منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

الكافر شرّ من عمله » (١) ، وما ورد من : « انه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنه أراد قتل صاحبه » (٢) ، وما ورد في ثبوت العقاب على بعض المقدمات بقصد الحرام كغرس العنب لأجل الخمر (٣) ، ومثل ما ورد من : « ان الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم وان على الداخل إثم الرضا وإثم الدخول » (٤) ، وقوله تعالى : ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) (٥) ، وغير ذلك ، ما يصل إلى حد التواتر.

وفي قبال هذه الأدلة روايات كثيرة دالة على العفو عن القصد وعدم ترتب العقاب.

ولأجل ذلك تصدى الشيخ للجمع بين الطائفتين دفعا للتعارض. فذكر للجمع وجهين :

الأول : ان يراد بما دل على العفو مجرد القصد من دون الاشتغال بأي مقدمة ويراد بما دل على العقاب القصد المستتبع للحركة.

الثاني : ان يراد بما دل على العفو القصد مع الارتداع بعده ويراد بما دل على العقاب القصد المستمر.

وقد مر إيراد المحقق النائيني قدس‌سره عليه بأنه جمع تبرعي لا شاهد عليه.

وعليه فتصل النوبة إلى التعارض والتساقط.

ولكن لا مجال لدعوى التساقط بعد ان كانت اخبار العقاب تصل إلى

__________________

(١) الكافي ج ٢ ـ ٨٤ ج ٢.

(٢) تهذيب الأحكام : ٦ ـ ١٧٤ ـ باب ٧٩ في النوادر ـ حديث ٢٥.

(٣) وسائل الشيعة ١١ ـ ٤١١ و ١٢ ـ ١٦٥ ـ باب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ـ حديث ٤ و ٥.

(٤) نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده ـ ٤ ـ ٦٩٦ ـ قصار الحكم ـ الحكمة : ١٥٤.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٤.

٦١

حد التواتر وكان بعض أدلته من الكتاب للقطع بالصدور ، فلا بد من طرح معارضة لأنه يباين الكتاب والسنة الواقعية.

هذا ولكن الإنصاف ان كثيرا ما سيق شاهدا على ثبوت استحقاق العقاب غير صالح للشهادة. وتوضيح ذلك :

اما ما ورد من ان الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، فهو وارد في الرضا وإقرار ما جاء به الغير من المعصية وليس مورده قصد إتيان المعصية ، الّذي هو محل الكلام ، فهو يرتبط بباب وجوب إنكار المنكر بالقلب إذا لم يتمكن من إنكاره باليد أو اللسان ، فلا يرتبط بما نحن فيه.

واما قوله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) فليس المراد ثبوت العقاب على نية السوء ، بل المراد الظاهر منها هو ان ما فرض كونه محرما من الأمور القلبية الحال فيه سواء بين الإبداء والإخفاء لاطلاع الله تعالى عليه ، فموضوعه ما فرض كونه محرما من افعال النّفس كالشرك والنفاق ، وان الحال فيه إذا اختلف على الناس بين الإبداء والإخفاء فهو لا يختلف على الله سبحانه. فلا تكون الآية مرتبطة بتحريم مطلق نية السوء. والشاهد على ما ذكرنا هو عدم إرادة العموم منها جزما لو أريد منها المعنى الأول لعدم العقاب على ما في النّفس من الأمور غير الاختيارية كما لا عقاب على نية المباح والواجب والمكروه والمستحب والآية تأبى عن التخصيص مع انه تخصيص مستهجن لأنه بالأكثر.

واما ما ورد من العقاب على إرادة القتل ، فهو لا يدل على العقاب على مطلق قصد المعصية ، إذ من المحرمات ما يحرم جميع مقدماته شرعا أو بعضها نظير حرمة غرس العنب لأجل التخمير ، وحرمة مقدمات الرّبا ، والرواية تدل على ان إرادة القتل كذلك ، فهذه تكون محرمات نفسية كالفعل ، وليس العقاب عليها من باب انه تجرّ وقصد للحرام.

٦٢

ومن الغريب ان الشيخ قدس‌سره ساق ما دل على ثبوت العقاب على غرس العنب للخمر من أدلة ثبوت العقاب على قصد المعصية مع انه يلتزم بان غرس العنب محرم شرعا نفسيا.

وبالتأمل فيما ذكرناه في هذه الموارد يظهر الإشكال في دلالة غيرها فلا حاجة إلى الإطالة.

وجملة القول : ان ما دل على ثبوت العقاب على القصد لو وجد فهو ليس بمقطوع الصدور فلا يعدو كونه خبرا واحدا ، فتقع المعارضة بينه وبين ما دل على العفو ، والنتيجة هي التساقط فتدبر.

وبالنتيجة : انه لا دليل من العقل ولا من الشرع على استحقاق المتجري للعقاب.

يبقى الكلام في جهات :

الأولى : ان موضوع البحث في التجري لا يختص بصورة العلم ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ ، وانما يعم صورة قيام الأمارة على التكليف ، بل بعض صور احتمال التكليف كأحد الطرفين في العلم الإجمالي ـ ان لم نلحق المورد بالعلم ـ ، وكالشبهة البدوية قبل الفحص والجامع هو عدم المؤمن من الواقع ، بحيث لو صادف الواقع كان للمولى عقابه.

واما وجود الفرق بين القول بجعل الأمارة من باب السببية والقول بجعلها من باب الطريقية فلا نوقع البحث فيه لعدم الأثر المترتب عليه.

الثانية : انه بناء على ثبوت العقاب على التجري ففي مورد المعصية ومصادفة الواقع هل يتعدد العقاب أو يتحد؟ ، والمنسوب إلى صاحب الفصول هو القول بالتداخل (١).

__________________

(١) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ٨٧ ـ الطبعة الأولى.

٦٣

والاحتمالات أربعة :

الأول : ما ذهب إليه صاحب الكفاية من وحدة العقاب لوحدة سببه وهو كون العبد في مقام الطغيان (١).

الثاني : ما يظهر من المحقق الأصفهاني من وحدة العقاب لوحدة سببه ، وهو الهتك المعنون به الفعل ، سواء في التجري أو المعصية الحقيقة (٢).

فالفرق بين القولين : ان منشأ العقاب على الأول وهو الهتك عنوان للفعل النفسيّ وهو واحد في كلا المقامين ـ أعني التجري والمعصية الحقيقية ـ وعلى الثاني عنوان للفعل الخارجي وهو أيضا واحد ، فمنشأ العقاب واحد.

الثالث : وحدة العقاب مع تعدد السبب من باب التداخل وهو المنسوب إلى صاحب الفصول.

الرابع : تعدد العقاب لتعدد سببه.

ثم ان إيقاعنا البحث في هذه الجهة تنزلي لما تقدم منا من إنكار استحقاق المتجري للعقاب ، وقد تقدم تقريبه.

ولا بأس بتوضيح الحال فيه فنقول : الّذي يمكن ان يتمسك به القائل باستحقاق العقاب ـ وهو الجامع تقريبا بين من أعطى المطلب صورة علمية ومن إعطاء صورة وجدانية ـ هو انه لا إشكال ولا ريب في ان العقلاء يرون صحة مؤاخذة المولى لعبده إذا صار في مقام الجريان على خلاف مقتضى العبودية ولو لم تصدر منه المخالفة الحقيقية ، فإذا رفع العبد يده لضرب المولى ولم يتمكن من ضربه كان للمولى عقابه وذمه ، لأنهم يرون ذلك هتكا وظلما للمولى وطغيانا عليه.

وهذا الوجه لا يخلو من مغالطة ، بيان ذلك : ان الظلم انما يتحقق بالخروج عن الحقوق المفروضة لشخص على غيره ، وفي قباله العدل فانه الاستقامة في

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٤ ـ الطبعة الأولى.

٦٤

هذا المقام وعدم الانحراف عن أداء الحق المفروض عليه.

وعليه ، فتصدي العبد للمعصية مع عدم الوقوع فيها.

تارة : ينشأ عن استخفافه بالمولى وأمره وبقصد توهينه والاستهزاء به وعدم المبالاة بما يترتب عليه المعصية من عقاب.

وأخرى : لا ينشأ من ذلك ، بل مقام المولى محفوظ في نفسه وخوفه من عقابه موجود ولكنه يرجو مغفرة المولى لعلمه بأنه رحيم أو يرجو شفاعة من هو مقرب عند المولى في حقه.

ففي الأول : يصدق الظلم والهتك ، ولكنه لا من باب التجري ، بل من باب ان الاستخفاف والاستهزاء ونحو ذلك مبغوض للمولى ، فالإتيان به يكون معصية حقيقية فيكون ظلما لأنه خروج عن زي العبودية ومقتضى الرقية ، إذ مقتضاها إطاعة المولى في أوامره ونواهيه. فهذا النحو خارج عن محل الكلام.

واما في الثاني : فلا تصدق العناوين المتقدمة إذ تصديه لا يعد ظلما لأنه لم يثبت تحريمه ومطالبة المولى بعدمه كي يكون خروجا عن مقتضى العبودية ، كما انه لا يعد هتكا بعد ان كان تصديه برجاء المغفرة أو الشفاعة ، مع ان الهتك يتقوم بالإعلان بالعمل ، والمبحوث عنه أعم من صورتي الإعلان والإسرار. نعم لو صادق المعصية استحق العقاب لأنه خالف مولاه فيكون ظلما له.

وبالجملة : الرقية والعبودية انما تقتضي إطاعة المولى فيما يريده وعدم الخروج عن مرادات المولى ، والتصدي إلى الخروج مع عدم الخروج لا يعد خروجا فلا يكون ظلما.

ولو سلمنا ذلك ، يقع الكلام في تعدد العقاب لو صادف المتجري المعصية الحقيقية.

والّذي نراه قريبا : هو التداخل في موضوع العقاب وسببه ـ لا في المسبب كي يشكل بان التداخل في المسببات انما يثبت في المورد غير القابل للتعدد

٦٥

كالقتل لا في المورد القابل للتعدد نظير العقاب ـ بيان ذلك : انه لا إشكال في كون التجري من أوصاف وعناوين التصدي والعزم كما يراه صاحب الكفاية وتقدم تقريبه. كما انه لا إشكال في كون العقاب والثواب في مورد المعصية والطاعة على نفس ما به المخالفة وما به الموافقة ، فيعاقبه ويؤنبه على عدم سفره لو أمره بالسفر ولم يسافر ، كما يشكره على سفره لو سافر كما انه لا إشكال في عدم تعدد العقاب والثواب في مورد المعصية والإطاعة ، إذ المرجع هو الارتكاز العقلائي في هذا الباب وهو قاض بما ذكرناه ، إذ لا نرى ان السيد يعاقب العبد عقابين إذا خالف أمره أو نهيه ، ويثيبه ثوابين إذا وافق أحدهما ، ثواب على قصد الطاعة وثواب على نفس الطاعة ، فنستكشف من مجموع ذلك ان التجري انما يكون سببا وموضوعا للعقاب على تقدير عدم المصادفة وإلاّ فهو يندك في المعصية الحقيقية ويكون التأثير لها لا له.

ولعل هذا هو مراد الفصول. ومنه ظهر ما في الاحتمالين الأولين من النّظر كما لا يخفى. فتدبر.

الثالثة : في الثمرة العملية لهذا البحث ، وهي ما ذكره المحقق العراقي (١) رحمه‌الله بتوضيح منا : من انه بناء على قبح التجري ومبعديته وانطباقه على نفس العمل المتجري به ، لو قامت أمارة على حرمة شيء ذاتا كما لو قامت على حرمة صوم هذا اليوم كيوم العيد ، فلا يمكن الإتيان بهذا العمل برجاء المطلوبية واقعا ، لأنه قبيح ومبعد ، إذ الإتيان به تجرّ فلا يصلح للمقربية ولا يقع عبادة.

واما بناء على ما ذهب إليه الشيخ من انه لا قبح في العمل المتجري به وانما الذم على الصفة الكامنة في النّفس التي يكشف عنها التجري ، وهي خبث

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٤٢ ( القسم الأول ) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٦٦

السريرة وسوء الباطن ، فلا مانع من الإتيان بالصوم برجاء المطلوبية ، لصلاحيته للمقربية في نفسه لعدم كونه قبيحا على تقدير عدم المصادفة ، وليس في البين إلاّ خبث السريرة وهو لا ينافي التقرب بالعمل.

واما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية من ان التجري من عناوين فعل النّفس والذم والعقاب عليه ، لا على الصفة الكامنة في النّفس ولا على الفعل الخارجي ، فنفس الفعل الخارجي يصلح للمقربية في نفسه لعدم انطباق العنوان القبيح عليه.

ولكن بناء على ما تقدم من انه يعتبر في المقربية أمران : أحدهما : صلاحية الفعل للمقربية في نفسه والآخر : ان لا يشتمل على القبح الفاعلي بمعنى قبح جهة الصدور. بناء على هذا لا يصح العمل لقبح جهة صدوره ، إذ المفروض ان قصد العمل قبيح لأنه معنون التجري.

فالنتيجة : ان العمل لا يصح إلاّ بناء على رأي الشيخ رحمه‌الله. فتدبر.

ثم ان الشيخ تعرض إلى بيان صور التجري ، ولا حاجة إلى التعرض إليها ، إذ ليس بذي أثر مهم.

الجهة الخامسة : في القطع الموضوعي.

وهو ما يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي بحيث يترتب الحكم على وجوده ، في قبال القطع الطريقي وهو ما يكون طريقا وكاشفا عن الواقع لا غير.

ومحل البحث في السابق هو القطع الطريقي.

اما الموضوعي فتحقيق الكلام فيه في هذه الجهة.

وقد تعرض إليه الشيخ في كلامه ، وعقد له صاحب الكفاية أمرا مستقلا (١) ، وذكر ان القطع بالحكم لا يمكن ان يؤخذ في موضوع حكم مماثل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٦٧

لحكم متعلقه أو مضاد له وانما يؤخذ في موضوع حكم يخالف الحكم الّذي تعلق به ، كما إذا قال المولى : « إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق » ، وقد أشار إلى الوجه في ذلك في الأمر الرابع ونوكله إلى محله ، ونتكلم الآن فيما أفاده ونفرضه مسلما. والكلام في القطع الموضوعي يقع من جهتين :

الجهة الأولى : في أقسامه. والّذي ذكره الشيخ وتبعه عليه صاحب الكفاية ان أقسامه أربعة : لأنه اما ان يكون جزء الموضوع أو تمامه ، وعلى كلا التقديرين اما ان يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه أو يؤخذ بما هو صفة خاصة ، وذكر صاحب الكفاية في مقام إيضاح القسمين الأخيرين ، ان العلم من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، ومنه قيل : ان العلم نور لنفسه ونور لغيره ، فلذا صح ان يؤخذ بما هو صفة خاصة بإلغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصية أخرى فيه مع جهة كاشفيته. وان يؤخذ بما هو طريق ومرآة لمتعلقه وحاك عنه.

فالذي يظهر من كلامه ان أخذ القطع بما هو صفة يكون بطورين :

أحدهما : يرجع إلى إلغاء جهة كشفه.

والآخر : يرجع إلى أخذ خصوصية أخرى فيه مضافا إلى جهة كشفه.

ولكن المحقق الأصفهاني ناقش في إمكان أخذ القطع بما هو صفة.

وأطال في نقاشه ، وخلاصة مناقشته : ان قوام القطع وذاته التي بها يتميز عن غيره من الصفات ويكون بها قطعا هو كاشفيته التامة ، فأخذه في الموضوع مع إلغاء جهة كشفه غير معقول ، فانه نظير أخذ الإنسان في موضوع الحكم مع إلغاء إنسانيته.

وتعرض إلى ما ذكره صاحب الكفاية من ان العلم نور لنفسه ونور لغيره وبيّن انه لا ينفع في الدعوى (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٤ ـ الطبعة الأولى.

٦٨

والّذي نقوله في المقام بنحو الاختصار النافع : ان أخذ القطع موضوعا بإلغاء جهة كشفه غير سديد ، لأنه ان أريد من إلغاء جهة كشفه ما هو الظاهر من عدم ملاحظة كاشفيته بالمرة ، فيرد عليه ما ذكره المحقق الأصفهاني ، من انه يتنافى مع أخذ القطع موضوعا. وان أريد منه عدم ملاحظة ارتباطه بمتعلقه وإضافته إليه ، فهو يلازم ثبوت الحكم عند ثبوت القطع بأي شيء كان ، إذ المفروض ان المأخوذ في الموضوع هو الكاشف التام بلا ملاحظة إضافته إلى متعلقه الخاصّ ، فلا خصوصية لتعلقه بهذا الأمر دون ذاك وهذا محذور كبير.

اذن ، فأخذ القطع موضوعا بنحو الصفتية بالطور الأول لا يمكننا الالتزام بصحته نعم أخذه بالطور الثاني لا مانع منه ، بان تلحظ في القطع مع جهة حكايته وكاشفيته عن المتعلق الخاصّ خصوصية أخرى فيه ، كخصوصية ركون النّفس واستقرارها بالنحو الخاصّ الملازمة للقطع ، إذ هي من آثار القطع بشيء ، ولا يترتب على غيره.

ومنه ظهر : انه توجيه أخذ القطع بنحو الصفتية بملاحظة هذه الجهة فيه ، أعني جهة ركون النّفس وثباتها ـ كما ورد في تقريرات بحث السيد الخوئي ـ ، لا يجدي في دفع الإشكال السابق ، لما عرفت من ان أخذ القطع بلا ملاحظة جهة كشفه امر لا يمكن القول به. فما ذكر خلط بين الطورين ، فالتفت.

وكما أنكر المحقق الأصفهاني أخذ القطع موضوعا بنحو الصفتية ، أنكر المحقق النائيني أخذ القطع تمام الموضوع بنحو الطريقية ، فذهب إلى انه لا بد ان يكون مأخوذا جزء الموضوع ، فالأقسام لديه ثلاثة ، وعلل ذلك بان النّظر الاستقلالي في القطع الطريقي يتعلق بمتعلقه وبالواقع المنكشف به وبذي الطريق ، اما القطع فهو مغفول عنه وملحوظ مرآة للغير شأن كل كاشف وطريق ، وأخذه في تمام الموضوع يلازم غض النّظر عن الواقع وملاحظته القطع

٦٩

مستقلا ، وهذا خلف (١).

ولكن هذا التعليل عليل ، وهو ناش من الخلط بين مقام الجعل ، ومقام تعلق القطع بشيء ، بيان ذلك : ان من ينظر إلى الكتاب بواسطة نظارته يغفل عن نظارته وانما نظره المستقل متعلق بالكتاب الّذي جعل النظارة طريقا إليه ، ولكن الشخص الّذي ينظر إلى هذا الناظر ويرى كاشفية وآلية النظارة ، يستطيع ان يتعلق نظره مستقلا وغرضه بالنظارة ذاتها من دون ان يكون للكتاب أي دخل فيه.

وفي ما نحن فيه من هذا القبيل ، فان من يتعلق نظره الاستقلالي بالمقطوع ويغفل عن القطع هو القاطع نفسه ، إذ كون القطع طريقا لديه يلازم لحاظه آلة وبنحو المرآتية (٢) ، اما الجاعل الّذي يريد ان يجعل حكما على هذا القطع له ان يقصر نظره على القطع ، بمعنى انه يرتب الحكم على القطع بلحاظ كشفه لكن من دون ان يكون لوجود المتعلق في الخارج أي أثر ، لتمكنه من لحاظ القطع بنحو الاستقلال لا الآلية والمرآتية ، نظير من ينظر إلى المرآة لا ليرى صورته بها ، بل ليرى جودتها وجنسها. فظهر لك الخلط بين المقامين.

وعلى هذا فلا مانع من أخذ القطع بنحو الطريقية تمام الموضوع بان لا يكون للمصادفة أي دخل في ثبوت الحكم.

الجهة الثانية : في قيام الأمارات والأصول مقام القطع الطريقي والموضوعي بأقسامه.

لا إشكال بين الاعلام في قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع الطريقي ، بمعنى ان نفس ما يترتب على القطع من المنجزية والمعذرية يترتب

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) أنكر المحقق الأصفهاني صحة التعبير باللحاظ الآلي والاستقلالي بالنسبة إلى القطع ، وليس محل البحث فيه هاهنا ، ونحن انما عبرنا بذلك تمشيا لا التزاما بصحته ، لعدم تنقيح أحد الطرفين.

٧٠

على الأمارة.

انما الإشكال والكلام في قيامها بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي بأقسامه.

وقد ذهب الشيخ إلى قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الصفتي (١) وتبعه على ذلك المحقق النائيني (٢).

وأنكر صاحب الكفاية قيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه ، وابتدأ بنفي قيام الأمارة مقام القطع الصفتي ، ثم عطف عليه قيام الأمارة مقام الموضوعي الطريقي ونفاه بعين ما نفي به قيامها مقام الصفتي (٣) ، ولأجل ذلك قد يتساءل عن وجه التفكيك بين القسمين في البيان مع اشتراكهما في الحكم والدليل.

ولوضوح الجواب عن هذا التساؤل نقول : علل صاحب الكفاية عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية ، بان قضية حجية الأمارة ترتيب ما للقطع من الآثار بما هو حجة لا بما هو موضوع ، لأنه يكون كسائر الموضوعات.

وتوضيح ذلك : ان ما يحتمل في مفاد دليل الاعتبار وجوه ، مثل جعل المؤدى أو جعل الوسطية في الإثبات والطريقية وجعل المنجزية والمعذورية وجعل الحجية ـ كما يأتي تفصيل ذلك في محله ـ ، ومن الواضح ان مفاد دليل الاعتبار بأي نحو من هذه الأنحاء كان لا يرتبط بالقطع الملحوظ بما انه صفة خاصة اما بإلغاء جهة كشفه أو بأخذ خصوصية أخرى فيه معه ، فجعل المؤدى أجنبي بالمرة عن تنزيل الأمارة منزلة القطع ، وجعل الطريقية والكاشفية لا ينفع بعد ان فرض

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٢١ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧١

ان جهة الكشف ملغاة في القطع الصفتي ، أو انها معتبرة بضميمة خصوصية أخرى ، وهكذا الحال في جعل المنجزية أو الحجية.

وبالجملة : القطع المأخوذ موضوعا بنحو الصفتية كغيره من موضوعات الأحكام لا ينظر إليه دليل اعتبار الأمارة بأي نحو كان مفاده.

ولكن الأمر ليس بهذه المثابة من الوضوح بالنسبة إلى القطع الموضوعي الطريقي ، فقد يتخيل ارتباط دليل اعتبار الأمارة به.

ولكنه نفاه أيضا بأنه ذو جهتين وأثرين : أحدهما : أثره المتأخر عنه ، وهو ما يترتب عليه وبه يكون موضوعا للحكم. والآخر : الأثر السابق عليه وهو ما تعلق به وبه يكون طريقا للحكم وكاشفا. ودليل الاعتبار بأي نحو كان مفاده انما يتكفل جعل الأمارة بلحاظ الواقع السابق على القطع لا اللاحق ، بل القطع بلحاظ اثره اللاحق كسائر موضوعات الأحكام لا ينظر إليه دليل اعتبار الأمارة.

ثم تعرض إلى ما قد يقال في تقريب قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي بنحو الطريقية : من ان دليل الاعتبار يتكفل نفي احتمال الخلاف ، فهو ينزل الأمارة منزلة العلم ، ومقتضى إطلاقه تنزيل الأمارة منزلة العلم من جهة كونه طريقا ومن جهة كونه موضوعا ، فتقوم الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي (١).

وحكم بفساده ، والوجه فيه : ما ذكره من انه لا بد في التنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه ، ولحاظ القطع والأمارة في تنزلهما منزلة القطع الطريقي لحاظ آلي ، لأن النّظر في الحقيقة إلى الواقع والمؤدى ، ولحاظهما في تنزيلها منزلة القطع الموضوعي استقلالي ، لأن النّظر إلى أنفسهما ، فيلزم من تكفل الدليل الواحد

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤ ـ الطبعة الأولى.

٧٢

لكلا التنزيلين اجتماع لحاظين الآلي والاستقلالي في شيء واحد وهو محال ، فلا بد ان يكون الدليل متكفلا لأحدهما ، وهو تنزيلها منزلة القطع الطريقي لأنه هو الظاهر من دليل الاعتبار.

وأضاف إلى ذلك : انه لو لا المحذور الّذي ذكرناه لأمكن ان يلتزم بان مقتضى إطلاق دليل اعتبار الأمارة المتكفل لإلغاء احتمال الخلاف قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بجميع اقسامه حتى المأخوذ بنحو الصفتية هذا ما أفاده في الكفاية (١).

وخالفه المحقق النائيني ـ كما أشرنا إليه ـ فذهب إلى قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الصفتي ، وقدم لإيضاح ذلك مقدمات أطال في الكلام فيها ، فانه بعد ما ذكر ان المجعول في باب الأمارات هو الكاشفية التامة والمحرزية ، وان الدليل الدال على اعتبارها يتكفل تنزيلها منزلة القطع من جهة كاشفيته عن الواقع ومحرزيته له ، وذكر ان حكومة الأمارة على أدلة الأحكام الواقعية حكومة ظاهرية ، وعبّر عنها تارة : بالحكومة في مقام الإثبات في قبال الحكومة الواقعية ، وهي الحكومة في مقام الثبوت ، باعتبار ان دليل الأمارة لا يتكفل التوسعة أو التضييق في الواقع ، بل في طريق إحرازه. وأخرى : بأنها ما كانت في طول الواقع ، باعتبار ان حكومة دليل الأمارة بلحاظ وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به ، لا بلحاظ التوسعة في رتبة الواقع نفسه.

بعد ان ذكر ذلك بتفصيل ، ذكر ان كلام الكفاية واشكالها يتأتى بناء على جعل المؤدى في باب الأمارة. اما بناء على ما اختاره من جعل المحرزية والكاشفية والوسطية في الإثبات ، فلا يتم ما ذكره صاحب الكفاية ، إذ لم يلحظ

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٣

الواقع والمؤدّى في مقام التنزيل كي يرد عليه انه مستلزم لاجتماع اللحاظين ، بل لم يلحظ سوى الأمارة والقطع ، ودليل الاعتبار يتكفل جعلها بمنزلة القطع في المحرزية فتقوم بمقتضى هذا المقام مقام القطع الطريقي المحض والموضوعي إذا كان بنحو الطريقية ، كما هو واضح جدا (١).

وأنت خبير بان ما ذكره ليس دفعا للإشكال حقيقة ، بل التزام به على المبنى الّذي بنى عليه من جعل المؤدى الّذي يظهر من كلمات الشيخ (٢) وبعض كلمات صاحب الكفاية (٣) ، وانما هو حل للمشكلة بالتزامه في باب الأمارة بان المجعول هو المحرزية ، وهذا لا يجدي في رفع الإشكال عن الشيخ ومن يلتزم بمبناه.

ثم ما ذكره من الحكومة الظاهرية واختلاف التعبير عنها ، للبحث عن صحته وسقمه مجال آخر ليس محله هاهنا ، إذ لا يرتبط بما نحن فيه قيد شعرة ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى مفصلا وستعرف انه مجرد اصطلاح لا واقع له. فانتظر.

وانما الّذي نورده عليه هاهنا باختصار : هو ان الحكومة كما فسرها هو وغيره تتقوم بنظر أحد الدليلين إلى الآخر بتضييق في مدلوله أو توسعة ، فإذا كان دليل اعتبار الأمارة يتكفل جعل الكاشفية وتنزيل الأمارة منزلة العلم في الوسطية في الإثبات ـ كما التزم به مع الغض عن مناقشته ـ كان ناظرا إلى الدليل الواقعي المتكفل لترتيب الأحكام على القطع ، وعليه تكون حكومته عليه حكومة واقعية ليس فيها كشف خلاف ، بل يكون انكشاف خلاف الأمارة من باب تبدل الموضوع ولا نظر له إلى الواقع بحال كي يدعى ان حكومته عليه

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٢١ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥. الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ٢٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٤

بالحكومة الظاهرية.

وبالجملة : لو كان دليل الاعتبار ناظرا إلى ترتيب آثار الواقع كان لما ذكره من دعوى الحكومة الظاهرية صورة ـ وان كان في نفسه محل إشكال ـ ، ولكنه ليس كذلك ، بل هو ناظر إلى ترتيب آثار القطع ، فالحكومة على هذا واقعية. فتدبر.

ثم ان المحقق الأصفهاني قدس‌سره بعد ان استشكل في صحة دعوى تعلق اللحاظ آليا كان أو استقلاليا بالقطع ، لأنه هو عين الحضور واللحاظ فلا يقبل تعلق اللحاظ ، وليس هو واسطة في اللحاظ كالمرآة ، تعرض إلى ما ذكره صاحب الكفاية ، ومحصل ما ذكره : هو ان تكفل الدليل الواحد تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي والموضوعي غير ممكن لكنه لا من جهة استلزام اجتماع اللحاظين في شيء واحد ، بل من جهة أخرى ، فهو يشترك مع صاحب الكفاية في النتيجة ويختلف معه في طريق الوصول إليها.

اما ما أفاده بتوضيح منا وتصرف ، فهو : ان الدليل المبحوث عنه تارة : يكون لسانه تنزيل الظن منزلة القطع. وأخرى : يكون لسانه تنزيل المظنون منزلة المقطوع.

فان كان بالنحو الأول : فالقطع ليس من وجوه متعلقه حتى يدعى انه يمكن الحكم على متعلقه بواسطته ، فيلزم من الحكم عليه وعلى متعلقه اجتماع اللحاظ الاستقلالي والآلي ، إذ ليست نسبته إلى متعلقه نسبة الكلي إلى فرده ولا نسبة العنوان إلى معنونه ، لكنه حيث كان من الصفات التعليقية التي تتقوم في وجودها بمتعلقها ، كان تصور مفهوم القطع ملازما لحضور وصورة المقطوع في الذهن.

وعليه فإذا أريد الحكم على المظنون بواسطة الكناية عنه بالظن لزم أخذ الظن قنطرة للانتقال إلى لازمه ، وإذا أريد الحكم عليه لزم أخذه على وجه

٧٥

الأصالة والحقيقة ، فيلزم من تعدد التنزيل أخذ الظن قنطرة وعدم أخذه كذلك. وهو ممتنع لأنه من باب اجتماع النقيضين ، فالقضية الواحدة لا تعقل ان تكون كنائية وحقيقية ، إذ المحذور فيه نظير محذور اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي.

ودعوى : انه بعد فرض التلازم بين الظن والمظنون والقطع والمقطوع ، لا يحتاج إلى الكناية بل يمكن تأدي كلا التنزيلين بلا أي محذور ، بل يكون أحدهما مؤدى المدلول المطابقي والآخر مؤدى المدلول الالتزامي ، فهناك مفهومان مستقلان متلازمان كل منهما يفيد شيئا غير ما يفيده الآخر ، نظير ان تقول « زيد كثير الرماد » وتقصد الاخبار عن كثرة رماده بالمطابقة وكرمه بالالتزام.

تندفع : بان هذا انما يصح لو كان التلازم بين الحكمين نظير : « زيد كثير الرماد » ، فان إثبات أحد الحكمين يلازم ثبوت الآخر ، فيمكن ان تقصد تأديته بالمدلول الالتزامي ، وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ التلازم بين الموضوعين ، إذ لا ملازمة بين تنزيل الظن منزلة القطع وتنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وانما التلازم بين الظن والمظنون لا أكثر ، فليس الحكم الآخر مدلول التزامي للقضية كي يمكن قصد تأديته بنحو الالتزام ، فلا يكون الدليل على أحدهما دليلا على الحكم الآخر بالالتزام ، فتتوقف إفادة الحكم الآخر على الكناية.

وان كان بالنحو الثاني : فالمظنون والمقطوع وان كان وجهين لمتعلق الظن والقطع ، فيمكن لحاظهما طريقا لذات المظنون والمقطوع كما يمكن لحاظهما بأنفسهما ، وحينئذ يمكن دعوى استلزام جعل كلا التنزيلين لاجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في أمر واحد.

ولكن الإشكال ليس من هذه الجهة لاندفاعها بان الحكم على كلا التقديرين ليس على عنوان المقطوع والمظنون بالحمل الأوّلي ، وانما هو على ما هو مقطوع ومظنون بالحمل الشائع ، غاية الأمر ان الحكم على ذات المظنون على تقدير وعلى الذات بما هو مظنون على تقدير آخر ، فاذن العنوان على كلا

٧٦

التقديرين ملحوظ آلة والمعنون على كلا التقديرين ملحوظ استقلالا.

وانما الإشكال من جهة أخرى وهي : ان الحكم على ذات المظنون يرجع إلى إلغاء دخالة تعلق الظن بها باعتبار ان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بين القيود ، والحكم على المظنون بما هو مظنون يرجع إلى اعتبار تعلق الظن ، ولا يمكن ان يتكفل الدليل الواحد بيان كلتا الجهتين ، أعني عدم دخالة تعلق الظن ودخالته ، لأنه بيان للمتناقضين. فتدبر.

ثم انه نبه في ضمن كلامه إلى ان موضوع الأدلة هو الظن والقطع لا المظنون والمقطوع. فانتبه (١).

أقول : قد أشرنا إلى ان المحقق الأصفهانيّ يتفق بالنتيجة مع صاحب الكفاية ، ولكنه يختلف معه في الطريق ، فكلامه هاهنا أشبه بما تقدم منه من إيراده على صاحب الكفاية في منعه لأخذ قصد الأمر في متعلق الأمر لأنه دور ، ـ إيراده عليه ـ بأنه ليس بدور ولكنه خلف ، فليس بذي ثمرة عملية ، وانما هو ذو ثمرة علمية اصطلاحية ، فكان علينا عدم التعرض إليه.

ولكن المحقق الأصفهاني وان انتهى بكلامه إلى موافقة صاحب الكفاية في الاختيار ، لكننا بكلامه ننتهي إلى مخالفتهما معا ـ وبذلك تظهر لك ثمرة التعرض لكلامه ـ.

وذلك : لأن ما ينتهي إليه كلام المحقق الأصفهانيّ في النحو الأول هو كون المحذور في عدم تكفل الدليل لكلا التنزيلين محذورا إثباتيا لا ثبوتيا.

وذلك : لأن كلا من مفهومي القطع والمقطوع والظن والمظنون حاضر في الذهن مستقلا بنفسه لغرض الملازمة بين القطع والظن وبين المقطوع والمظنون ، فإذا جاء اللفظ الدال على القطع انتقل الذهن إليه كما انتقل إلى لازمه وهو

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٦ ـ الطبعة الأولى.

٧٧

المقطوع ومثله الظن.

وعليه ، فلا مانع من ان يتكفل الدليل الواحد لكلا التنزيلين ، إذ ليس فيه أي محذور بعد ان كان المفهومان حاضرين بأنفسهما في الذهن.

وانما الكلام في دلالة الدليل على كلا التنزيلين. وهو بحث إثباتي.

وبهذا البيان يظهر لك الفرق بين كلام الكفاية وكلام الأصفهانيّ ، فان كلام الكفاية يرجع إلى كون المحذور ثبوتيا لا يرتبط بالدليل أصلا ، بل يرتبط بمقام الجعل ، إذ هو يرى انه لا يحضر في الذهن الا مفهوم واحد وهو مفهوم القطع ، فإذا أريد جعل كلا الأمرين لزم لحاظه استقلاليا وآليا وهو ممتنع. واما ما ذكره المحقق الأصفهاني فهو ينتهي إلى ان الحاضر في الذهن كلا المفهومين فلا يلزم من اعتبار الأمرين أي مانع.

وبما ان كلام الأصفهاني متين لا شائبة فيه ، فلا بد من إيقاع البحث في مقام الإثبات. وعليه فان قامت قرينة على تكفل الدليل لكلا التنزيلين فلا مانع من الأخذ به.

ولا يخفى ان الّذي يحتاج إلى القرينة هو تنزيل المؤدى منزلة المقطوع ، إذ تنزيل الأمارة منزلة القطع هو ظاهر الكلام الأوّلي وغيره يحتاج إلى قرينة ، والانتهاء إلى هذا الوجه وان تفردنا به لكن منشأه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره.

وبما ذكرناه تنحل لدينا مشكلة كبيرة ، إذ تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي له أثر عملي كبير يظهر ذلك في موارد متعددة في الفقه والأصول. فمن الموارد : مورد استصحاب الحكم السابق الثابت بالأمارة ، إذ وقع الكلام فيه باعتبار انه يعتبر في موضوع الاستصحاب اليقين السابق ولا يقين في المورد المزبور لأن الحكم ثابت بواسطة الأمارة.

وقد تفصى عنه صاحب الكفاية : بان دليل الاستصحاب يتكفل جعل

٧٨

الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فالدليل الدال على الحدوث يدل على البقاء بضميمة دلالة الاستصحاب على الملازمة (١).

وهذا المعنى قابل للمناقشة والرد كما سيجيء إن شاء الله تعالى في محله.

ولا يخفى انه إذا قلنا بان الأمارة تقوم مقام القطع الموضوعي تنحل المشكلة ، إذ الاستصحاب كما يترتب على اليقين بالحدوث يترتب على قيام الأمارة عليه. فلاحظ والتفت.

ثم ان إشكال صاحب الكفاية رحمه‌الله انما يجري بناء على ان المجعول في باب الأمارات هو المؤدى ، بمعنى تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي يرجع إلى جعل المؤدى بمنزلة الواقع.

واما بناء على كون المجعول هو المحرزية والكاشفية أو الحجية أو المنجزية ، بمعنى انه يتكفل تنزيلها منزلة العلم في إحدى هذه الجهات ـ على اختلاف الآراء ـ وهي تقوم مقام القطع الطريقي بهذا اللحاظ ، بناء على ذلك لا مانع من تكفل دليل الاعتبار لكلا التنزيلين ، إذ لم يلحظ سوى العلم والأمارة ، فيمكن ان يقصد تنزيل الأمارة منزلة العلم في مطلق آثاره الشرعية والعقلية ، فالتفت ولا تغفل.

هذا كله في قيام الأمارات مقام القطع.

واما الأصول : فقد أوقع صاحب الكفاية الكلام أولا في غير الاستصحاب فذكر انها لا تقوم مقام القطع أصلا حتى الطريقي المحض ببيان : ان المراد من قيامها مقام القطع ترتيب آثاره وأحكامه من التنجيز وغيره في موارد جريانها ، ولا يخفى ان الأصول العملية عبارة عن وظائف عملية مقررة للجاهل شرعا أو عقلا ، فهي في طول فقد المنجز والحجة على الواقع.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٠٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٩

ثم أورد على نفسه : بان الاحتياط منجز للواقع فلا مانع من الالتزام بقيامه مقام القطع الطريقي. وأجاب عنه بان : الاحتياط قسمين : عقلي وشرعي.

اما العقلي : فليس هو إلاّ حكم العقل بالتنجز وليس شيئا يترتب عليه التنجز. واما النقلي : فإلزام الشارع به وان كان يترتب عليه التنجيز لكنا لا نقول به في الشبهة البدوية وليس شرعيا في المقرونة بالعلم الإجمالي (١).

أقول : البحث في الأصول من هذه الجهة بحث لفظي صرف ، إذ انه لا موهم لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فينحصر البحث في قيامها مقام القطع الطريقي.

ومن الواضح : ان مرجع البحث في هذه الجهة إلى ان الأصل المعلوم مفاده واثره والمعلوم جريانه في موارده المقررة بلا شبهة ولا إشكال ، هل مقتضى اثره الثابت كونه قائما مقام القطع الطريقي أو لا؟.

ولا يخفى ان ذلك بحث لفظي ، إذ لا يترتب على إثبات ذلك أو نفيه أي أثر وأي تغيير في مقام جريان الأصل وترتيب آثاره.

ولأجل ذلك لا يحسن بنا إطالة الكلام مع صاحب الكفاية والتعرض إلى نقاط الإشكال في كلامه.

وامّا الاستصحاب : فقد ذكر صاحب الكفاية ان دليل اعتباره لا يفي بقيامه مقام القطع الموضوعي ، إذ دليله لا بد ان يكون مسوقا اما بلحاظ اليقين أو بلحاظ المتيقن لما تقدم في الأمارة (٢).

أقول : عرفت الحال هناك فلا نعيد.

ثم انه يبتني على الالتزام بجعل المستصحب في باب الاستصحاب.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٨٠