منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

واما بناء على ان دليل الاعتبار يتكفل جعل اليقين فمن الممكن ان يتكفل بإطلاقه تنزيله بلحاظ الموضوع والطريق.

واما بناء على ان المجعول في باب الاستصحاب هو اليقين ولكن بلحاظ الجري العملي ـ كما عليه المحقق النائيني وناقشناه في محله ـ لا بلحاظ الكشف والوسطية في الإثبات ، فلا يقوم الاستصحاب مقام القطع الموضوعي أصلا حتى الطريقي منه إذ لم تلحظ فيه جهة الكاشفية ، وانما يقوم مقام القطع الطريقي الصرف ، فالتفت. هذا تمام الكلام في أصل المطلب.

يبقى الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل في تصحيح قيام الأمارة أو الاستصحاب مقام القطع الموضوعي إذا كان جزء الموضوع.

وبيان ما أفاده : ان دليل الأمارة والاستصحاب وان تكفلا جعل المؤدى والمستصحب وتنزيلها منزلة الواقع ، لكن يثبت بطريق الملازمة ان القطع بهما ـ بما هما منزلان منزلة الواقع ـ بمنزلة القطع بالواقع ، فيثبت أحد جزئي الموضوع بنفس مفاد دليل الاعتبار ويثبت الجزء الآخر بالملازمة ، وبه يتم المطلب (١).

وقد حكم في الكفاية بان هذا الوجه لا يخلو من تكلف بل تعسف ، وعلل ذلك : بان الموضوع إذا كان مركبا من جزءين فلا يصح التعبد بأحد الجزءين ما لم يكن الجزء الآخر محرزا بالوجدان أو بالتعبد في عرضه ، إذ لا يعني للتعبد بالموضوع الا ترتيب الأثر الشرعي عليه ، والأثر لا يترتب إلا على كلا الجزءين لا على أحدهما.

والتعبد بأحد جزئي الموضوع فيما نحن فيه وهو القطع بالواقع في طول التعبد بالجزء الآخر وهو الواقع.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٨ ـ ٩ الطبعة الأولى.

٨١

وذلك : لأن الملازمة المدعاة هي الملازمة بين تنزيل القطع بالواقع التنزيلي الحقيقي وبين تنزيل المؤدى منزلة الواقع.

ومن الواضح ان القطع بالواقع التنزيلي في طول تنزيل المؤدى فما لم يتحقق تنزيل المؤدى لا يحصل القطع بالواقع التنزيلي ، كي يتحقق تنزيله منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

وعليه ، فالتعبد بأحد الجزءين في طول التعبد بالجزء الآخر ، وهو لا ينفع ، ففي ظرف التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى منزلته لا أثر شرعيا يترتب عليه فلا يصح التعبد به ، هذا خلاصة ما ذكره صاحب الكفاية ببعض توضيح منا (١).

والكلام في مقامين :

الأول : في أصل الوجه.

الثاني : في ما ذكره من منعه.

اما أصل الوجه الّذي في الحاشية : فالكلام فيه من جهتين :

إحداهما : في بيان المراد من الملازمة المدعاة.

وقد قيل في بيانه وجوه ثلاث :

الأول : ان المراد بها الملازمة العقلية وبنحو دلالة الاقتضاء ، إذ التعبد بأحد الجزءين لا يصح من دون التعبد بالجزء الآخر ، فإذا دل الدليل على التعبد بأحدهما يدل بدلالة الاقتضاء وصونا لكلام الحكيم عن اللغوية على التعبد بالجزء الآخر (٢).

الثاني : ان المراد بها الملازمة العرفية ، بمعنى ان الدليل الدال على التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى منزلته يدل عرفا بالالتزام على تنزيل القطع بالواقع الجعلي

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٦ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الرشتي الشيخ عبد الحسين. في حاشيته على الكفاية ـ ٢ ـ ٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٨٢

منزلة القطع بالواقع الحقيقي (١).

الثالث : ـ وهو ما ذكره المحقق الأصفهاني ـ ان يراد بها مجموع الدلالتين ، فان الدليل إذا دل على التعبد بأحد الجزءين يدل اقتضاء على التعبد بالجزء الآخر. اما ان أي شيء نزل منزلة الجزء الآخر فهذا لا يرتبط بالعقل ، بل العرف يحكم به بحسب ما يراه مناسبا. ففيما نحن فيه إذا دل الدليل على التعبد بالواقع فهو يدل اقتضاء على التعبد بالقطع ، والعرف هو الّذي يحكم بان ما نزل منزلة القطع هو القطع بالواقع الجعلي (٢).

ولا يخفى : ان الوجه على جميع احتمالاته غير تام ـ مع قطع النّظر عن إشكال صاحب الكفاية عليه ـ لأنه ..

ان أريد به استلزام التعبد بالواقع للتعبد بالقطع بدلالة الاقتضاء ، ففيه : ان هذا لو تم في نفسه فانما يتم لو كان دليل التعبد بالواقع دليلا خاصا ، بحيث إذا لم نلتزم بالتعبد بالجزء الآخر كان لغوا ، لا ما إذا كان مطلقا لا يلزم من عدم الالتزام بالتعبد بالجزء الآخر سوى عدم شموله للمورد مع شموله لموارد أخرى ، وما نحن فيه كذلك ، إذ دليل اعتبار الاستصحاب والأمارة مطلق يشمل هذا المورد وغيره في نفسه لكنه لا يشمله فعلا لتوقفه على مئونة زائدة لا تثبت بالإطلاق.

ولعل هذا الوجه هو الّذي دعا إلى تفسير الملازمة في كلام الكفاية بالملازمة العرفية. ومنه ظهر الإشكال في الوجه الثالث.

وان أريد بالملازمة الاستلزام العرفي ، ففيه : انه مجرد دعوى بلا شاهد عليها من الوجدان ، إذ لا يرى العرف والوجدان هذه الملازمة. فتدبر.

__________________

(١) الواعظ محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٤١ ـ الطبعة الأولى.

الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٢٨ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢١ ـ الطبعة الأولى.

٨٣

واما ما ذكره في وجه المنع ، فقد تطابق الأعلام الثلاثة « النائيني والأصفهاني والعراقي » على تفسيره بالدور (١) ، ببيان : ان تنزيل القطع بالواقع التنزيلي يتوقف على القطع بالواقع التنزيلي ، وهو يتوقف على الواقع التنزيلي ، وهو يتوقف على تنزيل القطع به منزلة الواقع ، من باب توقف التعبد بأحد جزئي الموضوع على التعبد بالجزء الآخر.

ولكن لا صراحة ، بل لا ظهور في كلام صاحب الكفاية فيما حمل عليه.

نعم في تعبيره بالتوقف مجرد إشعار ، ولكنه كما يمكن ان يريد به ذلك يمكن ان يريد به التوقف بمعنى التلازم ، كما يقال : أحد الضدين يتوقف على عدم الآخر ، مع انه لا عليه ولا معلولية بينهما.

وعليه ، فمن الممكن ان يقال ان مراد صاحب الكفاية ليس هو محذور الدور ، بل ما ذكرناه سابقا في مقام بيان مراده ، من ان التعبد بأحد الجزءين ـ فيما نحن فيه ـ لما كان في طول الآخر ، كان التعبد بالآخر في ظرفه ممتنعا لعدم ترتب الأثر عليه وحده ، والغرض ان الجزء الآخر لا يتحقق إلاّ بعد التعبد به. فملخص الإشكال ، ان التعبد بالمؤدى لا أثر له شرعا وهو يمتنع من صحة التعبد ، إذ التعبد بالموضوع لا معنى له إلاّ التعبد بالحكم.

فمرجع كلام الكفاية : إلى انه لا بد ان يكون التعبد بأحد الجزءين في حين التعبد بالجزء الآخر ، لا ان التعبد بأحدهما يتوقف على التعبد بالآخر. وإلاّ لزم الدور حتى في مورد التعبد بالجزءين في عرض واحد كما لا يخفى. وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني : بان الحكم الثابت للموضوع المركب ان كان قابلا للتحليل أمكن التعبد بكل جزء على حدة لترتب الأثر عليه نفسه ، وان لم يكن قابلا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٢ ـ الطبعة الأولى.

الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٢٨ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٨٤

للتحليل ـ كما هو الحال فيما نحن فيه ، إذ التركيب في الموضوع لا المتعلق ـ لا معنى للتعبد بأحد الجزءين ، إذ لا يترتب الأثر عليه ، فالمحذور من هذه الجهة لا من جهة الدور. انتهى ملخصا.

وأنت خبير بان هذا الإيراد يبتني على تفسير كلام الكفاية بإرادة الدور ، ولكن عرفت انه يمكن حمل كلامه على غير الدور ، وهو ما ذكرناه الّذي يتفق مع إيراد الأصفهاني ، فاذن لا وقع لكلام الأصفهاني.

وقد تفصى المحقق العراقي عن محذور الدور السابق ، بان ما يترتب على التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى هو الحكم التعليقي وهو الّذي يتوقف عليه التعبد.

اما ما يترتب على مجموع الجزءين فهو الأثر الفعلي فيتغاير الموقوف عليه مع الموقوف عليه.

ولم يرتض المحقق الأصفهاني هذا التفصي ، واستشكل فيه بما لا يخلو عن غموض وإجمال.

وتوضيح الإيراد عليه : انه يقع الكلام في مبحث استصحاب الحكم التعليقي في واقع الحكم التعليقي ، والاحتمالات فيه ثلاثة :

أحدها : انه عبارة عن حكم وضعي ينتزع عن حكم تكليفي ، كسائر الأحكام الوضعيّة على رأي الشيخ الأنصاري ( رحمة الله ).

ثانيها : انه عبارة عن مرتبة من مراتب الحكم نظير اختلاف الحكم في الإنشاء والفعلية.

ثالثها : انه عين الحكم الفعلي ولكنه بإضافته إلى مجموع الجزءين حكم فعلي وبإضافته إلى أحد جزئي الموضوع حكم تعليقي ، فالفعلية والتعليقية وصفان لحكم واحد يتحققان باختلاف الإضافة.

وقد أورد على الأول : بأنه لا يصحح جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، لأنه وان كان امرا بيد الشارع بلحاظ منشأ انتزاعه لكن استصحاب

٨٥

الأمر الانتزاعي لا ينفع في إثبات الحكم الفعلي في الخارج إلاّ بنحو الأصل المثبت.

واما الثاني : فلم يتوهمه أحد كي يرتفع به محذور الدور.

فيتعين الاحتمال الثالث ، ومعه لا يرتفع محذور الدور إذ الحكم واحد لا تعدد فيه ، وثبوته يتوقف على التعبد بكلا الجزءين. فالتفت.

والمتحصل : انما ذكره صاحب الكفاية في الحاشية ، مضافا إلى عدم الدليل عليه يستلزم المحذور المتقدم. فتدبر جيدا.

الجهة السادسة : في القطع بالحكم المأخوذ موضوعا للحكم وصوره أربعة :

الأولى : ان يكون مأخوذا في موضوع نفس الحكم الّذي تعلق به.

الثانية : ان يكون مأخوذا في موضوع حكم مماثل لما تعلق به.

الثالثة : ان يكون مأخوذا في موضوع مضاد لما تعلق به.

الرابعة : ان يكون مأخوذا في موضوع حكم مخالف لما تعلق به ، كما إذا قال المولى : إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق أو يستحب أو نحو ذلك.

ولا إشكال في صحة القسم الأخير ، إذ لا وجه لتوهم عدم صحته أصلا. وانما الإشكال في الأقسام الأخرى.

اما القسم الأول : وهو ما أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم الّذي تعلق به القطع ، فلا إشكال في امتناعه وعدم إمكانه.

إلاّ انه وقع الكلام في بيان سرّ الامتناع وجهته وقد ذكرت في هذا المقام وجوه :

الأول : ما أشار إليه صاحب الكفاية من استلزامه الدور.

وقد قرب استلزامه الدور : بان القطع بالحكم مما يتوقف على الحكم بداهة

٨٦

توقف العارض على معروضه ، فإذا أخذ القطع به موضوعا له كان متوقفا عليه توقف الحكم على موضوعه. ونتيجة ذلك توقف الحكم على نفسه (١).

وأورد عليه المحقق الأصفهانيّ بما حاصله : ان ما يتوقف على القطع غير ما يتوقف عليه القطع ، فان ما يتوقف عليه القطع هو الصورة الذهنية للحكم ، لأن القطع لا يتعلق بالموجودات الخارجية ، لأنه من الأمور النفسيّة الذهنية ، وهي انما تتعلق بالصور الذهنية دون الخارجية ، وإلاّ لزم انقلاب الذهن خارجا أو الخارج ذهنا ، فالقطع عارض على الوجود الذهني للحكم ، وما يتوقف على القطع هو الوجود الخارجي للحكم ، وعليه فيتغاير الموقوف عليه والموقوف عليه (٢).

وبنظير هذا البيان يدفع محذور الدور الّذي ذكره في الكفاية في أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ، وقد ذكره صاحب الكفاية هناك وقرره ولم يدفعه (٣).

ولأجل ذلك لا يمكننا اسناد هذا البيان للدور إلى صاحب الكفاية بعد وضوح اشكاله وتقرير صاحب الكفاية نفسه للإشكال.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني ونقله عنه المحقق الأصفهاني باختصار : من استلزام أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه للدور أيضا ، ولكن بتقريب آخر غير السابق ، وهو : ان موضوع الحكم يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود بمعنى ان الحكم يثبت عند فرض وجود الموضوع ، وكما يؤخذ نفس الموضوع مفروض الوجود كذلك يؤخذ متعلق الموضوع وقيده ، فإذا فرض كون القطع بالحكم موضوعا يلزم ان يكون القطع مأخوذا بنحو فرض الوجود ، فكذلك متعلقه وهو الحكم يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود ، فيلزم فرض ثبوت الحكم عند فرض وجوده وثبوته ، وهذا يستلزم فرض ثبوت الحكم قبل ثبوته أو تعليق الحكم على

__________________

(١) و (٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٨٧

نفسه ، وفرض ثبوت الشيء قبل ثبوته أو تعليق الشيء على نفسه محال واضح (١).

وهذا البيان للدور ذكره في مورد أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ، وذكر انه سار لأخذ كل قيد يكون لاحقا عن الحكم ، كالعلم بالحكم ونحوه.

ورده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله بوجهين :

أحدهما : ان متعلق العلم لما كان هو الوجود الذهني للحكم ، سواء كان هناك خارج أم لا ، كان مفروض الوجود هو الوجود الذهني له ، والثابت على تقديره ومعلقا عليه هو الوجود الخارجي له ، فلا يلزم تعليق الشيء على نفسه أو فرض ثبوت الشيء قبل ثبوته ، للتغاير بين الوجود الخارجي للحكم والذهني.

وثانيهما : ان الوجود الفرضي للشيء غير الوجود التحقيقي له ، ولا مانع من تعليق الوجود التحقيقي للحكم على الوجود الفرضي له ، والمأخوذ في الموضوع هو الوجود التقديري الفرضي للحكم وهو غير وجوده التحقيقي ، فتدبر (٢).

ويمكن الخدشة في كلا الوجهين :

اما الأول : فلأنه انما يتم لو كان المأخوذ في موضوع الحكم مجرد العلم به بلا قيد مصادفته للواقع ـ بان لم يتعلق الغرض بالواقع بالمرة ـ ، فانه يقال حينئذ : بان فرض العلم بالحكم لا يلازم فرض الوجود الواقعي للحكم ، بل غاية ما يلازم فرض الوجود الذهني له ، لأنه هو متعلق العلم ، ولا ملازمة بين العلم والواقع بحال.

واما إذا فرض ان المأخوذ هو العلم المصادف للواقع ، فلا يتم ما ذكره لأن متعلق العلم وان لم يكن هو الواقع ، بل كان الوجود الذهني للحكم ، لكن فرض

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ١٤٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٣ ـ الطبعة الأولى.

٨٨

العلم بهذا القيد ملازم لفرض الوجود الواقعي للحكم ، وعليه فيستلزم فرض ثبوت الحكم قبل ثبوته ، وهو محذور الدور.

نعم ، التقريب المذكور وان تم على ما ذكرناه ، لكنه يكون أخص من المدعى ، إذ المدعى امتناع أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم مطلقا ، أخذ بلا قيد المصادفة أم معه.

ثم ان التقريب المزبور انما يفرض في مورد فرض أخذ القطع بالحكم الفعلي المتحقق ـ بنحو يساوق الماضوية وخصوصية الفعل الماضي المدعاة فيه بعد إنكار دلالته على الزمان الماضي وهي خصوصية التحقق ـ.

وعليه ، فلا يتوجه عليه ما أشير إليه أيضا في كلام المحقق الأصفهاني ، بان العلم لا يلازم وجود متعلقه فعلا ، بل يمكن ان يوجد في المستقبل ، فيوجد العلم فعلا ويوجد متعلقه استقبالا ، وذلك لأنه انما يتم لو كان متعلق العلم امرا استقباليا لا امرا فعليا متحققا كما هو المفروض. فلاحظ.

واما الثاني : فهو غريب الصدور من مثل المحقق الأصفهاني ، إذ المحقق النائيني وان عبر بفرض الوجود ، لكنه لا يقصد كون موضوع الحكم هو الوجود الفرضي للشيء المأخوذ في لسان الدليل ، بل يقصد ان مفاد القضية الشرعية المتكفلة للحكم الشرعي مفاد الفرض والتقدير ، فهي تفيد فرض الحكم عند فرض وجود الموضوع ، ومرجع ذلك إلى تعليق نفس وجود الحكم على وجود الموضوع حقيقة ، ولذا لا يلتزم بترتب الحكم فعلا الا عند وجود الموضوع حقيقة وخارجا. اذن فالمعلق عليه في الفرض هو الوجود التحقيقي للحكم لا الفرضي ، فيلزم المحذور المزبور.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية تحت عنوان « والتحقيق ... » وتوضيحه بتلخيص : ان الحكم معلقا على القطع بالحكم تارة يكون بنحو القضية الخارجية. وأخرى بنحو القضية الحقيقية.

٨٩

فعلى الأول : بان يحكم المولى على من حصل لديه العلم بالحكم ، لا خلف ولكن لازمه اللغوية ، إذ الحكم انما هو لجعل الداعي ، ومع علم المكلف بالحكم لا يكون جعل الحكم في حقه ذا أثر من هذه الجهة.

وعلى الثاني : يلزم الخلف ، إذ مع جعل المولى هذه القضية ، أعني ثبوت الحكم عند تحقق العلم به ووصولها إلى المكلف ، يستحيل ان يتحقق العلم بالحكم ، وما يبتني على امر محال محال (١).

الرابع : وهو ان تعليق الحكم في الذهن على العلم به يستلزم عدم محركيته وداعويته ، وذلك لأن المكلف إذا فرض انه جزم بثبوت الحكم خارجا واعتقد بتحققه فهو يرى ان الحكم موجود في الخارج ، والموجود لا يقبل الوجود والتحقق ثانيا.

وعليه ، فهو يرى ان ثبوت الحكم عند علمه به محال ، ومعه لا يكون الحكم محركا وداعيا ، إذ الداعوية تتقوم بالوصول ، والمفروض ان المكلف يرى محالية ثبوته ، فيستحيل جعله حينئذ. وهذا وجه بسيط لا التواء فيه.

ونتيجة ذلك : ان تعليق الحكم على العلم به أمر ممتنع عقلا ولا يمكن الالتزام به.

واما القسم الثاني والثالث : أعني كون القطع بالحكم مأخوذا موضوعا لحكم مماثل لمتعلقه أو مضاد له. فقد ذهب صاحب الكفاية إلى محاليتها استلزام الأول اجتماع المثلين والثاني اجتماع الضدين (٢).

والتحقيق : انه قد تقدم الكلام في تضاد الأحكام وتماثلها ـ في مبحث اجتماع الأمر والنهي ـ وقد عرفت التزام المحقق الأصفهاني بعدم تضادها الا من

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق ـ الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٩٠

ناحية المنتهى ، أعني مقام الامتثال ، إذ يمتنع امتثال الحكم الزاجر والحكم الباعث في عرض واحد ، لامتناع تحقق الانزجار والانبعاث في آن واحد ، وهكذا يمتنع تحقق داعيين مستقلين نحو فعل واحد في آن واحد ، ونتيجة ما ذكره : انه لا يتحقق التعارض فيما لو كان أحد الحكمين مجهولا لعدم محركية نحو متعلقه ، فلا يتحقق التكاذب بين دليليهما ، على خلاف الحال فيما لو قيل بتحقق التضاد في المبدأ إذ لا يرتبط ذلك بالعلم والجهل ، بل وجود المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة واقعي (١).

كما عرفت ـ هناك ـ مخالفتنا مع المحقق الأصفهاني والتزامنا بالتضاد في المبدأ أيضا ، إذ لا يمكن اجتماع مصلحة ومفسدة ملزمتين ، ونتيجته عدم اجتماع الكراهة والإرادة لأنهما ينشئان بلحاظ وجود المفسدة الراجحة والمصلحة الراجحة ، بل اما ان تتساوى المصلحة والمفسدة فلا إرادة ولا كراهة ، واما ان ترجح المصلحة فتتحقق الإرادة أو المفسدة فتتحقق الكراهة. وهكذا يلتزم بعدم إمكان تحقق إرادتين مستقلتين بفعل واحد ، لا من جهة عدم إمكان تحقق مصلحتين ملزمتين ، فانه ممكن لا محذور فيه ، وانما هو من جهة ان تعدد المصلحة لا يصير منشئا لتعدد الإرادة ، بل يصير منشئا لحصول إرادة واحدة أكيدة.

فعدم اجتماع المثلين يختلف عن عدم اجتماع الضدين من الحكمين ، فالمقصود من عدم اجتماع المثلين عدم اجتماعهما بحدهما مع وجودهما بواقعهما ، بخلاف المقصود من عدم اجتماع الضدين فان المراد به عدم اجتماعهما بواقعهما ـ نعم لا تضاد ولا تماثل بين الإنشاءين ، فان الإنشاء خفيف المئونة ـ.

وعلى ما ذكرناه واخترناه نقول : انه لا يمكن اجتماع حكمين متماثلين ـ كوجوبين ـ مستقلين في الداعوية والحد ، بل يمكن اجتماع حكمين بنحو التأكد ،

__________________

(١) راجع ٣ ـ ٨١ ـ ٨٢ من هذا الكتاب.

٩١

بمعنى ان يكون هناك حكم واحد مؤكد لإمكان اجتماع مصلحتين توجبان تأكد الإرادة وهي توجب تأكد البعث ، بمعنى أنها توجب إنشاء البعث المؤكد ، فان الحكم هو التسبيب للبعث الاعتباري العقلائي ، وبما ان البعث يتصف خارجا بالشدة والضعف أمكن اعتبار البعث الأكيد كما أمكن اعتبار البعث الضعيف.

ومما يشهد لصحة ما ذكرناه صحة تعلق النذر بواجب وانعقاده ، ولازمه تأكد الحكم ، ولم يتوهم أحد ان وجوب الوفاء بالنذر في المقام يستلزم اجتماع المثلين المحال ، كما يشهد له شمول الحكمين الاستغراقيين لما ينطبق عليه موضوعاهما نظير العالم الهاشمي الّذي ينطبق عليه : « أكرم العالم » و « أكرم الهاشمي » ، ولم يتوهم خروج المورد عن كلا الحكمين لاستلزامه اجتماع المثلين. ومما يقرب ما نقوله أيضا في اجتماع المثلين ، انه لم يرد في العبارات بيان امتناع وجوب الإطاعة شرعا من باب انه يستلزم اجتماع المثلين ، مع ان البعض يرى ان الإطاعة عبارة عن نفس العمل ، أو انها وان كانت من العناوين الانتزاعية ، لكن الأمر بالأمر الانتزاعي يرجع إلى الأمر بمنشإ انتزاعه ـ كما عليه المحقق النائيني ـ ، بل ادعى كون محذوره التسلسل ونحوه مما يظهر منه ان اجتماع المثلين بالنحو الّذي ذكرناه أمر صحيح ارتكازا.

وبالجملة : التماثل بمعنى التأكد ووجود واقع الحكمين لا مانع منه. واما اجتماع حكمين مستقلين متماثلين ، فلا نقول به لامتناعه مبدأ ومنتهى.

وعليه ، فلا مانع من تعليق حكم مماثل على القطع بالحكم إذا كان بنحو التأكد.

واما ثبوت حكمين متضادين فهو غير معقول ـ كما عرفت ـ ، إذ مع اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين اما لا إلزام إذا تساويتا أو تترجح إحداهما فيكون الحكم على طبقها.

وعليه ، فأخذ القطع بالحكم موضوعا لحكم مضاد لمتعلقه ممتنع.

٩٢

واما ما ذكره المحقق الأصفهاني تابعا للمحقق الطهراني في ان البعث امر انتزاعي ينتزع من الإنشاء (١) ، فهذا مما لا أساس له ، وسيأتي التعرض لتحقيق ذلك في غير مجال إن شاء الله تعالى.

ثم انه ذكر صاحب الكفاية وانه لا مانع من أخذ القطع بمرتبة من مراتب الحكم موضوعا لنفس الحكم في مرتبة أخرى أو لمثله أو ضده. وقبل تحقيق هذه الجهة لا بأس بالتعرض إلى بيان مراتب الحكم وما قيل حول كلام الكفاية ، إذ قد تكرر التعرض لها في الكفاية تصريحا وإشارة ولم يسبق منا تحقيق الكلام فيها ، فنقول ومن الله نستمد العصمة والتوفيق : ذكر صاحب الكفاية ان الحكم مراتب أربعة :

أولها : مرتبة الاقتضاء وهي ان يكون له شأنية الثبوت بلحاظ وجود المصلحة المقتضية له.

ثانيها : مرتبة الإنشاء ، وهي ان ينشأ الحكم ويوجد بوجود إنشائي بلا ان يصل إلى مرحلة البعث أو الزجر.

ثالثها : مرتبة الفعلية ، وهي ان يصل الحكم إلى مرحلة البعث أو الزجر أو الترخيص الفعلي.

رابعها : مرتبة التنجز ، وهي ان يكون الحكم مما يعاقب العبد على مخالفته (٢).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية في عدّ مرحلة الاقتضاء ومرحلة التنجز من مراحل الحكم ، ومنع صحة صدق الحكم الاقتضائي ،

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٧٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٣٦ ـ الطبعة الأولى.

الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٩٣

وأطال في بيان ذلك (١).

والواقع : ان المناقشة لفظية اصطلاحية ، إذ الواقع الّذي يقول به صاحب الكفاية ويعرف به كلتا المرتبتين لا ينكره أحد ، فلا ينكر أحد انه قد يوجد ملاك الحكم ومصلحته الباعثة لجعله ولكن يكون مانع يمنع عن إنشائه كغفلة المولى أو نحو ذلك ، كما لا ينكر أحد ان الحكم قد يصل إلى حد يحكم العقل بقبح مخالفته واستحقاق العقاب عليها.

وانما الإشكال في صحة إطلاق الحكم الاقتضائي على الحكم بلحاظ المرحلة الأولى ، وان الأولى إطلاق الحكم الشأني عليه ونحو ذلك.

واما مرتبتا الإنشاء والفعلية ، فهما ليستا من مختصات صاحب الكفاية ، بل ذهب إليهما المحقق النائيني بفصله مرتبة الجعل عن مرتبة المجعول ، وان مرتبة الجعل هي إنشاء الحكم فقط واما المجعول فهو الحكم الفعلي (٢).

لكن المحقق الأصفهاني استشكل في وجود مرتبة الفعلية غير مرتبة الإنشاء والتنجز ، فذكر ان المقصود بالفعلي ان كان هو الفعلي من قبل المولى ، فهو ليس إلاّ الإنشاء. وان كان هو الفعلي بقول مطلق ومن جميع الجهات فهو يساوق الوصول ، فيكون هو الحكم المنجز.

واوضح كون الفعلي من قبل المولى عين الإنشاء ، ببيان : إن الإنشاء ان كان بلا داع فهو محال عقلا على الحكيم لكونه لغوا. وان كان بداعي غير جعل الداعي كالتهديد أو التمني أو غيرها فلا يكون مصداقا للحكم بحال من الأحوال ، ولا يكون من مراحل الحكم ، بل يكون مصداقا للتهديد أو غيره. وان كان بداعي جعل الداعي فهو الفعلي من قبل المولى (٣).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٢٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٤ ـ ٢٥ ـ الطبعة الأولى.

٩٤

أقول : من الواضح الّذي لا يقبل الإنكار ان الحكم وجودا بعد الإنشاء ، فيقال : بان وجوب الصلاة ثابت وحرمة شرب الخمر ثابتة ، ولا يمكن ان يقصد من الحكم المتصف بالثبوت الفعلي هو الإنشاء ، إذ الإنشاء ليس إلاّ استعمال اللفظ في المعنى بقصد خاص ، وهو امر متصرم الوجود لا بقاء له ، ولا يمكن ان يكون الحكم الثابت امرا انتزاعيا انتزع عن نفس الإنشاء لأن الأمر الانتزاعي يدور مدار منشأ انتزاعه ، وقد عرفت ان الإنشاء متصرم الوجود ، فلا بد ان يكون امرا اعتباريا عقلائيا ـ لا شخصيا لعدم التزامه به ـ مسببا عن الإنشاء ، وإذا فرض ان الحكم امر اعتباري مسبب عن الإنشاء فقد ينشأ الحكم ويقصد تحقق اعتباره فعلا فلا ينفك عن الإنشاء ، كما يمكن ان يقصد تحققه بالإنشاء على تقدير وجود أمر غير حاصل ، فينفك الحكم الفعلي عن الإنشاء. إذن فالحكم الفعلي غير الإنشاء ويمكن انفكاكه عنه.

ونظيره تشريع القوانين في المجالس النيابية ، ولكن لا تنفذ وتكون فعلية المجرى إلا بعد مدة طويلة حتى مع علم الناس بتشريعها.

وبالجملة : انفكاك الإنشاء عن فعلية الحكم امر واضح في العرفيات والشرعيات.

واما ما ذكره من البيان لتقريب ان الإنشاء عين الفعلية.

فيمكن دفعه : بأنه يمكن ان يكون الإنشاء بداعي جعل الداعي لكن لا فعلا ، بل على تقدير حصول شرط خاص ، وهذا يكفي في رفع اللغوية ، كما يصحح وقوع الإنشاء في مراحل الحكم وصيرورته مصداقا للحكم ، بل قد يحتاج إليه المولى كما لو علم انه يكون نائما عند حصول الشرط.

وملخص الجواب : ان الإنشاء بهذا الداعي قابل التحقق ، وهو لا يساوق فعلية الحكم وثبوته في مقام الاعتبار ، كما يكون مصداقا للحكم عند حصول شرطه ، وليس نظير الإنشاء بداعي التهديد ، فإذا تحقق الشرط تحققت الإرادة

٩٥

الجدية وتحقق البعث الاعتباري الفعلي ، وانما يتنجز بالوصول. اذن فالمراتب ثلاثة.

ونتيجة الكلام : هو ان الإنشاء غير الفعلية.

لكن يبقى شيء وهو : دعوى ان الحكم الإنشائي خارجا لا ينفك عن الحكم الفعلي.

وذلك : لأن المنشأ ان كان هو الحكم بلا تقدير شيء ثبت الحكم الفعلي بمجرد الإنشاء ، وان كان هو الحكم على تقدير شيء لم يحصل بعد ، فكما لا يثبت الحكم الفعلي لعدم حصول شرطه كذلك لا يثبت الحكم الإنشائي للمكلف الفاقد للشرط ، إذ المنشأ كان هو الحكم على تقدير فلا معنى لأن يقال لفاقد الشرط انه قد أنشئ الحكم في حقه.

فملخص الدعوى : هو منع انفكاك الحكم الإنشائي عن الفعلي في مقام الارتباط بالموضوع الخارجي ، وان صحت دعوى انفكاك الإنشاء عن الفعلية في أنفسها.

ولا يخفى : ان تحقيق هذه الجهة ينفعنا في مقامات كثيرة.

منها : مسألة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي حيث التزم البعض (١) بان الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل هو إنشائي لا فعلي.

وهذا يبتنى على إمكان التفكيك بين المرحلتين خارجا ، وبالإضافة إلى الموضوع الخارجي كما لا يخفى.

وعليه نقول : ان هذا الإشكال انما يرد ، وهذه الدعوى انما تتوجه ، بناء على الالتزام في معنى الإنشاء بما هو المشهور من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في وعائه الاعتباري المناسب له ، فانه إذا التزم بذلك يتوجه عليه :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٩٦

أولا : بأنه ليس لدينا ما نعبر عنه بالحكم الإنشائي ، إذ ليس لدينا إلاّ الإنشاء والاعتبار العقلائي ، وكل منهما ليس هو الحكم الإنشائي ، إذ الإنشاء متصرم الوجود كما عرفت والاعتبار العقلائي هو الحكم الفعلي ، فأين هو الحكم الإنشائي الّذي يدعى ثبوته للمكلفين مع عدم الفعلي.

ثانيا : ـ لو أغمضنا النّظر عن هذا الإيراد ـ بان الحكم الإنشائي المفروض ثبوته لا يمكن انفكاكه خارجا عن الحكم الفعلي ، لما تقدم من انه اما ان ينشأ الحكم بلا تقدير أو مع تقدير ، فعلى الأول : يتحقق الحكم الفعلي كما يتحقق الإنشائي بمجرد الإنشاء. وعلى الثاني : كما لا يتحقق الفعلي عند الإنشاء كذلك لا يتحقق الإنشائي وانما يتحققان معا عند تحقق التقدير.

واما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية في معنى الإنشاء من انه إيجاد المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي ولآثار (١) ، فلا تتوجه عليه الدعوى المتقدمة.

وذلك : لأن إنشاء الحكم عبارة عن إيجاده بنحو وجود إنشائي ويترتب عليه الاعتبار العقلائي.

وعليه ، فلا يرد الوجه الأول ، إذ لدينا ما نعبر عنه بالحكم الإنشائي غير الإنشاء والاعتبار العقلائي وهو الحكم الإنشائي للحكم ، ولا يرد الوجه الثاني ، إذ التفكيك بين الوجود الإنشائي للحكم والوجود الفعلي الحقيقي ممكن ، إذ يمكن ان يكون القيد المأخوذ قيدا للاعتبار والحكم الفعلي دون الوجود الإنشائي ، فيتحقق الوجود الإنشائي قبل القيد ولا يتحقق الفعلي.

نعم ، يبقى سؤال وهو : انه ما الأثر في الوجود الإنشائي مع عدم الفعلية؟.

وجوابه : ما تقدم من انه يكفي أثر له ، انه يكون موضوعا للاعتبار

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٩٧

العقلائي عند تحقق شرطه بلا احتياج إلى إنشاء جديد ، بل يثبت ولو كان الآمر غافلا بالمرة ، فيكون المقصود بإيجاد الحكم إنشاء هو جعل الداعي على تقدير حصول الشرط ، وهذا أثر مصحح للعمل ، وموجب لأن يكون الوجود الإنشائي من مراحل الحكم ، لا كما إذا كان المقصود منه التهديد ونحوه.

وبما انه ابتني الإشكال إثباتا ونفيا على مذهب المشهور ومذهب صاحب الكفاية في معنى الإنشاء فلا بد من نقل الكلام إلى ترجيح أحد المذهبين.

والّذي نراه ان مذهب صاحب الكفاية هو المتجه ، فانه وان ذكره صاحب الكفاية بنحو الدعوى بلا ان يقيم الدليل عليه ، لكنه لا يحتاج إلى كثير استدلال ، فانه امر وجداني ، ولذا نرى من ينكر على صاحب الكفاية مذهبه ، يلتزم به ارتكازا كالمحقق النائيني (١) الّذي التزم ـ في مقام تصحيح عقد الفضولي بالرضا المالكي المتأخر ـ بان الإمضاء والرضا يتعلق بوجود مستمر للمعاملة لا بنفس الإنشاء لعدم صحة تعلق الرضا بالإنشاء ، وبذلك يربط المعاملة بالمالك فيشملها دليل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ـ مثلا ـ ، وان قامت القرينة القطعية على إرادة البيع الصادر من المالك.

والتزم أيضا بان الفسخ يتعلق بالوجود الإنشائي للحكم لا بالمجعول مع انه يقول ليس لدينا إلاّ جعل ومجعول ، وقد تصرم الجعل لأنه الإنشاء.

كما ان بالالتزام بمذهب صاحب الكفاية ينحل الإشكال في مثل معاملة الغاصب والفضولي ، فان الإنشاء إذا كان بقصد تحقق المعنى في عالم الاعتبار العقلائي ـ كما عليه المشهور ـ لم يتأت القصد من الغاصب والفضولي لعلمهما بعدم ترتب الاعتبار على مجرد إنشائهما.

وعليه فلا يتأتى الإنشاء من الغاصب ، مع ان تحقق البيع منه ونسبته إليه

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٩٨

امر لا يقبل الإنكار.

وهو يتجه على مذهب صاحب الكفاية ، إذ إيجاد البيع إنشاء يتأتى منهما ، فيصح ان يقصد بالإنشاء وجوده إنشاء ، وان لم يترتب الاعتبار عليه ما لم ينضم إليه رضا المالك.

وبالجملة : ان الأعلام وان لم يصرحوا بالتزامهم بمذهب صاحب الكفاية لكنهم صرحوا في بعض الموارد بما يستلزمه والتزموا بآثاره. فتدبر.

يبقى الكلام : فيما ذهب إليه المحقق النائيني من وجود مقامين للحكم : أحدهما : مقام الجعل. والآخر : مقام المجعول. وان مقام الجعل قد ينفك عن المجعول ، فيتحقق إنشاء الحكم ، ولكن لا يكون فعليا الا بعد حصول شرطه ـ لو كان له شرط ـ. فانه قد تكرر منه التصريح بهذا المطلب (١).

وأورد عليه المحقق الأصفهاني : بان الجعل والمجعول كالإيجاد والوجود متحدان واقعا وحقيقة ومختلفان اعتبارا ، فكيف يمكن تصور انفكاك أحدهما عن الآخر (٢)؟.

وتفصى المحقق العراقي عن ذلك : بان المجعول لا ينفك عن الجعل ، بل يكون فعليا بالجعل ، لكن لا يلزم ان تترتب عليه الآثار العقلائي بمجرد الجعل ، بل يمكن ان يكون ترتبها معلقا على شيء فالتعليق والتقدير لا يرجع إلى فعلية المجعول وانما يرجع إلى فاعليته ، بمعنى ترتب الآثار عليه ، ولا مانع من التفكيك بين فعلية شيء وفاعليته.

أقول : لا بد من إيقاع البحث من جهتين :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٤١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٩٧ هامش رقم (١) طبعة مطبعة الطباطبائي.

٩٩

الأولى : ما تقدم من الإشكال على المذهب المشهور في الإنشاء القائل بان الإنشاء عبارة عن الاستعمال بقصد تحقق معناه في الوعاء المناسب له ، من انه يلزم ان لا يكون لدينا حكم إنشائي إذ الإنشاء متصرم الوجود ، كما لا يمكن تحقق الحكم الإنشائي خارجا قبل الحكم الفعلي ، فانه بعينه يرد على مذهب المحقق النائيني ، إذ لا يرى وجودا سوى الجعل وهو الإنشاء والمجعول وهو الحكم الفعلي ، فأين هو الحكم الإنشائي؟ وكيف ينفك خارجا عن الحكم الفعلي؟.

وقد عرفت انحصار التخلص عن هذا الإشكال بالالتزام بمذهب صاحب الكفاية في الإنشاء. فراجع.

الثانية : في أصل مطلبه من انفكاك الجعل عن المجعول وانه صحيح أو لا.

والحق : ان إيراد المحقق الأصفهاني غير وارد ، وذلك لأن الجعل في نظر المحقق النائيني هو إنشاء الحكم والمجعول هو نفس الحكم الّذي حقيقته حقيقة اعتبارية تدور مدار اعتبار المعتبر وجودا وعدما.

وإذا فرض ان الحكم امر اعتباري ـ إذ لو كان عبارة عن الإرادة والكراهة لم يكن لدينا جعل ومجعول ـ ، فليست نسبة الإنشاء إليه نسبة الإيجاد والوجود والتصور والمتصور ، إذ تحقق الحكم بالاعتبار وهو فعل العقلاء أنفسهم ، وهل يتوهم انه متحد مع إنشاء المولى؟ ، وقد نظره بالرمي الّذي يكون سببا لإصابة الهدف فان إصابة الهدف تنفك عن الرمي ، وبالوصية التمليكية فان الملكية بعد الموت والوصية قبله.

نعم ، الاعتبار والمعتبر كالتصور والمتصور والإيجاد والوجود لا ينفكان ، ولكنه قدس‌سره لم يرد من الجعل الاعتبار ، بل أراد به الإنشاء.

وبالجملة : لا وجه للإيراد عليه بان الجعل والمجعول متحدان حقيقة بعد ان كان المراد من الجعل هو الإنشاء ومن المجعول هو الحكم الاعتباري ، وقد عرفت فيما مر بيان إمكان انفكاك الإنشاء عن الحكم الاعتباري.

١٠٠