منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

فانه يكشف عن ان التذكية غير الطهارة ، إذ هي متحققة ولو لم يتحقق إخراجه حيا من الماء.

والجواب : أنه بعد ورود التعبير بالذكاة عن الطهارة كما ورد في مطهرية الشمس (١) ، وورود النص في خصوص السمك بان الله سبحانه قد ذكّاه (٢) ، أو أنه ذكيّ (٣) ، يسهل الحال في التعبير بالذكاة عن إخراجه حيّا.

وذلك لأن حلية الأكل في سائر الحيوانات تترتب على طهارته المرادة من التذكية. أما السمك فلا تترتب الحلية فيه على الطهارة ، لأنه طاهر ولو كان ميتة ، وإنما تترتب الحلية فيه على أمر آخر وهو إخراجه من الماء حيّا ـ مثلا ـ.

وعليه ، نقول : بعد فرض التعبير عن الطهارة بالتذكية في خصوص السمك وفي غيره ، وبعد فرض أن أثر الطهارة في غير مورد السمك هو حلية الأكل لم يكن خلاف المتعارف أن يعبر عن موضوع الحلية في السمك بالتذكية من باب التنزيل والحكومة ، بل هو من المتداول عرفا ، فإذا كان من المتعارف أن تكون الأجرة على عمل ما دينارا ، فإذا لم يرد الأجير ان يأخذ الدينار وانما أراد شيئا آخر ، فقد يقول : أجرتي ان تكون أخلاقك حسنة ـ مثلا ـ ، أو غير ذلك.

وعليه ، فالتعبير بالتذكية عن إخراج السمك من الماء حيا تعبير من باب التنزيل والحكومة. وهو مما لا مانع منه عرفا ، ويحمل عليه الكلام قهرا للمناسبة المزبورة. فلاحظ.

وبالجملة : لا نرى ما يصرف لفظ التذكية عن معناه العرفي ، فلا محيص عن الالتزام بان المراد بها هو الطهارة وانها ليست شيئا آخر غير الطهارة كما عليه القوم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : باب ٢٩ من أبواب النجاسات.

(٢) مجمع البحرين : مادة ذكا.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٦ ـ ٣٦٠ باب ٣١.

٥٠١

وأما قابلية المحل : فهي مما لا محصل له بحسب مقام الإثبات ، فان الالتزام بوجود أمر غير الأفعال الخاصة وغير خصوصية الحيوان من كونه غنما أو غيره يعبر عنه بقابلية المحل ، بحيث يكون محلا للنفي والإثبات ، مما لا وجه له أصلا ولا موهم له من نصّ وغيره. فما الفرق بين اللحوم وبين سائر موضوعات التحريم أو الحلية المأخوذ فيها قيود خاصة ، فلم لا يلتزم بمثل ذلك في مثل العنب إذا غلى الّذي تترتب عليه الحرمة ونحوه. فليس لدينا سوى الذات الخاصة التي يترتب عليها الحكم التكليفي من حلية وحرمة بقيود خاصة معلومة من فري الأوداج وذكر الله تعالى والاستقبال. وبتعبير آخر الّذي يلتزم به هو ان الموضوع للحلية وهو الذات مع أفعال خاصة من الذبح أو النحر أو الفري أو الإخراج من الماء حيا بقيود خاصة. أما قابلية المحل فهو ، أمر وهمي لا دليل عليه ولا موهم له ولو ظنا ، ففرض ثبوت وصف القابلية وإيقاع البحث في نفيه وإثباته بالأصل العملي ، والكلام في صحة إجراء الأصل فيه ، أمر لا نعرف وجهه ومدركه.

وإلى ما ذكرنا أشار المحقق الأصفهاني ، ولكنه ببيان يختلف عن البيان الّذي ذكرناه ، فلاحظ وتدبر (١).

وعلى أي حال ، فقد عرفت المقصود بالتذكية وتحقيق حالها.

وبعد ذلك يقع الكلام ـ بناء على مسلك القوم من ترتيب أثرين على التذكية ـ كما إذا أخذت التذكية بمعنى الأفعال الخاصة من الذبح أو النحر ـ هما الحلية والطهارة ، وأثرين على عدمها وهما الحرمة والنجاسة ـ في : أن موضوع الحرمة والنجاسة وموضوع الحلية والطهارة هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي أو التفكيك بين الحرمة والنجاسة ، فيلتزم بترتب النجاسة على عنوان وجودي فقط

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢١١ ـ الطبعة الأولى.

٥٠٢

وترتب الحرمة على عنوان عدمي.

ثم بناء على أنه أمر عدمي ، فأخذه يتصور على وجوه ، من كونه بمفاد ليس التامة ، أو بمفاد ليس الناقصة ، أو بنحو عدم الملكة. وقد عرفت الأثر العملي لهذا البحث.

وعلى كل ، فأساس الحديث في ان موضوع النجاسة والحرمة هل واحد أو أنه متعدد ، فموضوع النجاسة أمر وجودي وموضوع الحرمة أمر عدمي؟.

قد يلتزم بأن موضوع النجاسة أمر وجودي ، وهو عنوان الميتة فإنه عنوان لما مات حتف أنفه لا كل ميت ، ولذا عطف عليه في الآية الشريفة الموقوذة والمتردية وغيرهما (١) ، وبما أنه لا يمكن الالتزام بأن موضوع النجاسة خصوص ما مات حتف أنفه ، يلتزم بأنه الميتة عبارة عن كلّ ما مات بغير سبب مصحح.

فان الميتة بلحاظ هيئتها الخاصة لا تساوق مطلق الميّت ، وإنما تساوق الميت المشوب بالاستقذار العرفي والاشمئزاز النفسيّ ، وهو كل ما مات بغير سبب يصح أكله ويرفع جهة الاستقذار فيه ، على اختلاف مصاديق ذلك بلحاظ اختلاف الشرائع والعادات فيه.

وبالجملة : الّذي يلتزم به القائل هو أن موضوع النجاسة هو الميتة ، وهي تعبر عن أمر وجودي وهو زهاق الروح بغير سبب مصحح. ولم يرد في النص أخذ غير المذكى أو نحوه من العناوين العدمية في موضوع النجاسة ، بل هي محمولة في النصوص على عنوان الميتة.

ويمكن المناقشة فيه :

أولا : بان النجاسة لم تحمل في النصوص على خصوص عنوان الميتة ، بل كما حملت على عنوان الميتة حملت أيضا على عنوان الميّت وعنوان ما مات

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٣

٥٠٣

ونحوهما. ومن الواضح انه عنوان مطلق يشمل كل غير ذي روح ، سواء كان زهاق روحه لنفسه أو بسبب مصحح أو غير مصحح ، ومقتضاه نجاسة المذكى كغير المذكى ، لكن قيام الدليل على تخصيصه بالمذكى وإخراجه عنه يستلزم تقييد موضوع الحكم بغير موارد التذكية ، ولازم ذلك أخذ عدم التذكية في موضوع النجاسة.

وثانيا : ان مفهوم قوله عليه‌السلام في النص : « إذا سميت ورميت فانتفع به » (١) هو حرمة الانتفاع ـ لأجل النجاسة ، لأنه ظاهر محور السؤال ـ مع عدم التسمية أو الرمي ، وهو ظاهر في تعليق النجاسة على أمر عدمي رأسا ، فلو لم نلتزم بان موضوع النجاسة مطلق الميت ، بل خصوص الميتة بالمعنى المزبور ، كفانا في إثبات أخذ الأمر العدمي في موضوع النجاسة مفهوم النص المزبور.

وعليه ، فيثبت لدينا انه قد أخذ في موضوع النجاسة جهة عدمية ، كعدم الذبح أو الرمي أو التسمية ، أو غير ذلك من شرائط التذكية.

وأما الحرمة ، فقد رتبت على أمر وجودي كالميتة ، كما رتبت على أمر عدمي كما لم يذكر اسم الله عليه.

فلا فرق بين النجاسة والحرمة في الموضوع ، بل هما مترتبان على أمر وجودي في بعض الأدلة وعلى أمر عدمي في بعض آخر.

هذا ، ولكن نقول انه بناء على ان الميتة عنوان وجودي ، وهو ما زهقت روحه بغير سبب مصحح ، وعدم رجوعه إلى امر عدمي ، وهو غير المذكى ، كي يكون الموضوع في الحكمين خصوص الأمر العدمي ، بناء على ذلك المستلزم لتعدد موضوع الحرمة والنجاسة في لسان الدليل ، وبعد فرض ملازمة العنوان الوجوديّ مع العنوان العدمي ، لا بد من رفع اليد عن موضوعية أحد هذين

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٦ ـ ٢٧٨ ـ الحديث ٧ مضمونا.

٥٠٤

الموضوعين ، إذ من المعلوم انه ليس لدينا إلا حرمة ونجاسة واحدة ، وليس لدينا حرمتان إحداهما موضوعها الميتة والأخرى موضوعها غير المذكى ، ففي مثل هذه الحال لا يرى العرف الا كون الموضوع الواقعي واحدا ، وان التعبير بالآخر لأجل ملازمته لموضوع الواقعي.

وعليه ، فهل يرى في مثل ذلك ان الأصالة للأمر الوجوديّ ويكون الأمر العدمي تابعا ، أو لا؟.

ولا يخفى انه لو لم نجزم بان العرف يقضي في مثل هذه الموارد بان الموضوع هو الأمر الوجوديّ ، كفانا التشكيك فيه في نفي ترتب الأثر المطلوب ، إذ على هذا لا يمكننا إثبات الحرمة ولا النجاسة بأصالة عدم التذكية ـ في مورد تجري في نفسها ـ إذ لا يعلم ان الحرمة والنجاسة من آثار عدم التذكية كي تترتبان على الأصل المزبور ، بل يحتمل ان يكون الأصل من الأصول المثبتة ، باعتبار ان موضوع الحرمة والنجاسة أمر وجودي لا يثبت بالأصل المزبور إلا بالملازمة.

ثم إنه لو ثبت أن الجهة العدمية دخيلة في موضوع الحرمة والنجاسة ، فذلك يتصور على وجوه الإن المقسم الّذي يلحظ بالنسبة إلى المذكى وغيره ..

إما ان يكون ذات الحيوان ، فيكون الحيوان المذكى حلالا والحيوان غير المذكى حراما.

وأما ان يكون المقسم ما زهقت روحه لا ذات الحيوان ، وهو يتصور على وجهين :

أحدهما : أن يكون قيدا للموضوع ويكون الشرط هو التذكية وعدمها ، فمثلا يكون موضوع الحلية وهو ما زهقت روحه إن كان مستندا إلى التذكية ، وموضوع الحرمة ما زهقت روحه ان لم يكن بسبب التذكية.

والآخر : ان يؤخذ في الشرط بأن يكون موضوع الحلية هو الحيوان ان

٥٠٥

زهقت روحه بالتذكية ، وموضوع الحرمة هو الحيوان ان زهقت روحه بغير التذكية.

فالوجوه المتصورة ثبوتا ثلاثة.

والثمرة الظاهرة في اختلاف الوجوه ، هو انه على فرض أخذ المقسم هو الحيوان وكان الشرط هو التذكية وعدمها ، فالحرمة مترتبة على الحيوان إن لم يذك كما إذا لم يذبح. فمع الشك في تحقق الذبح أو غيره من الشرائط صح جريان أصالة عدم تحقق التذكية في الحيوان ، لأنها مسبوقة بالعدم ، وترتب على ذلك ثبوت الحرمة.

وأما على فرض أخذ زهاق الروح في المقسم ، فان أخذ في الشرط فالحال كذلك أيضا للشك في تحقق إزهاق الروح الخاصّ ، فيستصحب عدمه.

وأما إذا أخذ في الموضوع ، فلا مجال لجريان الأصل ، إذ المشكوك هو استناد زهاق الروح للتذكية ، وهو مما لا حالة سابقة له كما لا يخفى ، فلا يجري أصل عدم التذكية.

وإذا عرفت أثر هذه الوجوه فيقع الكلام في اختيار أحدها بلحاظ مقام الإثبات.

والتحقيق هو ان زهاق الروح المسبب عن الأفعال الخاصة دخيل قطعا في ثبوت الحكم ، أما أصل الموت فلأنه من المعلوم من النص عدم حلية اللحم بمجرد ورود الذبح عليه قبل موته ، بل انما يحل إذا مات. واما اعتبار استناد الموت إلى الذبح ونحوه ، فلان قوله عليه‌السلام : « ان سميت ورميت فانتفع به » وان كان مطلقا من هذه الجهة ، إلا انه من المعلوم بالضرورة الفقهية انه يعتبر استناد الموت إلى الفعل الخاصّ من الرمي والذبح ونحوهما ، بحيث إذا استند إلى غيرها ـ كما لو خنقه بعد الذبح ـ لم ينفع في ثبوت الحلية ولو تحققت هذه الأفعال. اذن فيندفع الاحتمال الأول.

ويدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين فلو لم نقل بظهور أخذ زهاق

٥٠٦

الروح في الموضوع وكون الشرط مجرد استناده إلى الذبح وعدمه ، فلا أقل من التشكيك فيه ، وهو يكفينا في منع جريان أصالة عدم التذكية كما لا يخفى.

والّذي ينتج مما ذكرناه بمجموعه : أنه لا مجال لأصالة عدم التذكية في حال من الأحوال.

أما في الشبهة الحكمية ، فلأن الشك لا يكون إلا في الحكم الشرعي من الحلية والطهارة ، ولا يتصور الشك في موضوعه ، لأنه إذا فرضنا ان حيوانا معلوم الاسم أجرينا عليه الذبح بشرائطه المعتبرة ، وشككنا في حلية أكل لحمه ، فلا شك لدينا في الموضوع للعلم بخصوصية الحيوان وبإجراء التذكية عليه ، فإذا كان هناك شك فهو شك في جعل الحلية له. ومن الواضح أنه مجرى أصالة الحلّ ، كما انه مجرى لاستصحاب الطهارة قبل الموت. فلا شك في الموضوع كي يجري فيه الأصل الحاكم على أصالة الحلّ.

نعم بناء على أخذ القابلية والشك فيها ، أو كون التذكية معنى اعتباريا مسببا عن الأفعال الخاصة وموضوعا للطهارة والحلية وتحقق الشك فيها ، كان للأصل الموضوعي مجال.

ولكن عرفت ان حديث القابلية لا أساس له ، وان فرض التذكية أمرا اعتباريا مسببا عن الأفعال الخاصة ، ويكون موضوعا للطهارة والحلية مما لا دليل عليه بتاتا ، بل لم يرد في النصوص أخذ التذكية في موضوع الطهارة أصلا.

وعلى كل ، فيتمحص الشك في موارد الشبهة الحكمية بالشك في الحكم الشرعي ولا شك في الموضوع أصلا.

وأما في الشبهة الموضوعية ، فالشك في الموضوع قد يتحقق ، كما إذا شك في تحقق الذبح أو التسمية أو الاستقبال أو غيرها من شرائط الحلية.

إلا انه لا ينفع استصحاب عدمه في ترتيب الحرمة والحكومة على أصالة الحل ، لاحتمال كون الموضوع للحرمة أمرا وجوديا لا يثبت بالأصل إلا بالملازمة ،

٥٠٧

من باب ان نفي أحد الضدين يلازم ثبوت الضد الآخر.

وعلى تقدير أنه عدمي ، فقد عرفت أن موضوع الحلية ليس هو الحيوان مع ورود الأفعال الخاصة كالذبح عليه ، بل هو الحيوان الميت مع استناد الموت إلى الذبح ، ومقتضى ذلك ان يكون موضوع الحرمة هو الميت ، بلا استناد الموت إلى السبب الشرعي ، وهذا ثبوتا يتصور على وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون الموضوع امرا وجوديا كما إذا كانت الحرمة مرتبة على الميّت المستند موته إلى سبب غير السبب الشرعي.

الثاني : ان يكون امرا عدميا مأخوذا بنحو العدم النعتيّ ، كما إذا كانت الحرمة مرتبة على الميت الّذي لم يمت بسبب شرعي.

الثالث : ان يكون الموضوع عدميا مأخوذا بنحو العدم المحمولي وبنحو التركيب ، بان يكون المجموع المركب من الموت وعدم الذبح الشرعي موضوعا للحرمة.

ولا يخفى أن أصالة عدم الذبح الشرعي لا ينفع بناء على الأول ، إذ الموضوع للحرمة جهة وجودية ملازمة لذلك.

كما لا ينفع على الثاني ، إذ ليس للموت حالة سابقة كي يستصحب اتصافه بعدم استناده إلى السبب الشرعي ، إذ هو حين تحقق لا يخلو إما ان يكون مستندا إلى سبب شرعي أو غير مستند.

نعم ، ينفع الأصل من باب استصحاب العدم الأزلي بناء على الثالث لإحراز أحد الجزءين بالوجدان وهو الموت والآخر بالأصل وهو عدم تحقق الذبح الشرعي.

هذا بملاحظة مقام الثبوت.

أما بملاحظة مقام الإثبات ، فمع التنزل عن كون الموضوع امرا وجوديا والالتزام بأنه أمر عدمي ، فظاهر الدليل الدال على أخذ القيد العدمي أنه مأخوذ

٥٠٨

بنحو التوصيف والعدم النعتيّ كقوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) (١).

ولو تنزل عن ذلك فلا أقل من التشكيك وعدم ثبوت أحد النحوين ، وهو كاف في عدم جريان الأصل.

ودعوى : انه مع الشك ودوران الأمر بين أخذ العدم بنحو العدم النعتيّ وأخذه بنحو العدم المحمولي ، فالأصل يعيّن الثاني.

مندفعة : بان المقصود بالأصل إما الأصل اللفظي وهو الإطلاق. وإما الأصل العملي.

أما الإطلاق بلحاظ ان أخذ خصوصية الاتصاف مئونة زائدة. ففيه : انه لا ينفي أخذ الاتصاف في موضوع الحكم. وذلك لأنه بعد ان علم بدخالة الوصف مع الذات في ثبوت الحكم. ومن الواضح أيضا انه مع تحقق الوصف واقعا يتحقق الاتصاف قهرا ولا يمكن تخلفه عنه ، فلا معنى للإطلاق حينئذ ، إذ مفاد الإطلاق هو ثبوت الحكم في مورد وجود الخصوصية المشكوكة ومورد عدمها ، وتسوية الحكم لكلتا الحالتين ، وهذا مما يعلم بعدمه هاهنا ، للعلم بان الحكم لا يثبت إلا في مورد تحقق الاتصاف ـ وان شك في دخالته ـ لأنه صفة لازمة للوصف المفروض كونه دخيلا ، فلا معنى للتمسك بالإطلاق لنفي دخالة الاتصاف ، كما هو الحال في مطلق الصفات اللازمة لموضوع الحكم ، فانه يمتنع التمسك بالإطلاق لنفي دخالتها في الموضوع.

وأما الأصل العملي ، فان أريد به التمسك بالبراءة في نفي دخالة خصوصية الاتصاف ، لأنها مجهولة. ففيه : ان البراءة لا تجري في تحديد الموضوع. وانما تجري في متعلقات الأحكام. وان أريد به التمسك باستصحاب عدم ملاحظة

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٢١.

٥٠٩

خصوصية الاتصاف. فهو معارض باستصحاب عدم ملاحظة الوصف مع الذات بنحو التركيب ، لأنها ملاحظة حادثة والأصل عدمها.

وعليه ، فلا طريق لدينا لإثبات أحد النحوين ، وهو يستلزم التوقف في إجراء أصالة عدم التذكية.

وبذلك تعرف ان أصالة عدم التذكية مما لا أساس له.

نعم ، ورد في النصوص (١) ما يدل على أن حلية الأكل مترتبة على اليقين والعلم بالتذكية ، وانه مع الجهل لا يحل اللحم ، وبذلك لا مجال لإجراء أصالة الحلّ في اللحم المشتبه بالشبهة الموضوعية ، وإن لم تجر أصالة عدم التذكية.

إلا ان الّذي تتكفله النصوص نفي الحلية مع الجهل لا نفي الطهارة ، فلا مانع من التمسك بأصالة الطهارة في اللحم المشتبه وإن حرم أكله لأجل النص. فلاحظ وتدبر جيدا.

هذا تمام الكلام في تحقيق الحال في أصالة عدم التذكية.

يبقى الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية في صور الشبهة الحكمية. فقد ذكر قدس‌سره : ان الشبهة تارة تكون حكمية. وأخرى موضوعية.

أما الشبهة الحكمية ، فصور الشك فيها ثلاث :

الأولى : ان يشك في حلية اللحم لأجل الشك في قابليته للتذكية ، وقد أجرى فيها أصالة عدم التذكية الراجع إلى أصالة عدم القابلية الحاكم على أصالة الحل في اللحم.

الثانية : ان يشك في حلية اللحم مع علمه بقبوله للتذكية ، وقد أجرى هاهنا أصالة الإباحة كسائر ما شك في حليته وحرمته لعدم أصل موضوعي حاكم على أصالة الحلّ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٦ ـ ٣٢٣ ـ باب ١٣.

٥١٠

الثالثة : ان يشك في حلية اللحم للشك في زوال قابليته للتذكية بعروض عارض كالجلل إذا شك في مانعيته للتذكية ، وقد فرض هذه الصورة مما يوجد أصل موضوعي حاكم على أصالة عدم التذكية.

ثم أجرى استصحاب حلية الحيوان بالفري شرائطه الثابتة قبل الجلل فيما بعد الجلل. وهو استصحاب للحكم التعليقي بهذا التصوير كما لا يخفى.

وبعد ان ذكر هذه الصور للشبهة الحكمية ، عطف عليها الشبهة الموضوعية ، وان الشك فيها تارة : يكون لأجل الشك في تحقق ما يعتبر في التذكية شرعا ، كالشك في تحقق التسمية ، فأصالة عدم التذكية محكمة. وأخرى : يكون لأجل الشك في طروء ما يعلم مانعيته للتذكية كالشك في تحقق الجلل على تقدير مانعيته ، فأصالة قبوله للتذكية محكمة. هذا ما أفاده قدس‌سره (١).

وقد عرفت الكلام في الصورة الأولى من صور الشبهة الحكمية وصورتي الشبهة الموضوعية.

أما الصورة الثانية من صور الشبهة الحكمية ..

فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني بان الخصوصية المفروضة في الحيوان تختلف بحسب الأثر. فتارة : يترتب عليها الطهارة والحلية كما في الغنم. وأخرى : يترتب عليها الطهارة فقط دون الحلية كما في السباع. وثالثة : يترتب عليها الحلية دون الطهارة كما في السمك ، فان ميتته طاهرة ، فلا ترتبط الطهارة بتذكيته ، وهذا مما يكشف ان الخصوصية المؤثرة في الطهارة غير الخصوصية المؤثرة في الحلية.

وعليه ، فالشك في الحلية ينشأ من الشك في ثبوت الخصوصية المؤثرة فيها ، وان علم بثبوت الخصوصية المؤثرة في الطهارة ، ومعه لا مجال لأصالة الحل ، بل تجري أصالة عدم تلك الخصوصية الحاكمة على أصالة الحل كالصورة الأولى.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥١١

هذا بناء على مسلك صاحب الكفاية من فرض خصوصية وراء الأفعال الخاصة وذات الحيوان ، يصطلح عليها بقابلية التذكية.

وهكذا الحال بناء على مسلكنا ـ الضمير يرجع إلى المحقق الأصفهاني ـ من إنكار فرض القابلية والالتزام بأن التذكية عبارة عن أمر اعتباري بسيط يترتب على الأفعال الخاصة ، وأثره الطهارة والحلية أو أحدهما ، لأنه يشك في تحققه في هذا المقام فيجري الأصل في نفيه. إذن فأصالة عدم التذكية هو المحكّم في هذه الصورة (١).

وأما الصورة الثالثة : فيرد عليه :

أولا : ان ظاهر كلامه هو إجراء الأصل في الحكم التعليقي مع انه له مجال في نفس الموضوع بان يجري في نفس القابلية ، لأنها محرزة الثبوت سابقا فتستصحب ، فكما أجرى استصحاب عدم التذكية في الصورة الأولى كان عليه ان يجري استصحاب التذكية في هذه الصورة. مضافا إلى ما في استصحاب الحكم التعليقي من كلام طويل بين الاعلام ، فقد وقع الكلام في أصل جريانه وفي معارضته بالاستصحاب التنجيزي دائما. فاختياره للاستصحاب التعليقي في غير محله.

وثانيا : انه فرض ان المورد من موارد وجود الأصل الموضوعي بالنسبة إلى أصالة عدم التذكية. فان أراد إجراء أصالة قابلية الحيوان للتذكية ، فهو ليس في موضوع عدم التذكية ، بل هو الطرف النقيض لعدم التذكية ، والأصل الجاري في الوجود لا يكون أصلا موضوعيا بالنسبة إلى الأصل الجاري في العدم. وإن أراد إجراء الاستصحاب التعليقي ، فهو لا يكون أصلا موضوعيا ، بل هو أصل حكمي كما لا يخفى.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢١٣ ـ الطبعة الأولى.

٥١٢

ومن هنا يعرف الحال في نظير هذه الصورة من الشبهة الموضوعية. فتدبر.

التنبيه الثاني : في الاحتياط في العبادات.

ذكر صاحب الكفاية : انه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي (١).

أقول : للتوقف في ترتب استحقاق الثواب عقلا على الاحتياط بما هو ، ومع قطع النّظر عن استحبابه شرعا ، مجال واسع. فما أفاده قدس‌سره من عدم الارتياب فيه وإرساله إرسال المسلمات مستدرك.

والوجه فيه بنحو الإجمال : ان الاحتياط إنما يكشف عن وجود صفة حسنة كامنة في نفس المحتاط ، وهي صفة الانقياد ، وهي لا تستلزم سوى الحسن الفاعلي لا الفعلي ، وهو لا يستلزم الثواب.

هذا ، مع ان مجرد الإتيان بالفعل الحسن لا يستلزم استحقاق الثواب ما لم يربطه بالمولى.

وإذا أردت استيضاح الأمر ، فراجع ما بيّناه في مبحث التعبدي والتوصلي (٢).

والأمر في هذا سهل ولننقل الكلام إلى البحث عن إمكان الاحتياط في العبادات.

فقد ادعي عدم إمكانه فيما لو دار الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ـ إذ لو دار بينه وبين الاستحباب يكون الأمر معلوما فلا إشكال ـ. ببيان : ان العبادة يعتبر فيها قصد القربة ، وهو يتوقف على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) راجع ج ١ ـ ٤٧٩ من هذا الكتاب.

٥١٣

إجمالا وبتقرير آخر : ان الاحتياط عبارة عن الإتيان بالعمل المحتمل تعلق الأمر به بسائر ما يعتبر فيه جزء أو شرطا ، بحيث لا يفقد المأتي به سوى الجزم بأنه مأمور به.

ومن الواضح انه يعتبر في العبادة قصد القربة بمعنى قصد امتثال الأمر. ومع الجهل بتعلق الأمر بالعمل لا يعلم بكون العمل مقرّبا ، فهو لا يعلم بإتيانه بالعمل المأمور به احتمالا ، فلا يعد ذلك احتياطا.

أقول : هذا الإشكال يتوجه على بعض المباني في تحقق العبادية.

أما على غيره ، فاما ان لا يتصور له وجه معقول ، أو يتصور له وجه معقول لكنه مردود.

توضيح ذلك : أنه ..

تارة : يلتزم باعتبار الجزم بالنية في العبادة ، بحيث لا تتحقق العبادية بدونها.

وأخرى : لا يلتزم بذلك. وعليه ..

فتارة : يلتزم بان الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر يكون موجبا لكونه مقرّبا ، ولو لم يكن مصادفا للواقع ، بل له موضوعية في تحقق التقرب بالعمل.

وأخرى : لا يلتزم بذلك ، بل يلتزم بأنه يكون مقربا إذا صادف الواقع.

فبناء على الأول ـ وهو اعتبار الجزم بالنية في العبادية ـ ، يتوجه الإشكال ، إذ مع التردد في تعلق الأمر لا يمكن الجزم ، فيختل أحد شروط العمل العبادي فلا يتحقق الاحتياط.

وأما بناء على الثاني ، فلا يرد إشكال أصلا ، إذ الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر يعلم معه الإتيان بكل ما يعتبر في العبادة جزء وشرطا ، للعلم بإتيان الفعل المقرّب فعلا لا تقديرا ، فلا يتصور فيه الإشكال بكلا تقريريه.

نعم ، على الثالث قد يتوجه الإيراد السابق من انه يعتبر في الاحتياط

٥١٤

العلم بإتيان جميع ما يعتبر في العمل ، وهو غير حاصل مع الجهل بتعلق الأمر.

ولكن يندفع : بأنه لا دليل على ما ذكر ، بل الاحتياط لا يعتبر فيه سوى الإتيان بما يحصل به الأمن ، وما يتحقق به إدراك الواقع لو كان مأمورا به.

وهذا يتحقق بالإتيان بالعمل رجاء وبداعي احتمال الأمر ، لتحقق قصد القربة لو كان الأمر ثابتا.

إذن فلا يصح إشكال بناء على الوجهين الأخيرين ، وإنما يرد الإشكال بناء على الوجه الأول وهو اعتبار الجزم بالنية ، ولكنه فاسد كما حقق في محله خصوصا مع عدم التمكن من العلم بالأمر.

فيصح لنا أن نلتزم بصحة الاحتياط في العبادات.

هذا ، وقد تصدى البعض إلى إثبات تعلق الأمر بالعبادة المأتي بها بعنوان الاحتياط بحيث يتحقق الجزم بالنية ، وذلك بطريقين :

أحدهما : ان حسن الاحتياط عقلا يستلزم تعلق الأمر به شرعا ، لقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فيثبت الأمر به بنحو اللم.

والآخر : ان ترتب الثواب على الاحتياط يكشف ـ بنحو الإن ـ عن تعلق الأمر به ، لأن ثبوت الثواب معلول ثبوت الأمر.

وقد ناقشهما في الكفاية بوجهين :

الأول : ان إثبات الأمر بالاحتياط لا ينفع في تصحيح الاحتياط ، لأن الأمر يتوقف على ثبوت الاحتياط توقف العارض على المعروض ، فلا يعقل ان يكون من مبادئ ثبوته وإمكان تحققه ، فانه دور.

الثاني : ان حكم العقل بحسن الاحتياط ، كما أن ترتب الثواب عليه لا يستلزم تعلق الأمر به ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة الحقيقية ، فان الاحتياط نحو من الطاعة. ومن الواضح عدم تعلق الأمر بالإطاعة مع حسنها

٥١٥

عقلا وترتب الثواب عليها شرعا. فلاحظ (١).

وقد تصدى المحقق الأصفهاني رحمه‌الله إلى الإيراد على الوجه الأول من هذين الوجهين بوجه مفصّل يرجع ـ بعد تقسيمه العوارض إلى عارض الوجود ، وهو ما يحتاج إلى موضوع موجود كالبياض المحتاج في وجوده إلى موضوع موجود. وإلى عارض الماهية ، وهو ما لم يكن كذلك ، بل كان ثبوت المعروض بثبوت عارضه والعروض تحليلي ، ومنه عروض الوجود على الماهية ، فانه من قبيل عارض الماهية ، وإلا لاحتاج عروض الوجود عليها إلى وجود الماهية ، فيلزم الدور أو التسلسل ـ إلى أن نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة عارض الماهية إلى الماهية ، فلا يتوقف على وجود المعروض. فالحكم عارض على ماهية العمل لا على وجوده.

وهذا الأمر تكرر منه قدس‌سره ، مع أنه يتنافى مع ما يلتزم به من ان الماهية بما هي لا يتعلق بها الطلب لخلوها عن المصلحة والملاك ، كما ان الوجود الخارجي لا يتعلق به الطلب لأنه تحصيل الحاصل ، وهو مسقط للطلب لا مقوم له.

ولأجل ذلك التزم بان متعلق الطلب هو الوجود الزعمي ـ بتعبير ـ والتقديري ـ بتعبير آخر ـ وهو نحو وجود تخلقه النّفس (٢).

وقد مرّ إيضاح ذلك في مبحث متعلق الأمر والنهي وأنه الطبيعة أو الفرد. فراجع (٣).

وقد تصدى الشيخ الأعظم رحمه‌الله ـ في رسائله ـ إلى دفع الإشكال على جريان الاحتياط في العبادات ـ بعد أن قوّى الإشكال أولا ، وإن قيل بان العبارة سهو من الناسخ ـ : بان الاحتياط في العبادة هو مجرد الفعل الجامع لجميع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢١٤ ـ الطبعة الأولى.

(٣) راجع ج ٢ ـ ٤٧٧ من هذا الكتاب.

٥١٦

الاجزاء والشرائط عدا نية القربة ، وهو مما يعلم بإتيانه (١).

وناقشه في الكفاية بوجهين :

الأول : انه لا دليل على حسن الاحتياط بهذا المعنى ، لأنه في الحقيقة ليس باحتياط ، فلو دلّ عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا. نعم لو دلّ دليل على الأمر بالاحتياط في خصوص العبادات ولم يتصور إمكانه بمعناه الحقيقي فيها ، التزم بهذا المعنى بدلالة الاقتضاء.

الثاني : ان ما أفاده قدس‌سره ليس حلا للإشكال وردّا له ، بل هو التزام به وإقرار له كما لا يخفى (٢).

وبعد ذلك تعرض صاحب الكفاية قدس‌سره إلى حلّ الإشكال : بان الاحتياط عبارة عن الإتيان بما احتمل تعلق الوجوب به بتمام أجزائه وشرائطه ، وهذا متحقق في العبادات ، إذ الأمر يتعلق بذات العمل ولا ينبسط على قصد القربة ، لأن اعتباره في الواجب عقلي لا شرعي. إذن فما يحتمل الأمر به شرعا يؤتى به مع الجهل بالأمر. غاية الأمر انه لا بد ان يؤتى به بنحو مقرّب لو كان مأمورا به شرعا ، وذلك يحصل بالإتيان به بداعي احتمال الأمر أو لاحتمال محبوبيته ، فيقع امتثالا للأمر على تقدير ثبوته واقعا.

وذكر بعد ذلك : بأنه قد انقدح انه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها ، بل لو فرض تعلقه بها لكانت مستحبا نفسيا كسائر المستحبات النفسيّة ولا ربط لذلك بالاحتياط (٣).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥١٧

« التسامح في أدلة السنن »

ومن هنا ظهر : انه لو قيل بدلالة اخبار من بلغ على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب لما كان ينفع ذلك في جريان الاحتياط في تلك الموارد ، بل كان الفعل مستحبا كسائر ما قام الدليل على استحبابه.

وبما أنه قد وردت الإشارة إلى وجود ما يدل على استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، ويعبر عنه بـ : « اخبار من بلغ ». فقد جرت عادة الاعلام على تفصيل الكلام في ذلك.

وإن كان أجنبيا عن المقام.

ونحن نجري على ما نهج عليه من سبقنا ، فنوقع البحث في ذلك ، فنقول ـ وعلى الله الاتكال ومنه نستمد العصمة والسداد ـ.

انه قد وردت نصوص متعددة تتضمن ان من بلغه ثواب على عمل أو شيء من الثواب فعمله كان له ذلك الثواب وان لم يكن الأمر كما بلغه ..

فمنها : صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله » (١).

وقد استفاد المشهور منها ـ على ما قيل ـ حجية الخبر الضعيف في إثبات الاستحباب للفعل. كما ذهب البعض إلى انها تدل على استحباب الفعل الّذي قام على استحبابه خبر ضعيف ، وإن لم يكن الخبر حجة.

وهذا الاختلاف الراجع إلى ان المستفاد من النصوص مسألة أصولية أو

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات.

٥١٨

مسألة فقهية ، وإن لم يكن عديم الأثر كما ستعرف في بعض تنبيهات المسألة ، ولكن لا نوقع البحث فيه ، إذ الالتزام بإفادتها مسألة أصولية لا يستند على أساس وجيه حتى يحرر البحث فيه ، فالبحث إنما يقع في انها هل تدل على استحباب العمل الّذي دل الخبر على استحبابه ، أو انها لا تدل على شيء من ذلك ، بل غاية ما تدل عليه هو حسن الانقياد شرعا وترتب الثواب عليه كما هو مذهب طائفة من الأعلام؟.

وقبل الشروع في بيان جهة الاختلاف ومنشئه وترجيح أحدهما على الآخر ، ينبغي ان ننبّه على شيء وهو : أنه لدينا كبرى مسلمة ، وهي انه إذا ورد دليل يتكفل ترتيب الثواب على عمل لا اقتضاء فيه في حد نفسه للثواب ، كان ذلك الدليل كاشفا عن ثبوت الأمر وتعلقه بذلك العمل ، ولذا يقع كثيرا بيان الأمر ببيان ترتب الثواب على العمل.

كما أنه لا يستظهر تعلق الأمر بالعمل إذا كان له اقتضاء في نفسه لترتب الثواب كالانقياد.

وهذه الكبرى غير قابلة للمناقشة. إذا عرفت ذلك فاعرف ان البحث فيما نحن فيه صغروي ، يقع في ان موضوع ترتب الثواب في هذه النصوص من أي النحوين؟.

فالوجه في الاختلاف هو : ان النصوص المزبورة هل تتكفل ترتيب الثواب على ذات العمل الّذي بلغ الثواب عليه ، أو تتكفل جعله على العمل الخاصّ وهو المأتي به بداعي احتمال الأمر ـ بهذا القيد ـ؟.

فعلى الأول تدل على استحباب العمل لعدم الوجه في ترتب الثواب على ذات العمل سوى تعلق الأمر به ، فيكون نظير : « من سرح لحيته فله كذا » في استفادة استحباب تسريح اللحية.

وأما على الثاني ، فلا تدل على استحباب العمل ، لوجود المقتضي للثواب

٥١٩

مع قطع النّظر عن الأمر ، وهو الانقياد ، ولو فرض استظهار الاستحباب منها كانت دالة على استحباب الاحتياط لا نفس العمل.

والوجه الموجب لدعوى ان الثواب مرتب على العمل المقيد بداعي احتمال الأمر لا ذات العمل ، هو ظهور الفاء في قوله : « فعمله » في كونه تفريعا على بلوغ الثواب ، وهو ظاهر في داعوية تحصيل الثواب لتحقق العمل.

وناقشه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله : بان التفريع على قسمين :

أحدهما : تفريع المعلول على علته الغائية ، ومعناه هنا انبعاث العمل عن الثواب المحتمل.

والآخر : التفريع بمعنى ترتيب أحدهما على الآخر ، بلا ان يكون المرتّب عليه علة غائية للمرتّب نظير قول القائل : « سمع الأذان فبادر إلى المسجد » ، فان الداعي للمبادرة هو تحصيل فضيلة المبادرة لاستماع الأذان. وما نحن فيه قابل للحمل على ذلك بلحاظ ترتب العمل على بلوغ الثواب لتقوم العمل المترتب عليه الثواب ببلوغ الثواب.

وعليه ، فمجرد كون الفاء للتفريع لا يعيّن القسم الأول ، فلا وجه لاستظهار أخذ داعوية الثواب في موضوع ترتب الثواب (١).

وفيه : ان ما أفاده من تقسيم التفريع إلى قسمين متين ، لكن الّذي يظهر من مثل هذا التعبير هو كون الاندفاع نحو العمل لأجل تحصيل الثواب ، فالظاهر من التفريع هاهنا هو القسم الأول منهما.

والمثال المذكور لا يصلح نقضا لعدم تصور داعوية سماع الأذان للمبادرة ، إذ الداعي ما يكون بوجوده العيني مترتبا على العمل ، وبوجوده الذهني سابقا عليه ، وسماع الأذان لا يترتب خارجا على المبادرة.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٢١ ـ الطبعة الأولى.

٥٢٠