء بنفس لزوم الاجتناب عن العين ، أو انه حكم آخر ذو موضوع مستقل آخر؟.

وقد أشار المحقق العراقي قدس‌سره إلى هذا المثال ، وردد فيه بين الاحتمالين ، ولم يرجّح أحدهما على الآخر ، بل أهمل ذلك بالكليّة (٢).

ولا يخفى ان الالتزام بأحد الاحتمالين يبتني على ظهور ان الاجتناب عن النماء هل هو من شئون الاجتناب عن العين أو ليس من شئونه؟. فإذا ثبت كونه من شئون الاجتناب عن العين كان وجوب الاجتناب عن العين بنفسه يقتضي

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٣٥٠ و ٣٥١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٢ ـ ٢٦٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٦٢

الاجتناب عن النماء. وإلا فلا.

والظاهر هو الأول ، فان النهي عن التصرف في العين والأمر باجتنابها ظاهر عرفا فيما يعم الاجتناب عن نمائها حتى المتجددة ، ويعد ذلك من شئون الاجتناب عن نفس العين عرفا. وعليه فكلما تتجدد ثمرة للعين تتسع دائرة وجوب الاجتناب عن العين ، ويثبت وجوب الاجتناب عن ثمرة العين بنفس الوجوب الثابت من الأول ، لأنه من مراتبه وشئونه. وهذا يقتضي تنجز الحكم باجتناب الثمرة لإحدى المشتبهين بنفس العلم الإجمالي بغصبية أحدهما ولزوم الاجتناب عن أحدهما بلا حاجة إلى علم آخر ، كما أوضحناه جيدا في مسألة ملاقي أحد المشتبهين بالنجس.

ومما ذكرنا يظهر : انه لا وقع لما جاء في الدراسات من الإيراد على المحقق النائيني في ما ذكره في مثال النماء من « انا لا نتعقل ثبوت ملاك تحريم المنافع قبل وجودها خارجا ، فان حرمة التصرف في مال الغير انما تثبت بعد ثبوت موضوعه في الخارج ، ومع عدم تحققه لا معنى لتحقق ملاك التحريم ، كما لا معنى لثبوت نفسه » (١). فان المحقق النائيني قدس‌سره قد تنبه إلى ذلك على ما نقلناه من كلامه ، وذهب إلى عدم فعلية الحكم بالاجتناب عن النماء إلا عند حصوله ، لكن الحكم بالاجتناب عنه ليس حكما جديدا ، بل هو بنفس الحكم بلزوم الاجتناب عن الأصل ، لأن الاجتناب عن النماء من شئونه وتوابعه عرفا ، فتتسع دائرته بحصول مرتبة من مراتب متعلقه. فلاحظ تعرف.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى الفقهية.

وأما الجهة الثانية الأصولية : فتحقيق الكلام فيها : انه قد يدعى ان لزوم الاجتناب عن ملاقي النجس وإن كان حكما مستقلا غير وجوب

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٦٢ ـ الطبعة الأولى.

١٦٣

الاجتناب عن النجس نفسه ، لكن هذا لا يضر في لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين بالنجس ، وذلك لأنه يكون طرفا لعلم إجمالي آخر يقتضي تنجز التكليف فيه ، فانه عند تحقق الملاقاة يحصل عند المكلف علم إجمالي آخر بنجاسة أحد الإناءين ، إما الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف الآخر للملاقى ـ بالفتح ـ ، وهذا العلم الإجمالي يوجب تنجز التكليف في الملاقي ، كاستلزام العلم الإجمالي الّذي طرفاه الملاقى والإناء الآخر لتنجيز طرفيه.

وقد تصدى الأعلام إلى دفع هذه الدعوى ، وبيان عدم منجزية العلم الإجمالي الآخر.

فذكر الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام : ان أصل الطهارة والحل في الملاقي يمكن إجراؤه بلا ابتلائه بالمعارض الموجب للتساقط. وذلك لأن الشك في نجاسة الملاقي ناشئ ومسبب عن الشك في نجاسة الملاقى ، فالشك في الملاقى سببي وفي الملاقي مسببي ، وقد تقرر في محله انه لا مجال لجريان الأصل في الشك المسببي مع جريانه في الشك السببي ، سواء كان موافقا أم مخالفا ، لحكومة أو ورود الأصل السببي على الأصل المسببي.

وعليه ، فظرف جريان الأصل المسببي هو ظرف امتناع جريان الأصل السببي لمانع منه ، ولا يكونان في رتبة واحدة.

وهذا يقتضي انه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي إلا بعد سقوط الأصل في الملاقى وعدم جريانه ، وهو انما يسقط بمعارضته بالأصل الجاري في الطرف الآخر. فإذا تساقطا معا كان الأصل في الملاقي جاريا بلا معارض.

وبالجملة : لا يلزم من جريان الأصل المرخص في الملاقي محذور لعدم معارضته بمثله في الطرف الآخر ، لسقوط الأصل فيه في مرحلة سابقة على جريانه في الملاقي ، وهي مرحلة جريان الأصل في الملاقى الّذي عرفت تقدمه

١٦٤

رتبة على الأصل في الملاقي. هذا ما أفاده الشيخ رحمه‌الله (١).

وقد أفاد صاحب الكفاية في دفع الدعوى المزبورة : ان الملاقي على تقدير نجاسته بسبب نجاسة الملاقى يكون فردا آخر من أفراد النجس يشك في تحققه ، كما يشك في نجاسة فرد آخر بسبب آخر غير الملاقاة ، فان العلم الإجمالي كما لا يقتضي الاجتناب عن الفرد المشكوك النجاسة بسبب آخر كذلك لا يقتضي الاجتناب عن الملاقي (٢).

وهذا البيان مقتضى جدا وهو يختلف عن بيان الشيخ رحمه‌الله.

ولعل الوجه في سلوك صاحب الكفاية هذا المسلك وعدوله عن مسلك الشيخ رحمه‌الله هو : أن مسلك الشيخ رحمه‌الله في الجواب يبتني على القول بالاقتضاء في العلم الإجمالي ، وان وجوب الموافقة القطعية ناشئ من تعارض الأصول ، فيصح إجراء الأصل في أحد الطرفين لو لم يكن له معارض.

وهذا القول لا يرتضيه صاحب الكفاية ولا يذهب إلى صحته ، بل هو يرى القول بالعلية التامة ، بحيث يمتنع إجراء الأصل في أحد الطرفين في حد نفسه ومع قطع النّظر عن المعارضة ، ولأجل وضوح هذه الجهة أهمل الإشارة إلى كلام الشيخ ، بل سلك في دفع الدعوى مسلكا يتلاءم مع مسلكه ، لكن بيانه لا يخلو عن إجمال كما عرفت.

ومن الممكن ان يكون نظره قدس‌سره إلى بيان عدم منجزية العلم الإجمالي الآخر لانحلاله بالعلم الإجمالي السابق. والوجه فيه ـ بنظره ـ ..

إما أن العلم الإجمالي المتأخر ليس علما بتكليف فعلي آخر غير التكليف المعلوم بالعلم الأول ، فلا يكون حينئذ منجزا.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٥

وإما ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من : أن العلم الإجمالي انما يكون منجزا للتكليف إذا لم يقم على أحد طرفيه منجز ، لأن المنجز لا يتنجز ، وما نحن فيه كذلك لأن الطرف الآخر طرف لعلم إجمالي منجز سابق على العلم الإجمالي بينه وبين الملاقي وهو العلم الإجمالي بينه وبين الملاقى. وحينئذ فلا يكون العلم الإجمالي المتأخر قابلا لتنجيز طرفيه (١).

ولكن في كلا الوجهين منع تقدم إيضاحه في مبحث الانحلال.

فقد تقدم : ان دعوى اعتبار تعلق العلم بتكليف فعلي آخر في منجزيته.مدفوعة : بأنه لا دليل عليها ، بل ينافيها ما هو واضح من منجزية العلمين الإجماليين المشتركين في طرف واحد الحاصلين في آن واحد ، مع ان كلا منهما ليس علما بتكليف آخر جديد ، لاحتمال كون المعلوم بالإجمال فيهما هو الطرف المشترك.

كما تقدم : ان دعوى ان المنجز لا يتنجز وجه صوري لبيان الانحلال ، لأن العلم الإجمالي السابق لا يكون منجزا في مرحلة البقاء إلا بلحاظ بقائه لا بلحاظ حدوثه ، وحينئذ فتكون نسبة العلمين بقاء إلى الطرف المشترك على حد سواء ، فيشتركان في التنجيز. فراجع.

إذن فهذان الوجهان لا يصلحان لإثبات دعوى الانحلال في المقام.

ثم إن صاحب الكفاية بعد ما ذكر ما نقلناه عنه قال : « ومنه ظهر : انه لا مجال لتوهم ان قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا ، ضرورة ان العلم به انما يوجب تنجز الاجتناب عنه لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وان احتمل » (٢). وهذا القول منه يحتمل ان يكون إشارة إلى

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٥٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت.

١٦٦

أحد أمرين :

الأول : نفي دعوى ان الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن الملاقى ، بحيث يكون تنجز الاجتناب عن الملاقى موجبا لتنجز الاجتناب عن الملاقي التي عرفت ذهاب البعض إليها.

وبيان ان نجاسة الملاقي فرد آخر من النجاسة له حكمه الخاصّ من حيث التنجز ، فلا يتنجز إلا بمنجز يقوم عليه خاصة ، ولا يتنجز بتنجز غيره.

الثاني : نفي توهم ان الأمارة إذا قامت على نجاسة شيء كان مقتضاها هو الحكم بنجاسة ملاقيه ، مع انها لا تفيد سوى تنجيز الواقع كالعلم ـ كما يراه صاحب الكفاية ـ.

وهذا يقتضي ان يكون تنجز الاجتناب عن شيء بعنوان النجاسة موجبا لثبوت الحكم بالاجتناب عن ملاقيه ، فيثبت ذلك في مورد العلم الإجمالي لتنجز حكم النجاسة في كلا الطرفين.

والوجه في دفعه : ان الإخبار بأحد المتلازمين إخبار بالملازمة بالآخر ، فإذا قامت البيّنة على نجاسة شيء قامت أيضا على نجاسة ملاقيه بالملازمة ، فالحكم بنجاسة الملاقي ليس من جهة التلازم في التنجيز بينهما ، بل من جهة قيام الأمارة على نجاسته بالخصوص ، وليس كذلك الحال في مورد العلم الإجمالي ، فان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين واقعا لا يكون علما بنجاسة الملاقي لأحدهما المشكوك ، بل لا يكون في البين إلاّ مجرد الاحتمال وهو لا يصلح للتنجيز.

وبعد هذا نعود إلى أصل المطلب ، فنقول : ان عدم تنجيز العلم الإجمالي الحادث بين الملاقي والطرف الآخر يبتني على الالتزام بالانحلال.

وقد عرفت فيما تقدم عدم ارتضاء جميع الوجوه المذكورة للانحلال من الانحلال الحقيقي التكويني وغيره.

نعم ، ذكرنا هناك وجها للانحلال اختصصنا به ، وهو الالتزام بإجراء

١٦٧

الأصل المؤمّن فيما عدا ما قام عليه المنجز من علم أو أمارة ـ بهذا العنوان أعني : عنوان غير ما قامت عليه الأمارة مثلا ـ ، إذ يشك في ثبوت التكليف في غيره ، فإذا نفي التكليف بالأصل كان هذا الأصل ناظرا إلى التأمين من جهة العلم الإجمالي وموجبا لانحلاله.

وقد تقدم انه لا مانع من جريان الأصل إذا كان ناظرا إلى العلم الإجمالي. وانما التزمنا بوجوب الموافقة القطعية باعتبار قصور مقام الإثبات ، فراجع تعرف ، وبالوجه الّذي ذكرناه صححنا جعل البدل وأرجعناه إليه.

ولكن تقدم ان الوجه المذكور نلتزم به فعلا في مورد قيام العلم أو الأمارة أو الأصل الشرعي المثبت في أحد الأطراف.

أما موارد ثبوت قاعدة الاشتغال في أحد الأطراف ، أو كون أحد الطرفين طرفا لعلم إجمالي آخر ، كما فيما نحن فيه ، فقد أوكلناه إلى محل آخر ، ونحن الآن لا نريد تحقيق ذلك ، بل نقصر الكلام على المورد الّذي نحن فيه مما كان العلم الإجمالي ناشئا من العلم الإجمالي السابق ومتفرعا عليه. فنقول : إن الوجه المتقدم يتأتى فيما نحن فيه بوضوح لأنا نقول : نحن نعلم إجمالا بثبوت التكليف بين الملاقى وطرفه ، ونشك في ثبوت تكليف زائد على ذلك التكليف ، فننفيه بأصالة البراءة ، فيتصرف في موضوع العلم الإجمالي القائم بين الملاقي والطرف الآخر ويكون مؤمنا منه لأنه ينظر إليه. ولا يمكن دعوى العكس ، بان يقال : انا نعلم بثبوت التكليف بين الملاقي وطرفه ، ونشك في ثبوت تكليف زائد عليه فينفى بأصالة البراءة ، ونتيجته التأمين من الملاقى.

لتفرع نجاسة الملاقي على نجاسة الملاقى فمع قطع النّظر عن الملاقى لا علم بالتكليف في الملاقي ، فكيف يقال : إنا نعلم بالتكليف بين الملاقي والطرف الآخر ونشك في الزائد عليه وننفيه بالأصل؟. فلاحظ.

ثم إن صاحب الكفاية فصّل بين صور الملاقاة من حيث الحكم بلزوم

١٦٨

الاجتناب عن الملاقي وعدمه ، فذكر : ان الصور ثلاث :

الأولى : ما إذا حصلت الملاقاة بعد العلم الإجمالي المنجز القائم بين الملاقى والطرف الآخر ، وهي موضوع الكلام السابق. وقد عرفت انه اختار عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي.

الثانية : ما إذا حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة ، واختار فيها لزوم الاجتناب عن الملاقى والملاقي معا ، للعلم الإجمالي إما بنجاستهما أو نجاسة الطرف الآخر.

الثالثة : ما إذا علم بنجاسة الملاقي أو شيء آخر ، ثم بعد ذلك علم بالملاقاة وعلم بنجاسة الملاقى أو ذلك الشيء. واختار فيها لزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى وان حال الملاقى في هذه الصورة حال الملاقي في الصورة الأولى.

وعطف عليها في الحكم ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر ، وكان الملاقى عند حدوث العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء ، ثم صار داخلا فيه (١).

وقد فنّد المحقق النائيني قدس‌سره هذا التفصيل بشدة ، وذهب إلى عدم صحته ، لأنه يبتني على ان حدوث العلم بما هو علم وصفة قائمة بالنفس تمام الموضوع لحكم العقل بالتنجيز وان انقلبت صورته وانقلبت عما حدثت عليه ، وهذا المبنى فاسد ، لأن المدار في تأثير العلم على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف ، فإذا كان المعلوم بالعلم المتأخر أسبق زمانا من المعلوم بالعلم المتقدم ، كان العلم المتأخر موجبا لانحلال العلم المتقدم. والسر فيه هو : ان العلم المتأخر المتعلق بالمعلوم السابق زمانا يستلزم تنجيز معلومه من السابق ، فيكون العلم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٩

المتقدم متعلقا بما هو منجز ، فلا يصلح لتنجيز أطرافه (١).

أقول : إن صاحب الكفاية حيث بنى كلامه في دعوى الانحلال على ان المنجز لا يتنجز ، كما وجهت به عبارته من قبل المحقق الأصفهاني ، كان التفصيل الّذي ذكره بين هذه الصور في غاية المتانة ، إذ المدار حينئذ على تأخر العلم وتقدمه ، لا تأخر المعلوم وتقدمه ، فالعلم المتأخر لا يكون منجزا ، لأنه يتعلق بما هو منجز وهو لا يقبل التنجيز ثانيا ، وليس هذا من جهة أخذ العلم موضوعا لا طريقا كما لا يخفى.

وعليه ، فيرد على المحقق النائيني : انه على تقدير تمامية ما أفاده ، فهو لا يصلح إيرادا على صاحب الكفاية فيما نحن فيه ، لأنه إيراد مبنائي وهو خارج عن الأسلوب العلمي في مقام النقض والإبرام.

هذا ، مع ان ما أفاده غير تام في نفسه ، لأن دعوى تنجيز العلم المتأخر معلومه من السابق خالية عن السداد ، لأن المعلوم إذا كان في ظرفه غير منجز في حق المكلف ، ثم بعد حين تعلق به العلم ، لم يصلح العلم لتنجيزه في ظرفه السابق ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، مع انه لا معنى لتنجيزه بعد مضي ظرفه. نعم العلم يكون منجزا من حين حدوثه ، كما تقدم بيان ذلك في مبحث الانحلال والاضطرار فراجع.

ثم إنك حيث عرفت ان بناء الانحلال على عدم صلاحية المنجز للتنجيز لا ترجع إلى محصل ، فلا بد من معرفة حكم هذه الصور على الوجه الّذي اخترناه في تقريب الانحلال.

والحق ان الوجه الّذي ذكرناه لتقريب الانحلال في الصورة الأولى يأتي في سائر الصور ، لأنه يصح ان نقول في جميعها ان التكليف بين الملاقى والطرف

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٨٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧٠

الآخر معلوم ، والزائد عليه مشكوك ينفي بالأصل. فالتفت ولا تغفل.

هذا تحقيق الكلام في أصل المطلب. يبقى الكلام في أمور :

الأمر الأول : ذكر الشيخ رحمه‌الله : انه لو تحققت الملاقاة لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى بعد الملاقاة ، ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المفقود أو طرف آخر ، كان الملاقي قائما مقام الملاقى المفقود في وجوب الاجتناب عنه ، لمعارضة أصالة الطهارة فيه بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، إذ لا يجري الأصل في الملاقى المفقود حتى يعارض الأصل في طرفه ، ويبقى الأصل في الملاقي سليما عن المعارض ، لأن الأصل لا يجري فيما لا يبتلي به المكلف لعدم الأثر بالنسبة إليه (١).

وأورد عليه : بان خروج الشيء عن محل الابتلاء ولو كان بسبب عدم القدرة عليه ، لا يكون مانعا عن جريان الأصل فيه إذا كان له أثر فعلي ، كما لو غسل الثوب النجس بماء مع الغفلة عن طهارته ونجاسته ، ثم انعدم ذلك الماء ، وبعد ذلك شك في طهارته ونجاسته ، فانه لا إشكال في جريان أصالة الطهارة فيه أو استصحابها ، فيثبت بها طهارة الثوب المغسول به.

وما نحن فيه كذلك ، لأن الملاقى وإن كان معدوما ، إلا ان إجراء أصالة الطهارة فيه مما يترتب عليه أثر ، وهو طهارة ملاقيه ، فلا مانع من إجراء الأصل فيه في نفسه ، لكنه بواسطة العلم الإجمالي معارض بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، فتبقى أصالة الطهارة في الملاقي سليمة عن المعارض (٢).

وهذا الإيراد لا يمكننا الالتزام به لوجهين :

الأول : ان معارضة الأصول في أطراف العلم الإجمالي ناشئة ـ على ما

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٦٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧١

تقدم ـ من استلزام إجرائها في الطرفين الترخيص في المعصية وإجراء أحدهما ترجيح بلا مرجح.

ولا يخفى ان هذا المحذور يرتبط بالعلم الإجمالي بالحكم التكليفي الإلزامي.

أما العلم الإجمالي بحكم وضعي مردد بين طرفين ، فلا يصادم إجراء الأصل النافي لذلك الحكم الوضعي في كلا الطرفين ، إذ ليس فيه ترخيص في معصية.

وعليه ، فنقول : مع العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين لا مانع من جريان أصالة الطهارة في كليهما في حد نفسها ، وإنما المانع من جهة ما يترتب على جريان أصالة الطهارة فيهما من مخالفة للتكليف المعلوم المترتب على النجاسة ، لأن أصل الطهارة يترتب عليه الترخيص في استعمال الطاهر ، وهو ينافي العلم بالمنع في أحدهما.

وعلى هذا ، ففيما نحن فيه يعلم بنجاسة أحد الإناءين المفقود أو الموجود ، لكن هذا العلم ليس علما بتكليف إلزاميّ مردد بين الطرفين ، إذ النجاسة على تقدير كونها في الطرف المفقود لا يترتب عليها وجوب الاجتناب لخروجه عن محل الابتلاء المانع من ثبوت التكليف.

وعليه ، فلا معارضة بين أصالة الطهارة في المفقود ـ على تقدير جريانها ـ ، وأصالة الطهارة في الموجود ، لأن العلم بالنجاسة بنفسه لا يمنع من إجراء أصالة الطهارة ما لم يكن علما بتكليف إلزامي. فليس لدينا حينئذ علم منجز سوى العلم الجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر الموجود ، لأنه علم بتكليف إلزاميّ مردد بين الطرفين ، فيمنع من جريان كلا الأصلين في طرفيه.

الثاني : ان ظاهر دليل قاعدة الطهارة هو الحكم بالطهارة عند تحقق الشك ، بحيث يكون ظرف الحكم بالطهارة هو ظرف فعلية الشك ـ كما هو ظاهر

١٧٢

قضية كل حكم وموضوع ، فان ظاهرها كون فعلية الحكم عند فعلية موضوعه ـ.

وعليه ، فلا دلالة له على الحكم بالطهارة السابقة للإناء في الزمان السابق ، بحيث تثبت له الطهارة سابقا ، فان مقام الإثبات لا يساعد عليه.

فأصالة الطهارة لا تجري في المعدوم بلحاظ ظرف وجوده السابق ، بحيث تتكفل جعل الطهارة له في الزمان السابق لأنه ليس ظرف الشك. وإنما ظرف الشك فعلي ، ولم يؤخذ الشك بنحو الشرط المتأخر للحكم ، فغاية ما تتكفله جعل الطهارة له فعلا ومن الآن ولكنه معدوم الآن ، فلا يقبل جعل الطهارة له. اذن فجريان أصالة الطهارة في المعدوم لإثبات طهارة ملاقيه أو المغسول به مما لا محصل له.

ودعوى : انه يمكن ان تتكفل جعل الطهارة فعلا لكن للموجود السابق على العكس من الواجب ـ المعلّق بدعوى ان المحكوم بالطهارة فعلا هو متعلق الشك ، ومتعلق الشك فيما نحن فيه هو الوجود السابق للشيء ، فيحكم فقط بطهارته ـ فالحكم فعلي والمتعلق سابق كما انه في الواجب المعلق يكون الحكم فعليا والمتعلق استقبالي.

مندفعة : بأنها ـ على تقدير معقوليتها ـ لا تنفع في إثبات طهارة الملاقي ، لأن الّذي ينفع هو إثبات الطهارة في ظرف الملاقاة ، أما بعد ذلك فلا ينفع في إثبات طهارة الملاقي أو المغسول به. فالتفت.

نعم ، هذا الكلام لا يجري في مثل الاستصحاب ، إذ يلتزم فيه بأنه يتكفل جعل الحكم في الزمان السابق واللاحق ، كموارد الاستصحاب الاستقبالي ، ولذا يلتزم بجريانه في المعدوم بلحاظ وجوده السابق وتعلق الشك فيه.

وعلى ما ذكرناه ، نقول : انه إذا غسل الثوب بإناء مع الغفلة عن طهارته ونجاسته ، ثم انعدم ، وبعد ذلك حصل الشك ..

فان كانت الحالة السابقة للماء هي النجاسة جرى استصحاب النجاسة

١٧٣

فيه وحكم ببقاء نجاسة الثوب المغسول به.

وان كانت الحالة السابقة له هي الطهارة جرى استصحاب الطهارة فيه وحكم بطهارة الثوب المغسول به.

وإن لم تعلم حالته السابقة ، أو كان مما تواردت عليه الحالتان مع الجهل بتاريخهما ، لم يمكن جريان الاستصحاب فيه ، كما انه لا يمكن جريان قاعدة الطهارة فيه بلحاظ زمان وجوده ، لما عرفت من قصور دليلها ، فيتعين إجراء استصحاب النجاسة في الثوب المغسول به ، فيعامل معاملة النجس.

هذا تحقيق الكلام في هذا الأمر.

الأمر الثاني : إذا حصل العلم بالملاقاة ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف الآخر ، بحيث اتحد زمان الملاقاة مع زمان المعلوم بالإجمال ، كما إذا كان ثوب في إناء فيه ماء فوقعت قطرة بول إما في ذلك الإناء أو في إناء آخر ، فانه يحصل العلم الإجمالي بنجاسة الثوب والماء المشتمل عليه أو الماء في الإناء الآخر.

فهل يجب الاجتناب عن الملاقى والملاقي معا ، كما عليه صاحب الكفاية.

أو يجب الاجتناب عن خصوص الملاقى دون الملاقي ، كما نسب إلى الشيخ ، وتبعه المحقق النائيني؟.

والوجه في الثاني هو : ان الأصل المرخص في الملاقي لما كان في رتبة متأخرة عن الأصل الجاري في الملاقى لمكان السببية والمسببية ، فالمعارضة تقع بين الأصل الجاري في الملاقى والطرف الآخر ، لعدم جريان الأصل في الملاقي قبل سقوط الأصل في الملاقى. وعليه فيبقى الأصل في الملاقي سليما عن المعارض.

وأورد على ذلك : بان الأصل في الملاقي وان كان في رتبة متأخرة على الأصل في الملاقى ، لكن ذلك لا يستلزم عدم وقوعه طرفا للمعارضة لوجهين :

١٧٤

الأول : ان التقدم والتأخر الرتبي انما يؤثران في مثل الأحكام العقلية المترتبة على الشيء بلحاظ رتبته ، دون الأحكام الشرعية المنوطة بالموجودات الخارجية ، سواء من حيث موضوعاتها أم من حيث متعلقاتها ولا دخل للتقدم والتأخر الرتبي فيها.

وعليه ، فالأصل في الملاقي لما كان متحدا زمانا مع الأصول الأخرى كان معارضا لها وان تأخر عنها رتبة. واستشهد على ذلك بالحكم بإعادة الوضوء وصلاتي الظهر والغداة إذا علم إجمالا ببطلان وضوئه لصلاة الغداة أو بطلان صلاة الظهر لفقد ركن منها. والسر فيه : تعارض قواعد الفراغ في جميع هذه الأمور الثلاثة وتساقطها ، مع ان قاعدة الفراغ في صلاة الغداة متأخرة رتبة عن قاعدة الفراغ في الوضوء. فلاحظ.

الثاني : ان الأصل الجاري في الملاقي وان كان في طول الأصل في الملاقى ، لكنهما معا في عرض الأصل الجاري في الطرف الآخر فيعارضهما معا ويوجب تساقطهما.

ومجرد كون الأصل في الطرف الآخر في عرض الأصل في الملاقى السابق رتبة على الأصل في الملاقي لا يستدعي تقدمه رتبة على الأصل في الملاقي من باب ان المتأخر عن أحد المتساويين في الرتبة متأخر عن الآخر بالضرورة ، فانه انما يتم في السبق بالزمان لا في السبق بالرتبة ، ولذا لا يكون المعلول متأخرا عن عدم علته رتبة مع ان عدم العلة في رتبة العلة السابقة على المعلول رتبة. فتدبر (١).

وكلا هذين الوجهين مردودان :

أما الأول : فلأن الأمر في تأثير التأخر والتقدم الرتبي في الأحكام العقلية دون الأحكام الشرعية مسلم في الجملة ، فانه قد تقرر عندهم أن الطبيعة بما هي

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٦٧ ـ الطبعة الأولى.

١٧٥

ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة ، فالتزم بارتفاع المتناقضين فيها مع كون المقرر لديهم ان ارتفاع المتناقضين محال ، فلا يمكن سلب الوجود والعدم عن الشيء الواحد في الآن الواحد ، فالطبيعة اما موجودة أو معدومة.

والتزم في دفع هذا الإشكال بان للطبيعة نحوين من الملاحظة ، فتارة : تلحظ بما هي بحيث يقصر النّظر فيها على ذاتها وذاتياتها من دون ملاحظة أمر خارج عن ذاتها وذاتياتها. وأخرى : تلحظ بالإضافة إلى ما هو خارج عن ذاتها وذاتياتها. وهي بالملاحظة الأولى أسبق رتبة منها بالملاحظة الثانية. فقيل بان الحكم بأنها لا موجودة ولا معدومة انما هو بلحاظ الطبيعة بما هي هي ، وان الحكم بأنها إما موجودة أو معدومة انما هو بلحاظها بالملاحظة الثانية ، فالمصحح للاختلاف هو تعدد الرتبة.

ولكن هذا لا ينفع في الأحكام الشرعية ، ولذا لا يلتزم بصحة جعل الحرمة للفعل بملاحظة ذاته ، وجعل الوجوب لذلك الفعل بملاحظة وصف عارض عليه ، بحيث يجتمع الوجوب والحرمة في آن واحد ، مع ان الملاحظة الثانية في طول الملاحظة الأولى.

ولكن في الوقت الّذي يسلم عدم تأثير الاختلاف في الرتبة في اجتماع الحكمين الشرعيين المتضادين ، هناك أمر لا يقبل الإنكار ، وهو تقدم نوبة الأصل الجاري في الموضوع على الأصل الجاري في الحكم ، وارتفاع محذور التزاحم بين الحكمين بالالتزام بالترتب بينهما ، فالاختلاف الرتبي في مثل هذين الموردين له التأثير الكامل والمفعول النافذ الّذي يلتزم به في محله. وكيف كان الحال ، فقضية الطولية في جريان الأصل المسببي وتأخره عن الأصل السببي لا تقبل الإنكار ، كيف؟ وعليها أساس حكومة أو ورود الأصل السببي كما يبيّن في محله.

وإن شئت قلت : لا يهمنا التعبير بالطولية والعرضية. وإنما المهم هو واقع الحال ، فان لدينا أمرا واقعيا ثابتا ، وهو انه لا مجال لجريان الأصل الجاري في

١٧٦

الحكم مع جريان الأصل في الموضوع ، سواء كانا متوافقين أم متخالفين. وما نحن فيه من هذا الباب ، فلا يمكن إعمال المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي والأصل في الطرف الآخر ، إذ لا تصل النوبة إليه إلا بعد سقوط الأصل في الموضوع وهو الملاقى ، وهو انما يسقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر ، فيكون الأصل في الملاقي عند وصول النوبة إليه سليما عن المعارض.

ومن هنا ظهر الإشكال في الوجه الثاني ، فان عدم معارضة الأصل في الملاقي للأصل في الطرف الآخر ليس من جهة دعوى تقدم الأصل الجاري في الطرف الآخر على الأصل في الملاقي رتبة ، بل من جهة أن دليل الأصل لا يشمل الملاقي إلا بعد سقوط الأصل في الملاقى بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر ، لأنه مانع عنه كما عرفت ، وحينئذ فحين تصل النوبة إلى الأصل في الملاقي لا يكون له معارض.

إذن ، فما أفاده الشيخ متين بناء على اختياره من كون المانع من جريان الأصول هو التعارض.

نعم بناء على مسلك صاحب الكفاية من علية العلم الإجمالي التامة ومنعه لجريان الأصل في طرفه مع قطع النّظر عن المعارضة ، يكون الصحيح هو الوجه الأول كما تقدم بيانه. فراجع.

الأمر الثالث : قد عرفت في البحث الفقهي ـ لهذا التنبيه ـ انه بناء على الالتزام بان نجاسة الملاقي لأجل السراية الحقيقية ، أو لأجل ان الاجتناب عنه من شئون الاجتناب عن الملاقى ، يكون العلم الإجمالي الأول منجزا للحكم في الملاقي. واما بناء على الالتزام بأنها فرد آخر من النجاسة ثبتت بالدليل الخاصّ ، فلا يكون العلم الإجمالي الأول منجزا ، ولذا يقع الكلام في الجهة الأصولية كما تقدم.

فلو شك في ان النجاسة للملاقي هل هي حكم مستقل آخر ، أو انها

١٧٧

لأجل السراية ، أو كونها من شئون نجاسة الملاقى ، فما هو مقتضى الأصل العملي؟ فهل يقتضي الاحتياط أم البراءة؟.

ذهب المحقق النائيني ـ كما في تقريرات الكاظمي (١) وعدل عنه في أجود التقريرات (٢) ـ إلى الأول قياسا على مسألة دوران الأمر بين مانعية شيء وشرطية عدمه في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فان الشرطية والمانعية تشتركان في الآثار ولا تختلفان الا في أثر عقلي عند الشك في تحقق الشرط أو وجود المانع ، وهي انه مع الشك في تحقق الشرط يحكم العقل بالاحتياط. بخلاف مورد الشك في وجود المانع ، فان العقل يحكم بعدم الاحتياط لأصالة عدم المانع ، فإذا شك في ان الشيء هل أخذ مانعا في الصلاة أو ان عدمه أخذ شرطا فيها ، لا يمكن نفى الأثر المترتب على الشرطية بأصل البراءة ، لأنه أثر عقلي لا شرعي ، والبراءة انما تتكفل رفع المجعولات الشرعية.

وما نحن فيه كذلك ، لعدم الاختلاف بين المسلكين في الجهة الشرعية وهي نجاسة الملاقي على كل تقدير ، وانما الاختلاف بين المسلكين في أثر عقلي في موارد العلم الإجمالي والشك في ملاقاة النجس ، إذ على القول بالسراية أو التبعية لا يتحقق امتثال الحكم في الملاقى إلا بالاجتناب عن الملاقي فيكون العلم منجزا بالنسبة إليه. وعلى القول بالاستقلالية لا يتوقف امتثال الحكم في الملاقى على اجتناب الملاقي فلا يكون العلم منجزا بالنسبة إليه ، فمع الشك لا يمكن نفى هذا الأثر ـ أعني : وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بأصالة البراءة ، لأن وجوبه على تقديره عقلي وهو لا يرتفع بالبراءة. هذا محصل ما أفاده قدس‌سره.

وفيه : انك قد عرفت في مقام بيان السراية ان مرجعها إلى انبساط متعلق

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٨٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٦١ ـ الطبعة الأولى.

١٧٨

الحكم وسعة دائرته ، نظير الجوهر المنحل بالماء ، فالالتزام بالسراية التزام بسعة دائرة الحكم لسعة متعلقه. وهكذا الأمر بناء على الالتزام بالتبعية ، وان الاجتناب عن النجس من شئونه الاجتناب عن ملاقيه ، بحيث يجب الاجتناب شرعا عنه بنفس لزوم الاجتناب عن الملاقى لأنه من مراتبه.

وعلى هذا ، فمرجع الشك في ذلك إلى الشك في انه عند تحقق الملاقاة هل ينبسط الحكم الشرعي ويتعلق بالملاقي أو لا؟ ، فالشك في أمر شرعي لا عقلي ، فيرفع بالأصل ، نظير موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر. فتدبر.

هذا تمام الكلام في مسألة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة.

التنبيه الخامس : في تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات.

وقد بحث الشيخ قدس‌سره في ذلك فقال : « لو كان المشتبهات مما يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرّجل مضطربة في حيضها بان تنسى وقتها وان حفظت عددها ، فيعلم إجمالا انها حائض ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟. وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربوية ، فهل يجب عليه الإمساك عما لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟. التحقيق أن يقال : انه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه ، لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب. نعم قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات ، كما في مثال الحيض ، فان تنجز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فان قول الشارع ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (١) ظاهر في وجوب الكف عند

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢.

١٧٩

الابتلاء بالحائض ، إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب بهذا الخطاب ، كما انه مختص بذوي الأزواج ولا يشمل العزّاب إلا على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض. ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف على ترك الوطء في ليلة خاصة ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد ، ولكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدمين » (١). هذا نصّ ما أفاده الشيخ في المقام.

وقد حمل كلامه على التفصيل في التدريجيات بين ما إذا لم يكن للزمان اللاحق دخل في فعلية الخطاب ، وانما كان ظرفا أو قيدا للمتعلق ، بحيث يكون التكليف فعليا على كل تقدير في زمان حصول العلم. وبين ما إذا كان الزمان اللاحق دخيلا في فعلية الخطاب والملاك بحيث لا يصير الخطاب ولا الملاك فعليا إلا عند حصول الزمان اللاحق كمثال الحيض ، ففي مثله لا يكون العلم الإجمالي منجزا ، لأنه لم يتعلق بتكليف فعلي على كل تقدير ، فمراده من الابتلاء دفعة وعدمه هو الإشارة إلى هذين الموردين.

وقد وجّه المقرّر الكاظمي عدم تنجيز العلم الإجمالي في الصورة الثانية بعدم تعارض الأصول المؤمنة والنافية للتكليف فيها ، وذلك لأن ظرف جريان الأصل في كل طرف غير ظرف جريانه في الطرف الآخر ، فلا يتحد زمانها كي تتحقق المعارضة. فمثلا إذا علمت المرأة بحصول الحيض لها في ثلاثة أيام من الشهر ، فهي تحتمل الحيض في كل يوم من أيام الشهر.

ولا يخفى ان الأصل النافي للتكليف في آخر أيام الشهر إنما يجري عند مجيء تلك الأيام ، لأنها ظرف احتمال التكليف فيها ، لعدم ثبوت التكليف قبلها كما هو المفروض ، فالأصل النافي في أول الشهر يجري بلا معارض. وهكذا

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥٥ ـ الطبعة الأولى.

١٨٠