منتقى الأصول - ج ٥

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

الأطراف قبل العلم الإجمالي أو بعده كما هو واضح. فتدبر جيدا.

هذا تمام الكلام في شئون العلم الإجمالي من حقيقته وأثره.

ويقع الكلام بعد ذلك في تنبيهات ترتبط به.

١٠١
١٠٢

« تنبيهات المسألة »

التنبيه الأول : فيما إذا اضطر إلى بعض أطراف العلم الإجمالي.

وهو على نحوين :

الأول : ما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين.

والثاني : ما إذا كان الاضطرار إلى غير معين.

أما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين ، فله صور :

الصورة الأولى : ما إذا كان الاضطرار حادثا قبل التكليف والعلم به ، كما لو اضطر إلى شرب هذا الإناء الطاهر ، ثم وقعت نجاسة مرددة بينه وبين إناء آخر ، ثم علم إجمالا بها.

ولا إشكال في عدم منجزية مثل هذا العلم ، لعدم تعلقه بتكليف فعلي على كل تقدير ، بل لا علم بحدوث تكليف لاحتمال وقوعها في الإناء المضطر إليه فلا يحرم.

الصورة الثانية : ما إذا حدث الاضطرار بعد التكليف وقبل العلم به ، بان وقعت نجاسة في أحد الإناءين ، ولم يكن يعلم بها ، ثم اضطر إلى شرب الإناء المعين ، ثم علم بعد الاضطرار بالنجاسة المرددة بين الإناءين.

١٠٣

وقد اختار المحقق النائيني قدس‌سره في بعض دورات أبحاثه الأولى منجزية العلم الإجمالي. بتقريب : انه علم بحدوث تكليف فعلي ، ويشك في سقوطه بالاضطرار ، ومقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الخروج عنه (١).

ولكنه عدل عنه في دورات بحثه الأخيرة ، فذهب إلى عدم تنجيز مثل هذا العلم (٢).

وجاء في تقريرات الكاظمي ـ بيانا لوجه العدول ـ ان العلم تمام الموضوع في التنجيز ، فقبل تحقق العلم لا يكون التكليف منجزا ، وبعد حصوله لا يكون العلم علما بتكليف فعلي على كل تقدير ، لاحتمال كون المضطر إليه هو النجس الواقعي (٣).

والحق هو ما ذهب إليه أخيرا من عدم التنجيز ، ولأجل تقريبه نقول : ان العلم المتأخر المتعلق بالتكليف السابق لا يصلح لتنجيز التكليف السابق بما هو كذلك.

وذلك لأن معنى التنجيز إما وجوب الإطاعة والامتثال عقلا ، أو استحقاق المؤاخذة على المخالفة. وكل منهما لا يتصور بالنسبة إلى ما سبق ، إذ لا مجال لإطاعته أو مخالفته فعلا. فما يجري على بعض الألسنة من أن العلم المتأخر ينجز التكليف في الزمان السابق ليس له وجه معقول.

نعم ، إذا كان التكليف السابق موضوعا للتكليف في الزمان اللاحق كوجوب القضاء أو نحوه ، كان العلم به مؤثرا في تنجيز التكليف اللاحق من باب تعلق العلم به أيضا بعد تعلق العلم بموضوعه.

وبالجملة : العلم إنما يكون منجزا للتكليف المقارن ، ولا يصلح لتنجيز ما

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٦٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٤ ـ ٩٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٩٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٠٤

سبق.

وعليه ، ففيما نحن فيه ، بما انه عند حدوث العلم لا يعلم بثبوت التكليف لاحتمال تعلق الاضطرار بمتعلقه فلا يكون منجزا.

الصورة الثالثة : ما إذا حدث الاضطرار بعد العلم الإجمالي بالتكليف ، وهذه الصورة هي محل الكلام والنقض والإبرام.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم منجزية العلم الإجمالي بقاء (١). وذهب الشيخ (٢) وتبعه المحقق النائيني (٣) وغيره (٤) إلى بقاء منجزيته بالنسبة إلى الطرف الآخر غير المضطر إليه.

والّذي أفاده في الكفاية وجها لعدم المنجزية : هو ان التكليف محدود شرعا بحصول الاضطرار إلى متعلقه.

وعليه ، فهو فيما بعد الاضطرار لا يعلم بثبوت التكليف ، فينفيه بالأصل.

وبعبارة أخرى : ان العلم الإجمالي ينحل بالعلم بالجامع إلى حد الاضطرار ، وما بعده مشكوك ، والمرجع فيه الأصل.

ولأجل ذلك يختلف الاضطرار عن صورة فقد أحد الأطراف ، لأن الفقدان ليس من حدود التكليف شرعا ، فلا علم بالتكليف الجامع المحدود بالفقدان ، بل التكليف في كلا الطرفين مطلق (٥).

وهذا البيان لا نستطيع أن نؤمن به ونلتزمه لوجهين :

الأول : ان التكاليف الشرعية جميعها محددة بالاضطرار. وعليه فلا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥٤ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٦٧ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٤٧ ـ الطبعة الأولى.

(٥) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٠٥

خصوصية لأحد الطرفين ، بل كل من الطرفين يكون التكليف فيه على تقديره محدد بالاضطرار ، سواء تحقق الاضطرار خارجا أم لا.

الثاني : ان المحدد بالاضطرار والمرتفع به ليس هو الحكم الكلي الثابت بنحو القضية الحقيقية ، بل هو الحكم الفعلي الثابت لموضوعه الموجود المردد بين الطرفين.

ومن الواضح ان التكليف الفعلي يدور بين ان يكون التكليف المحدود ، وبين ان يكون التكليف المستمر ـ لتردده بين الطرفين ـ ، ولا جامع في البين يكون هو المتيقن ، وما زاد عليه يكون مشكوكا ، لتردد الأمر بين فردين متباينين.

وبعبارة أخرى : ليس التردد بين الأقل والأكثر في تكليف واحد ، كي يقال : ان الأقل معلوم والزائد عليه مشكوك. بل التردد بين تكليفين أحدهما قصير الأمد والآخر طويل الأمد ، وهذا لا يستلزم الانحلال لعدم العلم بالجامع. فالتفت.

وقد يقال : إنه إذا علم إما بوجوب الجلوس ساعة في المسجد أو ساعتين في الصحن ، فهو يعلم بوجوب الجلوس ساعة إما في المسجد أو في الصحن ، وما يزيد على الساعة مشكوك ، ومثل هذا العلم الإجمالي الصغير يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول.

أو فقل : انه علم بخصوصية زائدة ، فيوجب انحلال العلم الإجمالي المتعلق بالجامع الصرف.

وإذا ثبت هذا المطلب ثبت الانحلال في مورد الاضطرار وغيره من موارد ارتفاع التكليف في الأثناء كالفقدان ، والخروج عن محل الابتلاء ، لجريان هذا البيان فيها جميعها ، فهذا البيان مما يقرّب مذهب الكفاية لكنه لا يختص بصورة الاضطرار.

ولكن هذا القول واضح الدفع ، لأنه كما يعلم إجمالا بوجوب الجلوس في

١٠٦

الساعة الأولى إما في المسجد أو في الصحن ، ويشك في وجوبه في الساعة الثانية ، للشك في وجوب الجلوس في الصحن ، كذلك يعلم إجمالا اما بوجوب الجلوس في الساعة الأولى في المسجد أو بوجوبه في الساعة الثانية في الصحن لأن الواجب ان كان الجلوس في الصحن ساعتين كان الجلوس في الساعة الثانية في الصحن واجبا. فالجلوس في الساعة الثانية طرف العلم الإجمالي أيضا. فيكون منجزا. فالتفت ولاحظ.

وتحقيق الحال في المقام ـ بعد أن عرفت وجود العلم الإجمالي بثبوت التكليف الدائر أمره بين المحدود في طرف والمستمر في طرف آخر ـ : انه ..

إن قيل : بأن العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز من حيث الموافقة القطعية ، وعدم جواز الترخيص في بعض أطرافه ـ كما هو كذلك بالنسبة إلى المخالفة القطعية ـ.

فلا إشكال في بقاء العلم الإجمالي على المنجزية بعد عروض الاضطرار ، فلا بد من ترتيب أثرها بالنسبة إلى الطرف الآخر.

وذلك لأن العلم إذا حدث على صفة المنجزية للتكليف ، لا يزول عن هذه الصفة حتى يعلم بالموافقة والامتثال ، ولا يعتبر في بقاء منجزيته استمرار تعلقه بالتكليف بقاء ، بل تثبت المنجزية مع عدم العلم بالتكليف بقاء حتى بالنسبة إلى العلم التفصيليّ ، كما لو علم تفصيلا بوجوب عمل ، ثم جاء بعمل يشك في تحقق الامتثال به ، فانه لا يعلم ببقاء التكليف بعد ان جاء بالعمل المشكوك تحقق الامتثال به ، ومع هذا يحكم بمنجزية علمه السابق ولزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم سابقا ، وتطبّق قاعدة الاشتغال في المورد.

نعم ، يعتبر بقاء العلم بالتكليف حدوثا ، فلو تبدل إلى الشك الساري لم تثبت منجزيته.

وبالجملة : إذا حدث العلم بصفة التنجيز لا بد من العلم بامتثاله ، والشك

١٠٧

في بقاء التكليف من جهة الشك في الامتثال لا يخرجه عن صفة التنجيز. وما نحن فيه كذلك : لأن العلم الإجمالي قد تعلق بتكليف مردد بين المحدود في هذا الطرف والمستمر في ذلك الطرف ، وهو حين حصل كان منجزا للتكليف ، ومما يلزم العلم بالخروج عن عهدته ، فمع عروض الاضطرار وإن حصل الشك في بقاء التكليف ، لكنه لا يجدي في رفع أثر العلم بعد ان كان عدم الاجتناب عن الطرف الآخر موجبا للشك في تحقق امتثال التكليف المعلوم بالإجمال المنجز به الّذي يلزم الخروج عن عهدته.

وإن قيل : بان تأثير العلم الإجمالي في الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء وان تنجز الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول في أطراف العلم ، وإلا فلا مانع من الترخيص في بعض أطرافه.

فالأمر فيما نحن فيه مشكل. وتحقيق ذلك : ان أصالة الطهارة الثابتة للأشياء بما هي مشكوكة الطهارة ..

تارة : نلتزم بأنها تتكفل الحكم بالطهارة الظاهرية حدوثا وبقاء وبنحو الاستمرار ، بمعنى : ان يكون هناك حكم واحد ودلالة واحدة وتطبيق واحد بالنسبة إلى مشكوك الطهارة بلحاظ جميع أزمنة الشك ، نظير الحكم بالملكية عند تحقق موضوعها ، فان المحكوم به هو ملكية واحدة مستمرة ولا تعدد فيها.

وأخرى : نلتزم بأنها تتكفل الحكم بالطهارة بعدد الآنات التي يتصور فيها الحكم بالطهارة وترتب الأثر عليها ، بحيث تكون الطهارة في كل آن فردا غير الطهارة في الآن السابق لا إنها استمرار لما سبق. فهناك أحكام متعددة وتطبيقات متعددة ودلالات متعددة.

وباختلاف النّظر في كيفية تطبيق أصالة الطهارة ونحو دلالتها يختلف الحال فيما نحن فيه.

فان التزم بالاحتمال الأول ، أمكن دعوى بقاء منجزية العلم الإجمالي بعد

١٠٨

عروض الاضطرار ـ على مسلك الاقتضاء ـ وذلك لأنه في الآن الأول لحصول العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين المرددة بين المحدودة والمستمرة ـ وإلاّ فالنجاسة لا ترتفع بالاضطرار بلحاظ وجوب الاجتناب ـ وقبل عروض الاضطرار ، يتحقق التعارض بين الأصلين الجاريين في الطرفين ، فيتساقطان ، وبعد عروض الاضطرار لا يمكن إجراؤه في الطرف الآخر ، لأن المفروض أنه أصل واحد يجري حدوثا ويثبت الطهارة بقاء ، وقد سقط بالمعارضة.

وإن التزم بالثاني ، كان مقتضاه عدم منجزية العلم الإجمالي بعد عروض الاضطرار ، لأن الأصل الجاري في الطرف الآخر بعد الاضطرار لا معارض له ، نعم تتحقق المعارضة قبل عروض الاضطرار لقابلية الطرفين لجريان الأصل فيهما ، إلا ان المفروض تعدد الأصول والتطبيقات في كل طرف بتعدد الآنات ، فتطبيق أصالة الطهارة بعد الاضطرار غير تطبيقها قبله ، والتطبيق الساقط بالمعارضة هو ما يكون قبل الاضطرار أما بعده فلا معارض لجريان الأصل في الطرف الآخر ، لعدم جريانها في ما اضطر إليه.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الإثبات : فالذي نختاره هو الاحتمال الثاني ضرورة ان موضوع الحكم بالطهارة هو الشك ويراد به الشك الفعلي ـ ، بمعنى الحاصل فعلا ـ والحكم بالطهارة يكون بلحاظ آن الشك وظرفه ، والحكم يتعدد بتعدد موضوعه. وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشك ، فكل شك في آن يكون موضوعا للحكم بالطهارة.

وبالجملة : ظاهر الدليل فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فلا يثبت الحكم بالطهارة إلا مع فعلية الشك ، فالحكم بالطهارة في ظرف بلحاظ الشك في ذلك الظرف.

ولا مجال لدعوى إمكان الحكم فعلا بالطهارة للذات في الآن المستقبل

١٠٩

بلحاظ الشك الفعلي بالطهارة في الآن المستقبل ، لأنه إذا زال الشك في الآن المستقبل يزول الحكم بالطهارة ، وهو يكشف عن دخالته فيه.

كما لا مجال لدعوى ان موضوع الحكم الفعلي بالطهارة للذات في الآن المستقبل هو الشك الفعلي المستمر ، فإذا زال الشك يكشف عن عدم تحقق موضوعه ، لأنه إذا فرض حصول الشك في آن ولم يكن الشك في الآن الّذي قبله ثبت الحكم بالطهارة ، مما يكشف عن ان الشك الفعلي تمام الموضوع للحكم بالطهارة ، وكما لا يجوز الحكم بالطهارة فعلا بالنسبة إلى الأمر الاستقبالي ، لذلك لا يجوز الحكم بها بالنسبة إلى الأمر السابق كما سيأتي التعرض إليه في تنبيه الملاقاة للنجس فانتظر. وتدبر فانه دقيق.

ثم إن ما ذكرناه في أصالة الطهارة يجري في أصالة الحلّ. وإن كان الأمر في أصالة الطهارة أظهر ، لأن جعل الطهارة فعلا للأمر في الآن المستقبل فيه محذور ثبوتي يضاف إلى عدم مساعدة دليل الإثبات عليه. وهو ان نسبة الطهارة إلى متعلقها نسبة العنوان إلى المعنون فيستحيل جعلها للمعدوم.

بخلاف جعل الحلية فانه يتصور تعلقها بالمعدوم من قبيل الوجوب المعلق المتعلق بأمر استقبالي ، إلا ان مقام الإثبات لا يساعد عليه كما بيّناه.

وعلى هذا فمقتضى ما ذكرناه : هو انه بناء على الالتزام بالاقتضاء لا يكون العلم الإجمالي منجزا بقاء بعد عروض الاضطرار لجريان الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.

وظهر مما ذكرناه ان ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره في مقام بيان ما اختاره من بقاء العلم الإجمالي على صفة التنجيز بعد عروض الاضطرار ، من عدم جريان الأصل في الطرف الآخر بعد سقوطه بالمعارضة ، لأن الساقط لا يعود (١).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٩٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١١٠

غير متين ، لأن الأصل الّذي يجري في الطرف الآخر هو الأصل بلحاظ حل ما بعد الاضطرار ، وهو لا معارض له ، وقد عرفت انه أصل بنفسه غير الأصل الجاري في مرحلة الحدوث الساقط بالمعارضة ، فليس إجراء الأصل من عود الساقط كي يقال : إن الساقط لا يعود.

ثم إنه جاء في الدراسات بعد الالتزام بعدم جريان الأصل ، لأن الساقط لا يعود. الإيراد على نفسه بأنه : لا مانع من إجراء الأصل بعد إطلاق الدليل لجميع الحالات ، غاية الأمر ترفع اليد عنه بمقدار المعارضة ، لأن الضرورات تقدر بقدرها ، فإذا ارتفعت المعارضة لسقوط التكليف في أحد الأطراف لم يكن مانع من التمسك بإطلاق الدليل في الطرف الآخر.

وأجاب عنه : ان المحذور العقلي في إجراء الأصلين في كلا الطرفين ، وهو لزوم الترخيص في المعصية ، كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل لكلا الطرفين في زمان واحد ، يقتضي عدم شموله لها في زمانين.

وما نحن فيه كذلك ، للعلم الإجمالي بحرمة أحد الإناءين المرددة بين المحدودة والمستمرة ، فهو يعلم إجمالا إما بحرمة هذا الإناء قبل الاضطرار إليه أو بحرمة ذاك الإناء بعد الاضطرار إلى الطرف الآخر. فلا يمكن إجراء أصالة الحل في كلا الطرفين لاستلزامه الترخيص في المعصية. لأن الحكم بحلية هذا الإناء فعلا لا يجتمع مع الحكم بحلية ذاك الإناء فيما بعد ، بعد العلم الإجمالي بدوران التكليف بينهما (١).

أقول : الوجه في تعارض الأصول المستلزم لتنجيز العلم الإجمالي من حيث الموافقة القطعية ، ليس هو مجرد استلزام جريانها الترخيص في المعصية ، بل بضميمة شيء آخر ، وهو استلزام إجراء الأصل في أحدهما المعين الترجيح بلا

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٣٦ ـ الطبعة الأولى.

١١١

مرجح ، فيقال : انه إذا جرى الأصل في كلا الطرفين ، كان ذلك ترخيصا في المعصية. وجريانه في هذا الطرف خاصة ترجيح بلا مرجح ، وكذا جريانه في ذاك الطرف خاصة. فيتحقق التعارض والتساقط.

وعليه ، نقول : انه في آن ما قبل الاضطرار قد يدعى ان إجراء الأصل في هذا الطرف لا يجتمع مع إجرائه في الطرف الآخر ، ولو بلحاظ ما بعد الاضطرار ، لاستلزامه الترخيص في المعصية وتعين أحدهما بلا معين. أما بعد عروض الاضطرار فلا مانع من إجراء الأصل في الطرف الآخر. لعدم قابلية الطرف الأول لإجراء الأصل فيه بعد تصرّم وقته ، فلا يلزم الترخيص في المعصية ولا الترجيح بلا مرجح.

وبمثل هذا البيان تصدّى القائل إلى ردّ المحقق النائيني ، حيث ذهب إلى معارضة الأصل في أحد الأطراف مع جميع الأصول الطولية في الطرف الآخر ، فتسقط جميعها ، باعتبار أنّ المحذور هو جعل ما ينافي المعلوم بالإجمال ، بلا خصوصية للمتقدم رتبة من الأصول ، فلا يصح التعبد بالأصول مطلقا.

فقد ردّه القائل بان المحذور في إجراء الأصول هو استلزام إجراء كلا الأصلين الترخيص في المعصية ، وإجراء أحدهما في الطرف المعين يستلزم الترجيح بلا مرجح.

وهذا لا يتأتى بالنسبة إلى مورد تعدد الأصول الطولية في طرف ووحدة الأصل في الطرف الآخر ، لأن الأصل الطولي لا مجال له مع وجود الأصل المتقدم عليه رتبة ، فلا تتحقق المعارضة بينه وبين غيره ، فيتحقق التعارض بدوا بين الأصل السابق في الرتبة في هذا الطرف والأصل المنفرد في ذلك الطرف ، فيتساقطان فيبقى الأصل الطولي بلا معارض ، فيعمل به ولا يكون من الترجيح بلا مرجح.

فهو في ذلك المبحث نبّه على هذه الجهة ـ أعني : تقوم المعارضة بضميمة

١١٢

محذور الترجيح بلا مرجح إلى محذور الترخيص في المعصية ـ ، ولكنه فيما نحن فيه أغفلها تماما (١).

نعم لو التزم بالاحتمال الأول في مدلول دليل أصالة الطهارة تمّ ما ذكره من المعارضة ، لكنه خلاف التحقيق أولا وخلاف مبناه ثانيا ، لظهور التزامه بالمبنى الثاني من كلامه ، لتعبيره بالحكم بالحلية في الزمان الآخر ، الظاهر في ان ظرف الحكم هو الزمان الآخر. فانتبه.

وجملة القول : انه على مسلك الاقتضاء يشكل الأمر في كثير من الفروع كالاضطرار إلى المعين أو الخروج عن محل الابتلاء أو فقدان بعض الأطراف ، أو تطهير بعض الأطراف ، فان الأصل يجري في الطرف ، الآخر ـ في جميع ذلك ـ بلا محذور ولا معارض. بل لو علم إجمالا بوجوب إحدى الصلاتين إما الجمعة أو الظهر ، فجاء بالجمعة ، صحَّ له إجراء الأصل بالنسبة إلى الظهر ، لعدم معارضته بالأصل الجاري في الجمعة لإتيانه بها.

فهو قبل الإتيان بإحداهما وان لم يتمكن من إجراء الأصل في كلا الطرفين ، لكنه بعد الإتيان بإحداهما يتمكن من ذلك لما عرفت. مع ان هذا من الفروع المسلم فيها بقاء تنجيز العلم الإجمالي ، كمسألة تطهير بعض الأطراف أو فقدانه.

ويمكن ان يجعل هذا وجها من وجوه الإشكال على الالتزام بالاقتضاء ، وتعين القول بالعلية التامة فرارا عن الوقوع في ذلك.

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى طرف معين.

وأما إذا كان الاضطرار إلى طرف غير معين.

فقد ذهب فيه صاحب الكفاية إلى : عدم تنجيز العلم الإجمالي سواء

__________________

(١) الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية ٣ ـ ٢٣٠ ـ الطبعة الأولى.

١١٣

حصل قبل العلم أم بعده ، لأن الاضطرار يستلزم الترخيص في أحد الأطراف تخييرا ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم فعلا ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على ما يختاره ، فلا يعلم بثبوت التكليف الفعلي على كل تقدير (١).

وخالفه المحقق النائيني تبعا للشيخ (٢) رحمه‌الله ، فذهب إلى منجزية العلم الإجمالي ، لعدم تعلق الاضطرار بالحرام ، لأنه لو فرض علمه التفصيليّ بالحرام لم ترتفع حرمته بالاضطرار وبما جاز له ارتكابه.

وعليه ، فللمكلف ارتكاب أحد الأطراف رفعا للاضطرار. وأما الطرف الآخر فيلزمه اجتنابه للعلم الإجمالي الّذي ترفع اليد عن تأثيره بمقدار الضرورة. وهو ما أسماه بالتوسط في التنجيز (٣).

وتحقيق الكلام بوجه يتضح به الحق وتزول به بعض الشبهات ، هو انه تارة : يقال بان العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، بحيث ينافيه الترخيص في بعض الأطراف. وأخرى : يقال بأنه بالنسبة إلى الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء فلا يمتنع الترخيص في بعض أطرافه ، وإنما تثبت الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول.

فعلى مسلك العلية التامة : لا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، لأن الاضطرار إلى أحد الأمرين يستلزم الترخيص في أحدهما ، وهو ما يختاره المكلف رافعا للاضطرار ، إما ترخيصا شرعيا واقعيا أو ظاهريا أو ترخيصا عقليا. وعلى جميع التقادير ـ التي سيأتي البحث فيها مفصلا ـ يسقط العلم عن التنجيز.

أما إذا كان الترخيص شرعيا واقعيا أو ظاهريا ، فلعدم اجتماعه مع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٣٦٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥٤ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٤٢ ـ الطبعة الأولى.

١١٤

الحرمة ، لا يكون العلم متعلقا بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، لاحتمال ان تكون الحرمة فيما يختاره ، وهي مرتفعة على الفرض.

وأما إذا كان الترخيص عقليا فلمنافاته حسب الفرض مع منجزية العلم الإجمالي ، إذ المفروض انه بنحو العلة التامة الّذي ينافيه الترخيص في بعض أطرافه فلو ثبت الترخيص عقلا كما فيما نحن فيه ، فلا بد من الالتزام بعدم كونه منجزا إما لقصور الحكم المعلوم أو عدم كونه منجزا بعد وجود المؤمن العقلي. فتدبر.

وأما على مسلك الاقتضاء : فقد تقدم انه لا مانع من الترخيص الظاهري في بعض الأطراف ، فيبقى العلم منجزا بالنسبة إلى الطرف الآخر. نعم لا يصح الترخيص في كلا الطرفين لأنه مستلزم للمخالفة القطعية.

وعليه ، نقول : انك عرفت ان الاضطرار إلى أحد الأمرين يستلزم الترخيص في ارتكاب أحدهما رفعا للاضطرار ، فان كان الترخيص عقليا أو شرعيا ظاهريا لم يمنع من منجزية العلم الإجمالي ، لعدم منافاته له بحال ، إذ هو لا يصادم تأثيره بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، لأن الترخيص في أحدهما لا يتنافى مع حرمة ارتكابهما معا ، كما لا يخفى جدا.

وأما بالنسبة إلى الموافقة القطعية فالمفروض انه ليس علة تامة لها ، ولا يمنع من الترخيص في عدمها ، فلا ينافيه الترخيص في أحدهما لأجل الاضطرار ، فعدم إخلال الاضطرار بمنجزية العلم واضح جدا.

وأما إذا كان الترخيص شرعيا واقعيا ، فبما انه يتنافى مع حرمة ذلك الطرف واقعا ولا يجتمع معها كالحلية الظاهرية ، فالعلم الإجمالي يسقط عن المنجزية ، لاحتمال كون الحرام هو ما يختاره المكلف المفروض ارتفاع حرمته ، فلا يكون العلم متعلقا بحكم فعلي على كل تقدير ، إذ أحد التقديرين لا حكم فيه.

ولأجل اختلاف الحال باختلاف نحو الترخيص الثابت في المقام ، لا بد

١١٥

من تحقيق الحال في ذلك.

فنقول : إن الدليل المتوهم دلالته على إثبات الحلية شرعا في مورد الاضطرار هو قوله عليه‌السلام : « ما من شيء حرمه الله إلا وأحله في حال الضرورة » (١).

وهذا الكلام يحتمل ـ ثبوتا ـ وجهين :

الأول : أن يكون في مقام بيان ان الضرورة لها اقتضاء للحلية وتأثير فيها ، حتى في الموارد التي يكون فيها مفسدة شديدة تقتضي الحرمة ، فيدل على ثبوت الحلية في موارد الاضطرار الأخرى التي ليست متعلقا للحرمة بالأولوية ومفهوم الموافقة.

الثاني : ان يكون في مقام بيان مانعية الاضطرار عن تأثير مقتضى الحرمة ، وان مقتضى الحرمة لا تأثير له في مورد الاضطرار ، فلا يكون متكفلا سوى ارتفاع الحرمة في مورد الاضطرار ، لا جعل الإباحة والحلية كما هو مقتضى الوجه الأول.

ولا يخفى أن الاضطرار فيما نحن فيه لم يتعلق بنفس الحرام ، لأن الحرام هو أحدهما المعين واقعا ، وهو مما لم يتعلق به الاضطرار ، وانما تعلق بالجامع بين الطرفين وهو أحدهما بلا خصوصية أصلا ، الّذي يقبل أن ينطبق على كل منهما.

وعلى هذا فإذا كان مدلول الرواية هو الوجه الأول كان الاضطرار إلى الجامع مشمولا له ، لأنه يتكفل جعل الحلية لكل ما يضطر إليه المكلف ، ولو لم يكن في نفسه حراما ، فتثبت الحلية شرعا للجامع.

فيقع الكلام بعد ذلك في ان الحلية السارية من الجامع إلى الفرد الّذي

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٦ ـ ١٣٧ باب ١٢ من كتاب الإيمان حديث : ١٨.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ... وقال : ليس شيء مما حرم الله الا وقد أحله لمن اضطر إليه.

ومثله في ٤ ـ ٦٩٠ باب ١ من أبواب القيام حديث ٦ و ٧.

١١٦

يختاره المكلف ، هل هي حلية واقعية أو ظاهرية؟.

وأما إذا كان مدلول الرواية هو الوجه الثاني ، لم يكن الاضطرار إلى الجامع مشمولا له ، لعدم كونه اضطرارا إلى الحرام كي يتكفل رفع الحرمة عنه ، نعم يذهب العقل إلى جواز دفع الاضطرار بأحدهما والأمان من العقاب لو صادف الحرام واقعا ، للجزم بعدم الفرق بين هذا المورد من الاضطرار وبين سائر الموارد المحرمة في أنفسها والتي يتعلق بها الاضطرار ، لكن لا يثبت فيما نحن فيه أكثر من الترخيص عقلا الّذي لا يتنافى مع ثبوت الحرمة الفعلية واقعا.

ولأجل ذلك لا يختل تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية كما عرفت ، لأنه لا يخرج عن كونه علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير المستلزم لحرمة المخالفة القطعية ، فلا يصح إجراء الأصل في الطرف الآخر ، لأنه وان لم يكن بلا معارض ، لكنه مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الإثبات ، فالمختار في مدلول النص المزبور هو الوجه الثاني ، وهو تكفله لبيان مانعية الاضطرار من تأثير مقتضى الحرمة ، وانه لا حرمة عند الاضطرار بلا تكفل لجعل الحلية في مورده.

وذلك لظهور هذا المعنى من الدليل المزبور ، فان ظاهره ان الحرمة الثابتة للشيء ترتفع عند الضرورة ، وان المكلف في حلّ منها بعد ان كان مقيدا ، والوجه الأول خلاف الظاهر جدا.

ويشهد لما استظهرناه هو : تطبيق هذه الكبرى الكلية في موارد وجوب الإقدام على ما هو الحرام لأجل الضرورة ، وعدم جواز تركه كبعض موارد التقية ، وموارد حفظ النّفس من الهلاك. ومن الواضح انه لا معنى لتطبيق جعل الإباحة في تلك الموارد ، وانما المناسب هو بيان ارتفاع الحرمة الّذي يتلاءم مع الوجوب واقعا.

١١٧

وعلى هذا ، فلا يثبت في مورد الاضطرار إلى غير المعين سوى الترخيص العقلي ، لعدم الاضطرار إلى ما هو الحرام واقعا كي ترتفع حرمته بواسطة هذا النص.

وقد عرفت ان مقتضى الترخيص العقلي هو الالتزام بالتوسط في التنجيز ، لعدم منافاة الترخيص في بعض الأطراف لمنجزية العلم الإجمالي على مسلك الاقتضاء.

ولذا لم يكن الإشكال في جريان الأصل في أحدهما بنحو التخيير ثبوتيا بل إثباتيا ، فيبقى العلم الإجمالي منجزا بالنسبة إلى الطرف الآخر لأن إجراء الأصل فيه مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية ، وهي محرمة.

ثم إنه لو التزمنا بان دليل رفع الاضطرار يتكفل جعل الحلية شرعا ـ كما هو مقتضى الوجه الأول ـ ، كان الاضطرار إلى الجامع مستلزما لثبوت الحلية له شرعا ، وحينئذ تثبت لأحد الطرفين ، وهو ما يختاره المكلف رفعا للاضطرار باعتبار سراية الحكم من الجامع إلى افراده. فان الحلية وان تعلقت بالجامع لأنه مورد الاضطرار دون الفرد الخارجي ، لأنه غير مورد الاضطرار ، لكن تطبيق الجامع على فرد في الخارج يستلزم اتصاف الفرد بالحلية ، لأن الحكم لا يتعلق بالجامع بما هو هو ، بل بلحاظ وجوده وبما هو سار في أفراده ، نظير اتصاف الفرد الخارجي للصلاة بالوجوب مع تعلق الوجوب بالطبيعي لا بالفرد ، لكن الفرد الّذي يتحقق به الامتثال يقع على صفة الوجوب كما لا يخفى.

وعليه ، فيقع الكلام في ان الحلية الثابتة للفرد واقعية أو ظاهرية ..

أما كونها واقعية ، فلأجل ان الحلية الثابتة للجامع حلية واقعية ، والمفروض انها تسري إلى الافراد كما عرفت ، فتكون الحلية الثابتة للفرد واقعية.

ولكن الصحيح كونها ظاهرية ، لأن الحرام الواقعي لم يتعلق به الاضطرار كما هو الفرض وإنما تعلق بالجامع ، فلو فرض العلم التفصيليّ بما هو الحرام لم

١١٨

ترتفع حرمته ولم يجز له دفع الاضطرار به ، بل يتعين عليه اختيار الفرد الآخر ، فثبوت الحلية لأي من الفردين شاء ـ مع حرمة أحدهما واقعا ـ المكلف ناشئ من جهل المكلف بما هو الحرام واقعا ، فالحلية الثابتة يكون الجهل دخيلا في ثبوتها ، وهو معنى الحلية الظاهرية ، إذ الحكم الظاهري ما كان الجهل بالواقع مأخوذا فيه.

وأما ما أفاده المحقق النائيني ـ كما في تقريرات الكاظمي ـ في تحقيق هذه الجهة من ان الاضطرار والجهل دخيلان في ثبوت الحلية ، فلا بدّ من تشخيص الجزء الأخير من العلة التامة لثبوت الحكم ، فهل هو الاضطرار أم الجهل؟ فان كان الجزء الأخير الّذي تترتب عليه الحلية بلا فصل هو الاضطرار كانت الحلية واقعية وان كان الجزء الأخير هو الجهل كانت الحلية ظاهرية (١).

فهو غير صحيح ، لأن مجرد أخذ الجهل بالواقع في موضوع الحكم يقتضي كونه ظاهريا ، سواء كان جزء أخيرا أم لا ، فان ذلك ليس بذي أثر. فما أفاده وان كان ذا صورة علمية ، لكنه لا واقع له.

هذا ، ولكن الحق هو ان الجهل هاهنا لم يؤخذ في موضوع الحكم شرعا وسابقا في الرتبة عليه ، بل هو في مرتبة نفس الحكم ، وذلك لأنك عرفت ان الحرمة الواقعية مع العلم بها تمنع من سراية الحلية من الجامع إلى الفرد الحرام ، بل يتعين رفع الاضطرار بالفرد الآخر ، لعدم إمكان اجتماع الحكمين المتضادين. أما مع الجهل بالحرام ، فلا تكون الحرمة مانعة من تعلق الحلية بالفرد إذا صادف اختيار المكلف له ، وهذا يقتضي ان يكون أثر الجهل هو نفس أثر عدم الحرمة واقعا ، لأنه يرفع مانعية الحرمة من ثبوت الحلية. ومن الواضح انّ مانعية الحرمة وتأثير عدم الحرمة انما هي في رتبة نفس الحكم بالحلية وليس في رتبة موضوعه ، فيكون في رتبة

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٤ ـ ١٠٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١١٩

نفس الحكم ويلحظ مقارنا له ، نظير عدم الضد المأخوذ في رتبة نفس الضد الآخر ، كعدم الحرمة المأخوذ في ثبوت الحكم بالوجوب.

ولكن هذا المعنى لا يمنع من كون الحكم ظاهريا ، بل يكون نظير الحكم الظاهري في باب الأمارات ، لأن الجهل لم يؤخذ في موضوعه ، بل أخذ بنحو الموردية كما هو مذكور في محله فراجع (١).

ثم ان الثمرة المتوخاة من تحرير هذه الجهة هو ما أشرنا إليه في صدر البحث من : انه لو كانت الحلية الثابتة واقعية كانت مستلزمة للإخلال في منجزية العلم الإجمالي ، لاحتمال مصادفة ما اختاره الحرام الواقعي فترتفع حرمته الواقعية لعدم اجتماعها مع الحلية الواقعية لمكان التضاد.

وحينئذ فلا يكون لديه علم بتكليف فعلي على كل تقدير ، فلا يكون منجزا.

أما إذا كانت الحلية ظاهرية فهي تجتمع مع الحرمة الواقعية ولا تنافي مع فعليتها ـ على مسلك الاقتضاء ـ ، فلا تستلزم انحلال العلم الإجمالي ، بل يكون منجزا بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، نظير الترخيص الظاهري في أحد الطرفين بدليل الأصل ، بناء على القول بالتخيير.

وبالجملة : مع كون الترخيص ظاهريا يكون حاله حال إجراء الأصل في أحد الطرفين غير مصادم للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، لعدم منافاة الحكم الظاهري لفعلية الواقع على القول بالاقتضاء ، ولذا لم يمنع من صحة الترخيص في أحد الأطراف.

هذا ولكن التحقيق : ان الحلية الثابتة فيما نحن فيه وان كان الجهل دخيلا في ثبوتها ـ موضوعا أو موردا ـ ، لكنها ليست على حدّ الحلية الظاهرية ـ في

__________________

(١) راجع مبحث تعارض الأمارات مع الأصول في أواخر الاستصحاب.

١٢٠