منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الواجبات مهما بلغت الأطراف من الكثرة ، إذ المخالفة في باب الواجبات تحصل بترك جميع المحتملات وهو سهل المئونة ، بخلاف المخالفة القطعية في باب المحرمات ، فانها لا تحصل إلا بإتيان جميع المحتملات وهو ليس بالأمر اليسير مع كثرة الأطراف (١).

وقد أورد عليه وجوه :

الأول : ان هذا الضابط لا يختص بالشبهة غير المحصورة ، إذ قد يتحقق مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة ، كما لو علم بحرمة جلوسه في وقت الزوال إما في هذه الغرفة أو في تلك الغرفة ، فانه لا يتمكن من المخالفة القطعية ههنا (٢).

وفيه : انه قدس‌سره قد تنبه إلى ذلك ، فذكر ان الشبهة غير المحصورة هي ما كانت الكثرة فيها سببا لعدم التمكن من المخالفة القطعية بحيث ينشأ عدم التمكن من الكثرة ، لا مطلق عدم التمكن من المخالفة القطعية.

وبالجملة : اعتبر في الشبهة غير المحصورة أمرين : كثرة الأطراف. وعدم التمكن من المخالفة القطعية. فلا وجه لهذا الإيراد حينئذ (٣).

وهو مما أشار إليه في الكفاية حيث ذكر : ان موانع التنجيز في الشبهة غير المحصورة غير مختصة بها (٤). لكنه لا يتوجه ممن جاء بعد المحقق النائيني لما عرفت من تقييده الضابط بالكثرة. فالتفت.

الثاني : انه تحديد بأمر مبهم ، لاختلاف ذلك باختلاف المعلوم بالإجمال ،

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١١٧ ـ ١١٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٣٧٤ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١١٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤١

فلم يحدّد في الضابط أمر كلي يكون جامعا لهذه الموارد (١).

وهذا الإيراد كسابقه في الوهن ، لأن القدرة العادية كالقدرة العقلية أمر متميز في نفسه لا إبهام فيه ، وانما يختلف تحققه باختلاف المتعلق ، فيلحظ كل شيء بحسبه. وكما لا يتأتى هذا الكلام في اعتبار القدرة العقلية ، فلا يقال إنه لا ضابط له لاختلافه باختلاف الحالات ، وكذلك لا يتأتى في القدرة العادية.

وبعبارة أخرى : لا إبهام في مفهوم القدرة عادة أو عقلا ، إنما الاختلاف في مصاديقها. وهذا لا يضر في الضابط ، ويلحظ في المصاديق كل شيء بحسبه وما يفرض له من ظرف خاص. فتدبر.

الثالث : ان عدم التمكن من المخالفة القطعية لا يتصور مع ملاحظة تطاول المدة والارتكاب التدريجي ، للتمكن من المخالفة تدريجيا.

وهذا مما أشار إليه المحقق العراقي أيضا (٢).

وفيه : ان هذا إنما يتم في ما لو كانت الأطراف قارّة لا تزول بتطاول المدة ، كما لو علم بحرمة دخوله في إحدى دور النجف ، فانه يتمكن من المخالفة تدريجيا وفي مدة عشرين سنة. ولا يتم فيما لو كانت الأطراف مما يتلف بطول المدة ، كالمآكل ، فإذا علم بحرمة لحم في أحد أسواق النجف ، فهو لا يتمكن من المخالفة القطعية لا دفعة كما هو الفرض ، ولا تدريجا ولمدة سنة ـ مثلا ـ لعدم بقاء اللحم وتلفه في هذه المدة. ومثله الجبن وغيره. وهكذا لو علم بنجاسة ثوب من بين ألف ثوب مثلا ، لأنه وان أمكن ان يلبس الألف في ضمن سنين ، لكنه لا يبقى على كيفيته في ضمن هذه المدة ، بل يغسل قطعا ، فيطهر.

وبالجملة : أمثلة الشبهة غير المحصورة بهذا الضابط كثيرة. فتدبر. إذن

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٤٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٢٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٤٢

فالضابط الّذي أفاده النائيني لا بأس به.

الرابع : وهو يرجع إلى ما رتّبه من عدم منجزية العلم الإجمالي ، وعدم وجوب الموافقة القطعية ، لا إلى الإشكال في نفس الضابط.

وقد ذكره المحققان العراقي (١) والأصفهاني (٢) قدس‌سرهما وهو : ان غير المقدور هو العلم بالمخالفة وليس هو مخالفة التكليف المعلوم ، إذ هي مقدورة بعد فرض التمكن من الإتيان بكل طرف في حد نفسه ، والمحذور العقلي يترتب على المخالفة نفسها لا على العلم بها ، لأن ضم غير الحرام إلى الحرام غير دخيل في ثبوت العقاب على مخالفة الحرمة.

وقد أضاف المحقق العراقي إلى ذلك النقض بالشبهة المحصورة ، إذا لم يتمكن من المخالفة القطعية ، كما لو علم بان أحد الإناءين خمر ولم يتمكن من شربهما ، فانه لا يلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعية هاهنا جزما.

وأنت خبير : بان هذا الإيراد يبتني على القول بعلية العلم الإجمالي للتنجيز من حيث الموافقة القطعية الّذي يبتني على حكم العقل بقبح مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه ولو لم يحصل العلم بها ، كما في مورد المخالفة الاحتمالية.

وأما على القول بالاقتضاء ، بحيث يكون القبيح هو المخالفة القطعية لا نفس المخالفة ، ولذا لا تحرم المخالفة الاحتمالية ، ويكون وجوب الموافقة القطعية لأجل تعارض الأصول ، فلا يتأتى هذا الكلام. وقد تقدم ان المحقق النائيني لا يلتزم بالعلية التامة ، وإنما يلتزم بالاقتضاء ، فلا يتجه هذا الإيراد عليه ، بل يكون إيرادا مبنائيا.

وتحقيق الكلام في حكم الشبهة غير المحصورة بالضابط الّذي ذكره

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٣٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٥٦ ـ الطبعة الأولى.

١٤٣

المحقق النائيني هو : انه يقتضي عدم منجزية العلم الإجمالي بالمرة حتى على القول بالعلية التامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية والموافقة القطعية.

بيان ذلك : ان التكليف مقيد بالقدرة على متعلقه بحيث لا يكون فعليا إلا في ظرف القدرة عليه ، وإذا فرض ان كثرة الأطراف بحدّ لا يتمكن المكلف على الجمع بينها وارتكاب جميعها ـ الّذي عبّر عنه بالمخالفة القطعية ـ كانت القدرة على كل طرف من الأطراف مقيدة بترك سائر الأطراف وعدم ارتكابها ، لأن ارتكاب سائر الأطراف يلازم العجز عن هذا الطرف. وعليه فيكون التكليف بتركه مقيدا بحال ترك سائر الأطراف ، لأنه حال القدرة عليه. إذن فالتكليف لا يكون فعليا بالنسبة إلى كل طرف إلا على تقدير ترك الباقي ، فالتكليف لا يكون فعليا على كل تقدير ـ أي على ثبوته في كل طرف ـ إلا في ظرف ترك جميع الأطراف.

وفي مثل ذلك يستحيل ان يكون العلم بالتكليف موجبا للزوم الترك عقلا ، إذ العلم به يتفرع على تحقق الترك ، فكيف يكون منجزا بالنسبة إلى لزومه؟!.

ومثل هذا البيان لا يجيء في مثال النقض بالعلم بحرمة أحد الضدين اللذين لهما ثالث كالعلم بحرمة الجلوس أو القيام عند الزوال ، باعتبار انه لا يتمكن من المخالفة القطعية أيضا.

والسرّ في ذلك : ان عدم أحد الضدين لم يؤخذ في موضوع الآخر ـ كما حرر في محله ـ ، إذ لا مقدمية لعدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر ، بل هما متقارنان فلا يكون التكليف بأحدهما مقيدا بعدم الآخر ، فالعجز الناشئ من كثرة الأطراف غير العجز الناشئ من وجود أحد الضدين.

وبعبارة أخرى أدق : ان القدرة المعتبرة في صحة التكليف ، والتي تكون نسبتها إلى الحكم نسبة الموضوع إلى الحكم هي القدرة على الفعل في الظرف

١٤٤

المتصل بآن الامتثال والعصيان ، لا القدرة في حال الامتثال ، ولذا لا يكون سلب القدرة في ظرف الامتثال اختيارا من نفي التكليف بنفي موضوعه ، بل من عصيان التكليف وعدم امتثاله.

وعليه ، ففعل أحد الضدين في ظرف التكليف وان استلزم العجز عن الضد الآخر ، لكنه عجز عنه في ظرف امتثاله وعصيانه ، فيكون فعله عصيانا للتكليف بضده لو كان في الواقع متعلقا به ، كما يكون امتثالا للتكليف المتعلق به لو كان متعلقا به واقعا ، فظرف فعل أحدهما هو ظرف الامتثال والعصيان. ولذا لو علم بأنه كلّفه بالقيام فقط فجلس ، فانه يكون عاصيا مع انه غير قادر على القيام عند الجلوس.

ومع قطع النّظر عن هذا الظرف ، يكون المكلف قادرا على كل منهما ، فيكون التكليف فعليا على كل تقدير وليس مقيدا بعدم الضد الآخر.

ولا يقال بمثله في مورد كثرة الأطراف ، لأن العجز لم ينشأ من وجود ما يمنع من تحقق المكلف به في ظرف الإطاعة أو العصيان ، بل هو ناش من وجود ما يمنع منه في زمان سابق على ظرف إطاعته وعصيانه ، وذلك لأن امتناع الجمع من جهة كثرة الأطراف ليس إلا ، وهي تقتضي تدريجية حصول الأفعال ، فلا يكون ظرف حصول أحدهما هو ظرف حصول الآخر كي يكون من باب سلب القدرة في ظرف الامتثال ، وليس كالضدين اللذين يمتنع اجتماعهما لأنفسهما بلحاظ زمان واحد هو ظرف امتثال كل منهما.

وعليه ، فيصح أخذ ترك سائر الأطراف في موضوع النهي عن كل طرف ، لأنه إذا جاء بسائر الأطراف يكون عاجزا عن الإتيان بهذا الطرف في الظرف المتصل بآن الامتثال ، فلا يصح التكليف.

وهذا هو توضيح ما ذكرناه من ان العجز الناشئ عن كثرة الأطراف غير العجز الناشئ عن تضاد الطرفين ، فتدبره فانه دقيق.

١٤٥

نعم مثال الضدين ، يصلح إيرادا على القول بالاقتضاء وتفرع وجوب الموافقة القطعية على حرمة المخالفة القطعية ، فليضم إلى سائر الإيرادات على ذلك القول.

ثم إن الوجه الّذي ذكرناه في عدم منجزية العلم الإجمالي لا يختص بالتحريميات ، بل يشمل الواجبات أيضا ، فان الأمر فيها أوضح ، لأن العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير يتوقف على ترك الكل ، لأن القدرة على كل طرف المصححة للتكليف تحصل بترك سائر الأطراف.

ومع ذلك ، كيف يكون العلم الإجمالي موجبا للزوم الإتيان بالكل؟!. فنقطة الفرق بين المسلك الّذي سلكناه ومسلك المحقق النائيني ، هو : ان المحقق النائيني جعل الضابط هو عدم التمكن من المخالفة القطعية ـ بهذا العنوان ـ ، فلذلك اختص ضابطه بالمحرمات كما بيّناه. وأما نحن ، فقد جعلنا الضابط هو عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف ، ولو لم يتعنون بعنوان المخالفة القطعية ، فلم يختص بالمحرمات ، بل شمل الواجبات أيضا. فالتفت.

ثم إنه على ما بيّناه من ملاك عدم تنجيز العلم الإجمالي ، لا مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية عند عدم وجوب الموافقة القطعية ، إذ عرفت عدم منجزية العلم لعدم كونه علما بتكليف فعلي على كل تقدير.

مع ان المفروض عدم التمكن من المخالفة القطعية.

وأما على مسلك الشيخ في ضابط غير المحصورة ، فغاية ما يقتضيه كلامه ، هو نفي وجوب الموافقة القطعية لضعف احتمال التكليف في كل طرف.

وهذا لا يقتضي جواز المخالفة القطعية ، لأنها تتصادم مع العلم نفسه ، والمفروض عدم اعتناء العقلاء بالاحتمال لا بنفس العلم.

وأما على مسلك المحقق النائيني قدس‌سره ، فالأمر واضح في الشبهة التحريمية. وأما في الشبهة الوجوبية ، فتحرم المخالفة القطعية للتمكن منها. وأما

١٤٦

الموافقة القطعية ، فهي غير ممكنة. فيكون المورد من موارد الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. فراجع.

تذنيب : في شبهة الكثير في الكثير.

إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرة ، ولكن كانت نسبة المعلوم بالإجمال إلى مجموع الأطراف نسبة الواحد إلى الثلاثة ـ مثلا ـ ، كما إذا علم بحرمة خمسمائة إناء في ضمن الف وخمسمائة ، فهل يجري عليها حكم الشبهة غير المحصورة ، أو حكم الشبهة المحصورة؟.

التحقيق : انه إن اخترنا في تحديد الضابط للشبهة غير المحصورة ما أفاده الشيخ رحمه‌الله فلا يجري فيما نحن فيه ، لقوة احتمال التكليف في كل طرف من الأطراف ، فيكون حكمها حكم الشبهة المحصورة.

وإن اخترنا ما ذهب إليه المحقق النائيني ، كان مقتضاه إلحاق المورد بالشبهة غير المحصورة ، لعدم التمكن من المخالفة القطعية عادة ، لأنها في مثل المثال المزبور تتوقف على ارتكاب الف إناء وإناء وهو غير مقدور عادة.

وهكذا الحال بناء على ما حققناه في حكم الشبهة غير المحصورة ، لعدم القدرة على كل طرف إلا بترك سائر الأطراف.

اللهم إلا أن يقال : إنه ـ في مثل هذه الموارد ـ عند ما تحصل أي مجموعة كبيرة ـ كمائة إناء في المثال المتقدم ـ يحصل الاطمئنان بوجود الحرام فيها ، ولا يحتمل عادة ان جميع الحرام في الأطراف الأخرى ، فيلزمه الاجتناب عن المائة.

فهناك علوم إجمالية متعددة صغيرة بضم بعضها إلى بعض تحصل شبهة الكثير في الكثير. فتدبر.

التنبيه الرابع : في حكم ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة.

والمهم في البحث في هذا التنبيه هو جهتان : إحداهما فقهية. والثانية أصولية.

١٤٧

أما الجهة الأولى الفقهية ، فهي البحث عن كيفية تنجس ملاقي النجس ، وانّه بنحو يكفي في تنجيزه العلم الإجمالي الّذي يدور طرفه بين الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه الآخر ، أو أنه بنحو لا يتنجز إلا بمنجز آخر غير العلم الإجمالي المتعلق بالمردد بين الملاقي والطرف الآخر؟.

وأما الجهة الأصولية ، فهي البحث ـ على التقدير الثاني من الجهة الفقهية ـ عن ان الملاقي هل هو طرف لعلم إجمالي منجز آخر ، فيجب الاجتناب عنه الملاقى أو ليس كذلك فلا يجب الاجتناب عنه كسائر ما شك في طهارته ونجاسته بالشبهة البدوية؟.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها : أنه لا إشكال في نجاسة ملاقي النجس. إنما الكلام في كيفية تنجسه فيه. وهي ثبوتا تحتمل وجوها أربعة :

الأول : أن يكون من جهة سراية النجاسة إلى الملاقي حقيقة وواقعا ، وانبساطها بنحو تشمله ، فلا يكون الحكم باجتناب الملاقي حكما جديدا ، بل هو عين الحكم الأول ، وإنما اتسعت دائرة متعلقه ، ونظيره في التكوينيات انحلال الجوهر النجس بالماء ، فيتلوّن جميع الماء بلون الجوهر بالسراية الحقيقية ، ويكون الحكم باجتناب الجوهر مستلزما لاجتناب جميع الماء لاتساع دائرة الجوهر ، بعد أن كانت ضيقة عند انكماشه وجموده.

الثاني : ان يكن من جهة ان الاجتناب عن ملاقي النجس من شئون وتبعات الاجتناب عن النجس ، بحيث لا يتحقق الاجتناب عن النجس إذا لم يجتنب عن ملاقيه ، كإكرام خادم العالم أو ابنه الّذي يعد إكراما للعالم نفسه عرفا.

الثالث : ان يكون لزوم الاجتناب عن الملاقي حكما تعبديا مستقلا ، لكن فعليته بفعلية لزوم الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ ، ولا تتوقف على تحقق الملاقاة.

الرابع : ان يكون حكما مستقلا ولا يصير فعليا إلا بفعلية موضوعه وهو

١٤٨

الملاقاة.

ولا يخفى عليك ان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يقتضي بنفسه لزوم الاجتناب عن ملاقي أحدهما على الوجوه الثلاثة الأولى دون الرابع.

وذلك ..

أما على الأول ، فلأن الملاقي يكون أحد طرفي الشبهة ، لسراية النجاسة حقيقة إليه ـ على تقدير نجاسة ملاقاة ـ ، فهو نظير ما لو قسم أحد الإناءين قسمين ، فالاجتناب عن النجس المعلوم أولا لا يتحقق جزما إلا بالاجتناب عن الملاقي أيضا.

وأما على الثاني ، فلأن امتثال التكليف المحتمل في الملاقى ـ بالفتح ـ المفروض لزومه لتنجزه بالعلم ، لا يتحقق إلا بالاجتناب عن ملاقيه ، لأنه من شئون وتبعات الاجتناب عن نفس الملاقى ـ بالفتح ـ.

وأما على الثالث ، فلأن العلم بالحكم الفعلي الثابت في الملاقى يصاحبه العلم بالحكم الفعلي الثابت فعلا في الملاقي لأن المفروض فعليته من الآن وقبل تحقق الملاقاة.

وأما على الرابع ، فلا يتأتى ما ذكر ، لأن فعلية الحكم لا تتحقق إلا بتحقق الملاقاة ، فلا يكون طرفا للعلم من الأول ، وقبل الملاقاة.

فيقع الكلام على هذا الوجه في الجهة الأصولية ، وهي ان الملاقي طرف لعلم إجمالي جديد منجز أو ليس بطرف؟. هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الإثبات ..

فالوجه الأول لا يمكن الالتزام به ، لأنه ..

إن أريد من السراية الحقيقة سراية النجاسة إلى الملاقى. ففيه : انه يبتنى على أساس واه ، وهو كون النجاسة من الأمور الحقيقية الواقعية التي كشف عنها الشارع ، وهو غير صحيح ، فان النجاسة من الأحكام الاعتبارية الوضعيّة ،

١٤٩

ولا معنى للسراية إذا لم تكن من الأمور الحقيقية.

وان أريد سراية ذات النجس لا نفس النجاسة. فيدفعه : انه خلاف الوجدان والعيان غالبا.

كما ان الوجه الثالث لا يمكن البناء عليه ، لمنافاته لظهور الأدلة في دوران الحكم مدار موضوعه ، وهو الملاقاة ، فلا يصير فعليا قبل حصول الملاقاة.

وأما الوجه الثاني ، فيمكن تقريبه بوجهين :

الأول : ان المستفاد من ملاحظة اعتبار الرطوبة في الانفعال ، واعتبار العصر في التطهير ، وعدم كفاية مجرد النضح ، مع عدم النص عليه بالخصوص ، وعدم الانفعال فيما كان الماء متدافعا من العالي إلى السافل النجس الا موضوع الملاقاة ، وانفعال المائع بمجموعه دون الجامد ، فانه ينفعل فيه خصوص موضع الملاقاة ـ المستفاد من مجموع ذلك ـ ، وتعليل البعض الحكم في تلك الموارد بالسراية العرفية وعدمها ، مع عدم التزامهم بالسراية الحقيقية جزما ، كون المحكم في أحكام النجاسة من كيفية التطهير والانفعال هو نظر العرف ، وهو يستلزم كون الملحوظ في الاجتناب عن النجس هو نظر العرف أيضا.

ولا يخفى ان العرف يرى ان الاجتناب عن ملاقي القذر من شئون الاجتناب عن نفس القذر ولو تعددت الوسائط ، بحيث يرى ان من ارتكب ملاقي القذر لم يجتنب عن نفس القذر ، لا انه لم يجتنب عن خصوص ملاقيه ، فإذا لاقت اليد العذرة الرطبة ، يجتنب عن الأكل بها ويعدّ ذلك اجتنابا عن العذرة ، فلو أكل بها قيل انه لم يستقذر العذرة.

وبالجملة : هذا الأمر عرفا ثابت في باب القذارات الصورية ، فإيكال الأمر في النجاسات الشرعية إلى النّظر العرفي يستلزم ثبوت نظره في القذارات الصورية فيها ، ويترتب على ذلك ان الاجتناب عن الملاقي من شئون نجاسة الشيء.

١٥٠

وهذا المعنى ثابت عرفا في خصوص الملاقاة ، فلا يتأتى في مطلق الملابسات كالنظر إلى القذارة.

فلا يتوهم : ان فرض كون الاجتناب عن ملاقي النجس من شئون الاجتناب عن النجس ، يقتضي فرض كون الاجتناب عمن نظر إلى النجس ـ أو نحوه من أنحاء الملابسات ـ من شئون الاجتناب عن النجس أيضا.

الثاني : ان العناوين المتعددة إذا اشتركت عرفا في أثر جامع ، لكن كانت تختلف باختلاف نحو خصوصيات ذلك الأثر ، بمعنى ان نحو الأثر المترتب على أحدها كان يختلف عن نحو الأثر المترتب على الآخر.

مثلا : العرف يجتنب عن الأسد والسم والقذر ، لكن اجتنابه عن الأسد يرجع إلى عدم التقرب منه أو عدم إثارته. واجتنابه عن السم يرجع إلى عدم استعماله في الأكل أو الشرب. واجتنابه عن القذر يرجع إلى عدم استعماله وعدم استعمال ما يلاقيه في باب الأكل والشرب ـ كما بيّناه ـ. فإذا نزّل الشارع شيئا منزلة أحد هذه الأمور وأمر باجتنابه فانه ظاهر في كون مراده النحو المتداول عرفا للاجتناب عن المنزّل عليه. فلو قال : هذا أسد فاجتنبه ، فانه ظاهر في الأمر باجتنابه بالنحو الّذي يجتنب الأسد ، لا بالنحو الّذي يجتنب السم أو القذر.

وعليه ، فإذا قال : هذا نجس فاجتنبه ، كان ظاهرا في أمره باجتنابه بالنحو الّذي يجتنب العرف للقذارات الحقيقية الصورية لأنه نزّله منزلته. وقد عرفت ان اجتناب العرف القذارات الصورية يعم الاجتناب عن ملاقيها ، بنحو يكون الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن القذر. فلاحظ.

وقد أورد على هذا الالتزام ـ أعني : الالتزام بأن الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ بإيرادات :

الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية ، من : انه لا شبهة في وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس المعلوم مع فقد الملاقى

١٥١

نفسه ، وعدم ثبوت وجوب الاجتناب بالنسبة إليه ، وهذا يكشف عن عدم كونه من شئونه وتبعاته ، وإلا لكان تابعا له حدوثا وبقاء.

وناقشه قدس‌سره بان الملاقي له حيثيتان ، إحداهما كونه بنفسه نجسا. والثانية كونه من شئون عين النجس. وله بكلتا الحيثيتين حكم ، فإذا انتفى كونه من شئون النجس ، كان ما يجب الاجتناب عنه بالحيثية الأولى ، كما لو كان ابن العالم أو خادمه عالما أيضا (١).

أقول : في الإشكال والجواب عنه مناقشة.

أما الجواب عنه ، لأنه إذا ثبت ان الاجتناب عن النجس من شئونه وتوابعه الاجتناب عن ملاقيه ، كان الأمر المتعلق بالاجتناب عن الملاقي بعنوانه الخاصّ محمولا عرفا على الإرشاد إلى جهة التبعية وإن كان ظاهرا في حد نفسه في الاستقلال.

فهو نظير ما لو قال : « أكرم خادم العالم » مع الالتزام بان إكرام خادم العالم مما يستتبعه وجوب إكرام العالم ، فانه لا يحمل على أن خادم العالم موضوع مستقل لوجوب الإكرام ، بل يحمل على الإرشاد إلى جهة التبعية ، كما لا يخفى.

إذن ، فليس للملاقي حكمان ، بل حكم واحد بعنوان التبعية.

وأما نفس الإشكال ، فلأن الاجتناب عن الملاقي إذا كان من شئون الاجتناب عن الملاقى ، بحيث يكون الاجتناب عن الملاقي اجتنابا عن الملاقى ، فلا يكون انعدام الملاقى مخلا بوجوب الاجتناب عن الملاقي ، للتمكن على اجتناب الملاقى والحال هذه ببعض مراتبه ، وهو بالاجتناب عن ملاقيه ، فيجب الاجتناب عن الملاقي من باب انه اجتناب عن الملاقى ، نظير ما إذا غاب العالم الّذي يجب إكرام خادمه لوجوب إكرامه ، فانه لا يرتفع وجوب إكرام العالم ،

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٥٨ ـ الطبعة الأولى.

١٥٢

للتمكن منه ببعض مراتبه بإكرام خادمه.

وبالجملة : بناء على هذا الالتزام يكون وجوب الاجتناب عن الملاقى ثابتا بعد فقدانه ووجود ملاقيه ، فلاحظ والتفت.

الثاني : ما أورده المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية أيضا : من أنّه إذا اجتنب المكلف عن النجس ولم يجتنب عن ملاقيه ، فقد اجتنب حقيقة عن فرد من النجس ولم يجتنب عن فرد آخر منه ، لا أنه لم يجتنب أصلا ، ولو كان الاجتناب عن ملاقي النجس من شئون الاجتناب عنه لم يتحقق الاجتناب عنه بعدم الاجتناب عن ملاقيه (١).

وفيه : ان الاجتناب عن الشيء القذر ـ بناء على هذا الالتزام ـ له مرتبتان : إحداهما المرتبة القصوى ، وهي الاجتناب عنه مع الاجتناب عن كل ما لاقاه ولو بوسائط. والأخرى المرتبة الدنيا ، وهي الاجتناب عن خاصة دون الاجتناب عن ملاقيه. فإذا اجتنب عنه خاصة يصدق انه اجتنب النجس ولكن ببعض مراتبه ، كما يصدق انه لم يجتنبه ببعض مراتبه الأخرى. ولا يصدق انه لم يجتنب أصلا ، لأنه اجتنب النجس ببعض مراتبه. وذلك نظير ما لو أكرم العالم ولم يكرم ابنه أو خادمه ، فانه يصدق انه أكرم العالم بمرتبة ما ولم يكرمه بالمرتبة القصوى. فتدبر.

الثالث : ما جاء في كلمات المحقق العراقي قدس‌سره من ان ظاهر الأدلة ثبوت الحكم عند تحقق الملاقاة وفعليه الحكم بفعلية موضوعه غير قابلة للإنكار ، فيكون مقتضى الأدلة ان الحكم بوجوب الاجتناب لا يصير قطعيا إلا عند تحقق الملاقاة ، وهو انما يتلاءم مع الوجه الرابع دون هذا الوجه (٢).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٥٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) العراقي المحقّق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ٢ ـ ٩٥ ـ الطبعة الأولى.

١٥٣

ويندفع هذا الوجه : بان الملاقاة ليست دخيلة في أصل ثبوت الحكم بوجوب الاجتناب ، وإنما هي دخيلة في حدوث مرتبة من مراتب الاجتناب المتعلق للحكم ، فيثبت لها الحكم السابق الثابت في حد نفسه بنحو العموم والاستغراق لجميع المراتب ، بمعنى : ان وجوب الاجتناب ثابت لكل مرتبة من مراتب اجتناب النجس مطلقا ، فإذا حدثت مرتبة لم تكن موجودة سابقا تعلق بها الحكم الثابت ، لا أنه يثبت لها حكم جديد مستقل.

وعليه ، فان وجوب الاجتناب وإن لم يتعلق بالملاقي قبل تحقق الملاقاة ، لكن تحقق الملاقاة ليس دخيلا في موضوع الحكم بوجوب الاجتناب ، وانما هو دخيل في تحقق مرتبة من مراتب متعلق الحكم الثابت ، فيتعلق بها الحكم ، نظير ما إذا استخدم العالم خادما جديدا ، فانه يثبت وجوب إكرامه بنفس وجوب إكرام العالم الفعلي الثابت من السابق ، فحدوث مرتبة من مراتب المتعلق انما توجب سعة دائرة الحكم وازدياد انبساطه ، ولا توجب ثبوت حكم جديد.

واما ظهور الدليل الدال على الحكم في كونه حكما مستقلا جديدا ، فهو ليس بأزيد من ظهور كل أمر في التأسيس الّذي يرفع اليد عنه ويحمل على الإرشاد إلى غيره ببعض القرائن. وما نحن فيه من هذا الباب. فانه إذا ثبت كون الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن النجس ، كان الأمر بالاجتناب عنه ـ أي عن الملاقي ـ محمولا عرفا على الإرشاد ، وإن كان في حد نفسه ظاهرا في التأسيس. فلاحظ.

ثم أنه قد يشكل الالتزام بهذا المعنى : بان لازمه لزوم الاجتناب عن مشكوك الملاقاة لقاعدة الاشتغال بحكم النجس نفسه.

ويندفع : بان مقتضى أصالة عدم الملاقاة هو نفي تحقق الملاقاة ، فلا مجال لقاعدة الاشتغال حينئذ فالتفت.

والّذي يتحصل : ان جميع هذه الإيرادات لا تصلح لردّ هذا الالتزام الّذي

١٥٤

قرّبناه إثباتا بالوجهين المزبورين.

لكن التحقيق : هو ان الالتزام بالوجه الثاني بالتقريبين المتقدمين يبتني على شيء واحد مفقود خارجا ، فانه يبتني على وجود دليل يدل على لزوم الاجتناب عن النجاسة بهذا العنوان ـ أعني : بعنوان اجتنب وما شاكله ـ. وهو مفقود ، إذ الّذي ورد في النصوص هو الأمر بالغسل أو النهي عن الشرب ، ولم يرد فيها أمر بالاجتناب أصلا (١). والأمر بالغسل لا ظهور له في غسل الملاقي عرفا.

وأما الكتاب الكريم فالذي يتخيل دلالته على الأمر بالاجتناب منه آيتان :

إحداهما : آية الخمر والميسر ، للتعبير فيها بقوله : ( فَاجْتَنِبُوهُ ) (١).

ولكن الأمر بالاجتناب هاهنا ليس من جهة النجاسة قطعا ، لكون موضوعه أمورا أربعة وكلها ليس بنجس عدا الخمر ، فلا يمكن ان يكون الملحوظ هو جهة النجاسة ، بل لا بد أن تكون جهة أخرى جامعة ، وقد عرفت ان مجرد الأمر بالاجتناب عن الشيء لا ظهور له في الاجتناب عن ملاقيه ، ولذا لم يحتمل ذلك في باب الغصب ونحوه ، وإنما قلنا ان الأمر بالاجتناب بعنوان النجاسة والقذارة ظاهر في ذلك لا غير.

والأخرى : قوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (٢). ودلالتها تبتني على إرادة النجس من الرجز ، وهي محل نظر ، لأن الرجز في تفسير اللغويين بمعنى الرجز ـ بالكسر ـ ، وهو العذاب ، فيكون المراد الأمر بالاجتناب عن العذاب ، وهو كناية عن الأمر باجتناب سببه كالأمر بالمسارعة إلى المغفرة ، ويراد بها سبب

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ ـ أبواب النجاسات. كـ : ح ٢ ب ٨ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يأكل لحمه. وح ٢ باب ٨٢ : عن أبي عبد الله عليه‌السلام ( في حديث ) قال كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلاّ ان ترى في منقاره دما فان رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب. وغيرهما.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٩٠.

(٣) سورة المدّثر ، الآية : ٥.

١٥٥

المغفرة.

ولو تنزل عن ذلك ، فالذي قيل في تفسيره أيضا : انه بمعنى الرجس ، ولا ظهور له في إرادة النجس منه ، بل يمكن ان يراد منه ما يساوق الرجس في الآية الأولى المحمول على غير النجس ، فيكون الأمر امرا بهجر الإثم ونحوه مما يرجع إلى القذارات المعنوية لا الصورية ، وهو لا يدل على لزوم هجر الملاقي.

وجملة القول : ان الوجه الثاني لا دليل عليه في مقام الإثبات.

وظاهر الأدلة بدوا هو الوجه الرابع. فتدبر.

يبقى الكلام في جهتين :

الجهة الأولى : فيما أفاده الشيخ في المقام ، قال قدس‌سره : « ... وهل يحكم بتنجس ملاقيه؟ وجهان ، بل قولان مبنيان على ان تنجس الملاقي انما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس بناء على ان الاجتناب عن النجس يراد به ما يعلم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ، ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ... ) فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين ، فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه ، وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس‌سره في المنتهى على ذلك بان الشارع أعطاهما حكم النجس ، وإلا فلم يقل أحد ان كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.أو ان الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين ، وتنجس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ... ثم قال : والأقوى هو الثاني. أما أولا ، فلما ذكر ، وحاصله منع ما في الغنية من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز ، فتنجيسه حينئذ ليس إلا لمجرد تعبد خاص ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدل على وجوب هجر

١٥٦

ما يلاقيه » انتهى موضع الحاجة في كلامه (١).

وقد حمل الاعلام كلامه على الترديد بين كون لزوم الاجتناب عن الملاقي من شئون لزوم الاجتناب عن ما لاقاه ، وبين كونه حكما مستقلا له دليله الخاصّ ، وانه اختار الثاني.

وهذا ما كنا نجري عليه سابقا في توضيح كلامه.

لكن الّذي يبدو لنا فعلا ان مراده ليس ذلك ..

فليس مراده بناء لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين بالنجس على كون لزوم الاجتناب عن الملاقي من شئون لزوم الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ.

وإلا لما صح التفريع عليه بقوله : « فإذا حكم الشارع ... » ، إذ لا حاجة إلى بيان ذلك ، بل مجرد العلم بالحكم الواقعي بين المشتبهين يكفي في لزوم هجر الملاقي على المبنى المزبور كما عرفت ، ولو لم يكن هناك حكم شرعي بلزوم هجر كل من المشتبهين ، كما أنه ـ على هذا المبنى ـ لا معنى لقوله : « وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس‌سره ... » ، بل الّذي يظهر بملاحظة مجموع كلامه صدرا وذيلا : أنه ليس إلا في مقام بيان الملازمة ثبوتا وإثباتا بين لزوم الاجتناب عن الشيء ولزوم الاجتناب عن ملاقيه ، بحيث يكون الدليل الدال على لزوم الاجتناب عن الشيء دالا بنفسه على لزوم الاجتناب عن ملاقيه بلا حاجة إلى دليل آخر.

وحينئذ ، فإذا دل الدليل على لزوم هجر كل واحد من المشتبهين ، فهو يدل بنفسه على هجر ملاقيه ، وهو معنى كون الشارع أعطاهما حكم النجس ، ولا نظر له قدس‌سره إلى بيان كيفية انفعال الملاقي ووجهه.

والإشكال على هذا البيان واضح لوجهين ـ غير ما أورده الشيخ الظاهر

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢٥٣ ـ الطبعة الأولى.

١٥٧

في إنكار الملازمة ـ :

الأول : ان لزوم هجر كل واحد من المشتبهين ليس حكما شرعيا نفسيا ، بل هو حكم عقلي يرجع إلى الحكم بتنجيز الحكم الواقعي المردد بين الطرفين في أي طرف كان ، والأمر الشرعي على تقدير ثبوته هاهنا أمر إرشادي لا استقلالي تأسيسي.

الثاني : ان الّذي يدعى في المقام هو الملازمة بين لزوم هجر النجس ولزوم هجر ملاقيه ، لا الملازمة بين وجوب هجر كل شيء ولزوم هجر ملاقيه ، إذ لم يتوهم متوهم ثبوت الملازمة بين لزوم الاجتناب عن الغصب ولزوم الاجتناب عن ملاقيه. إذن فلزوم هجر كل من المشتبهين بما هو مشتبه وبعنوان الاحتياط لا يلازم لزوم هجر ملاقيه ، فتدبر والتفت.

الجهة الثانية : في ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره قبل الدخول في مسألة الملاقاة.

ومحصل ما أفاده : ان مقتضى العلم الإجمالي هو ترتيب كل أثر يكون المعلوم بالإجمال بالنسبة إليه تمام الموضوع.

أما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للأثر ، بل كان جزءه لم يترتب ذلك الأثر على ارتكاب أحد المشتبهين ، لعدم العلم بتحقق موضوعه التام ، وذلك نظير جواز إقامة الحد على شارب الخمر ، فان موضوعه هو شرب الخمر مع علم الحاكم به ، ومع شرب أحد الإناءين المشتبهين بالخمر لا يعلم تحقق شرب الخمر منه ، فلا يجوز إقامة الحد عليه ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، أو لأصالة عدم شربه الخمر ـ بل لعدم جواز الإضرار بالغير بعد عدم العلم بشمول عموم إقامة الحد عليه ـ.

ثم إنه ذكر لما كان الأثر مترتبا على نفس المعلوم بالإجمال الواقعي مثالين. وحكم فيهما بترتب الأثر بمجرد تحقق العلم على كل من المشتبهين.

١٥٨

الأول : العلم الإجمالي بخمرية أحد المائعين بالنسبة إلى عدم جواز بيع كل منهما. فانه ذكر : انه كما لا يجوز شرب كل من الإناءين لا يجوز بيعه أيضا ، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الإناءين فلا تجري أصالة الصحة في بيع أحدهما لمعارضتها بأصالة الصحة في بيع الآخر فيتساقطان ، ومع تساقطهما يحكم بفساد البيع في كل منهما لعدم الدليل على الصحة حينئذ.

ثم أورد على نفسه : بان الحكم بالفساد بالنسبة إلى بيع الخمر يتقوم بأمرين : وقوع البيع خارجا. وخمرية البيع. فمجرد الخمر ليس تمام الموضوع للحكم بفساد البيع ، بل له جزء آخر ، وهو وقوع البيع خارجا لأن الصحة والفساد من أوصاف البيع اللاحقة له بعد فرض صدوره في الخارج.

إذن ، فمع وقوع البيع على أحد الإناءين يحكم بصحته بمقتضى أصالة الصحة ، ولا تعارضها أصالة الصحة في الطرف الآخر لعدم وقوع البيع عليه فلا موضوع لها.

وأجاب عن ذلك : بان الخمر المعلوم تمام الموضوع لعدم السلطنة على بيعه ، وهو ملازم للفساد ، بل هو عينه ، لأنه ليس المجعول شرعا سوى حكم واحد يعبر عنه بعدم السلطنة قبل صدور البيع وبالفساد بعد صدوره ، كما ان السلطنة على البيع وصحته كذلك شيء واحد.

وعليه ، فأصالة الصحة تجري في كل طرف قبل صدور البيع وتسقط بالمعارضة ، كما عرفت.

الثاني : العلم الإجمالي بغصبية أحد الدارين أو الشجرتين. فانه كما يكون مقتضى العلم الإجمالي هو لزوم الاجتناب عن كل من الدارين أو الشجرتين ، كذلك مقتضاه الاجتناب عن ثمرات ومنافع كل من العينين ، لأن لزوم الاجتناب عن إحدى العينين واقعا يقتضي بنفسه لزوم الاجتناب عن الثمرات والمنافع لها سواء المتصلة منها أم المنفصلة ، والموجودة حال العلم أم المتجددة ، وسواء أكانت

١٥٩

كلتا العينين من ذوات المنافع والثمار أم كانت إحداهما كذلك ... إلى غير ذلك من الصور ، فان مقتضى العلم الإجمالي لزوم التجنب عن المنافع مطلقا ، لأن النهي عن المغصوب يقتضي النهي عنه وعن توابعه ومنافعه الموجودة فعلا والمتجددة.فالتجنب عن المنفعة المتجددة يكفي فيه النهي السابق الفعلي المتعلق بنفس العين ويصير بالنسبة إلى الثمرة المتجددة فعليا عند تجددها.

ثم أورد على نفسه : بالفرق بين منافع الدار وثمرة الشجرة ونحوها مما لها وجود مستقل منحاز ، فإن تبعية الثمرة للشجرة انما تكون في الوجود ، وهي لا تستلزم التبعية في الحكم ، بل لا يعقل ذلك بعد ان كانت الثمرة ذات وجود مستقل ، ويدخل تحت اليد بنفسه في قبال الشجرة ، فلا بد ان يكون كل من الأصل والفرع له حكم مستقل يتحقق عند وجوده. وعليه فلا يعقل ان يتقدم حكم الثمرة على وجودها ، لأن الحكم تابع لوجود موضوعه ، فقبل تحقق الثمرة لا حكم إلا بلزوم الاجتناب عن نفس الشجرة المغصوبة ، ثم بعد حصول الثمرة يثبت حكم آخر بحرمة التصرف موضوعه الثمرة. ولكن هذا إذا علم تفصيلا بحرمة الشجرة. أما مع العلم الإجمالي ، فحيث لا يعلم ان هذه الثمرة ثمرة لشجرة مغصوبة لا علم بثبوت الحكم فيها ، فيجري فيها الأصل بلا مزاحم ، إلا إذا كانت طرفا لعلم إجمالي آخر كما يأتي تحقيقه.

نعم ، مثل منافع الدار مما لا وجود له مستقل منحاز عن الدار يكون تابعا في الحكم للدار ، فيتنجز فيه الحكم بتنجز الحكم الثابت للدار نفسها.

وأجاب قدس‌سره عن هذا الإيراد : بان المقصود من تبعية حكم الثمرة للشجرة ليس هو فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما ، فانه من فعلية الحكم قبل وجود موضوعه وهو محال ، حتى في مثل منافع الدار ، إذ يستحيل فعلية وجوب الاجتناب عن منافع الدار للسنة المقبلة ، بل المقصود بالتبعية هو ان النهي عن التصرف في الشجرة المغصوبة يقتضي بنفسه وجوب الاجتناب عن ثمرتها

١٦٠