منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم » (١).

وموضع الاستشهاد في الرواية هو : ( قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات .. ». وهذه الفقرة ـ ابتداء ـ لا دلالة لها على وجوب الاحتياط ، إلا بضم مقدمة أشار إليها شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره بها تتم دلالتها على المدّعي ، وهو : ان الرواية دلت على وجوب طرح الخبر الشاذ النادر في مقابل الخبر المجمع عليه ، معلّلا ذلك : بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه. وبمقتضى المقابلة يكون الشاذ مما فيه الريب ، لا أنّ الشاذ يكون مما لا ريب في بطلانه ، بل المقابلة تقتضي ان يكون الشاذ مما فيه الريب. وحينئذ فيدخل الخبر الشاذ تحت الأمر المشكل ، الّذي يجب ان يرد علمه إلى الله .. ولا يكون من بيّن الغيّ.

وعلى هذا فاستشهاد الإمام عليه‌السلام في هذا المقام بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات ... » يكون دليلا على ان ترك الشبهات واجب ، وإلا لما تم الاستشهاد به لوجوب طرح المشكل الّذي هو موارد الرواية ، كما لا يخفى (٢).

فإذا تمت هذه المقدمة تم الاستدلال بالرواية ، وإلاّ فلا. هذا ، ولكن الشأن هو تمامية المقدمة المذكورة ، والظاهر هو عدم تماميتها. فان أساس هذه المقدمة مبتن على ان يكون الخبر الشاذ ـ بمقتضى المقابلة ـ مما فيه الريب ، لا مما لا ريب في بطلانه. وقد استشهد شيخنا الأنصاري قدس‌سره لإثبات ذلك بوجوه ثلاث :

الأول : ان المفروض في الرواية هو تأخر الترجيح بالشهرة عن الترجيح

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١٤ باب ١٢ ح ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢١١ ـ الطبعة الأولى.

٤٨١

بالأعدلية والأصدقية ... ، ولو كانت الشهرة توجب كون ما يقابلها ـ وهو غير المشهور ـ مما لا ريب في بطلانه ، لكان الترجيح بالشهرة مقدّما على سائر المرجّحات.

الثاني : ان الراوي افترض الشهرة في كلتا الروايتين ، ولازم هذا ان لا يكون مقابل الشهرة داخلا في ما لا ريب في بطلانه ، وإلا لم يعقل فرض الشهرة في كلتا الطائفتين المتعارضتين.

الثالث : انه ـ على تقدير كون غير المشهور مما لا ريب في بطلانه ـ تكون الأمور اثنين لا ثلاثة ، فانها اما ان تكون بيّن الرشد أو تكون بيّن الغيّ ، ولا ثالث لهما. مع انه عليه‌السلام صرّح في الرواية بتثليث الأمور ، مستشهدا لذلك بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ، الدال على التثليث.

فهذه الشواهد الثلاثة كلها تدل على ان الخبر الشاذ يكون مما فيه الريب ، لا انه يكون مما لا ريب في بطلانه.

وعليه ، فيتم الاستدلال بالرواية ، كما عرفت (١).

ويمكن الجواب عنه : بأن استشهاده عليه‌السلام بقول النبيّ ( صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقتضي كون ترك المشتبه والاجتناب عنه واجبا ، بل يصح الاستشهاد المذكور حتى مع كون الترك راجحا ، بالمعنى الجامع بين الوجوب والاستحباب ، أي مطلق الرجحان.

وذلك : لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إرشاد إلى ان في ارتكاب الشبهات مظنة الضرر. والتحرز عن الضّرر قد يكون واجبا ، إذا كان الضرر المحتمل هو العقاب منجزا على تقدير وجوده. وقد لا يكون كذلك ، كما إذا لم يكن العقاب منجزا على تقدير وجوده ، كما في الشبهات الموضوعية مطلقا ، والوجوبية الحكمية

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢١١ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٢

باتفاق الأصوليين والأخباريين ، والشبهات التحريمية حسب رأي الأصوليّين.

والاستشهاد بمثل هذا الكلام الدال على الجامع بين الوجوب والاستحباب ، لمورد يكون الاجتناب والترك فيه واجبا ـ كترك الخبر الشاذ الّذي هو مورد الرواية ـ لا محذور فيه أصلا.

وخلاصة المقال : ان كون مورد الرواية مما يجب تركه ، لا يقتضي ان يكون ترك الشبهات ـ الّذي استشهد الإمام عليه‌السلام بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأنه ـ أيضا واجبا ، ليكون النبوي ـ بمقتضى استشهاد الإمام عليه‌السلام به ـ دالا على وجوب الاجتناب عن الشبهات ، والاحتياط في موردها ، بل يتناسب ذلك مع رجحان الترك والاحتياط أيضا ، فلا دلالة للرواية ـ اذن ـ على وجوب الاحتياط.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره أيد دعواه بعدم دلالة النبوي ـ الّذي استشهد به الإمام عليه‌السلام ـ على وجوب الاحتياط ، بوجهين :

الأول : عموم النبوي للشبهات التحريمية الموضوعية. فقد اتفق الأخباريون على عدم وجوب الاحتياط فيها. ولا يمكن الالتزام بدلالة النبوي على الوجوب ، مع خروج الشبهات التحريمية الموضوعية تخصيصا. أما أوّلا : فلكونه تخصيصا مستهجنا ، لكونه من التخصيص بالأكثر. وثانيا : سياق النبوي آب عن التخصيص ، فان النبوي وارد في مقام حصر المشتبه كلّه. وحينئذ فإمّا ان تكون الشبهة التحريمية الموضوعية داخلة في القسم الثالث ، ولازمه وجوب الاحتياط فيها ، وإلا لم يكن الحصر حاصرا لوجود ما يكون خارجا عن الأقسام الثلاثة المذكورة في الرواية ، فان خروجها عن الحلال البيّن والحرام البيّن ظاهر ، فلو كانت خارجة عن القسم الثالث لزم ما ذكرناه ، كما هو ظاهر.

الثاني : ان النبوي دال على أنّ ارتكاب الشبهات مما يؤدي بالمرتكب لها

٤٨٣

إلى الوقوع في الحرام. وليس المراد بذلك ان ارتكاب مجموع موارد الشبهة مما يكون كذلك ، باعتبار : أن في ضمن موارد الشبهة ـ بالعلم الإجمالي ـ مقدارا من الحرام الواقعي ، حيث نعلم إجمالا ان في ضمن الكمية الكثيرة من الموارد المشتبه بها ، محرمات واقعية أيضا ، يكون المرتكب لجميع موارد الشبهة قطعا وبالعلم الإجمالي مرتكبا لجملة من المحرمات الواقعية أيضا ، بأن تكون الرواية في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع. ليس الأمر كذلك ، بل المراد ان ارتكاب الشبهة بها هي شبهة ـ أي : جنس الشبهة ـ مما ينجر بالمرتكب إلى الوقوع في الحرام لا محالة. والدليل على ذلك :

أولا : ان النبويّ في مقام تصوير قسم ثالث ، ليس هو بالحلال البيّن ، ولا بالحرام البيّن ، وهو المشتبه ، ولا يناسب هذا إرادة المجموع من المشتبه ، فان المجموع لا يمكن فرضه مقابلا للقسمين ، كما هو ظاهر. بل المناسب له إرادة الجنس من المشتبه ، فانه ـ على هذا ـ يكون قسما ثالثا في مقابل القسمين الأوّلين.

وثانيا : ان الإمام عليه‌السلام قد استشهد بالنبوي لترك الخبر الشاذ النادر ، ولو كان المراد بالشبهة ـ في النبوي ـ المجموع دون الجنس ، لما تم الاستشهاد المذكور ، كما لا يخفى.

وعليه ، فالمراد بالنبوي : ان ارتكاب الشبهة بما هي شبهة ـ أي : الجنس ـ مما يشرف بالمرتكب إلى الوقوع في الحرام ، كالإشراف في مجاز المشارفة ، فمرتكب الشبهة مشرف على ارتكاب الحرام ، كما ان من يراعى بغنمه حول الحمى مشرف على الدخول في الحمى ، كما وقع التشبيه بذلك في بعض الروايات.

وعلى هذا ، فغاية ما يستفاد من النبوي هو : ان ارتكاب الشبهة إشراف على ارتكاب الحرام ، فلا بد لمن يريد الاستدلال بالرواية لحرمة ارتكاب الشبهة من إثبات حرمة الاشراف على الحرام أيضا.

وثالثا : الروايات الكثيرة المساوقة لهذه الرواية الظاهرة ـ لقرائن مذكورة

٤٨٤

فيها ـ في الاستحباب ..

كرواية نعمان بن بشير ، قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لكلّ ملك حمى ، وحمى الله حرامه وحلاله ، والمشتبهات بين ذلك. لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه. فدعوا الشبهات » (١).

ومرسلة الصدوق رحمه‌الله : أنه خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : « حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم ، فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (٢).

ورواية أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « قال جدّي رسول الله ( صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام ـ : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى. ألا وإنّ لكل ملك حمى ، ألا وإنّ حمى الله محارمه ، فاتّقوا حمى الله ومحارمه » (٣).

وما ورد ، من أنّ : « في حلال الدنيا حسابا ، وفي حرامها عقابا ، وفي الشبهات عتابا » (٤).

ورواية فضيل بن عيّاض ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من النّاس؟. قال : الّذي يتورّع من محارم الله ، ويتجنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه » (٥) (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٢٢ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٢٤ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤٧.

(٤) كفاية الأثر ـ ٢٢٧.

(٥) بحار الأنوار ٧٠ ـ ٣٠٣ ـ الحديث ٣٤٨.

(٦) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢١٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٥

واما العقل : فقد استدل به على الاحتياط بوجوه :

الوجه الأول : وهو العمدة فيها ـ دعوى العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في موارد الشك في الوجوب والحرمة ، وقد تقرر في محله لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ، فلا بد من فعل كل ما احتمل وجوبه وترك كل ما احتمل حرمته تفريغا للذمة المشغولة قطعا. ولا خلاف في ذلك إلا من بعض الأصحاب.

هذا تقرير الوجه الأول كما جاء في الكفاية.

وقد أجاب عنه قدس‌سره : بدعوى انحلال العلم الإجمالي (١).

ولتوضيح مراد الكفاية نشير إلى صور الانحلال وعدم منجزية العلم الإجمالي ، وهي ثلاثة :

الأول : الانحلال الحقيقي التكويني بواسطة العلم التفصيليّ بالمعلوم بالإجمال ، كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة بول في أحد هذين الإناءين ، ثم علم تفصيلا بان قطرة البول في هذا الإناء المعين ، فان العلم الإجمالي يزول قهرا ، إذ لا تردد بعد العلم التفصيليّ.

الثاني : الانحلال الحكمي ، وهو زوال أثر العلم الإجمالي من التنجيز وان كان باقيا بنفسه ، وذلك كما في موارد قيام الأمارة على تعيين المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ، فانه لا يكون منجزا في الطرف الآخر.

الثالث : الانحلال الحقيقي ، ولكن لا بواسطة حدوث علم تفصيلي ، بل بواسطة انكشاف عدم تعلق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير فيزول أثره وهو التنجيز ، ويصح ان نعبر عن مثل هذا العلم الإجمالي بالعلم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٨٦

الإجمالي البدوي لأنه يزول بعد ذلك. كما في موارد تعلق العلم الإجمالي بتكليف مردّد بين ما هو محل الابتلاء وما هو ليس بمحل الابتلاء ، فان العلم الإجمالي يحدث بدوا ، لكن بعد معرفة ان أحد طرفيه خارج عن مورد الابتلاء المنافي لتعلق التكليف الفعلي به ، يزول العلم وينكشف بأنه لا تكليف على كل تقدير من أول الأمر وان العلم الإجمالي كان وهميا. فهذه الصورة ليست عبارة عن انحلال العلم الإجمالي ، بل عبارة عن زواله لانكشاف الخلاف. نظير موارد الشك الساري.

ويجمع كل هذه الموارد عدم تنجيز العلم الإجمالي.

وغرضنا في هذا المقام هو : الإشارة إلى المطلب بعنوان الدعوى ، فلسنا بصدد بيان السر في تحقق الانحلال وعدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الموارد ، فان له مجالا آخر يأتي إن شاء الله تعالى.

إذا تبين ذلك ، فقد جمع صاحب الكفاية في جوابه جميع صور الانحلال.

فقد أشار إلى دعوى الانحلال الحقيقي التكويني ـ وهو الصورة الأولى ـ في ذيل كلامه بقوله : « هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية ... ». وتوضيحه : ان العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في ضمن المشتبهات ينحل بالعلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية في موارد الطرق الشرعية بمقدار المعلوم بالإجمال ، فينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، ولا يتنجز سوى موارد الطرق الشرعية دون المشتبهات التي لم يقم طريق شرعي عليها.

كما التزم بالانحلال بالنحو الثالث في صدر جوابه ، وبيانه : ان قيام الأمارة والطريق الشرعي على الحكم يمنع من فعلية الواقع في موردها لامتناع اجتماع حكمين فعليين ـ كما بيّن ذلك في محله ـ.

وعليه ، فالمكلف كما يعلم بثبوت تكاليف واقعية في ضمن المشتبهات ، يعلم بثبوت طرق وأصول مثبتة للتكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال أو أزيد.

٤٨٧

وهذا يمنع من منجزية العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية ، إذ هو لا يعلم بثبوت الأحكام الواقعية الفعلية على كل تقدير ، بل على خصوص تقدير غير موارد قيام الطرق ، لعدم فعلية الواقع في موارد الطرق.

ومثله لا يكون منجزا ، إذ هو لا يعلم بثبوت أحكام فعلية غير ما قامت عليه الطرق والأصول العملية. فيكون المورد من قبيل تعلق العلم الإجمالي بتكليف مردد بين ما هو محل الابتلاء وما هو ليس محل الابتلاء.

ثم انه بعد ان ذكر ذلك أورد على نفسه : ان العلم بالحكم الفعلي هاهنا متأخر ، لأن العلم الإجمالي بالتكاليف ينشأ من أول البلوغ والالتفات إلى وجود شريعة ودين ، وبعد ذلك يحصل العلم بثبوت تكاليف فعلية في موارد الطرق والأصول العملية ، والعلم المتأخر لا ينفع في انحلال العلم الإجمالي السابق ، فلا يدعي أحد انحلال العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين بالعلم التفصيليّ بنجاسة أحدهما المعين المتأخرة وبسبب آخر.

وأجاب عنه : بان المناط في الانحلال هو مقارنة المعلوم لا العلم ، فإذا تعلق العلم الإجمالي المتأخر بما يقارن العلم الإجمالي تحقق انحلال العلم الإجمالي ، ولذا لو علم ـ مؤخرا ـ بنجاسة أحد الإناءين المعين التي هي المعلومة بالإجمال انحل العلم الإجمالي السابق.

وعليه ، فالحكم الفعلي الثابت في مورد الأمارة سابق الحدوث والمتأخر هو العلم به ، فالتكليف الواقعي ليس فعليا في مورده من السابق ، فلاحظ.

والسر في عدم تنجيز العلم بواسطة ذلك : ما أشار إليه الشيخ رحمه‌الله في أول مبحث القطع من : ان القطع يكون حجة ما دام موجودا ، فإذا زال فلا حجية له (١). وقد عرفت ان العلم الإجمالي هاهنا يزول بالعلم بالطرق المثبتة

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٨

للتكاليف.

ودعوى : ان ذلك غير مطرد ، إذ قد يزول العلم مع بقاء تنجزه ، كما لو طهّر أحد الإناءين المشتبهين بالنجاسة ، فانه لا بد من الاجتناب عن الإناء المشتبه الآخر بلا إشكال.

تندفع : بان التطهير لا يكون سببا لزوال العلم بنجاسة أحد الإناءين قبل تحققه ، فهو فعلا يعلم بنجاسة أحد الإناءين قبل التطهير ـ على ان يكون ( قبل التطهير ) قيدا للنجاسة لا العلم ، وهو سبب تنجيز التكليف بعد تحقق التطهير. فالعلم باق لم يزل ، بخلاف ما نحن فيه على ما عرفت.

وأما الانحلال الحكمي ، فقد التزم به في جواب إيراد أورده على نفسه بعد جواب الإيراد السابق.

ومحصل الإيراد ان ما أفيد انما يتم بناء على الالتزام بان المجعول في باب الأمارات والطرق أحكام فعلية ، واما بناء على ان المجعول هو المنجزية والمعذرية ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ فلا يتم ما ذكر ، لأنه لا تزول فعلية الواقع بقيام الأمارة ، فالحكم الواقعي المعلوم بالإجمال فعلي على كل تقدير ـ تقدير الأمارة وتقدير غيرها ـ.

وأجاب عنه : بالالتزام بالانحلال الحكمي ـ على هذا المبنى الصحيح في المجعول في باب الأمارات ـ بدعوى : ان نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون بحكم الانحلال عقلا ويستلزم صرف تنجزه إلى ما إذا كان التكليف الواقعي في ذلك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف. ومثّل له بما إذا علم بحرمة إناء زيد بين الإناءين وقامت البينة على ان هذا إناء زيد ، فانه لا شك في عدم لزوم الاجتناب عن الإناء الآخر ، كما لو علم تفصيلا إناء زيد.

وتوضيح ما ذكره قدس‌سره : أن لدينا موردين لانحلال العلم وعدم

٤٨٩

تنجيزه.

أحدهما : ما إذا كان في أحد الطرفين أصل مثبت ، فانه يمنع من تنجيز العلم الإجمالي ، ويصح إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر.

وهذا يختص بالقول بان العلم الإجمالي مقتضى للتنجيز. أما على القول بأنه علة تامة له فلا مجال لجريان الأصل النافي أصلا.

ثانيهما : ما إذا قامت إمارة على تعيين المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين ، وهو مورد الانحلال الحكمي ، فمورد الانحلال الحكمي يختلف عن مورد قيام الأصل المثبت في طرف والنافي في الطرف الآخر.

والوجه في الانحلال الحكمي ..

أما ما ادعاه صاحب الكفاية من استلزام دليل الحجية لصرف التنجيز فهو مجمل ومجرد دعوى بلا ان يقيم عليها دليل.

نعم قد يوجّه بوجهين :

أحدهما : إرجاع مورد قيام الأمارة على طرف إلى مورد قيام الأصل المثبت في طرف ، ويكون الجامع كل مورد يقوم الدليل ـ من أصل أو أمارة ـ على إثبات التكليف في طرف ونفيه في الطرف الآخر ، يرتفع تأثير العلم الإجمالي ـ هذا لا بد منه ، لأنه في موارد الانحلال الحكمي يلتزم به مطلقا ـ بلا تفرقة بين الالتزام بعلية العلم الإجمالي للتنجيز أو باقتضائه. وعليه فلا ثمرة للخلاف المزبور إلا فرضا.

ولكن هذا لا ينفعنا فيما نحن فيه ، وانما ينفع في موارد الشبهة الموضوعية ، فان البينة على وقوع النجاسة المرددة بين الإناءين في هذا الإناء بيّنة على عدم وقوعها في الإناء الآخر ، لأنه مدلول التزامي لوقوعها في ذلك الإناء ، فهنا دليل مثبت ودليل مناف.

أما فيما نحن فيه ، فالخبر الّذي يتكفل حكم باب الصلاة لا ينفي الحكم

٤٩٠

المشكوك في باب الصوم ، إذ ليس المعلوم بالإجمال أحكاما معدودة بعدد خاص لا تزيد عليه حتى يستلزم قيام الطرق على ثبوت ذلك العدد في موارد نفيها بالملازمة في الموارد الأخرى.

والآخر : من ان المتنجز لا يتنجز ، فإذا قامت الأمارة على الحكم في مورد كان منجزا ، فيمتنع ان يتنجز ثانيا بالعلم الإجمالي. وعليه فلا يكون العلم الإجمالي منجزا على كل تقدير ، فلا أثر له.

ولكن هذا مما لا يمكن ان يوجه به كلام الكفاية لأنه يبتني ـ كما لا يخفى ـ على ان يكون الطريق بوجوده الواقعي ـ بقيد كونه في معرض الوصول ـ حجة ومنجزا ، لا مقيدا بالوصول وهو مما لا يلتزم به صاحب الكفاية. وان التزم به المحقق الأصفهاني (١). واخترناه سابقا في مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية. فراجع (٢).

هذا تمام الكلام في بيان جواب صاحب الكفاية عن دعوى العلم الإجمالي.

وقد اقتصرنا على إيضاح كلامه والإشارة إلى مبانيه ، بلا دخول معه في نقض وإبرام ، فان له محلا آخر سيأتي الكلام فيه مفصلا عن الانحلال وشئونه وأنحائه والدليل عليه ، وستعرف إن شاء الله تعالى مدى تمامية الكلام الكفاية وعدمه عند ما تصل النوبة إليه.

ويكفينا هنا في رد دعوى العلم الإجمالي الالتزام بالانحلال الحقيقي بواسطة العلم الإجمالي الصغير. وقد قربنا كيفية انحلال العلم الإجمالي به في مقدمات دليل الانسداد. فراجع (٣).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٠٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) راجع ـ ١٩٦ من هذا الجزء.

(٣) راجع ـ ٢٩٨ من هذا الجزء.

٤٩١

الوجه الثاني : ما قيل من ان العقل يستقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية حتى يرد الترخيص من الشرع.

وقد يوجّه ذلك بوجه استحساني وهو : ان العبد لما كان مملوكا للمولى كانت تصرفاته بيد المولى ، فتصرفه في شيء بدون اذن المولى تصرف في سلطان المولى ، وهو مما يحكم العقل بقبحه ، لأنه خروج عن زي الرقية ومقتضى العبودية.

وأجاب عنه في الكفاية بوجوه :

الأول : بان هذه المسألة محل خلاف فلا يتجه الاستدلال بأحد القولين فيها ، وإلاّ لأمكن التمسك للبراءة بالرأي الآخر القائل بان الأفعال على الإباحة لا على الحظر.

الثاني : انه ورد الترخيص شرعا ، لما عرفت من قيام الأدلة على الإباحة شرعا ، ولا تعارضها أدلة الاحتياط.

الثالث : ان تلك المسألة تختلف عما نحن فيه ، ولعل الوجه فيه هو ان الكلام في تلك المسألة بلحاظ ما قبل الشرع ، والكلام في البراءة والاحتياط بلحاظ ما بعد الشرع ، وهذا الفرق يمكن ان يكون فارقا اعتبارا ، فلا يلازم القول بالوقف في تلك المسألة للاحتياط في هذه المسألة ، بل قد يحكم العقل فيها بالبراءة استنادا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (١).

الوجه الثالث : ان محتمل الحرمة يحتمل الضرر لاحتمال المفسدة فيه ، ودفع الضرر المحتمل واجب.

والجواب عنه كما في الكفاية (٢) ـ وقد مرّ تفصيل الكلام فيه صغرى وكبرى ـ : بان احتمال الحرمة يلازم احتمال المفسدة لا احتمال الضرر ، والمفسدة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢١٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٩٢

المحتملة ليست بضرر ، إذ المصالح والمفاسد لا ترجع إلى المنافع والمضار ، بل يكون الأمر بالعكس. إذن فالصغرى ممنوعة مضافا إلى منع الكبرى ، لعدم كون الضرر المقطوع فضلا عن المحتمل مما يجب التحرز عنه عقلا دائما ، بل قد يجب ارتكابه ، إذا ترتب عليه ما هو أهم منه بنظر العقل. فتدبر.

هذا تمام الكلام في أدلة الاحتياط. وقد عرفت عدم نهوض شيء منها لإثبات الاحتياط في الشبهات الحكمية.

وأما أدلة البراءة ، فقد عرفت ان عمدتها لا يستفاد منه أكثر من القاعدة العقلية ـ لو تمت ـ.

نعم ، حديث الرفع يستفاد منه جعل الحلية شرعا ، لكنه ضعيف السند فلا يعول عليه.

وأما حديث الحجب ، فهو وان كان تام السند ، لكن عرفت ما يدور حول دلالته من مناقشة فلا يصلح لأن يعتمد عليه في المقام إلا إذا حصل الجزم بدلالته.

٤٩٣

وينبغي التنبيه على أمور :

التنبيه الأول : أن أصل البراءة إنما يجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي في مورده ، لأن الأصل الجاري في الموضوع يتقدم على الأصل الجاري في الحكم بالحكومة أو بالورود ـ على الخلاف في ذلك ـ ، فان الأصل السببي متقدم على الأصل المسببي بلا كلام ، وانما البحث في وجه تقدمه وأنه بالحكومة أو بالورود أو غيرهما؟.

وقد حمل المحقق النائيني عبارة الشيخ (١) على إرادة كل أصل حاكم على أصل البراءة ولو كان جاريا في الحكم كالاستصحاب المثبت للتكليف ، لأنه يتقدم على البراءة بلا إشكال (٢).

وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه ، إلا ان حمل كلام الشيخ عليه بلا ملزم ، لأنه خلاف الظاهر من كلامه ، خصوصا وان المثال الّذي يدور البحث حوله في المسألة ، من قبيل ما إذا جرى الأصل في موضوع الحكم المشكوك ، وهو أصالة عدم التذكية.

وعلى كل حال ، فأصل المطلب بنحو الكلية معلوم لا كلام فيه.

إنما الكلام في الفرع المذكور في المسألة ، وهو ما إذا شك في حلية حيوان لأجل الشك في التذكية ، فهل تجري أصالة عدم التذكية ، وحينئذ لا مجال لأصالة البراءة ، أو لا تجري؟. ولا بأس بتفصيل الحديث فيه لعدم التعرض إليه في غير هذا المحل من الأصول.

وقد ذكر : ان الشبهة تارة تكون حكمية. وأخرى موضوعية.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢١٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٨٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٩٤

والشبهة الحكمية تارة : تنشأ من الشك في قابلية الحيوان للتذكية ، فيشك في حليته لذلك ، كالحيوان المتولد من الغنم والكلب ولم يلحق أحدهما في الاسم. وأخرى يعلم بقابليته للتذكية ، لكن يشك في حلية أكل لحمه ذاتا كالأرنب مثلا.

والشبهة الموضوعية أيضا كذلك ، فتارة يشك في حلية لحم الحيوان لأجل الشك في تحقق التذكية. وأخرى يشك فيها لأجل الشك في انه من لحم حيوان محلل الأكل كالغنم ، أو محرمة كالفأر ، مع العلم بتحقق التذكية.

ولا يخفى ان البحث في جريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية يتوقف على أمرين :

أحدهما : عدم وجود عموم أو إطلاق يدل على قبول كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل. وإلا كان هذا العموم متكفلا لإثبات القابلية في مورد الشك ، فلا مجال للأصل.

والآخر : ان يفرض كون موضوع حرمة اللحم أمرا عدميا وهو غير المذكى ، لا أمرا وجوديا وهو الميتة ـ بناء على انها أمر وجودي ـ.

وتوضيح ذلك : ان الأقوال في هذا الباب ثلاثة :

فقول : بان موضوع الحرمة والنجاسة هو الميتة ، وهي أمر وجودي لازم لعدم التذكية.

وقول : بان موضوع الحرمة والنجاسة أمر عدمي ، وهو غير المذكى.

وقول : بالتفصيل بين حرمة الأكل ، فموضوعها الأمر العدمي والنجاسة ، فموضوعها الأمر الوجوديّ. وهو المنسوب إلى الشهيد ، ولذا حكم بحرمة أكل الحيوان المتولد من حيوانين أحدهما محلل الأكل والآخر محرمة ولم يلحق أحدهما بالاسم ، وطهارته. فإذا كان موضوع الحرمة هو الأمر الوجوديّ لم تنفع أصالة عدم التذكية ـ على تقدير جريانها ـ في إثبات الحرمة إلا بناء على الأصل المثبت. فلا بد من فرض الموضوع غير المذكى كي تترتب الحرمة على أصل عدم التذكية

٤٩٥

من ترتب الحكم على موضوعه.

وإذا تبين ذلك ، فنعود إلى أصل الكلام وهو : انه هل تجري أصالة عدم التذكية مع الشك في قابلية الحيوان للتذكية أو لا تجري؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى جريانها ، وحكم بحرمة اللحم ، لأن الحرمة تترتب على غير المذكى كما تترتب على الميتة (١).

ولتحقيق الحال فيما ذهب إليه قدس‌سره نقول : ان المحتملات المذكورة لمعنى التذكية ثلاثة :

الأول : انها عبارة عن المجموع المركب من الأفعال الخاصة ـ كفري الأوداج بالحديد والبسملة ـ ، ومن قابلية المحل ، فتكون قابلية المحل مأخوذة في معنى التذكية بنحو الجزئية.

الثاني : انها عبارة عن مجرد الأفعال الخاصة ، ولكن بقيد ورودها على المحل القابل ، فالقابلية مأخوذة بنحو الشرطية وخارجة أن مفهوم التذكية.

الثالث : انها عبارة عن أمر بسيط وحداني يترتب على الأفعال الخاصة ، نظير الطهارة بالنسبة إلى افعال الوضوء.

ولا يخفى انه بناء على الثالث يصح إجراء أصالة عدم التذكية عند الشك في تحققها ، لأنها أمر حادث مسبوق بالعدم ، فيستصحب مع الشك في ارتفاعه بالوجود ، سواء في ذلك موارد الشبهة الحكمية والموضوعية.

وأما بناء على الأول ، فمع الشك في ثبوت القابلية للحيوان ، بشكل استصحاب عدمها ، لأنه ليس لها حالة سابقة ، بل الحيوان عند وجوده إما ان يكون له قابلية أو لا يكون.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٩٦

وليس وصف المجموع هو الموضوع له كي يستصحب عدمه مع الشك ، بل الموضوع له هو ذوات الاجزاء ، والتعبير بالمجموع طريقي.

وهكذا الحال بناء على الثاني.

وقد يلتزم بناء على هذين الوجهين بجريان أصالة عدم القابلية بنحو استصحاب العدم الأزلي.

ولكن جريانه يتوقف على مقدمتين :

الأولى : كون موضوع الحرمة هو الحيوان مع عدم التذكية ، على ان يؤخذ عدم التذكية بنحو التركيب المعبّر عنه بالعدم المحمولي ، لا التوصيف المعبّر عنه بالعدم النعتيّ ، إذ قد تقدم أن أساس استصحاب العدم الأزلي هو أن يرد عام ثم يرد خاص فيخصص العام ، ويستلزم ذلك تعنون العام بعنوان عدم الخاصّ بنحو التركيب ، فيكون موضوع الحكم مركبا من العام وعدم الخاصّ ، فإذا أحرز العام بإحراز عدم الخاصّ بالأصل ثبت الحكم ، أما إذا أخذ بنحو التوصيف وكان الموضوع هو العام المتصف بعدم الخصوصية ، فاستصحاب العدم الأزلي لا ينفع في إثبات الحكم إلا بناء على الأصل المثبت.

الثانية : ان يلتزم في محله يجريان الأصل الأزلي مطلقا ، بلا تفصيل بين ما كان الوصف في مرتبة نفس الذات فلا محرز فيه ، وما كان في مرتبة الوجود ومن عوارض الوجود فيجري فيه ، إذ مع الالتزام بهذا التفصيل ـ وهو الّذي نختاره بناء على عدم إنكار استصحاب العدم الأزلي رأسا كما قربناه ـ لا مجال لجريان أصالة عدم القابلية ، لأنها عن الأوصاف الذاتيّة وفي مرتبة نفس الذات. فأصالة عدم القابلية بنحو استصحاب العدم الأزلي انما تجري بعد فرض هاتين المقدمتين. وكلاهما محل إشكال.

هذا بالنسبة إلى الشبهة الحكمية.

أما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية ، فانما لا تجري أصالة عدم التذكية

٤٩٧

فيها ـ بناء على هذين الوجهين ـ.

إذا كان الشك من جهة الشك في القابلية ، كما إذا تردد أمر اللحم المطروح بين ان يكون لحم حيوان قابل للتذكية كالغنم ، أو لحم حيوان غير قابل للتذكية كالكلب.

أما إذا كان الشك من جهة تحقق بعض الأفعال الخاصة ، فلا إشكال في جريان الأصل في نفيها ، لأنها أمور حادثة والأصل عدم الحادث.

ثم إنه ينبغي إيقاع الكلام في ان معنى التذكية أي هذه المعاني الثلاثة ، وهل هي اسم للسبب أو للمسبب؟. فنقول :

أما المحتمل الأول ، وهو كونها اسم للمجموع المركب من الأفعال الخاصة والقابلية ، بحيث تكون القابلية جزء المعنى ، فلا يمكن الالتزام به لوضوح ان التذكية من المعاني الحدثية القابلة للاشتقاق ، فيشتق منها الفعل والفاعل والمفعول وغير ذلك من أنحاء الاشتقاقات ، وهذا لا يتلاءم مع وضعها للمجموع المركب ، لأن القابلية ليست من المعاني الحدثية ، بل هي من الجوامد غير القابلة للاشتقاق كما لا يخفى.

وأما المعنى الثاني وهو كونها اسما للافعال الخاصة في المورد القابل ، فلا يرد عليه ما ذكر ، إذ الموضوع له هو الحصة الخاصة من الأفعال وهي معنى حدثي ، نظير وضع البيع لتمليك عين ما ، مع ان العين ليست من المعاني الحدثية. لكن يرد عليه انه لا يتلاءم مع بعض استعمالات لفظ التذكية في النصوص ، وذلك كاستعمالها بإضافتها ونسبتها إلى المورد المعلوم القابلية كالغنم. فيقال : « ذكّاه الذابح » ، وفي مثله لا يمكن ان يراد منه المعنى المزبور ، إذ معناها هو الذبح في المورد القابل ، ولا معنى لأن يراد : « اذبح في المورد القابل الغنم » ، لأن معنى : « ذكّ الغنم » هو ذلك على هذا الوجه. وهو مما لا محصل له.

وأما المعنى الثالث وهو كونه امرا بسيطا مترتبا على الأفعال الخاصة. فقد

٤٩٨

نفاه المحقق النائيني (١) بأنه خلاف ظاهر نسبة التذكية إلى الفاعلين في قوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (٢).

وما أفاده يبتني على دعوى ظهور اسناد الفعل في المباشرة خاصة لا الأعم من المباشرة والتسبيب.

والعمدة في نفي المعنى الثالث هو : ان الأمر البسيط المفروض ترتبه على هذه الأفعال الخاصة إما ان يكون امرا واقعيا تكوينيا أو يكون أمرا اعتباريا مجعولا.

أما الأول : فممنوع للجزم بعدم وجود أثر واقعي يختلف الحال فيه وجودا وعدما بقول باسم الله وعدمه ، بحيث يكون قول باسم الله تأثير واقعي فيه.

وأما الثاني : فهو يقتضي فرض حكم وضعي متوسط بين الأفعال الخاصة والحكم الوضعي بالطهارة والتكليفي بالحلية ، وهو مما لا داعي إليه ولا نرى له أثرا مصححا فيكون لغوا.

وإذا ثبت عدم صحة الالتزام بكل هذه المعاني ، فقد يلتزم بان التذكية عبارة عن نفس الأفعال الخاصة بلا ان يكون لقابلية المحل دخل في المسمى لا بنحو الجزئية ولا الشرطية. نعم هي شرطه في تأثير الأفعال في ترتب حكم الحلية أو الطهارة. وإلى ذلك ذهب المحقق النائيني (٣).

والتحقيق : ان التذكية بمفهومها العرفي عبارة عما يساوق النزاهة والنظافة والطهارة ، ويمكننا ان نقول ان المراد بها في موارد الاستعمالات الشرعية من النصوص والكتاب هو المعنى العرفي لها فتكون التذكية هي الطهارة ، لا أنها موضوع للحكم بالطهارة.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٨٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٣.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٨٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٩٩

والوجه في ذلك :

أولا : انه لا وجه لصرف اللفظ عما له من المعنى العرفي إلى معنى جديد مستحدث ، فانه مما يحتاج إلى قرينة ودليل وهو مفقود في المقام.

وثانيا : انه لم نعثر ـ بعد الفحص في النصوص ـ على مورد رتّب الحكم بالطهارة فيه على التذكية ، بحيث يظهر منه أن التذكية غير الطهارة. فهذا مما يشهد بان المراد بالتذكية هو الطهارة. وتكون الأفعال الخاصة دخيلة في تحقق الطهارة بعد الموت ، أو فقل دخيلة في بقاء الطهارة إلى ما بعد الموت ، لأن الحكم ببقاء الطهارة بيد الشارع وقد رتّبه على الأفعال الخاصة.

وعلى هذا ، فلو شك في قابلية الحيوان للتذكية فهو شك في طهارته بعد الموت بالافعال الخاصة ، ومقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة ، فيكون الأصل متكفلا لإثبات التذكية لا لنفيها.

وبالجملة : الكلام السابق كله يبتني على فرض التذكية أمرا غير الطهارة والحلية ، ولذا جعلت موضوعا لهما ، مع أن الواقع خلافه ، إذ لم يرد ما يظهر منه ترتيب الطهارة على التذكية بحيث يفرض لها أثران ، فالتذكية بحسب ما نراه هي الطهارة لا غير ، فيصح لنا ان نقول انها اسم للمسبب لا للسبب ، وهو الأفعال الخاصة ، وإن أطلق عليها في بعض الأحيان لفظ التذكية ، لكنه كإطلاق لفظ التطهير على الغسل ، من باب إطلاق لفظ المسبب على السبب وهو كثير عرفا.

نعم يبقى سؤال وهو : ان هذه الأفعال الخاصة يترتب عليها في بعض الحيوانات الحلية والطهارة كالغنم ، وفي بعض آخر الطهارة فقط كالسباع ، وفي بعض ثالث يترتب عليها الحية دون الطهارة كالسمك ، فانه طاهر مطلقا ولو بعد الموت ، وانما يترتب على الأفعال الخاصة فيه الحلية ، واما طهارته فهي ثابتة أجريت الأفعال الخاصة أو لا ، مع أنه قد عبّر عن إخراجه من الماء حيا بالذكاة ،

٥٠٠