منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

اختيار الفعل ، فان هذه المناقشة لا تتلاءم مع مبنى المقدمة من أن شأن التكليف تحريك الإرادة فالمطلوب هو الإرادة بنحو المعنى الاسمي.

الخامس : ما ذكره بعد ذلك في مقام توضيح منع المقدمة الثانية من انه بانكشاف الخلاف ينكشف عدم المحرك وانما كان تخيل الحركة. فانه غريب ، إذ المفروض تحقق الحركة. ولكن لم تصادف الواقع ، كيف يحكم على شرب المائع انه حركة خيالية؟!.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول لتحرير المسألة بنحو تكون أصولية.

اما الوجه الثاني : فبأن يكون الكلام في أن عنوان المقطوعية وتعلق صفة القطع بشيء هل يمكن ان تكون من العناوين التي يتأكد بها الحكم أو يتبدل أو لا؟.

وتحقيق الكلام في ذلك ـ على غرار ما حرره النائيني ، ثم التعرض بعد ذلك لما أفاده غيره ، لأن ما ذكره النائيني أكثر ترتيبا وجمعا مما ذكره غيره ـ ان لدينا أمرين لا إشكال فيهما ولا ريب :

أحدهما : ان عنوان المقطوعية ليس من العناوين الموجبة للقبح والحسن بحيث يتبدل الواقع عما هو عليه بواسطته ، فان هذا المعنى مما لا يرتاب فيه أحد ، فلا يرتاب أحد في عدم تغير شرب الماء عما هو عليه بواسطة القطع بكونه مبغوضا شرعا أو محبوبا ، بل يبقى على ما هو عليه من الوصف لو لا القطع.

والآخر : ان الإقدام على ما يراه المكلف ويعتقده مخالفة للمولى يكشف عن سوء السريرة وخبث الفاعل ويعبر عنه بالقبح الفاعلي ، ولو لم يكن في الواقع مخالفة ، فلا إشكال في اتصاف المتجري بالقبح الفاعلي ، فان ذلك مما لا يشكك فيه اثنان.

وانما الإشكال والبحث في ان هذا القبح الفاعلي في موارد التجري هل يستتبع حكما شرعيا بتحريم الفعل المتجري به أو لا؟ والبحث تارة عن استتباع

٤١

القبح الفاعلي لحرمة الفعل المتجري به بنفس الحرمة الثابتة للعنوان الواقعي. وأخرى عن استتباعه لحرمته بملاك آخر ، يختلف عن ملاك حرمة العنوان الواقعي.

اما البحث عن استتباع القبح الفاعلي لحرمة الفعل بنفس حرمة العنوان الواقعي ، فلا يقصد به إثبات شخص الحكم الثابت للعنوان الواقعي ، إثباته للعنوان المقطوع والفعل المتجري به ، فان هذا مما لا يتفوه به أحد لوضوح استحالته ، إذ بعد فرض كونه ثابتا للعنوان الواقعي ومتقوما به يمتنع ان يثبت لغيره ، فانه من انتقال العرض من معروضه إلى غيره وهو محال.

وبالجملة : ثبوت الحكم الثابت للواقع بالنسبة إلى العنوان المقطوع خلف محال. وانما المقصود به إثبات سنخ الحكم الثابت للعنوان الواقعي بالنسبة إلى العنوان المقطوع ، بمعنى ان الحكم الاستغراقي الثابت للخمر ـ مثلا ـ هل يشمل مقطوع الخمرية أو لا؟ فيكون البحث في عموم الحكم الثابت للعناوين الواقعية بالنسبة إلى مقطوع العنوان.

ومن الواضح ان مرجع هذا البحث في الحقيقة إلى الوجه الأول إذ مرجعه إلى البحث عن ان مقتضى الدليل ما هو ، إذ لا وجه لتعدي ذلك؟ فلا معنى لتشكيل بحث جديد ، بل يحال تحقيقه على ما تقدم من الكلام في الوجه الأول.

هذا تحقيق الكلام عن هذه الجهة من البحث.

والّذي ذكره المحقق النائيني في مقام تحقيقها : هو انه يستحيل استتباع القبح الفاعلي لحرمة العنوان المقطوع بالحرمة الأولية الثابتة للعنوان الواقعي ، لأن القبح الفاعلي متأخر رتبة عن الحرمة الواقعية ، إذ هو ثابت بلحاظ ثبوت الحرمة للعنوان الواقعي الثابتة بالقطع ، ويستحيل استتباع ما هو متأخر عن الحكم الواقعي له وهو واضح ، ونظيره ما يقال : من امتناع أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم لتأخر العلم بالحكم عنه ، فكيف يكون موضوعا له ومستتبعا

٤٢

لثبوته؟.

ثم أورد توهما حاصله : انه يمكن ان يكون مستتبعا للحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق لا بالإطلاق اللحاظي لامتناعه ، فكما يستتبع القبح الفاعلي تضييق الحكم الواقعي بنتيجة التقييد لا بنحو التقييد في مورد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز والتركيب الانضمامي ، حيث التزم بعدم شمول الأمر للحصة المقارنة لمورد النهي ، لمانعية القبح الفاعلي الناشئ من جهة الحرمة للتقرب بالعمل ـ كما مر بيانه مفصلا في محله ـ ، كذلك يستتبع هاهنا توسيع الحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق ، فيكون كالالتزام بشمول الحكم لصورتي العلم والجهل بنتيجة الإطلاق ، إذ يمتنع الإطلاق اللحاظي بعد امتناع التقييد.

وأجاب عنه : بالفرق بين المقامين ، وان إطلاق الخطاب بالنسبة إلى القبح الفاعلي فيما نحن فيه بلا موجب ولا مقتضى ، فتكون دعوى إطلاق الخطابات ولو بنتيجة الإطلاق للفعل الصادر من الفاعل بنحو قبيح ـ أعني : القبح الفاعلي ـ بلا برهان ولا دليل. وهو مما لا يمكن الالتزام به (١).

أقول : قد عرفت في تحقيق الحال انه لا مجال لتوهم ثبوت شخص الحكم الثابت للواقع ثبوته لعنوان المقطوع ، لأنه خلف. فتعرضه قدس‌سره إلى نفى هذه الدعوى وكأنها هي الدعوى المبحوث عنها ليس كما ينبغي. والأمر سهل من هذه الجهة.

انما الكلام معه فيما ذكره من توهم ثبوت الحكم لعنوان المقطوع بطريق نتيجة الإطلاق ، وجوابه بأنه مما لا دليل عليه. والكلام في نقطتين :

الأولى : في فرضه المورد من موارد نتيجة الإطلاق ، نظير ثبوت الحكم في

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٦ الطبعة الأولى.

٤٣

صورة العلم به والجهل بنتيجة الإطلاق ، غاية الأمر انه أورد عليه بأنه مما لا دليل عليه.

الثانية : فيما ساقه مثالا ونظيرا للمورد وهو مورد اجتماع الأمر والنهي.

اما النقطة الأولى ، فتحقيق الحال فيها : ان الموارد التي يبحث فيها في صحة ثبوت الحكم مقيدا أو مطلقا ، ثم يدعى ثبوت الحكم بنتيجة التقييد أو الإطلاق ، هي الموارد التي يقع البحث فيها في تقييد الموضوع أو المتعلق بقيد خاص ، بحيث يحرم الإطلاق والتقييد على موضوع واحد ، فيكون ثبوت الحكم بدون القيد إطلاقا وعدم ثبوته تقييدا في موضوع الحكم ومتعلقه ، وبتعبير آخر أوضح. موضوع البحث المزبور هو الأمر الواحد بلحاظ حالة من حالاته كي يكون ثبوت الحكم له بدون تلك الحالة إطلاقا له من جهتها ، وعدم ثبوته له بدونها تقييدا له بها ، فيبحث حينئذ عن صحة الإطلاق والتقييد فيه بلحاظ تلك الحالة ، وذلك نظير البحث في صحة تقييد متعلق الأمر بقصد القربة وعدمه ، فان ثبوت الحكم للصلاة بدون قصد القربة إطلاق لمتعلق الأمر وعدم ثبوته بدونه تقييد له بقصد القربة ، ونظير البحث في صحة تقييد موضوع الحكم بالعلم بالحكم.

اما إذا فرض العلم بثبوت الحكم لمورد وكان الشك في ثبوته لمورد آخر بنفس دليل الحكم الأول ، فثبوته للمورد الآخر وعدم ثبوته أجنبيان عن الإطلاق والتقييد في الحكم ، إذ ثبوت الحكم لمورد آخر لا يعد إطلاق للحكم الثابت في المورد الأول ، كما ان عدم ثبوته لا يعد تقييدا فيه. ومن هذا الباب البحث عن تكفل الدليل الدال على ثبوت الحكم لبيان استمراره وبقائه ، فقد قيل : انه محال لأن استمرار الحكم فرع أصل ثبوته ، فلا يمكن ان يتكفل الدليل على أصل الثبوت بيان الاستمرار ، بل الاستمرار يستفاد من دليل خارجي وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى

٤٤

يوم القيامة (١). كما ان منه البحث عن تكفل الدليل الدال على ثبوت حجية الخبر لإثبات حجية خبر الواسطة ، للإشكال المذكور في محله ، من ان دليل الحجية بمعنى وجوب الاتباع والتصديق انما تكون بلحاظ الأثر العملي ، والأثر العملي في حجية الخبر المخبر عن خبر شخص آخر ليس إلاّ نفس وجوب الاتباع فيلزم اتحاد الحكم والموضوع ، لأن الأثر بمنزلة الموضوع من الحجية. فإذا كان هو نفس الحجية كان الحكم عين الموضوع.

ولا يخفى ان هذه الموارد بقسميها ـ بناء على ثبوت الإشكال فيها ـ تشترك في شيء ، وهو عدم إمكان ثبوت الحكم في المورد المشكوك بالدليل الأول لتأخر الوصف عن ثبوت الحكم ، فلا يمكن ثبوت الحكم مترتبا عليه ، فقصد القربة متأخر عن الأمر ، وهكذا العلم بالحكم ، ومثلهما استمرار الحكم ، ونظيرها خبر الواسطة الثابت بواسطة نفس الحكم بالحجية.

لكن يختلف القسم الأول عن الثاني في شيء وهو تصور نتيجة الإطلاق والتقييد في الأول ، إذ يلتزم مثلا بتقييد المتعلق بقصد القربة بنحو نتيجة التقييد لامتناع التقييد ، أو عدم تقيده به بنحو نتيجة الإطلاق بناء على امتناع الإطلاق عند امتناع التقييد ، لما عرفت من ان ثبوت الحكم في مورد الشك في هذا القسم يرجع إلى السعة في متعلق الحكم أو التضييق ، لأن مورد الشك من الحالات التي تعرض نفس المتعلق أو الموضوع.

وعدم تصور الإطلاق والتقييد في الثاني ، لما عرفت من ان ثبوت الحكم في مورد الشك لا يرجع إلى التوسعة أو التضييق في الموضوع أو متعلق الحكم ، فاستمرار الحكم عبارة عن ثبوت الحكم في الأزمنة اللاحقة وهو لا يوجب سعة في أصل حدوث الحكم ، كما ان ثبوت الحكم الخبر الواسطة لا يوجب توسعة ثبوت

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ ـ ١٢٤ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ج ٤٧.

٤٥

الحكم الثابت لخبر من أخبر عنه ، لاختلاف الموضوعين وعدم كون خبر الواسطة من حالات خبر من أخبر عنه.

إذا اتضح ما عرفت ، فالمورد الّذي نحن فيه من القسم الثاني ، وذلك لأن معلوم الخمرية ـ مثلا ـ مع أصل الخمر الواقعي موضوعان وليس الأول من حالات الثاني ، فثبوت الحكم لمعلوم الخمرية لا يوجب توسعة للحكم الثابت للخمر ، وهل يتخيل أحد أن ما نقصده من تسرية نسخ الحكم الثابت للخمر إلى معلوم الخمرية يرجع إلى التوسعة في حكم الخمر نفسه؟ ، بحيث إذا دل الدليل عليه يكون من باب نتيجة الإطلاق؟ فجعل المورد من هذه الموارد ناشئ عن الخلط بين القسمين ، وتخيل ان اشتراكهما في استحالة ثبوت الحكم لمورد الشك بالدليل الأول يوجب اشتراكهما في جريان نتيجة الإطلاق والتقييد. مع انك عرفت وجود الفرق بينهما من هذه الجهة. فتدبر ولا تغفل.

واما النقطة الثانية ، فتوضيح الكلام فيها : ان المثال الّذي ذكره ليس من موارد امتناع التقييد ، إذ القبح الفاعلي فيه في عرض الحكم بالوجوب لا في طوله ، لأن القبح الفاعلي ناشئ من مخالفة الحرمة ، ولا امتناع في تقييد المتعلق بعدم القبح الفاعلي إذا كان في عرضه وناشئا من مخالفة حكم آخر لا من مخالفة نفس الحكم ، فلا اشتراك بين موردنا والمثال الا في اشتمالها على القبح الفاعلي ، فالتمثيل في غير محله. هذا إذا كان الملحوظ في التمثيل جهة التقييد بعدم القبح الفاعلي الناشئ من مخالفة لحرمة. اما إذا كان الملحوظ فيه جهة عدم حصول قصد القربة من جهة القبح الفاعلي ، فالتقييد به غير ممكن لتأخره عن الأمر ، فيتجه المثال ، ولكن نقول : ان المثال لا يكون مثالا لمورد خاص من موارد عدم قصد القربة وبيانا لمصداق من مصاديقه ، فلا يرتبط بباب نتيجة التقييد الا بواسطة انه مصداق من مصاديق موضوعها وهو التقييد بقصد القربة وعدمه بنحو كلي ، فإذا كان الملحوظ ذلك ، كان الأولى جعل المثال التقييد بقصد القربة

٤٦

أو بعدمه بشكلها لا التقييد بعدم قصد القربة في خصوص هذا المورد. فالتفت.

هذا كله في استتباع التجري حرمة الفعل المتجري به بنفس حرمة العنوان الواقعي.

واما استتباعه حرمته بملاك آخر غير ملاك حرمة العنوان الواقعي ، فقد ذهب المحقق النائيني أيضا إلى استحالته وامتناعه بتقريب : ان عنوان المقطوع ليس شيئا زائدا على الواقع بنظر القاطع ، بل الانكشاف ـ بنظر القاطع ـ عين الواقع.

وعليه ، فيستحيل ان يكون العنوان مستتبعا لحكم آخر لاستلزامه اجتماع المثلين بنظر القاطع في شيء واحد ، فيكون البعث الثاني لغوا بعد ان كان المكلف يعتقد محاليته ، ومع كونه لغوا يكون ممتنعا واقعا (١).

أقول : هذا انما يتم في باب المحرمات لا الواجبات ، إذ مع اعتقاد وجوب شيء لا تكون الحرمة الناشئة من التجري واردة على نفس متعلق الوجوب ، بل الحرمة تتعلق بالترك لأنه عنوان المخالفة والعصيان ، ومن الواضح انه لا تماثل بين وجوب الفعل وحرمة الترك لاختلاف الموضوع ، ولذلك لم يستشكل أحد من هذه الجهة في استتباع وجوب الشيء لحرمة ضده العام المعبر عنه بالترك.

ثم انه لا بد من إيقاع البحث في ان المورد الواحد إذا ورد فيه حكمان متماثلان لجهة واحدة هل يكون من موارد اجتماع المثلين كي يستحيل كما قرره قدس‌سره ، أو من موارد التأكد فلا يستحيل حينئذ ثبوت الحكم الآخر في مورد التجري ، بل يكون مؤكدا للحكم المقطوع ، وهذا سيأتي تحقيقه بعد حين إن شاء الله تعالى.

نعم يستحيل ثبوت الحرمة في الفعل المتجري به بملاك استحالة تعلق

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٦ الطبعة الأولى.

٤٧

الوجوب الشرعي بالإطاعة ، وهو ان الحكم الشرعي السابق في المرتبة ان كان فيه قابلية الدعوة والتحريك كان الحكم بلزوم اتباعه شرعا لغوا. وان لم يكن فيه القابلية كان جعله لغوا ، فليس استحالة تعلق البعث الشرعي من جهة لزوم التسلسل ، بل من هذه الجهة التي سنوضحها بعد حين إن شاء الله تعالى. ولأجل نفس هذا الملاك يستحيل تعلق الحرمة بالفعل المعنون بعنوان مقطوع الحرمة ، فيستحيل ثبوت حكم آخر في طول الحكم الواقعي المقطوع ، وهذا الوجه مختص بالمحرمات كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى. وقد أشار إلى هذا الوجه في تقريرات الكاظمي بعنوان انه عبارة أخرى عن الوجه السابق ، أعني دعوة استلزام ثبوت الحرمة لاجتماع المثلين. فلاحظ (١).

وينبغي ان يعلم ان موضوع البحث الّذي نحن فيه ـ أعني البحث في استتباع التجري حرمة الفعل ـ لا يختص بالمتجري ومن خالف قطعه الواقع ، وإلاّ لكان عدم استتباعه للحرمة واضحا ، إذ المتجري بعنوانه يستحيل ان يكون موضوعا للحكم ، إذ الحكم لا يصير فعليا ومحركا الا بفعلية موضوعه ، وهي تتحقق بالالتفات إليه ، ومن الواضح ان المتجري في حال تجريه لا يلتفت إلى كونه متجريا ، إذ التفاته إلى تجريه يساوق زوال علمه واعتقاده الملازم لعدم تجريه ، فالتجري من الموضوعات التي يكون الالتفات إليها مساوقا لزوالها نظير النسيان ، فكما لا يجوز أخذ النسيان في موضوع الحكم كذلك يمتنع أخذه بعنوانه في موضوع الحكم. نعم ذكر صاحب الكفاية إمكان أخذ الناسي في موضوع الحكم بعنوان آخر ملازم له (٢) وتحقيقه ليس هاهنا.

وبالجملة : البحث فيما نحن فيه موضوعه مطلق القاطع بالحكم من دون

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٤٥ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٨

تقييد بعدم المصادفة إلى الواقع فتدبر.

هذا كله فيما يتعلق بالمطلب الّذي ذكره المحقق النائيني ، وقد أشرنا إلى سبب اختيار ذكره أولا مع انه على خلاف البناء على انتهاج نهج الكفاية في تحرير المبحث ، هو كونه جامعا مستوعبا.

اما صاحب الكفاية ، فقد ذهب إلى بقاء الفعل المتجري به على ما هو عليه من الحسن أو القبح والمبغوضية أو المحبوبية بلا تغير فيه بواسطة القطع ، لوضوح ان القطع بالعنوان المحرم ليس من العناوين الموجبة للحسن والقبح أو المبغوضية والمحبوبية ، مضافا إلى ان القطع ـ في مقام العمل ـ يلحظ طريقا للواقع لا مستقلا ، فالإرادة والقصد انما يتعلقان بشرب الخمر لا بشرب معلوم الخمرية ، بل المعلومية مما لا يلتفت إليها غالبا ، ومعه لا يمكن تعلق الإرادة فيها ، إذا الإرادة فرع الالتفات ، ومع عدم كونه بالاختيار يتضح عدم كونه من موجبات الحسن والقبح لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية.

فيما ذكره صاحب الكفاية وجوه ثلاثة :

الأول : ان عنوان المقطوعية ليس من العناوين الموجبة للحسن والقبح بالبداهة ، وهذا مما وافقناه عليه كما تقدم ، ومنه يعلم جهة ارتباط ما تقدم بما ذكره صاحب الكفاية.

الثاني : ان هذا العنوان مما لا يقع اختياريا لعدم تعلق القصد به ، بل هو ملحوظ آلة وطريقا.

الثالث : انه مما لا يمكن وقوعه اختياريا للغفلة عنه ، ويمتنع تعلق الإرادة بشيء مع الغفلة عنه والفرق بين الوجهين الأخيرين واضح.

ثم ان صاحب الكفاية يذهب إلى امر فرضه مفروغا عنه ، وهو ان عنوان التجري وعنوان الهتك والخروج عن زي الرقية وغير ذلك من العناوين القبيحة مما لا تنطبق على الفعل الخارجي ، بل تنطبق على امر نفسي عبر عنه بالعزم على

٤٩

العمل (١) ، ويكشف ذلك التزامه بقبح التجري واستلزامه لاستحقاق العقاب مع التزامه بعدم قبح الفعل ، فانه لا يتلاءم الا مع التزامه بان التجري عنوان لفعل النّفس ، فهذا الأمر مقدمة مطوية في كلامه. وقد خالفه في ذلك بعض من تأخر عنه ، فذهب إلى انطباق هذه العناوين على الفعل فيكون الفعل قبيحا.

وعليه ، فلا بد من البحث في ذلك ، ثم التعرض بعده إلى البحث في الوجهين الأخيرين اللذين ذكرهما في وجوه عدم كون عنوان القطع من العناوين المحسنة أو المقبحة.

فيقع البحث في ان التجري وما شاكله من العناوين هل هو عنوان لنفس الفعل الخارجي المتجري به أو لا؟ والحق مع صاحب الكفاية.

وقبل بيان الدليل ينبغي بيان شيء وهو انه لا إشكال في عدم صحة الذم بعنوان الجزاء والعقوبة على مجرد وجود صفة كامنة في النّفس ترجع إلى سوء السريرة مع المولى وخبث النّفس مع كون العبد في مقام العمل جاريا على طبق الموازين من دون ان يحدث نفسه بالخروج عن طاعة المولى.

نعم قد يذم على هذه الصفة من قبيل الذم على الصفات غير الاختيارية ، ومرجعه إلى عدم ميل النّفس إليها كعدم ميل النّفس لقبح الصورة. كما انه لا إشكال في صحة الذم بعنوان الجزاء على صيرورة العبد في مقام المخالفة ، فللمولى ان يستنكر على عبده عملا قام به معنونا بالطغيان عليه ومخالفته.

انما الإشكال فيما عرفت من ان عنوان التجري هل هو عنوان للخارج أو لا؟ ، وقد عرفت اختيارنا لرأي صاحب الكفاية الراجع إلى اختيار ان التجري من عناوين فعل النّفس لا الخارج.

والوجه فيه : ان العبد إذا صار بصدد الجري الخارجي فيما يخالف رضا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٠

المولى ويبغضه ، ولكن لم يتحقق منه أي عمل خارجي أصلا لمانع أقوى منه ، كما لو أراد ان يسب المولى فأغلق شخص فمه ومنعه عن التفوه بأي كلمة ، فانه لا إشكال في صدق التجري والهتك وغيرهما من العناوين المتقدمة على مجرد كون العبد في مقام الخروج عن العبودية وبصدد مخالفة المولى ، ومجرد التجري النفسيّ على طبق الصفة الكامنة في النّفس الّذي عبّر عنه صاحب الكفاية بالعزم على الفعل ، وإذا فرض صدق هذه العناوين على العمل النفسيّ في مورد لا يكون هناك عمل في الخارج ، كشف ذلك عن أن هذه العناوين ليست من عناوين الخارج ، بل من عناوين النّفس.

وعليه ، ففي المورد الّذي يصدر منه عمل خارجي لا يصدق التجري على العمل الخارجي ، إذ الجري النفسيّ وكونه في مقام العصيان امر سابق عليه ، وقد عرفت ان التجري يصدق عليه.

نعم العمل الخارجي يكون كاشفا عن عمل النّفس وما يتعنون بعنوان التجري. اذن فالفعل في الخارج لا ينطبق عليه العنوان القبيح ، وانما ينطبق على فعل النّفس.

هذا بالنسبة إلى تحقيق ما ينطبق عليه عنوان التجري.

واما ما ذكره من وجهي الاستدلال على عدم صحة كون القطع بشيء من العناوين الموجبة للحسن والقبح ، فكلاهما محل منع.

اما كون القطع مما لا يلتفت إليه غالبا ، فيمتنع ان يكون اختياريا لأن الإرادة فرع الالتفات ، فلان المراد بالالتفات هو حضور الشيء في النّفس ، والعلم بالشيء صفة حاضرة بنفسها في النّفس ، فكيف ينفي الالتفات إليها بعد ان كان الالتفات أمرا لازما للعلم؟.

نعم قد يكون ارتكازيا كامنا في النّفس. ولكنه لا يمنع من كونه إراديا كسائر موارد القصد الارتكازي.

٥١

وهذا ما ذكره المحقق النائيني في مقام الرد عليه (١).

واما عدم كون عنوان المقطوعية اختياريا لأنه ملحوظ طريقا لا استقلالا ، فتوضيح منعه : ان الفعل تارة : يرتبط بوصف الموضوع بنحو ارتباط نظير إعطاء الفقير ، فان الإعطاء يرتبط بجهة الفقر ويكون رافعا للاحتياج. وأخرى : لا يرتبط بوصف الموضوع بأي ارتباط كإعطاء العالم أو إطعامه ، فان الإطعام لا يرتبط بجهة العلم وانما يرتبط بنفس الجسم ، إذ لا دخل للعلم في الأكل أصلا ، نعم أخذ الرّأي من العالم يرتبط بجهة العلم كما لا يخفى.

فالقسم الأول : لا إشكال في تعلق الإرادة بالفعل المضاف إلى الوصف الخاصّ وهو لا يرتبط بما نحن فيه.

واما القسم الثاني : فتارة يكون الوصف غاية للعمل وداعيا لتحقق الفعل. وأخرى لا يكون كذلك ، بل ينشأ الفعل عن داع آخر. ففي الصورة الأولى لا إشكال في ترتب آثار الفعل الاختياري المضاف إلى الموصوف الخاصّ ، فإذا أكرم العالم تقديرا لعلمه ترتب على فعله آثار إكرام العالم بهذا الوصف وفي الصورة الثانية يشكل الأمر ويقع الكلام في ان الالتفات إلى وجود الوصف مع عدم كونه داعيا للعمل هل يكفي في اختيارية العمل مضافا إلى الموصوف الخاصّ أو لا يكفي مجرد الالتفات؟.

وهذه الصورة الأخيرة هي التي ترتبط بما نحن فيه ، وهي الإتيان بمعلوم العنوان كمعلوم الخمرية ، مع الالتفات إلى العلم من دون ان يكون إتيانه بداعي العلم ولأنه معلوم الخمرية ، بل لوحظ العلم طريقا كما هو المفروض. فانه إذا فرض ان حصول الالتفات إلى الوصف يكفي في اختيارية العنوان لم ينفع ما ذكره قدس‌سره من ان عنوان المقطوعية ليس اختياريا لعدم لحاظه

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٢٧ الطبعة الأولى.

٥٢

بالاستقلال ، إذ المفروض تحقق الالتفات إليه وهو يكفي في كونه اختياريا.

وإذا دارت معرفة الحقيقة على معرفة ان مجرد الالتفات إلى الوصف يكفى في الاختيار أو لا ، فنقول : ان المرجع في مثل هذه الأمور هو بناء العقلاء والعرف ، وهو قائم على ترتيب آثار الفعل الاختياري المضاف إلى الوصف الخاصّ بمجرد الالتفات إلى الوصف ولو لم يصدر الفعل بداعيه ، فإذا فرض ان إهانة العالم كانت مورد الذم ، فأهان شخص عالما مع علمه بعالميته ولكن لم تكن إهانته باعتبار انه عالم بل بلحاظ امر آخر ، يترتب الذم الثابت لإهانة العالم على إهانة الشخص المزبور. وهذا المعنى ظاهر لكل من لاحظ الأمثلة والشواهد العرفية العقلائية.

ويتحصل ان كلا وجهي الكفاية ممنوعان. فالصحيح في إثبات المدعى الرجوع إلى الوجدان الشاهد بعدم كون عنوان القطع من العناوين المستوجبة للقبح والحسن كما تقدم منه ومنا.

بقي شيء : وهو ان صاحب الكفاية إذا كان يلتزم بقبح التجري وكونه عنوانا لفعل النّفس لا للخارج ، فيقع الكلام في حرمة ذلك الفعل النفسيّ القبيح ، كما وقع في حرمة الفعل الخارجي بناء على كونه معنونا بعنوان التجري. كما انه يسائل صاحب الكفاية عن وجه إغفاله هذه الجهة من البحث ، فكما أوقع البحث عن حرمة الفعل الخارجي المتجري به كان عليه ان يوقع البحث في حرمة الفعل النفسيّ خصوصا بعد ان كان معنونا بعنوان قبيح.

وهذا الاعتراض متوجه على صاحب الكفاية.

واما حقيقة المطلب : فهي انه يستحيل تعلق الحرمة بفعل النّفس ، والوجه في الاستحالة هو الوجه الّذي أشرنا إليه سابقا في بيان حرمة الفعل الخارجي المقطوع به ، والّذي سنتعرض إليه مفصلا عن قريب إن شاء الله تعالى. فالوجه في استحالة حرمة فعل النّفس والفعل الخارجي فيما نحن فيه هو الوجه في

٥٣

استحالة البعث نحو الإطاعة شرعا الّذي سنوضحه إن شاء الله تعالى.

ويتحصل من مجموع ما ذكرناه : انه لا يمكن جعل الحرمة في مقام الثبوت كما انه لا دليل إثباتا عليها في بعض الصور.

هذا تمام الكلام في تحرير المسألة بنحو تكون أصولية.

واما تحريرها بالنحو الفقهي : فيرجع إلى البحث في قيام الدليل الخاصّ على حرمة التجري بعنوانه أو حرمة الفعل المتجري به كسائر موارد البحث عن حرمة الأفعال.

وتحقيق البحث : ان الّذي يمكن ان يتوهم كونه دليلا على حرمة التجري أمران :

الأول : ما ورد من الاخبار الدالة على ثبوت العقاب في مورد التجري على نية السوء وإرادة العمل التي ذكرها الشيخ (١) وادعى انها بحد التواتر ، بضميمة دلالة الوعيد بالعقاب بالدلالة الالتزامية العرفية على حرمة العمل ، ولذا تبين حرمة بعض المحرمات بطريق الوعيد بالعقاب عليها ، فانه ظاهر عرفا في الحرمة ، كما يدعى ان الوعد بالثواب دال عرفا على رجحان العمل ، ولأجله استظهر استحباب العمل الّذي وردت فيه رواية ضعيفة بواسطة اخبار : « من بلغه ثواب ... » ـ على ما سيأتي بيانه ـ وادعى وجوب الاحتياط في الشبهات بواسطة الوعيد بالوقوع في المهلكة على تركه الوارد في اخبار الاحتياط.

أقول : مع الغض عن المناقشة في كلية هذه الدعوى فان لها مجالا آخر ، ليس لنا الأخذ بنتيجتها ، لقيام البرهان على استحالة تعلق الحرمة في مورد التجري ، سواء بنية السوء أم بالجري النفسيّ أم الخارجي ، لا بملاك اجتماع المثلين ولا التسلسل وانما هو بملاك استحالة تعلق الوجوب الشرعي بالإطاعة

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

٥٤

الّذي سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، إذ الظهور العرفي لا يقاوم البرهان العقلي فلا نستطيع استكشاف التحريم من الروايات ولا من غيرها.

ومن هنا ظهر انه لا وجه لإيقاع البحث الفقهي المزبور بعد ان ثبت استحالة تعلق التحريم فيما تقدم.

وبذلك يظهر ان تعرض المحقق النائيني ـ إلى ما ورد من النصوص الدالة على حرمة نية السوء ودعوى معارضتها بما دل على العفو عن نية السوء وتعرضه إلى ما قيل في وجه الجمع من حمل ما دل على التحريم على إرادة نية السوء المنضمة إلى ما يظهرها خارجا وما دل على العفو على إرادة النية المجردة ، أو حمل ما دل على التحريم على إرادة النية مع عدم الارتداع ، وما دل على العفو على إرادة النية أولا ثم الارتداع بعد ذلك وانه جمع تبرعي لا شاهد له ، والنتيجة هي التساقط والرجوع إلى الأصول ـ (١). يظهر لنا ان تعرضه قدس‌سره إلى ذلك بالنحو الّذي عرفته ليس كما ينبغي ، لأن ظاهر كلامه ان عدم الالتزام بالحرمة لأجل المعارضة مع. انه ذهب إلى استحالة ثبوت الحرمة في مورد التجري كما بينا ذلك بملاك استحالة تعلق البعث الشرعي بالإطاعة. إلاّ ان يكون بحثه هاهنا بحثا تنزليا فلا بأس به.

الثاني : فهو دعوى الإجماع على حرمة التجري المستكشفة من قيام الإجماع على ثبوت الحرمة في بعض موارد التجري. وقد نوقش في الإجماع كبرويا وصغرويا.

اما النقاش الكبروي : فهو ما ذكره الشيخ في الرسائل من ان المسألة عقلية لا يكون الإجماع فيها حجة (٢).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٣١ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

٥٥

والمراد من كلامه يحتمل وجهين :

الأول : ان المرجع في هذه المسألة هو العقل لا الشرع ، لأنها ترتبط بحكم العقل باستحقاق العقاب وعدمه ، فلا يكون الإجماع فيها حجة بلحاظ كشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام ، إذ البحث عن امر عقلي لا حكم شرعي.

وبهذا التفسير يكون كلام الشيخ أجنبيا عما نحن فيه بل يرتبط بالمسألة الكلامية.

الثاني : انه يحتمل استناد بعض المجمعين في فتواهم بالحرمة إلى حكم العقل بقبح التجري ، ومع هذا الاحتمال لا يكون الإجماع تعبديا فلا ينفع في إثبات المدعى. وبهذا الوجه يرتبط كلام الشيخ بما نحن فيه.

وبالجملة : لا نرى وجها لإطالة البحث أكثر من ذلك بعد ان عرفت استحالة ثبوت الحرمة وتعلقها بما هو في طول الحرمة الواقعية من نية السوء أو الجري النفسيّ أو الخارجي فتدبر.

يبقى الكلام في تحرير المسألة بالنحو الكلامي : وهو الّذي كان محط كلام الشيخ من دون ان يتعرض إلى تعلق الحكم الشرعي في مورد التجري ، بل مصب كلامه قدس‌سره هو الجهة الكلامية في المسألة ، وهي جهة استحقاق العقاب على التجري وعدمه ، ولا يخفى ان محل البحث تنزلي ، وإلاّ فقد عرفت (١) انه لا حكم للعقل باستحقاق العقاب في صورة المصادفة للواقع فضلا عن صورة عدم المصادفة ، والّذي ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله عدم استلزام التجري لاستحقاق العقاب. بل غاية ما يترتب على التجري هو ذم المتجري باعتبار ما ينطوي عليه من سوء سريرة وشقاوة نفس ، وذلك وحده لا يكفي في ترتب العقاب وانما يترتب العقاب على الفعل القبيح ، وهو مفقود في صورة التجري.

__________________

(١) لاحظ ما تقدم في تحقيق أثر المنجزية للقطع من هذا الجزء ٤ ـ ٢٦.

٥٦

إذ الفعل المتجري به لا يكون قبيحا.

وبالجملة : الّذي يذهب إليه الشيخ هو انه ليس في مورد التجري سوى سوء السريرة وهو غير ملازم للعقاب ، لأن العقاب يترتب على القبح الفعلي لا الفاعلي (١).

وفي قباله ذهب صاحب الكفاية إلى ثبوت العقاب في مورد التجري على الجري النفسيّ على طبق الصفة الكامنة في النّفس الّذي عبر عنه بالقصد إلى العصيان ـ كما تقدمت الإشارة إليه (٢) ـ. فمحط الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية هو ان صاحب الكفاية يرى ان هناك فعلا اختياريا من افعال النّفس يتعنون بعنوان قبيح فيترتب عليه العقاب كسائر الأفعال القبيحة النفسيّة والخارجية. والشيخ لا يرى سوى صفة نفسية غير اختيارية والتجري من عناوين الفعل الخارجي والفعل غير قبيح لعدم كونه معصية ، ولا معنى للعقاب على الصفة النفسيّة ، بل يترتب عليها الذم ، والذم الصادر في مورد التجري من باب انه كاشف عن الصفة النفسانيّة القبيحة لا من جهة نفس الفعل المتجري به كي يلازم العقاب.

والّذي نراه ان الحق مع الشيخ ، وان القبح الفاعلي الموجود في صورة التجري لا يلازم العقاب وانما الّذي يلازمه هو القبح الفعلي ، فلا وجه لما ذكره صاحب الكفاية من ثبوت العقاب على فعل النّفس ، ويدل على ما ندعيه وجهان :

الأول : انه لا إشكال في ثبوت العقاب على المعصية الحقيقية بحكم العقلاء فلو كان القصد إلى المعصية مستلزما للعقاب للزم ان يحكم العقل في مورد المعصية الحقيقية باستحقاق عقابين لحصول سببين له وهما ـ القصد إلى المعصية

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٧

ونفس المعصية ـ وهذا مما لا يقول به أحد.

الثاني : ما ورد في الآيات والروايات من إثبات العقاب على المعصية الحقيقة ومخالفة المولى ، فيلزم ثبوت عقابين في موردها بناء على ان التجري موضوع العقاب ، لتعدد سببه.

وبالجملة : ما ذهب إليه صاحب الكفاية مستلزم لدعوى تعدد العقاب في مورد المعصية الحقيقية وهو مما لا يلتزم به هو ولا غيره ، فيكشف عن عدم كون القصد إلى فعل الحرام موردا للعقاب ، إذ ثبوت العقاب على نفس المخالفة مما لا إشكال فيه شرعا وعقلا كما عرفت فالحق مع الشيخ في عدم استحقاق المتجري للعقاب.

ثم ان المحقق النائيني تعرض إلى بيان تقريب استحقاق المتجري للعقاب بمقدمات أربع :

أولاها : ان الحكم بوجوب الإطاعة عقلي لا شرعي.

ثانيتها : ان الحكم العقلي بوجوب الإطاعة معلول للحكم الشرعي ، فهو يختلف عن مثل حكم العقل بقبح الظلم ، فانه علة للحكم الشرعي.

ثالثتها : ان تمام موضوع الحكم بوجوب الطاعة واستحقاق العقاب هو العلم سواء صادف الواقع أو لم يصادف.

رابعتها : ان القبح الفاعلي هو ملاك استحقاق العقاب لا القبح الفعلي ، وهو موجود في صورة التجري ، فيثبت العقاب في مورده (١).

ولا يخفى ان المقدمتين الأولتين لا دخل لهما في إثبات المطلب وهما من الواضحات ، ولعله لأجل ذلك أغفلهما المقرر الكاظمي في تقريراته واكتفي بذكر المقدمتين الأخيرتين (٢).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٨ ـ ٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول ٣ ـ ٣٩ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٥٨

ثم انه يكفي في إثبات المطلوب ثبوت المقدمة الثالثة ، فانه إذا ثبت ان موضوع استحقاق العقاب هو العلم صادف أم لم يصادف ثبت العقاب في مورد التجري. بلا احتياج إلى المقدمة الرابعة ، بل في الحقيقة ان المقدمة الرابعة من فروع ونتائج المقدمة الثالثة ، أو انها تعبير آخر عنها ، وقد جعلها المقرر الكاظمي تعبيرا آخر عن المقدمة الثالثة ، ولكنه بعد ذلك ذكر ان المطلب يبتني على مقدمتين ثم ذكرهما بالنحو المتقدم ، كما حكم بالتلازم بينهما.

وعليه ، فلم يكن وجه لتعداد المقدمات وتطويل الكلام.

كما انه يرد على هذا النحو من البيان انه أخص من المدعي ، إذ التجري المبحوث عنه أعم من مورد العلم وغيره ، فالاستدلال على ثبوت العقاب بان موضوعه العلم لا يفي بإثباته في مطلق موارد التجري.

ثم انه اختلف التقريرات في الاستدلال على هذه المقدمة ـ أعني الثالثة ـ فقد جاء في تقرير الكاظمي الاستدلال عليها بان المصادفة وعدمها خارجة عن الاختيار فيمتنع ان يعلق ثبوت العقاب على المصادفة وجاء في تقريرات السيد الخوئي الاستدلال عليها بان دخالة مصادفة الواقع يستلزم عدم فعلية الحكم لعدم إحراز مصادفة القطع للواقع لاحتمال ان يكون قطعه غير مصادف.

ولا يخفى عليك ما في كلا الدليلين من الفساد.

اما الأول : فلان هذا الوجه ذكره الشيخ في الرسائل ودفعه بان المصادفة اختيارية ، راجع تعرف (١).

واما الثاني : فلان القاطع لا يحتمل الخلاف ، بل هو يرى مصادفة قطعه للواقع وإلاّ كان خلف فرض كونه قاطعا ، ومن الغريب انه لم يتعرض في مقام الرد إلى ذلك أصلا.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

٥٩

ثم انه قدس‌سره ناقش كلتا المقدمتين :

فناقش الثالثة : بان العلم وان كان تمام الموضوع لكن في صورة انكشاف الخلاف لا علم ، بل لم يكن سوى الجهل المركب ولا معنى لترتيب آثار العلم عليه.

وناقش الرابعة : بان القبح الفاعلي المستلزم للعقاب هو الناشئ عن القبح الفعلي كما في موارد المعصية اما الناشئ من حيث الباطن وسوء السريرة فلا دليل على استلزامه للعقاب.

ولا يخفى ان مناقشة المقدمة الثالثة ليست على ما ينبغي ، فانه كان المتجه التعرض لدليل الخصم على عدم دخل المصادفة في ثبوت العقاب وإنكاره ، لا إنكار أصل الدعوى رأسا.

ولا بأس بالتنبيه على شيء وهو : ان الشيخ والمحقق النائيني عبر كل منهما بالقبح الفاعلي ، لكن اختلفا في المقصود منه ، فأراد المحقق النائيني به جهة صدور الفعل وهي تختلف بالمنشإ ، فتارة تنشأ عن القبح الفعلي وأخرى تنشأ عن خبث الباطن ، ولكن الشيخ أراد به نفس سوء السريرة وخبث الباطن ، ولذا نفى العقاب عليه لأنه وصف غير اختياري ، ولم يستطع المحقق النائيني نفي استحقاق العقاب عن القبح الفاعلي ، بل غاية ما استطاع هو التشكيك لأنه أراد به امرا اختياريا قابلا لاستحقاق العقاب عليه. فالتفت ولا تغفل.

ويتحصل : ان ما ورد في تقريرات المحقق النائيني من تقريب الاستدلال على ثبوت العقاب في مورد التجري وردّه مما لا محصل له ، فليته لم يتعرض إليه بهذا التفصيل.

يبقى الكلام فيما ذكره الشيخ قدس‌سره من وجود ما يدل من الكتاب والسنة على ثبوت العقاب على قصد المعصية ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نية

٦٠