منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الاصطلاح ـ غير المنافية مع الواقع ، بل هي تصادم الواقع أيضا فتستلزم عدم منجزية العلم الإجمالي.

وذلك أما على المسلك القائل بمنافاة الترخيص الظاهري الثابت بأصالة الحل لفعلية الواقع ، واستلزامه قصور فعلية الواقع ـ كما هو مسلك الكفاية وتقدم تقريره وتقريبه ـ ، فالأمر فيما نحن فيه واضح.

وأما على مسلك المحقق النائيني من عدم منافاة الحكم الظاهري لفعلية الواقع ، فلأن الترخيص الظاهري الّذي لا ينافي الواقع وفعليته هو الترخيص الثابت بعنوان التعذير عن الواقع ، ورفع الحيرة من جهته ، والترخيص الثابت فيما نحن فيه ليس كذلك.

والوجه الّذي يذكر في تصحيح الجمع بين الترخيص الظاهري وفعلية الواقع لا يتأتى في مثل الترخيص الثابت فيما نحن فيه ، فراجع تعرف.

والّذي يتلخص انه على مسلك الاقتضاء نلتزم بالتوسط في التنجيز بالبيان المتقدم المرتكز على ما قربناه من عدم ثبوت أكثر من الترخيص العقلي.

وأما لو التزم بثبوت الحلية الشرعية ـ واقعية كانت أو ظاهرية ـ ، فلا بد من الالتزام بعدم منجزية العلم الإجمالي ، لعدم كونه علما بحكم فعلي على كل تقدير. فتدبر جيدا.

ويحسن بنا ان نتعرض بعد هذا إلى بعض ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله في المقام ، والمهم منه نقاط ثلاث :

الأولى : ما أفاده في مقام تقريب التوسط في التنجيز من : ان الاضطرار يقتضي رفع التكليف عما يرفع به الاضطرار. وأما الطرف الآخر ، فهو باق على حكمه ولا موجب للترخيص فيه ، فلا بد من الاجتناب عنه لعدم المؤمن عقلا ولا شرعا (١).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١٠١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٢١

وهذا البيان لا يخلو عن قصور ، فان اللازم بيان الوجه في عدم جريان البراءة في الطرف الآخر مع عموم دليلها وعدم المعارض ، وهي صالحة للتأمين لو جرت. فلا بد ان يضيف إلى ما ذكره ان إجراء البراءة في الطرف الآخر يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم. فتدبر جيدا.

الثانية : ما أفاده في مقام رد صاحب الكفاية في التزامه بان الترخيص في بعض الأطراف تخييرا ينافي فعلية الحكم ، فيستلزم عدم منجزية العلم الإجمالي ، لعدم تعلقه بالتكليف الفعلي على كل تقدير. فقد ذكر في ردّه بأن فعلية الحكم تدور مدار وجود موضوعه ، وموضوع التكليف في مورد الاضطرار إلى غير المعين موجود على كل حال ، لعدم وقوع الاضطرار على موضوع التكليف للتمكن من رفعه بغيره. إذن فالاضطرار إلى غير المعين لا يستلزم انتفاء موضوع التكليف بما له من القيود الوجودية والعدمية ، فيكون الحكم فعليا ، فلا يكون الترخيص منافيا لفعلية الواقع بهذا المعنى.

نعم الفعلية بمعنى آخر ـ كما هو مبناه ـ ينافيها الترخيص ، وهي كون المولى بصدد تحصيل مراده بأي وجه اتفق ولو برفع الجهل تكوينا أو إيجاب الاحتياط تشريعا ، فان الترخيص يتنافى مع هذا المعنى من الفعلية كما لا يخفى.

لكن دعوى كون الحكم الفعلي عبارة عن وصول الحكم إلى هذه المرتبة ضعيفة ، لعدم كون رفع الجهل من وظيفة الشارع ، بل وظيفته هو إنشاء الحكم على الموضوع المقدر الوجود ، فيكون الحكم فعليا بفعلية موضوعه خارجا (١).

أقول : قد تقدم في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بيان ان مراد صاحب الكفاية من الحكم الفعلي هو المعنى الأول ، وهو وصول الحكم إلى مرحلة البعث والزجر لا المعنى الثاني ، ولكنه يلتزم هناك ان الترخيص الظاهري

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٤ ـ ١٠٠ ـ ١٠١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٢٢

يتنافى مع فعلية الواقع ويستلزم قصورها (١).

فما أفاده هنا ليس أمرا جديدا ، بل هو يبتني على ما نقحه هناك ، وقد تقدم منّا تقريبه واختياره. فلا إيراد عليه على مبناه ، والحكم على كلامه هنا بأنه واضح الفساد ليس على ما ينبغي.

الثالثة : ما أفاده تحت عنوان : « كشف القناع » في مقام بيان ان مقتضى الاضطرار إلى غير المعين هو التوسط في التكليف ـ بمعنى ثبوت التكليف الواقعي على تقدير وعدم ثبوته على تقدير آخر ـ ، أو التوسط في التنجيز ، بمعنى بلوغ التكليف إلى مرتبة التنجيز على تقدير دون آخر ، مع ثبوت الحكم الواقعي على كل تقدير. فقد أفاد قدس‌سره ان الاضطرار إلى المعين يقتضي التوسط في التكليف ، لكون الترخيص واقعيا رافعا للحرمة الواقعية لو صادفها الاضطرار.

أما الاضطرار إلى غير المعين ، فتعيين أحد الوجهين فيه يتوقف على تعيين كون الحلية الثابتة ظاهرية أو واقعية ، فان كانت ظاهرية كان الاضطرار مقتضيا للتوسط في التنجيز ، لعدم منافاة الترخيص الظاهري مع فعلية الواقع. وإن كانت واقعية كان الاضطرار مقتضيا للتوسط في التكليف لمنافاتها للحرمة الواقعية. ثم استقرب ان تكون الحلية واقعية ـ بعد بنائه ذلك على كون الاضطرار هو الجزء الأخير لعلة الترخيص ، أم الجهل الّذي تقدم الحديث عنه والخدشة فيه ـ. ورتّب على ذلك اختيار التوسط في التكليف. ثم ذكر المقرّر عدول أستاذه في فذلكة البحث عن ذلك ، واختيار الترخيص الظاهري والتوسط في التنجيز ، وذكر بعد ذلك انه لا ثمرة مهمة تترتب على الوجهين (٢).

__________________

(١) راجع ٤ ـ ١٤٤ من هذا الكتاب.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ١٠٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٢٣

أقول : التوسط في التكليف لا نتصوره فيما نحن فيه ، لأن لازمه هو عدم منجزية العلم الإجمالي ، لأنه لم يتعلق بالحكم الفعلي على كل تقدير.

ودعوى : ان الاضطرار وان كان سابقا على العلم ، لكن الحلية لا تتعلق بأحد الفردين إلا حين ارتكابه ، لأنه زمان دفع الاضطرار ، فالحلية لا تثبت عند الاضطرار ، بل عند دفعه باختيار أحد الفردين ، فيكون الحال فيه كالاضطرار إلى المعين بعد العلم الإجمالي ، لأن الحلية وارتفاع الحرمة بعد العلم وان كان الاضطرار سابقا عليه ، لما عرفت من ان الاضطرار إلى غير المعين ليس اضطرارا إلى الحرام نفسه. نعم يجوز دفع الاضطرار بأي طرف شاء ، فالحلية تثبت حين دفع الاضطرار لا قبله.

فاسدة : لأن ارتفاع الحرمة وثبوت الحلية في ظرف العمل يقتضي لغوية ثبوت الحرمة من أول الأمر ، لعدم تأثيرها في الزجر عن الفعل أصلا ، ولازم ذلك ارتفاع الحرمة من أول الأمر ، فلا يتعلق العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، فيكون ما نحن فيه نظير الاضطرار إلى المعين قبل حصول العلم الإجمالي. فتدبر جيدا.

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى غير المعين سابقا على العلم.

وأما إذا كان متأخرا عنه ..

فعلى القول بالعلية التامة : ان التزم باقتضاء الاضطرار إلى غير المعين للترخيص العقلي فقط ، يبقى العلم الإجمالي منجزا كما كان بالنسبة إلى الطرف الآخر ، كما تقدم تقريبه في الاضطرار إلى المعين المتأخر عن العلم. وان التزم باقتضائه جعل الحلية شرعا للجامع ، كان اللازم القول بانحلال العلم الإجمالي بقاء ، لأن حلية الجامع بما هو جامع تسري إلى كلا الفردين فيكون كل منهما حلالا واقعا ، لامتناع حلية الجامع بما هو جامع ، والملحوظ فيه جهة السراية إلى الخارج مع حرمة أحد أفراده ، فيزول العلم بالتكليف بالمرة.

١٢٤

وبذلك يختلف حال الاضطرار إلى غير المعين ، وحال الاضطرار إلى المعين إذ لا يتأتى هنا العلم الإجمالي التدريجي.

وعلى القول بالاقتضاء ، فالكلام فيه نفس الكلام فيما إذا كان سابقا على العلم من كونه منجزا لو التزم بثبوت الترخيص العقلي ، وارتفاع منجزيته لو التزم بثبوت الترخيص شرعا. فلاحظ وتأمل جيدا والله سبحانه العاصم الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

التنبيه الثاني : فيما إذا كان أحد أطراف العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء عادة. والمهم في هذا الأمر هو تحقيق مانعية الخروج عن محل الابتلاء من فعلية التكليف.

وأما أثر ذلك في منجزية العلم الإجمالي ، فهو واضح لا يحتاج إلى بيان ، فانه إذا ثبت ان الخروج عن محل الابتلاء يمنع من فعلية التكليف ، كان الحال فيه هو ما ذكر في الاضطرار إلى المعين بلا إشكال.

وعليه ، فلا بد من صرف الكلام إلى ما هو المهم فيه ، فنقول : ذهب الشيخ رحمه‌الله إلى ان الفعل إذا كان خارجا عن محل ابتلاء المكلف عادة ، لم يصح تعلق التحريم به (١) ، فلا يصح الأمر بالاجتناب عن النجس أو الخمر الموجود في أقاصي بلاد الهند أو الصين.

وظاهره تخصيص الشرط بالمحرمات. وقد صرّح بذلك المحقق النائيني ـ كما في تقريرات الكاظمي ـ فذهب إلى : ان الأمر بالفعل الخارج عن محل الابتلاء لا محذور فيه ، إذ قد تكون فيه مصلحة ملزمة تستدعي الأمر به وتحصيل مقدماته البعيدة الشاقة ، لأن المفروض هو القدرة عليه عقلا (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٥١ ـ ٥٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٢٥

وخالفه في ذلك المحقق العراقي ، فذهب إلى استهجان الأمر بمثل ذلك ، كالأمر المتوجه إلى سوقي فقير بتزويج بنات الملوك ، أو بالأكل من طعام الملك الموضوع قدّامه (١).

والّذي يبدو لنا : ان الأمر اختلط على المحققين قدس‌سرهما فان الفرض في الأمر لا بد ان يكون على عكس الفرض في النهي ، فإذا كان موضوع البحث في النهي هو خروج الفعل عن محل الابتلاء ، بحيث يكون المكلف تاركا له بحسب العادة ، فلا بد ان يفرض موضوع البحث في الأمر هو خروج الترك عن محل الابتلاء ، بحيث يكون الفعل قهري الحصول عادة كخروج التاجر إلى دكانه يوميا أو إعطاء الوالد الشفيق الدواء لولده المريض الّذي يحبّه ونحو ذلك.

فالفرض الّذي اختلف فيه المحققان ـ والّذي نؤيد فيه المحقق النائيني ـ ليس فرضا للمقام ، بل فرض المقام هو ما ذكرناه ، فانه يتأتى فيه البحث كما يتأتى في فرض النهي بلا اختلاف.

وقد أشار إلى عطف الواجبات ـ بالفرض الّذي ذكرناه ـ على المحرمات صاحب الكفاية في حاشيته على متن الكفاية (٢).

كما تنبه المرحوم الكاظمي إلى ما يرد على أستاذه من الإيراد الّذي تقدم ، فأشار إلى ذلك في حاشية مختصرة وجيزة فراجع (٣).

ثم إن الامتناع ..

تارة : يكون عقليا ، ويقابله القدرة العقلية ، وهي مما لا شبهة في اعتبارها

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٣٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦١ هامش رقم ١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٥٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٢٦

في التكليف.

وأخرى : يكون عاديا ويراد به هو امتناع الفعل عقلا بحسب الوضع العادي للإنسان ، وان كان الفعل ممكنا عقلا بطريقة غير عادية ، وذلك كالطيران إلى السماء. وهذا ما أرجعه صاحب الكفاية إلى الامتناع العقلي والقدرة العقلية (١). وهي بحكم النحو الأول.

وثالثة : يكون عاديا بمعنى ما لا يلتزم به خارجا بحسب العادة ، كالخروج إلى السوق بلا نعل ، وهذا لا يمنع من التكليف قطعا.

وجميع ذلك ليس محل كلامنا ، بل محل الكلام فيما نحن فيه هو : ما كان الفعل لا يتحقق من المكلف عادة لعدم ابتلائه به ، مع إمكان ان يصدر منه عقلا ، كشرب الماء في الإناء الموجود في أقاصي الهند.

ويصطلح على اعتبار الدخول في محل الابتلاء باعتبار القدرة العادية.

وقد وقع الكلام في اعتبارها في التكليف. فذهب الشيخ (٢) وتبعه غيره (٣) إلى اعتبارها فيه.

وقد اختلاف التعبير عن بيان وجه الاعتبار ، فامتناع التكليف بغير ما هو محل الابتلاء.

والعمدة فيه هو اللغوية الواضحة المعبر عنها في بعض الكلمات بالاستهجان العرفي ، إذ الغرض من التكليف هو إيجاد الداعي إلى الفعل أو الترك ، وهذا المعنى لا يتحقق فيما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء كما لا يخفى.

وقد وقع الخلط بين ما نحن فيه وبين بعض الموارد ، فتخيل البعض سراية هذا الإشكال إلى موردين.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢٥١ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٥٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٢٧

أحدهما : تكليف العصاة.

والآخر : في الواجبات التوصلية التي تصدر من المكلف بحسب طبعه بداع آخر.

وذلك ببيان : ان التكليف وإن كان هو عبارة عن جعل ما يمكن ان يكون داعيا أو زاجرا ، إلا ان الغرض الأقصى منه هو تحقق الداعوية والزاجرية ، بحيث يكون له تأثير فيهما ، وإلا كان لغوا محضا.

فمع العلم بعدم تحقق الداعوية أو الزاجرية يمتنع جعل التكليف ، ومورد العصاة كذلك للعلم بعدم انزجارهم بالنهي وتحركهم بالأمر. فيكون تكليفهم لغوا. وهكذا في الواجبات التوصلية التي يكتفي فيها بمجرد الفعل ، إذا علم بتحقق الفعل من المكلف بداع آخر ، فان التكليف في مثل ذلك لا يترتب عليه غرضه الأقصى من التحريك نحو الفعل ، فيكون لغوا. ولا يخفى ان اللغوية المدعاة هاهنا هي لغوية دقية لا عرفية ، ولذا لا يتخيل أحد من العرف استهجان تكليف العاصي ونحوه.

وعلى كل حال ، فتحقيق الكلام في هذين الموردين ان يقال :

أما مورد العصيان : فلا يخفى ان الغرض الأقصى من الشيء ليس غرضا فلسفيا ، بحيث يكون من علل الشيء الّذي يوجب تخلفه تخلف المعلول ، بل هو فائدة وأثر الشيء ، فهو غرض عرفا.

وعليه ، فمجرد احتمال ترتبه على الفعل يكفي في صحة الفعل والإقدام عليه ، بل أعمال العقلاء جلا تبتني على احتمال ترتب الفوائد عليها ، كتصدي التجار للبيع ، فانه لا يقطع بتحقق البيع أو الربح ، مع إقدامهم عليه وليس هو إلا من جهة كفاية احتمال الفائدة.

ففي مورد العصاة إذا احتمل الامتثال كفى ذلك غرضا أقصى للتكليف.

ومع عدم احتماله والعلم بعدم امتثال الأمر والنهي ، يمكن ان يقال بان

١٢٨

فائدة التكليف والغرض الأقصى منه هو إلقاء الحجة وقطع العذر ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة. نظير التاجر الّذي يتصدى للبيع ، وهو يعلم بعدم تحقق الربح أو البيع دفعا لملامة الناس ونسبة الخمول والكسل إليه.

وأما مورد الواجبات التوصلية فيكفي في رفع اللغوية احتمال صدور الفعل عن التكليف.

نعم ، في المورد الّذي يعلم بصدوره بداع آخر لا بداعي الامتثال ، لا مناص من الالتزام بعدم صحة الوجوب ، لأنه لغو لا أثر له.

ودعوى : ان الغرض من التكليف تكميل النفوس الحاصل بالإتيان بالفعل بقصد الامتثال والإطاعة الموجبة لقرب العبد من مولاه. وحينئذ يمكن ان تكون فائدة التكليف التوصلي في الغرض المزبور هو تمكين المكلّف من الإتيان به بداع الأمر الموجب لكمال النّفس وتطهيرها.

مندفعة : بان الغرض الملزم في الواجبات التوصلية ليس إلا ما يترتب على الفعل ذاته من مصلحة ، والمفروض ان ذلك يتحقق ولو لم يكن أمر.

أما الإتيان بالفعل بداعي الأمر ، فهو لم يصل إلى حد الإلزام في الواجبات التوصلية ، بحيث يكون منشئا للإيجاب ، ولذا كان الواجب توصليا لا عباديا. فالتفت.

ولا يخفى عليك ان ما ذكر في حلّ الإشكال في هذين الموردين لا يتأتى فيما نحن فيه ، وهو ما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء ، فان التكليف لا فائدة فيه أصلا لعدم ترتب الداعوية عليه ، ولا ترتب غيرها من الفوائد.

ولأجل ذلك يكون التكليف مستهجنا عرفا.

فالوجه في امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء هو الاستهجان العرفي المسبب عن لغويته وعدم الأثر له.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني قدس‌سره إلى : عدم صلاحية

١٢٩

الاستهجان العرفي لمنع ثبوت التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء ، لعدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف. وليس الكلام في مفهوم الخطاب كي يكون المرجع فيه هو العرف كما تقرر ، بل الكلام في واقع التكليف وصحته ثبوتا فلا مسرح لنظر العرف (١).

وفيه :

أولا : ان الاستهجان العرفي المدعى هاهنا لا يرجع إلى تحكيم نظر العرف المبني على المسامحة كي لا يعتمد عليه ، بل المحذور المدعى هو لغوية التكليف ، وهي من الوضوح بنحو يدركها العرف فيستهجن ثبوت التكليف. فالاستهجان العرفي راجع إلى وضوح اللغوية لدى الجميع ، والعمل اللغو مستهجن من الحكيم ، في قبال اللغوية التي لا تدرك إلا بالدقة ، كاللغوية المدعاة في تكليف العصاة.

وبالجملة : المحذور فيما نحن فيه عقلي يلتفت إليه الجميع. فالتفت.

وثانيا : ان التكليف إذا كان مستهجنا عرفا يكفي ذلك في امتناع ثبوته وتوجيهه إلى عامة الناس ، لأنهم لا يؤمنون بصدوره مع بنائهم على انه مستهجن ، فلا يصلح الداعوية أصلا ، والمفروض ان من يتوجه إليه التكليف هو الجميع.

وأما ما جاء في الدراسات في مقام نفي اعتبار الدخول في محل الابتلاء ، وعدم اعتبار أزيد من القدرة العقلية ، من : ان الغرض من التكليف الشرعي ليس مجرد حصول متعلقه فعلا أو تركا كالتكليف العرفي ، بل الغرض منه هو تكميل النفوس البشرية بجعل التكليف داعيا للعبد إلى الفعل أو الترك ، فيحصل له القرب من مولاه ويرتفع مقامه (٢).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٥٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٥٤ ـ الطبعة الأولى.

١٣٠

ففيه : ان هذا لو تم ، فانما يتم في خصوص الواجبات دون المحرمات ، إذ الفعل المحرم إذا كان خارجا عن محل الابتلاء بنحو لا تحدثه نفسه بارتكابه لم يصلح النهي لزجر المكلف عنه وصرفه عن ارتكابه ، إلا بعد تصدي المكلف لإيجاد الرغبة النفسيّة في فعله ، كي ينصرف عنه ببركة النهي الشرعي ، فلو كان الغرض من النهي ما ذكر ، للزم في مثل هذه الحال على المكلف إيجاد الرغبة إلى فعل المحرم وتهيئة مقدماته ، ثم ينصرف عنه بزاجرية النهي.

وهذا لا يمكن أن يتفوه به ، فان إيجاد مقدمات الحرام بما هي مقدمات له مرجوح ، بل ثبت تحريم بعضها نفسيا كمقدمات عمل الخمر.

هذا مع عدم تماميته في الواجبات التوصلية كما عرفت. فراجع.

وجملة القول : انه لا إشكال في عدم صحة التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء وجوبيا كان أو تحريميا للاستهجان العرفي ، الّذي تقدم بيانه.

والمراد بالخروج عن محل الابتلاء المانع من التكليف ليس كون الشيء خارجا عنه فعلا بحيث لا ابتلاء للمكلف به بحسب وضعه الفعلي ، بل هو كون الشيء خارجا عن ابتلائه بحسب العادة بنحو لا يكون في معرض الدخول في محل الابتلاء عادة.

فمثل الإناء في بيت جاره وإن لم يكن محل ابتلائه فعلا ، لأنه لا يرفع احتياجه بشرب ماء جاره ، بل بشرب ماء داره ، ولكنه في معرض كونه في محل الابتلاء عادة ، لحصول التزاور بين الجيران ، ففي مثل ذلك لا يمتنع التكليف ، لعدم كونه مستهجنا عرفا لاحتمال ترتب الفائدة عليه وهو كاف في رفع اللغوية.

نعم ، الإناء في بلد لا يذهب إليه عادة يكون خارجا عن محل ابتلائه ، فيمتنع التكليف في مورده.

وهذا أفضل ما يمكن أن يقال في تحديد ضابط الخروج عن محل الابتلاء المانع من التكليف. فالتفت.

١٣١

ثم إنه لو تحقق الشك في مورد في كونه خارجا عن محل الابتلاء أو ليس بخارج عنه ، فتارة يكون الشك من جهة الشبهة المفهومية. وأخرى من جهة الشبهة المصداقية.

فان كان الشك من جهة الشبهة المفهومية ، بان كان لا يعلم ان الخروج عن محل الابتلاء بمفهومه هل يشمل مثل الإناء الموجود في البلد الفلاني أو لا؟ وهل يقال لمثله عرفا انه خارج عن محل الابتلاء أو لا؟. فقد وقع الكلام في صحة التمسك بإطلاق الدليل في إثبات التكليف فيه وعدمها.

والّذي نراه هو صحة التمسك بالإطلاق ، إذ عرفت ان عدم صحة التكليف من جهة الاستهجان العرفي الناشئ عن عدم ثبوت الفائدة فيه ، وعرفت أيضا ان احتمال ترتب الفائدة يرفع الاستهجان العرفي ويصحح التكليف.

وهذا يقتضي ان يختص الامتناع بصورة العلم بعدم الفائدة.

وعليه ، فمع الشك في الخروج عن محل الابتلاء يشك في ترتب الفائدة للتكليف ، فيثبت احتمالها ولا يعلم بعدمها ، وهو كاف في صحة التكليف.

وبالجملة : على ما ذكرناه لا يكون المورد من موارد الشك في التقييد ، بل من موارد العلم بعدمه ، لأن الخارج هو ما علم بعدم الفائدة فيه. فالتفت.

هذا تحقيق الحال على ما سلكناه في تحقيق اعتبار الدخول في محل الابتلاء.

وأما على ظاهر مسلك الاعلام من كون التقييد بأمر واقعي يتعلق به العلم والجهل ، وهو الخروج عن محل الابتلاء.

فقد ذهب الشيخ رحمه‌الله إلى صحة التمسك بالإطلاق. بتقريب : ان المورد من موارد دوران الأمر في المخصص بين الأقل والأكثر ، وقد تقرر في محله الاقتصار في التخصيص على القدر المتيقن ، والرجوع في مورد الشك إلى

١٣٢

العموم (١).

ويرد عليه : ان ما تقرر في محله من الاقتصار على القدر المتيقن والرجوع في المشكوك إلى العموم ، انما هو فيما إذا كان المخصص منفصلا. وأما إذا كان متصلا ، فلا يتم لسراية إجمال المخصص إلى العموم كما بيّن في محله. وما نحن فيه من قبيل المتصل ، لأن امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء من الواضحات لدى العرف التي يمكن ان يعتمد المتكلم عليها ، وتكون من القرائن الحالية الموجبة للتصرف في الظهور.

وقد أورد على هذا الإيراد بوجهين :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني (٢) والعراقي (٣) قدس‌سرهما من : ان الحكم باعتبار الدخول في محل الابتلاء من الأحكام النظرية التي تحتاج إلى إعمال فكر ونظر ، ولا يدركها كل أحد ، فيكون المورد من قبيل المخصص المنفصل الّذي يصح الرجوع فيه إلى العام ، لعدم انثلام ظهوره.

وفيه : ما عرفت من ان امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء واضح لدى العرف ، وإذا كان محذوره هو الاستهجان العرفي ، فيكون المورد من قبيل التخصيص بالمتصل.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني ـ بعد تنزله وتسليمه كون المورد من قبيل التخصيص بالمتصل لا بالمنفصل ـ من : ان إجمال الخاصّ انما يسري إلى العام فيما إذا كان الخاصّ عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب مرددا بين الأقل والأكثر ، كعنوان الفاسق المردد بين خصوص مرتكب الكبيرة ومطلق مرتكب الذنب ولو صغيرة.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٥٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٤٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٣٣

وأما إذا كان الخاصّ ذا مراتب متعددة ، فلا يسري إجماله إلى العام ، لأن المتيقن تخصيصه ببعض مراتبه المعلومة. واما تخصيصه بغيرها فهو مشكوك فيرجع إلى العموم لأنه شك في تخصيص زائد. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن عدم الابتلاء ذو مراتب عديدة كما لا يخفى ، ويشك في تخصيص العام ببعض مراتبه (١).

وأورد عليه المحقق العراقي قدس‌سره : بان ما أفيد إنما ينفع في انحلال العلم الإجمالي ، لا في عدم إجمال العام ، لأنه يكفي في إجمال العام احتفافه بما يصلح للقرينية ، ولو كان بنحو الشك البدوي ، وما نحن فيه من هذا القبيل نظير مورد الاستثناء من الجمل المتعددة فانهم يحكمون بإجمال العموم في جميع الجمل وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقنا (٢).

وبالجملة : فما وجهنا من الإيراد على الشيخ موجّه. لكنه انما يتوجه على التقريب المتقدم لكلامه.

ولكن الإنصاف انه يمكن توجيه كلامه بنحو لا يرد عليه ما ذكر. بيان ذلك : ان المخصص تارة يكون لفظا حاكيا عن مفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، كما في مثل : « لا تكرم فساق العلماء » ، وأخرى يكون حكما عقليا كحكم العقل بقبح تكليف العاجز الموجب لتخصيص أدلة التكاليف العامة.

ففي مثل الأول ، يتصور الترديد في التخصيص للتردد في المفهوم الّذي يحكي عنه اللفظ ، فيشك في مورد أنه محكوم بحكم الخاصّ أو بحكم العام.

وأما الثاني ، فلا يتصور فيه التردد في مقام ، لأن الحاكم لا يتردد في حكمه ، فإذا شك في تحقق مناط حكمه لا يصدر منه الحكم جزما ، لا انه يشك في ثبوت حكمه كما هو واضح جدا.

وما نحن فيه من قبيل الثاني لأن التخصيص كان بحكم العقل والعرف

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٦٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٤٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٣٤

بقبح التكليف في مورد الخروج من محل الابتلاء.

ولا يخفى ان العقل انما يحكم بقبح التكليف في المورد الّذي يعلم انه من موارد الخروج عن محل الابتلاء ، بنحو يعلم بثبوت مناط القبح فيه.

أما مع الشك ، فلا حكم له بالقبح جزما ، لا انه يتردد ويشك في ثبوت حكمه ، لعدم معقولية ذلك بالنسبة إلى الحاكم نفسه.

إذن فالقدر المعلوم تخصيص العام به هو ما يعلم اندراجه في محل الابتلاء.

أما مورد الشك ، فيعلم بعدم حكم العقل بالقبح فيه ، لعدم إحراز مناط حكمه فيه ، فكيف يحكم بالقبح فيه والتردد غير معقول؟ ، فيعلم بعدم التخصيص ، فيصح التمسك بالإطلاق.

وهذا التوجيه لا يأباه صدر كلامه ، بل يلائمه كمال الملاءمة. نعم ذيل كلامه قد يظهر في التوجيه الأول لقوله : « فمرجع المسألة إلى ان المطلق المقيد بقيد مشكوك ... » ، ولكن يمكن حمله على تنظير ما نحن فيه بذلك المقام لا تطبيق ذلك المقام على ما نحن فيه.

ثم إنه من الممكن ان يكون مراد المحقق النائيني من كلامه السابق هو هذا الوجه ، وإن كان خلاف ظاهر كلامه.

وبالجملة : بهذا البيان يصح الرجوع إلى الإطلاق فيما نحن فيه.

وخالف في ذلك صاحب الكفاية فذهب إلى عدم صحة التمسك بالإطلاق ، واختلفت في ذلك بياناته في الكفاية (١) والفوائد (٢) وحاشيته على الرسائل (٣).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٣٢٠ ـ المطبوعة ضمن الحاشية ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ١٤٦ ـ الطبعة الأولى.

١٣٥

ونحن نذكر ما أورده في الكفاية ، وهو : ان التمسك بالإطلاق يتفرع على صحة الإطلاق في حد نفسه ثبوتا ، كي يكون مقام الإثبات كاشفا عن مقام الثبوت.

أما مع الشك في صحة ثبوت الحكم في حد نفسه ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق في إثباته.

وبعبارة أخرى : ان الإطلاق إنما يتكفل مقام الإثبات دون مقام الثبوت ، فلا بد من إحراز صحة ثبوت الحكم كي يتمسك بالإطلاق لإثباته.

وهذا الكلام بحسب ظاهره صار موردا للهجوم العلمي. فقد ذكر في ردّه :

ان الدليل على ثبوت الحكم يكون دليلا على إمكانه مع الشك ، لأنه ملازم له ، فالشك في الإمكان وعدمه يرفع بالدليل الدال على الوقوع ، كما التزم صاحب الكفاية وغيره في أول مباحث الظن ، ولو لا ذلك لا شكل التمسك بالإطلاق في جلّ موارد الشك في التقييد ولو كان المقيد لفظيا ، لأن الشك في التقييد يلازم الشك في ثبوت الملاك للحكم المطلق في الفرد المشكوك. وواضح انه يستحيل ثبوت الحكم بلا ملاك ، فيكون الشك في التقييد مستلزما للشك في إمكان الحكم وعدمه.

ولأجل ذلك تصدى المحقق العراقي قدس‌سره إلى توجيه مراده بما يدفع عنه هذا الإيراد الواضح ، فذكر : ان الحكم الواقعي كما هو مقيد بعدم الخروج عن محل الابتلاء ، كذلك الأمر في الحكم الظاهري الثابت بالأمارات والأصول ، فانه لغو أيضا ، مع خروجه مورده عن محل الابتلاء.

وعليه ، فكما يشك في ثبوت الحكم واقعا في مورد الشك في الخروج عن محل الابتلاء ، كذلك يشك في صحة ثبوت الحكم الظاهري الثابت بالإطلاق ـ بمقتضى دليل حجية الظهور ـ. ومن الواضح انه لا وجه للتمسك بالإطلاق مع وجود هذا الشك ، ولا يتكفل الإطلاق نفيه. فمراد الكفاية هو عدم صحة

١٣٦

التمسك بالإطلاق لأجل الشك في صحة ثبوت الحكم الإطلاقي الظاهري ، لا لأجل الشك في صحة ثبوت الحكم الواقعي ، كي يقال إن الإطلاق دليل على إمكانه. فالتفت.

ثم إنه قدس‌سره بعد ما وجّه كلام الكفاية بما عرفت ، أورد عليه : بأنه لا يتم بناء على الطريقية الراجعة إلى مجرد الأمر بالبناء العملي على مطابقة الظهور للواقع بلا جعل تكليف حقيقي في البين ، فان الأمر المزبور أمر صوري يعبر عنه بالحكم الأصولي يتكفل تنجيز الواقع على تقدير المصادفة. وهو لا محذور فيه مع الشك في القدرة (١). فتأمل.

وتحقيق الكلام : هو ان المورد ليس من موارد التمسك بالإطلاق لنفي الشك ، إذ من شرائط ذلك هو كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة المشكوكة ، كي يكون عدم بيانه دليلا على إرادة الحكم المطلق. ومن الواضح ان المتكلم ليس بصدد البيان من جهة شرطية الخروج عن محل الابتلاء ، إذ لم يرد منه في الخطابات الشرعية عين ولا أثر ، مما يكشف عن إغفال المولى هذه الجهة وإيكال الأمر فيها إلى غيره ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في مورد الشك لنفيه ، بل لا بد من الرجوع إلى العقل نفسه. وقد عرفت فيما تقدم ـ ببيانين ـ عدم حكمه بالقبح في مورد الشك ، فلا يثبت التخصيص والتقييد ، ومع الشك في ذلك لا يمكننا الرجوع إلى الإطلاقات لما عرفت ، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية.

وقد وجدنا المحقق الأصفهاني قد نبّه على هذه النكتة بنحو مختصر (٢). فالتفت.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٣٤٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٥٥ ـ الطبعة الأولى.

١٣٧

ثم إنه إذا وصلت النوبة إلى الأصول العملية ، فهل الأصل في المقام هو البراءة ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية. أو الاشتغال كما ذهب إليه المحقق العراقي؟.

والوجه في البراءة واضح لأنه من موارد الشك في ثبوت التكليف شرعا وهو مجرى البراءة.

واما الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، فوجهه : هو ان المورد من موارد الشك في القدرة ، مع العلم بثبوت الملاك الملزم. فكما يحكم العقل في مورد العلم بتوجه التكليف وشك المكلف في قدرته عقلا على الامتثال بلزوم الفحص والتصدي للامتثال للزوم تحصيل غرض المولى إلا مع عجزه حقيقة ـ ولا يلتزم أحد في مثل ذلك بإجراء البراءة ـ. كذلك الحال في مورد الشك في القدرة العرفية ، لأنها كالقدرة العقلية ليست دخيلة في ملاك الحكم ، بل دخيلة في حسن توجهه للمكلف ، فمع الشك في تحققها يحكم العقل بالاشتغال.

وهذا المطلب ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله أيضا. لكن المقرر الكاظمي أشار في تعليقة له على المقام بعدول أستاذه عنه بعد مذاكرته في ما يرد عليه من إشكال ، فراجع (١).

وتحقيق الكلام : ان الّذي يبدو وقوع الخلط في كلمات الاعلام بين الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية ، فان ما يذكر في بيان جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في القدرة ، وما يضرب لذلك من الأمثلة ، يختص في الشبهة المصداقية دون الشبهة المفهومية.

ومن الواضح ان كلامنا فيما نحن فيه إنما هو في الاشتباه من حيث المفهوم لا من حيث المصداق ، فالتفت ولا تغفل.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٥٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٣٨

هذا كله إذا كان الشك في الخروج عن محل الابتلاء من جهة الشبهة المفهومية.

وأما إذا كان من جهة الشبهة المصداقية ، كما إذا شك في أن إناء زيد النجس هل هو في البلد الكذائي الّذي يكون داخلا في محل الابتلاء ، أو في البلد الآخر الّذي لا يكون محل الابتلاء؟.

فعلى ما اخترناه من ان التكليف مقيد بالعلم بالخروج عن محل الابتلاء ، بل بواقع الخروج عن محل الابتلاء ، فلا إشكال في الرجوع إلى الإطلاق للعلم بعدم كون المورد من موارد التخصيص.

وأما على مسلك القوم من تقيد التكليف بنفس الخروج عن محل الابتلاء ، يكون المورد من موارد التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص اللبي.

وقد تقدم الحديث فيه واختلاف المباني فيه. فراجع.

ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فقد قيل : إنه الاشتغال بالتقريب المتقدم.

وتحقيق الحال في صحة ما قيل من ان الأصل في موارد الشك في القدرة هو الاشتغال له مجال آخر. فانتظر.

التنبيه الثالث : في الشبهة غير المحصورة. وقد وقع الكلام في تحديدها وحكمها من حيث المخالفة القطعية والموافقة القطعية.

وقد ادعي الإجماع ، بل الضرورة الفقهية على عدم وجوب الموافقة القطعية فيها.

ولا يخفى ان مثل هذا الإجماع لا يمكن ان يركن إليه ، لعدم العلم بأنه إجماع تعبدي ، بل المظنون قويا خلافه ، لكثرة ما ورد من التعليلات لنفي وجوب الموافقة القطعية.

وكيف كان ، فقد عرفت انها حددت بحدود متعددة ، وأكثرها لا يخلو عن

١٣٩

إشكال ، كتحديدها بما يعسر عدّه ، أو بما بلغ آلافا ، فلا نطيل الكلام بذكرها. إنما المهم من ذلك ضابطان نتعرض إليهما وما يدور حولهما من كلام وما يترتب عليهما من أثر. وهما ما أفاده الشيخ رحمه‌الله وما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره.

أما ما أفاده الشيخ رحمه‌الله ، فهو : ان تكون الكثرة بحدّ يكون احتمال التكليف في كل طرف موهوما لا يعتني به العقلاء ، ويرون الاعتناء به نوعا من الوسوسة ، ولازم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية (١).

وفيه : ان ضعف الاحتمال إن وصل إلى حد الاطمئنان بالعدم فما أفاده صحيح ، لكنه خارج عما نحن فيه ، لأنه من موارد قيام العلم العادي على عدم التكليف في طرف. وإن لم يصل إلى حد الاطمئنان ، فلا يصح كلامه لعدم العبرة بظن عدم التكليف مهما بلغ من القوة ما لم يقم الدليل على حجيته ـ كما يلاحظ ذلك في الشبهة المحصورة ـ ، فلا بد من الموافقة القطعية لعدم المؤمّن بعد قيام العلم الإجمالي المنجز.

وأما ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله ، فهو : ان تكون كثرة الأطراف بحدّ يستلزم عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية ، وان كان كل طرف في حد نفسه مقدورا عادة وداخلا في محل الابتلاء. وحينئذ تسقط حرمة المخالفة القطعية لعدم القدرة عادة عليها ، وبتبعها يسقط وجوب الموافقة القطعية ، لأنه متفرع على حرمة المخالفة القطعية المستلزم لتعارض الأصول في أطراف العلم ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم تجب الموافقة القطعية.

وأفاد قدس‌سره : ان هذا الضابط يختص بالعلم بالحرمة ، ولا يتأتى في موارد العلم بالوجوب بين أطراف كثيرة ، لإمكان المخالفة القطعية في باب

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٦١ ـ الطبعة الأولى.

١٤٠