منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

وأما ما حكي عن الشيخ من إنكار كون الفاء للتفريع والسببية ، بل هي عاطفة (١). فقد ردّه الأصفهاني : بأنه خلاف الاصطلاح لعدم التقابل بين السببية والعطف ، بل العاطفة تارة للسببية. وأخرى للترتيب. وثالثة للتعقيب (٢).

وبالجملة : لا يسعنا إلا الالتزام بأن الفاء في النص ظاهرة في تفرع العمل عن الثواب بنحو يكون الثواب داعيا للعمل.

ومقتضى ما تقدم الالتزام بان الثواب مترتب على العمل المقيّد ، فلا دلالة له على الاستحباب.

لكن المحقق صاحب الكفاية ذهب إلى : أن ظاهر النص ترتب الثواب على ذات العمل ، ولو كانت الفاء للتفريع وظاهرة في داعوية الثواب إليه ، ولا منافاة بينهما ، ومن هنا التزم بدلالة النص على استحباب ذات العمل (٣).

وقد قرّبه المحقق الأصفهاني بما لا يخلو عن إشكال بل منع ، فقد ذكر في مقام تقريبه : ان الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب على العمل بذاته لا بداعي الثواب المحتمل ، لأن مضمون الخبر الضعيف هو ذلك ، كمضمون الخبر الصحيح ، وهذا الطور لا ريب فيه.

كما أن الظاهر من أخبار من بلغ هو كونها في مقام تقرير ذلك الثواب البالغ وتثبيته ، ومقتضى ذلك ثبوته لنفس العمل ، لأنه هو الّذي بلغ الثواب عليه ، فلو ثبت الثواب ـ باخبار من بلغ ـ لغير ذات العمل لزم أن يكون ثوابا آخر لموضوع آخر ، وهو ينافي ظهور الاخبار في إثبات نفس ذلك الثواب البالغ المفروض كون موضوعه هو ذات العمل.

ولا ينافي هذا الظهور ظهور الفاء في التفريع الظاهر في داعوية الثواب

__________________

(١) رسالة التسامح للشيخ الأنصاري.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٢١

للعمل. ببيان : أن الداعي إلى العمل يمتنع أن يصير من وجوه وعناوين ما يدعو إليه ، بحيث يتعنون العمل المدعو إليه بعنوان من قبل نفس الداعي ، إذ الفرض ان العنوان ينشأ من دعوة الشيء ، فيمتنع ان يكون مقوما لمتعلق الدعوة وللمدعو إليه كما هو واضح جدا.

وعليه ، فما يدعو إليه الثواب هو ذات العمل ، ويستحيل ان يكون هو العمل الخاصّ المتخصص بخصوصية ناشئة من قبل دعوة الثواب ، كخصوصية كونه انقيادا أو احتياطا ، فما يدعوا إليه الثواب ليس هو الانقياد ، وانما الانقياد يتحقق بإتيان ذات العمل بداعي احتمال الأمر ، فهو متأخر عن دعوة احتمال الأمر فيمتنع أن يؤخذ في متعلق دعوته.

وعليه ، فالثواب المترتب إنما رتب على ما دعى إليه احتمال الأمر ، وهو ذات العمل لا العمل المقيد بالاحتمال ولا ما يتعنون بعنوان الانقياد. فالالتزام بظهور الفاء في إتيان العمل بداعي احتمال الثواب لا ينافي ظهور النصوص في ترتب الثواب على ذات العمل المدعو إليه ، بعد ان لم تكن الدعوة موجبة لتغير عنوان المدعو إليه من قبل نفس دعوة احتمال الأمر.

هذا تقريب كلام صاحب الكفاية بحسب ما أفاده الأصفهاني قدس‌سره (١).

وهو كما أشرنا إليه غير خال عن الإشكال ، لأنه بنى الاستدلال على ظهور النصوص في وحدة الثواب المجعول مع الثواب البالغ ، وهو يقتضي وحدة الموضوع.

وهذا هو مركز إشكالنا ، فان ظهور الكلام في وحدة الثواب لا يعنى إرادة الوحدة الشخصية المتحققة بالمحافظة على تمام الخصوصيات البالغة من حيث

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٢١ ـ الطبعة الأولى.

٥٢٢

المتعلق وغيره ، بل يراد به الوحدة من حيث الجنس ، بمعنى ان نفس ذلك الثواب يحصله المكلّف سواء كان على نفس ذلك العمل أم على أمر آخر ملازم له ، فالمنظور إثبات الثواب البالغ بكمه وكيفه لا أكثر. فتدبر.

والتحقيق في توجيه مرام الكفاية : أن يقال : إن تمامية ما أفاده تبتني على مقدمات غير موضحة بتمامها في الكفاية ، بل قد طوي بعضها وهي :

أولا : ان الظاهري في موارد العطف بفاء التفريع على مدخول أداة الشرط ، هو ارتباط الحكم الثابت في الجزاء بمدخول الفاء ، وان ما قبله ذكر توطئة وتمهيدا ، كما لو قال : « إذا رأيت زيدا فاحترمته كان لك كذا » ، فان ظاهر الكلام ان رؤية زيد ذكرت توطئة لذكر موضوع الحكم.

وثانيا : ان ظاهر الكلام في مثل ذلك أن ما يكون مدخول الفاء هو تمام الموضوع بلا دخل لغيره فيه.

وثالثا : ما تقدم من أن متعلق الداعي يمتنع ان يكون معنونا بعنوان من قبل الداعي ، وقد أوضحنا ذلك فلا نعيد.

إذا تمت هذه المقدمات نقول : ان مقتضى المقدمة الأولى هو دخالة العمل في ترتب الثواب الّذي هو مدخول الفاء. ومقتضى المقدمة الثالثة ان مدخول الفاء هو ذات العمل لا العمل الخاصّ ، لأن الخصوصية ناشئة من قبل الداعي فلا يعقل ان تكون مأخوذة في متعلق الداعي. ومقتضى المقدمة الثانية هو كون الثواب مترتبا على ذات العمل وإن جيء به بداعي الأمر ، لتمحض مدخول الفاء في الموضوعية بلا دخل لغيره. والمفروض ان مدخول الفاء هو ذات العمل.

وإذا ثبت ظهور الاخبار في جعل الثواب على ذات العمل ، كان كاشفا عن تعلق الأمر به بمقتضى الكبرى التي عرفت أنها مسلمة.

وما ذكرناه هو غاية ما يمكن به تقريب استفادة الاستحباب من الأخبار.

٥٢٣

وهو قابل للمنع. ومرجع ما نريد أن ندعيه في مقام المنع إلى ان الجهة التي بها يستفاد الأمر من قبل جعل الثواب غير متوفرة فيما نحن فيه ، فالإشكال في انطباق الكبرى المسلمة على ما نحن فيه.

وبيان ذلك : ان بيان الأمر ببيان الثواب أمر لا يقبل الإنكار ـ كما تقدم ـ ، والشواهد العرفية عليه كثيرة ، ومثله بيان النهي ببيان العقاب ، فان شواهده العرفية والشرعية كثيرة.

والسر في استفادة الأمر واستكشافه من ترتب الثواب أحد أمرين :

الأول : دلالة الاقتضاء والدلالة الالتزامية العرفية. ببيان : ان العمل ـ في موارد جعل العقاب ـ لا اقتضاء فيه بنفسه ، لثبوت العقاب ، فإثبات العقاب عليه كاشف عن تعلق النهي به ليكون الفعل معصية له ، وهي موضوع ثبوت العقاب ، فثبوت النهي في موارد جعل العقاب يستكشف بحكم العقل ودلالة الاقتضاء.

وأما جعل الثواب في مورد ، فهو ليس بمستلزم عقلا لثبوت الأمر لتحقق الثواب مع الإتيان به رجاء ، لكنه عرفا مستلزم للأمر ، فان العرف يفهم من جعل الثواب جعل الأمر في المورد الّذي لا يقتضى ثبوت الثواب في حد نفسه ، وهذا المعنى غير بعيد في اللغة العربية ، فان بيان الملزوم ببيان اللازم ليس بعزيز ، والاستعمالات الكنائية منه.

إذن فاستفادة الأمر من جعل الثواب بالملازمة العرفية.

الثاني : ان جعل الثواب في مقام الترغيب على العمل والحث عليه كاشف عن محبوبية العمل ، وهي ملازمة للأمر ، مع عدم العلم بثبوت الأمر سابقا.

وإلا فلا دلالة له إلا على الترغيب على إطاعة الأمر السابق ، وذلك كترغيب الوعّاظ على فعل الواجبات ببيان الثواب عليها ، ففي غير هذا المورد يكون الترغيب كاشفا عن المحبوبية وهي تلازم الأمر ، لأنها مقتض له والمانع مفقود ، لفرض كون المولى في مقام الترغيب الكاشف عن عدم المانع.

٥٢٤

وهذان الوجهان لا يتأتيان فيما نحن فيه :

أما الأول : فلأن العمل المأتي به بداعي احتمال الثواب ـ كما هو الفرض ـ يكون معنونا بعنوان الاحتياط وسببا لتحقق الانقياد ، وفي مثله لا ظهور للكلام عرفا في ثبوت الأمر بالعمل لقوة احتمال رجوع الثواب إلى الثواب على الانقياد أو الاحتياط ، وهو ثابت في نفسه مع قطع النّظر عن الأمر.

وأما الثاني : فلأن أساسه على فرض المولى في مقام الترغيب. وهذا غير ثابت فيما نحن فيه ، لأن الظاهر من ترتيب الثواب هاهنا انه في مقام التفضل والإحسان وبيان ان المولى الجليل لا يخيّب من أمله ورجاه ، ولا يضيّع تعب من تعب لأجل الثواب الّذي تخيله أو رجاه تفضلا منه ومنة ، فلا ظهور له في الترغيب نحو العمل ـ وان حصلت الرغبة فيه بعد ملاحظة هذا الوعد ـ. وهذا كثيرا ما يصدر عرفا فيقول القائل : « ان من قصد داري بتخيل وجود الطعام فيه لا أحرمه من ذلك وأطعمه » ، فانه في مقام بيان علو همته وطيب نفسه وكمال روحيته ، وليس في مقام الترغيب إلى قصد داره ، بل قد يكون كارها له لضيق ما في يده ، ولكنه يتحلى بنفسية تفرض عليه عدم حرمان من أمّله وقصده.

ولو لم نجزم بظهور الأخبار فيما ذكرناه بملاحظة ما يشابهها من الأمثلة العرفية ، فلا أقل من الشك الموجب لإجمال الأخبار فلا تتم دلالتها على الاستحباب.

وهذا كما يكون إشكالا على الوجه الثاني يكون إشكالا على الوجه الأول ، لأنه إذا كان في مقام التفضّل والإكرام ، فلا دلالة عرفية ولا عقلية على ان الثواب على العمل من جهة تعلق الأمر به ، إذ لا ملازمة عرفا ولا عقلا بين الثواب التفضلي والأمر. وإنما يستكشف الأمر إذا فرض كون ترتيب الثواب بعنوان الجزاء والاستحقاق. فلاحظ.

فعمدة الإشكال على استفادة الأمر من هذه الاخبار هو ، انها مسوقة في

٥٢٥

مقام بيان تفضل الله سبحانه وتعالى على العباد وهو ، لا يلازم ثبوت الأمر عقلا ولا عرفا. فتدبر.

ولعله إلى ما ذكرنا أشار الشيخ قدس‌سره في رسائله في آخر كلامه : بان الاخبار المتكفلة لإثبات الثواب الخاصّ الّذي لا يحكم به العقل ، لأنه إنما يحكم بأصل الثواب ، انما تتكفله من باب التفضل ، وانه من قبيل قوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (١) ، في كونه في مقام تفضل الله سبحانه وتعالى. والآية الكريمة لو كانت وحدها أمكن دعوى كونها في مقام الترغيب في الحسنة ، لكنها مقترنة بقوله تعالى : ( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها ) (٢) ، وهو لا يتناسب مع كونه في مقام الترغيب ، لأن لازم كونه في مقام الترغيب في الحسنات كونه في مقام الترهيب في السيئات. والآية لا تتكفل الترهيب كما لا يخفى. وعليه فتحمل الآية على انه في مقام بيان تفضل الله سبحانه وتعالى في باب الحسنات وعدله في باب السيئات (٣).

وبعد أن عرفت ما ذكرناه ، تعرف أنه لا وجه لما أورده المحقق الأصفهاني على الشيخ : بان ثواب الله سبحانه مطلقا تفضل منه وإحسان ، إذ كونه تفضلا لا استحقاقا لا ربط له بما ذكرناه من وروده مورد بيان التفضل لا الترغيب في العمل.

كما ان ما أفاده قدس‌سره من ظهور النصوص في جعل الأمر لتكفلها ترتيب الثواب الخاصّ وهو مما لا يستقل العقل به إذا غاية ما يستقل به العقل هو أصل الثواب (٤). غير سديد ، فان الشيخ رحمه‌الله التفت إلى ذلك كما

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٣٠ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٢٣ ـ الطبعة الأولى.

٥٢٦

عرفت عند نقل كلامه ، ولكنه حمل الثواب هاهنا على التفضل ، وقد عرفت عدم ملازمته للاستحباب.

وخلاصة الكلام : انه لا يمكننا استفادة الأمر أصلا من ترتب الثواب على العمل بعد ظهورها في مقام التفضل لا مقام الترغيب.

وأما ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره :

أولا : من ظهور قوله : « فعمله » في الأمر بالعمل بلحاظ انها جملة خبرية واقعة في مقام الإنشاء ، فتفيد الأمر ، فهي بمنزلة قوله : « فاعمل ».

وثانيا : من كون الاخبار في مقام جعل حجية الخبر الضعيف في موارد الاستحباب ، واستشهد على ذلك بفهم المشهور ، إذ قد اشتهر على الألسنة التعبير بقاعدة التسامح في أدلة السنن (١).

ففيه : انه غير سديد.

أما الأول : فهو غريب في مثل هذا المثال ، لا يساعده الفهم العرفي أصلا ولا شاهد عليه من الاستعمالات الشرعية أو العرفية ، ولعل السر فيه ان الفاء هاهنا عاطفة لا للجزاء فقوله « فعمله » من توابع الشرط وليس جزاء للشرط ، وإلا لم تدخل عليه الفاء ، فلا دلالة على الأمر ، إذ الجملة الخبرية انما تفيد الدلالة على الأمر إذا وقعت موقع التحريك والبعث ، والشرط بشئونه ليس كذلك ، إذ هو بمنزلة الموضوع للحكم.

ومن الواضح ان الموضوع بما هو موضوع يؤخذ مفروض الوجود بلا ان يكون المولى في مقام الدعوة إليه. نعم قد يصير المولى في هذا المقام بالنسبة إلى الموضوع فيأخذ الموضوع جزاء لشرط آخر. فتدبر جيدا فانه لا يخلو عن دقة.

وأما الثاني : فلا وجه له أصلا. وفهم المشهور لا حجية له. مع ان تعبيرهم

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٤١٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٥٢٧

بالتسامح في أدلة السنن يلتئم مع الالتزام باستحباب العمل البالغ عليه الثواب ، بل ما جاء في بعض النصوص من أخذ العمل مقيدا برجاء قول النبي ( صلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهر في عدم الحجية ، إذ الحجية تلازم الجزم لا الترديد ، فلا معنى لأن يؤخذ في موضوعها العمل المقيد بالرجاء.

كما أنه مما ينفي احتمال الحجية ما جاء في بعض النصوص أيضا من ترتب الثواب وان لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قاله ، إذ الحجية ترجع إلى ما يساوق جعل الخبر طريقا إلى الواقع ، وهذا لا يتناسب مع فرض عدم الواقع في موضوعها. فلاحظ.

والمتحصل : أن هذه النصوص لا تدل على الاستحباب ، ولا على حجية الخبر الضعيف القائم على الاستحباب ، فما بنى عليه المشهور لا أساس له.

ولو فرض الالتزام بظهور هذه النصوص في استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب فهو بملاحظة النصوص المطلقة التي لم يقيد موضوع الثواب فيها بالإتيان التماسا للثواب الموعود ونحوه.

وحينئذ قد يدعى رفع اليد عنها بواسطة ما دل على ترتيب الثواب على العمل المقيد باحتمال الثواب والتماسه حملا للمطلق على المقيد. وهذا إيراد آخر على استفادة استحباب العمل البالغ عليه الثواب.

وقد تفصي عن ذلك بوجهين :

الأول : ما أشار إليه المحقق النائيني ـ وإن لم يلتزم به ـ من أن حمل المطلق على المقيد لا يلتزم به في المستحبات ، بل يلتزم باستحباب ذات المطلق واستحباب المقيد بما هو مقيد ، بدعوى تعدد مراتب الاستحباب (١).

وهذا منه مبتن على فهم الاستحباب من الروايات المقيدة ، لا الحكم

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

٥٢٨

الإرشادي كما ذهب إليه صاحب الكفاية. فلا ينبغي الإيراد على ما أفاده بما يبتنى على فهم الحكم الإرشادي ، بل إن كان هناك إيراد فينبغي ان يكون في المبنى.

الثاني : ما أشار إليه في الكفاية من عدم التنافي بين المطلق والمقيد ، إذ المقيد يتكفل حكما إرشاديا إلى ما يحكم به العقل من حسن الانقياد والاحتياط ، فلا ينافي ما دلّ على استحباب ذات العمل كي يستلزم التصرف فيه ورفع اليد عنه (١).

وهذا منه مبتن على فهم الحكم الإرشادي من الدليل المقيد.

ويرد على كلا الوجهين بنحو الاشتراك ان الظاهر عرفا من ملاحظة النصوص بمجموعها المطلقة والمقيدة كونها في مقام بيان أمر واحد وشيء فارد ، فإذا فرض تحكيم المقيّد لأقوائية ظهوره في دخل القيد ، فلا بد من الحكم باستحباب العمل المقيد خاصة ـ على مبنى النائيني ـ والحكم بأن المراد من المطلق في المطلقات هو العمل الخاصّ ، فتدل على حكم إرشادي على مبنى صاحب الكفاية. فتدبر.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٢٩

وينبغي التنبيه على أمور : مبتنية على فهم الاستحباب من الأخبار المزبورة.

تنبيهات المسألة :

التنبيه الأول : بناء على كون المستفاد من هذه الأخبار حكما فرعيا وهو استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، فموضوعه واقعا يتقوم بمن بلغه الثواب على العمل ، فتشكل فتوى المجتهد باستحباب العمل الّذي بلغه الثواب عليه بقول مطلق بلا تقييد موضوع الاستحباب بمن بلغه الثواب ، لعدم توفر الموضوع لدى مطلق المقلّدين ، ولا تنفع أدلة التقليد وتنزيل المجتهد منزلة المقلد ، فانها انما تفيد في ثبوت الحكم للمقلد إذا توفرت شروطه فيه ، ومن شروط هذا الحكم بلوغ الثواب على العمل ، فإذا أراد المجتهد ان يفتي بالاستحباب فلا بد عليه ان يقيّد موضوع الاستحباب بالبالغ إليه الثواب ، أو يتكفل إبلاغ مقلديه أولا بثبوت خبر ضعيف دال على رجحان العمل ثم يفتي باستحبابه.

وأما بناء على كون المستفاد حكما أصوليا وهو حجية الخبر الضعيف على الاستحباب ، فيصح للمجتهد ان يفتي بالاستحباب بقول مطلق عند قيام الخبر ، إذ بقيام الخبر لديه تقوم الحجة عنده على الحكم الشرعي ، وليس موضوعه مقيدا بشيء ، فيكون كما لو قام لديه خبر صحيح السند على استحباب عمل خاص ، فيفتي بمضمون الخبر الضعيف لقيام الحجة لديه عليه ، وهو كاف في مقام الإفتاء ، كسائر موارد قيام الحجة لديه دون المقلّد. فلاحظ.

التنبيه الثاني : في شمول النصوص لفتوى الفقيه باستحباب عمل ، فهل يصح للفقيه الآخر الالتزام باستحبابه أو لا؟.

والتحقيق : ان الفتوى تارة يقال : انها عبارة عن الرّأي والنّظر والاعتقاد.

٥٣٠

وأخرى يقال : انها عبارة عن الاخبار عن الحكم الشرعي لكن بتوسط حدس المجتهد واستنباطه لا بطريق الحس أو ما يلازمه عادة.

وبناء على الأول ، يمتنع البقاء على تقليد المجتهد إذا مات لانقطاع رأيه ونظره بالموت لتقومه بالحياة والإدراك ، فهو مما لا رأي له فعلا ، فلا فتوى له فعلا وإن صدق أن رأيه كان كذا.

وأما على الثاني ، فلا يمتنع البقاء لعدم تقوم الخبر بالحياة ، بل الخبر باق بعد الموت ، ولذا يصدق الخبر فعلا على اخبار صاحب الوسائل رحمه‌الله مع أنه ميّت وتحقيق ذلك في محله من الفقه.

فعلى الالتزام بالأول ، لا يصدق بلوغ الثواب على الفتوى إذ البلوغ يتحقق بالأخبار ، والمفروض ان المجتهد لا يخبر عن الواقع بل يقول : « رأيي كذا » وقد لا يطابق رأيه الواقع ، فلا يصدق البلوغ على قوله المذكور.

وعلى الالتزام بالثاني ، يصدق البلوغ لتحقق الاخبار ، فيكون مشمولا لأخبار من بلغ.

وأما ما ادعي من ظهورها في الأخبار عن حس لا عن حدس فهو مما لا نرى له وجها عرفيا ، فلا يمكننا الالتزام به. فالتفت.

التنبيه الثالث : هل تشمل هذه الأخبار الخبر القائم على الأمر الضمني أو لا؟ وعلى تقدير شمولها له هل تتكفل إثبات الأمر الضمني أو لا؟ وفائدة ذلك فيما لو تكلفت إثبات الأمر الضمني هو ترتب أثر الأمر الضمني على ما قام على جزئيته خبر ضعيف كغسل مسترسل اللحية ، فيجوز المسح ببلله ، لأنه من أفعال الوضوء.

بخلاف ما إذا لم تشمل الأخبار الاخبار بالأمر الضمني ، أو لم تتكفل سوى إثبات استحبابه النفسيّ في ضمن العمل للأمر الضمني ، فانه لا يجوز المسح ببلله لأنه ليس ببلل الوضوء.

٥٣١

إذن فجواز المسح ببلل مسترسل اللحية يتوقف على مقدمتين : إحداهما : شمول الأخبار للأمر الضمني. والأخرى : إثباتها له.

وغاية ما يمكن أن يقال في إثبات ذلك هو : ان الظاهر من الأخبار هو استحباب الشيء على النحو الّذي دلّ عليه الخبر الضعيف من كونه نفسيا استقلاليا أو جزء واجبا أو مستحبا لأمر واجب أو مستحب.

وهذه الدعوى مردودة لوجوه :

الأول : ان بلوغ الثواب لا يصدق ببلوغ الأمر الضمني ، إذ لا ثواب عليه ، بل الثواب واحد على الكل ولا يتوزع.

الثاني : لو فرض ان الثواب يتوزع بحيث تلحق كل جزء حصة من الثواب ، فظاهر النصوص ـ بملاحظة تنكير الثواب فيها ـ هو كون الموضوع بلوغ ثواب خاص من حيث الكمية أو النوعية ، أما بلوغ ترتب أصل الثواب ، فلا أثر له.

ومن الواضح ان بلوغ الثواب على الأمر الضمني ـ بعد الفرض المزبور ـ من قبيل الثاني لا الأول فلا تشمله الأخبار.

وهذه نكتة دقيقة توجب التوقف في الحكم باستحباب كثير من الأمور التي قام على استحبابها خبر ضعيف ، إذ الاخبار بالاستحباب اخبار بأصل الثواب لا بخصوصيته ، فلا تشمله أخبار من بلغ ، فالتفت إليها ولا تغفل عنها.

الثالث : انه لو فرض شمولها للإخبار بالأمر الضمني ، فلا ظهور لها في أكثر من استحباب العمل في ضمن المركب ، وهو أعم من كونه جزء له أو مستحبا نفسيا في ضمنه ، إذ ما يلازم ترتب الثواب هو أصل ثبوت الأمر ـ بالوجهين السابقين ـ ، أما خصوصية كونه ضمنيا ، فلا طريق إلى إثباتها بواسطة ترتب الثواب. فكيف يدعي تكفل الأخبار إثبات استحباب الشيء بالنحو الّذي قام عليه الخبر الضعيف؟.

٥٣٢

وعليه ، فلا تترتب آثار الأمر الضمني على ما قام الخبر على جزئيته ، بل انما تترتب آثار استحبابه بقول مطلق.

نعم ، يمكن سلوك طريق آخر لإثبات جزئية ما قام الخبر الضعيف على جزئيته ، وهو أن يقال : إن الخبر الدال على الأمر الضمني بعمل يدل بالملازمة على ترتب الثواب على العمل المركب من هذا الجزء وسائر الاجزاء ، ومقتضى ذلك ثبوت استحباب المركب من هذا الجزء وغيره مما هو معلوم الجزئية. فتثبت جزئية المشكوك بهذه الوسيلة. فلاحظ.

التنبيه الرابع : في شمول الاخبار للخبر الضعيف القائم على الوجوب أو الحرمة أو الكراهة.

وتحقيق ذلك :

أما مورد القيام الخبر على الوجوب ، فقد يدعى شمول الاخبار له فيثبت به استحباب العمل بتقريب : ان الاخبار بالوجوب اخبار بترتب الثواب على العمل بالملازمة ، لأنه راجح فلا يختلف عن الاخبار بالاستحباب. فيصدق بلوغ الثواب على العمل فيكون مستحبا بمقتضى هذه الاخبار.

هذا بناء على استفادة الاستحباب من الأخبار. أما بناء على استفادة الحجية فقد يشكل الأمر ، لأن الخبر الضعيف الثابت حجيته بأخبار من بلغ يدل على الوجوب ، ومقتضى ذلك ثبوت الوجوب به لا الاستحباب.

وقد تفصي عن ذلك بالالتزام بالتبعيض في مدلوله ، بان يكون حجة على إثبات أصل الرجحان لا الرجحان الخاصّ ، بنحو اللزوم لقيام الإجماع على عدم حجية الخبر الضعيف في إثبات الوجوب. فتدبر.

ولكن الحق عدم شمول أخبار من بلغ لهذا المورد لظهورها في كون الداعي إلى العمل هو تحصيل الثواب ، بمعنى أن موضوعها ما يتفرع العمل فيه على بلوغ الثواب طبعا وعادة ، بحيث يكون الداعي هو الثواب.

٥٣٣

والأمر في الواجبات ليس كذلك ، إذ الداعي إلى فعل الواجب عادة وطبعا هو الفرار عن مفسدة تركه وهو العقاب ، لا الوقوع في مصلحة فعله وهو الثواب. فلا يكون الاخبار بالوجوب مشمولا لهذه القاعدة ، لما عرفت من اختصاص موضوعها بما يؤتى به بداعي الثواب عادة ، وهو خصوص المستحبات ، لعدم الإتيان بالواجب عادة بداعي الثواب وإن أمكن حصوله أحيانا. فالتفت.

وأما مورد قيام الخبر الضعيف على حرمة عمل ، فانه قد يقال انه يدل على ترتب الثواب على تركه ، فيثبت استحباب الترك بمقتضى أخبار من بلغ.

ولكن الحق عدم شمول أخبار من بلغ للمحرمات لوجهين :

أحدهما : ما تقدم في الواجبات من ظهور الاخبار في كون موضوعها ما يؤتى به بداعي الثواب عادة وهو لا ينطبق على المحرمات ، إذ الامتثال فيها لا يكون بداعي حصول الثواب عادة ، بل بداعي الفرار عن العقاب.

والآخر : التوقف في صدق بلوغ الثواب في موارد التحريم بالأخبار به.

أما على القول بان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل ـ كما هو المشهور ـ فواضح ، إذ لا ظهور في الزجر عن الفعل إلا في الصدّ عن مغبّة العمل ومفسدته ، بحيث يستحق اللوم والعقاب على الفعل ، فالاخبار بالزجر لا يكون اخبارا بترتب الثواب على الترك ، وان ترتب عليه بحكم العقل لأجل الامتثال ، لكنه أجنبي عن ظهور اللفظ عرفا في الوعد على الثواب.

وأما على القول بأنه عبارة عن طلب الترك ـ كما هو المختار تبعا لصاحب الكفاية (١) ـ ، فقد يتوهم انه ظاهر في رجحان الترك ، وهو ملازم لترتب الثواب.

ولكن نقول : ان طلب الترك في المحرمات انما هو بملاك وجود المفسدة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٣٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٣٤

في الفعل لا المصلحة فيه ، وإلاّ كان واجبا ، ولم ترد أدلة تدل بالمطابقة على ترتب الثواب على ترك المحرمات ـ حتى يستلزم ذلك الملازمة العرفية بين الحرمة وترتب الثواب على الترك ـ بخلاف فعل الواجبات فقد بيّن ترتب الثواب عليها كثيرا ـ.

نعم ، دلّ الدليل على ترتب الثواب على جهاد النّفس والصبر على المحرم ، ولكنها فعلان وجوديان مستحبان أو لازمان ، فلا ربط لذلك بالثواب على ترك الحرام. وقد تعارف بيان المحرمات بترتيب العقاب على الفعل.

وعليه ، فلا ظهور لطلب الترك ـ بنحو اللزوم بملاك المفسدة في الفعل ـ إلا في التحرز عن مفسدة الفعل ، فلا ظهور له عرفا في ثبوت الثواب عليه. ومجرد ترتب الثواب عقلا على الامتثال لا يلازم الظهور العرفي للدليل الموجب لصدق البلوغ كما عرفت. فتدبر.

وأما مورد قيام الخبر الضعيف على الكراهة فقد يقال في وجه شمول الأخبار له : ان داعوية الأمر إلى العمل ومحركيته نحوه بما هو أمر وطلب لا تتحقق إلا بلحاظ ما يترتب على المخالفة من أثر شيء مكروه أو ما يترتب على الموافقة من أثر حسن مرغوب فيه. والأول ثابت في الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي.

والثاني في الأمر الاستحبابي والنهي التنزيهي المعبر عنه بالكراهة ، إذ لا يترتب على مخالفة الكراهة العقاب ، فلا بد أن يترتب على موافقته الثواب ، ليصح النهي بلحاظه ، لصلاحيته للداعوية بذلك.

والإتيان بالعمل أو تركه بلحاظ الأثر الوضعي لا يصحح داعوية الأمر أو النهي ، إذ الأثر الوضعي لا يرتبط بالأمر والنهي وموافقتهما ومخالفتهما بما هما أمر أو نهي.

وعليه ، فهناك تلازم عقلا بين الكراهة وترتب الثواب على الموافقة ، فيكون الاخبار بالكراهة إخبارا بترتب الثواب بالملازمة.

٥٣٥

ولكن الحق هو عدم شمول أخبار من بلغ لموارد الكراهة ، إذ لا ظهور عرفا للدليل الدال على الكراهة في ترتب الثواب ، وإنما التلازم عقلي على ما بيّن ، وهو لا يصحح الظهور العرفي الّذي يستند إلى فهم العرف للملازمة لا إلى حكم العقل بها.

والغالب في مواقع بيان الكراهة هو بيانها بترتب المفاسد الوضعيّة على الفعل ، وقلّ مورد ـ ان لم ينعدم ـ بيّن فيه النهي التنزيهي بعنوان ترتب الثواب على الترك مطابقة.

فإذا ثبت ذلك ، يظهر عدم صدق بلوغ الثواب عند الاخبار بالكراهة ، فلا تشمله أخبار من بلغ.

وهذا هو العمدة في منع شمول الاخبار للخبر القائم على الكراهة. فانتبه.

التنبيه الخامس : ذكر المحقق العراقي قدس‌سره : انه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللفظ في المعنى ، فمع إجماله لا يصدق البلوغ ، وعليه فيعتبر عدم اتصاله بقرينة توجب سلب ظهوره.

وأما قيام القرينة المنفصلة على الخلاف ، فلا يضر في صدق البلوغ ، كما لو قام خبر ضعيف على استحباب إكرام كل عالم ، وقام خبر آخر على عدم استحباب إكرام النحويين ، فانه بمقتضى اخبار من بلغ يحكم باستحباب إكرام الجميع ، لأن المخصص المنفصل لا يستلزم انثلام ظهور العام في العموم ، وإنما يستلزم عدم حجيته فيه ، مع بقاء ظهوره على حاله ، فيصدق بلوغ استحباب إكرام الجميع مع قيام المخصص المنفصل ، وهكذا الحال في ما إذا كان نسبة المعارض المنفصل نسبة التباين.

هذا في فرض كون الخبر القائم على خلاف الاستحباب غير معتبر في نفسه.

٥٣٦

أما إذا كان حجة في نفسه ، فقد يتوهم عدم شمول القاعدة ـ أعني قاعدة التسامح ـ حينئذ للخبر الدال على الاستحباب ، باعتبار ان دليل الحجية يتكفل تتميم الكشف الراجع إلى إلغاء احتمال الخلاف ، فيقطع تعبدا بعدم استحبابه.

وعليه ، فلا يصدق البلوغ الّذي هو موضوع الحكم بالاستحباب ، فيكون دليل الحجية حاكما على أخبار من بلغ.

ولكنه توهم فاسد ، لعدم التنافي بينهما لعدم ورود النفي والإثبات فيهما على موضوع واحد ، فان مفاد أخبار من بلغ هو استحباب العمل بعنوان ثانوي ، وهو عنوان بلوغ الثواب ، ومفاد الخبر المعتبر عدم استحباب العمل بعنوانه الأولي ، فلا تنافي بينهما كما هو واضح.

هذا خلاصة ما أفاده قدس‌سره مما يهمنا ذكره ، بتوضيح منّا (١).

أقول : مقتضى التحقيق أن يجعل محل البحث في مورد قيام القرينة المنفصلة ، هو ما إذا كان كل من دليلي العموم والخصوص حجة في نفسه ، فيبحث في أنه هل يتمسك بأخبار من بلغ في إثبات استحباب ما قام الدليل المعتبر الخاصّ على عدم استحبابه ، أو لا يتمسك بها لعدم شمولها لمثل هذا المقام؟.

وذلك لأن المورد الّذي يرد فيه حديث انقلاب الظهور العمومي وانثلامه بورود المخصص المنفصل فلا يصدق البلوغ وعدمه فيصدق البلوغ ، هو ذلك المورد ، دون ما إذا كان كلا الدليلين غير معتبرين أو كان أحدهما كذلك. وذلك لأن مناط حمل المطلق على المقيد ـ ظهورا أو حجية ـ فيما إذا استند الكلامان إلى متكلم واحد. وأما مع عدم صدورهما من متكلم واحد ، فلا تنافي بينهما كي يكون أحدهما قرينة على الآخر ، فهل هناك تناف بين أمر زيد عمرا بشيء عام ، ونهي عمرو خالدا عن بعض افراد ذلك الشيء؟. وهل يتخيل أحد التصرف في

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٨٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٥٣٧

العام الصادر من زيد لأجل صدور الخاصّ من عمرو.

ولا يخفى أنه مع عدم حجية الدليلين أو أحدهما ، لا يثبت صدور الكلامين من واحد ، فلا وجه لحمل أحدهما على الآخر ، فكيف يتوهم التصرف في ظهور العام مع عدم ثبوت صدور الخاصّ من الإمام عليه‌السلام؟. كما أنه لا يتوهم التصرف في ظهور العام الّذي لا تعلم حجيته وصدوره من الإمام عليه‌السلام بواسطة الخاصّ المعلوم الصدور؟.

وهذا هو الوجه في التوقف لا ما يتخيل من أنه لا مجال لأصالة الظهور مع عدم اعتبار السند ، كما لا مجال لاعتبار السند مع إجمال الدليل ، ولذا يلتزم بعدم شمول أدلة حجية الخبر للخبر الصحيح المجمل في ظهوره ، فانه تخيل فاسد لأن عدم التعبد بصدور الخبر المجمل إنما هو لعدم ترتب أثر عليه.

أما حجية الظهور في مورد ضعف الخبر ، فلا محذور فيها بعد ترتب أثر عملي على تشخيص الظهور ومعرفة مراد المتكلم ، وهو صدق بلوغ الثواب الّذي عرفت أنه موضوع الحكم بالاستحباب ، إذ ما لم تكن للكلام كاشفية عن مراد المخبر وجدانا أو تعبدا لم يتحقق صدق البلوغ ، فلا مانع من إجراء أصالة الظهور في كلامه بلحاظ الأثر المزبور ، ولذا يتمسك بأصالة الظهور مع العلم بكذب المخبر ، فينسب له الكذب على الإمام عليه‌السلام استنادا إلى حجية ظهور كلامه في تشخيص مراده لترتيب آثار الكذب على الإمام عليه‌السلام.

وإذا ظهر ما ذكرناه فيقع الكلام في حكم الصورة التي بيناها.

والحق عدم شمول أخبار من بلغ لمورد الخاصّ ، لأن تقديم المقيد على المطلق الراجع إلى بيان قصر المراد الجدي للعام على غير مورد الخاصّ موجب لعدم صدق بلوغ الثواب بالنسبة إلى مورد الخاصّ ، إذ صدق البلوغ يتوقف على كاشفية الكلام عن المراد الجدي ـ ولو لم يكن حجة ـ.

٥٣٨

أما إذا لم يكن كاشفا عن المراد الجدي ـ كما لو صرح المتكلم بان مرادي الجدي ليس على طبق ما تكلمت ولم أكن في مقام بيانه ـ فلا يصدق البلوغ.

وعليه ، فمع تقديم المقيد ـ بضميمة أن الكلام المتعدد الصادر من الأئمة عليهم‌السلام بمنزلة كلام واحد يفسر بعضه بعضا ـ يكشف ذلك عن أن المخبر عن الإمام عليه‌السلام بالمطلق أو العام لم يكن قصده الاخبار عن المطلق أو العام جدّاً. ولم يكن قاصدا الحكاية عن ان المراد الجدي هو العموم ، فلا يصدق بلوغ الثواب على مورد التخصيص.

وأما مورد التعارض ، وكون الخبر المعارض حجة كما إذا قام خبر ضعيف على الاستحباب وقام خبر صحيح على عدم الاستحباب ، وما يدخل فيه ما إذا قام الخبر الضعيف على الاستحباب بنحو العموم وقام الخبر الصحيح على عدمه في مورد خاص ـ إذ عرفت انه ليس من موارد الجمع الدلالي ـ ، فقد يتخيل دعوى الحكومة بالتقريب السابق المذكور في كلام العراقي قدس‌سره.

ولكن فيه : ان البلوغ يساوق الاخبار. ومن الواضح ان العمل بأحد الدليلين لحجيته سندا الراجع إلى إلغاء احتمال الخلاف سندا ، لا ينتفي به صدق الاخبار بالاستحباب جدا في موارد الخبر الضعيف ، فيصدق البلوغ.

وبالجملة : في مورد تقديم الخاصّ من حيث الدلالة لا يصدق البلوغ. وأما في مورد تقديمه سندا بلا تصرف في مدلول العام أو الدليل الآخر ، فيصدق البلوغ لتحقق الاخبار بالثواب جدا.

وأما ما أفاده قدس‌سره في دفع الحكومة بعدم التنافي لتعدد الموضوع فهو عجيب منه قدس‌سره ، إذ لا يفرض التنافي بين الحاكم والمحكوم ، ولذا يقدّم الحاكم على المحكوم ، كما أن الدليل الحاكم المتصرف في الموضوع لا يرد على ما يرد عليه المحكوم ، بل هو يستلزم التصرف في موضوعه.

وبالجملة : دليل حجية الخبر الصحيح ـ بمقتضى الدعوى ـ يستلزم رفع

٥٣٩

صدق البلوغ. فالجواب عنه بان الخبر الصحيح يتكفل الاستحباب بالعنوان الأولي فلا ينافي اخبار من بلغ. غير جار على الأسس الصناعية في جواب مثل الدعوى ، فان المدعى فرض حكومة دليل الاعتبار على اخبار من بلغ لاستلزامه رفع موضوعها ، فأي ربط لذلك ببيان مدلول الخبر المعتبر؟!. فالتفت ولا تغفل.

التنبيه السادس : في شمول اخبار من بلغ للاخبار بالفضائل التي يتحلى بها الأئمة صلوات الله عليهم ) ومناقبهم. والاخبار بالمراقد الشريفة. وقد حكي عن الشهيد الثاني نسبته إلى الأكثر (١). وحكي عن الشيخ رحمه‌الله الذهاب إليه في رسالته (٢).

وتقريب الشمول : هو ان العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء فالعمل بالخبر القائم على الفضيلة نشرها ، والعمل بالخبر القائم على ان هذا المكان مرقد الإمام عليه‌السلام هو الحضور عنده ، فيكون الاخبار بالموضوع إخبارا بالملازمة عن استحباب العمل المتعلق به من فعل أو قول ، فتشمله أخبار من بلغ بلحاظ المدلول الالتزامي من استحباب النقل أو الحضور عنده أو غيرهما.

وإلا فنفس الموضوع المخبر به لا معنى لأن يكون مما بلغ فيه الثواب ، إذ الثواب على العمل لا على الموضوع.

أقول : لا يخفى أن هذه الأخبار لا تشمل ما إذا كان المورد في نفسه ومع قطع النّظر عنها قبيحا عقلا أو عقلا وشرعا.

والسرّ فيه هو ظهورها في كون مجرد بلوغ الثواب محركا للمبلغ نحو العمل وداعيا إليه.

__________________

(١) الشهيد الثاني زين الدين ـ الدراية ـ ٢٩ طبعة النجف.

(٢) المحقق الشيخ محمد حسن الآشتياني ـ بحر الفوائد ٢ ـ ٧١. الطبعة الأولى.

٥٤٠