منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

الاقتحام في الهلكة » (١).

وخبر أبي سعيد الزهري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة .. » (٢).

وخبر داود بن فرقد ، عن أبي شيبة ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال في حديث : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (٣).

وخبر السكوني ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، عن عليّ عليه‌السلام قال : « الوقوف في الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة » (٤).

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة ـ كما عن شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره ـ : بان المراد بال : « توقف » هو مطلق السكون وعدم المضيّ ، فهو كناية عن عدم الحركة وعدم الإقدام على الفعل.

وعليه ، فلا مجال للإشكال فيه : بان المراد بالتوقف ..

ان كان هو التوقف عن الحكم الواقعي ـ المفروض كونه مشكوكا فيه ـ ، فهو مسلم به عند كل من الأصوليين والأخباريين.

كما أنّ الإفتاء بالحكم الظاهري ـ منعا أو ترخيصا ـ مشترك فيه ـ أيضا ـ بينهما.

وأمّا التوقف عن العمل ، فلا معنى له ، إذ لا بد له من الفعل أو الترك على كلا التقديرين أي على تقديري القول بالبراءة والقول بالاحتياط.

والحاصل : ان وجوب التوقف ـ بالمعنى المذكور ـ معناه : وجوب الاحتياط

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١٦ ـ باب ١٢ الحديث ١٥ من أبواب صفات القاضي.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١٢ ـ باب ١٢ الحديث ٢ من أبواب صفات القاضي.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١٥ ـ باب ١٢ الحديث ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٢٦ ـ باب ١٢ الحديث ٥ من أبواب صفات القاضي.

٤٦١

في موارد الشبهة.

ثم تعرض شيخنا الأنصاري قدس‌سره بعد ذلك لدفع اعتراض قد يورد على الروايات بعدم دلالتها على الوجوب ، بقوله : « وتوهم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوع ، بملاحظة : أنّ الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا. مع أنّ جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في المقبولة قرينة على المطلوب.

فمساقه مساق قول القائل : « أترك الأكل يوما خير من ان أمنع منه سنّة » ، وقوله عليه‌السلام في مقام وجوب الصبر حتى تيقن الوقت : « لأن أصلي بعد الوقت أحبّ إليّ من أصلّي قبل الوقت » (١) ، وقوله عليه‌السلام في مقام التقية : « لأن أفطر يوما من شهر رمضان فأقضيه أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي » (٢) ..

وقد أجاب شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره عن ذلك : بأنّ الأمر بالتوقف أمر إرشادي ، لا يترتب عليه شيء سوى ما يترتب على متعلّقه ، وهو الأمر المرشد إليه ، فلا يكون مثل هذا الأمر دالا على وجوب شيء.

بيان ذلك : ان الأوامر الإرشادية هي أوامر بصورتها ، ولكنها ـ في واقعها ـ إخبار ، فهي غير متضمّنة للإلزام بشيء أصلا ، وانما الإلزام في مواردها ينشأ من اللزوم في المرشد إليه نفسه ، فان كان هناك فيه موجب للإلزام كانت متابعة الأمر الإرشادي بالعمل على طبقه لازما ، وإلاّ فلا. ومثاله في أوامر الطبيب التي هي أوامر إرشادية من القسمين هو : ان أمره بشرب الدواء النافع لجهة ضرورية في صحة البدن ، كأن يأمر بشرب الدواء لأجل الخلاص من المرض المهلك ، يكون لازم العمل ، للزوم المرشد إليه ، وهو شرب الدواء المذكور. كما أنّ أمره بشرب الدواء النافع لزيادة الشبهة ـ أو توليد النشاط فيه ـ ، باعتبار عدم اللزوم في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ ـ ١٢٢ ـ باب ١٣ ـ الحديث ٥ من أبواب مواقيت الصلاة.

(٢) وسائل الشيعة ٧ ـ ٩٥ باب ٥٧ الحديث ٤ من أبواب يمسك عنه الصائم.

٤٦٢

المرشد إليه ، نظرا إلى دخله في جهة كمالية لا ضرورية ، لا يكون لازم العمل على طبقه ، لعدم لزوم المرشد إليه.

وعلى هذا ، فالأمر بالتوقف عند الشبهات إرشاد لا محالة إلى إنه ـ على تقدير عدم التوقف ـ يترتب على ارتكاب الشبهة ما هو الثابت في ارتكاب الشيء المذكور واقعا ، فإذا كان هناك في ارتكاب الشيء ما يلزم التحرّز عنه كان التوقف لازما ، وإلاّ فلا. وعليه فلا يستفاد من هذه الروايات لزوم التوقف ، بل اللزوم وعدمه تابعان لشيء خارج عن ذلك ، وأنّه إذا كان هناك ما يترتب على ارتكاب الشبهة ما يجب التحرّز عنه عقلا ـ كالعقاب المترتب على ارتكاب الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، أو الشبهة البدوية قبل الفحص ـ كان التوقف لازما ، وإلا فلا. فهذه الروايات لا دلالة لها على لزوم التوقف ، كما لا يخفى.

وبكلمة أخرى : هذه الروايات لا تدل على لزوم التوقف في كل شبهة ، كما هو المدّعى.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره أفاد وجها لدلالة الروايات على وجوب التوقف في كل شبهة ، كما هو المدّعى ، بقوله : « ان قلت ... » ، وهذا هو العمدة في استدلال الأخباريّين ، وحاصله :

انّ بيان كل من الوجوب والحرمة قد يكون بالأمر بالفعل أو النهي عنه ، الظاهرين في الوجوب أو الحرمة. وقد يكون ذلك ببيان ما يترتب على امتثال الواجب من الثواب ، وعلى مخالفة الحرام من العقوبة. ـ مثلا ـ الوالد يقول لأولاده : من تكلّم منكم في هذه السّاعة أضربه كذا ... فان هذا الكلام يكون ظاهرا عرفا في النهي عن التكلم. أو يقول : من يكتب منكم صفحة .. أعطيه كذا ... ، فانه يكون ظاهرا عرفا ـ بالدلالة الالتزامية ـ في الأمر بالفعل. وعلى هذا فالهلكة المفروضة في مورد الشبهات ـ والمراد بها : هي العقوبة الأخروية ، كما مرّ ـ لا محالة يكون ظاهرا عرفا في حرمة ارتكاب المشتبه ، ويكون ذلك من قبيل

٤٦٣

الاستعمالات الكنائية ، باستعمال اللفظ في اللازم وإرادة الملزوم. فيكون مفاد الروايات : حرمة ارتكاب المشتبه ، ووجوب الاحتياط.

أو يقال ـ كما هو ظاهر عبارة الرّسائل ـ : ان الروايات انما دلّت على انّ كل شبهة هي مظنة لاقتحام الهلكة ، لا أنها تدل على انه في مورد احتمال الهلكة ـ بنحو التعليق على الموضوع المقدّر وجوده ـ يكون ارتكاب الشبهة اقتحاما في الهلكة. فمفادها : انّ ارتكاب كلّ شبهة مصداق للاقتحام في الهلكة.

وبما انّا نعلم : ان ثبوت الهلكة في المشتبه ـ مع عدم البيان ـ قبيح عقلا ، فلا محالة نستكشف من ذلك ـ بدلالة الاقتضاء ـ امرا شرعيا متعلقا بالاحتياط ، يكون مصححا للعقوبة المحتملة على تقدير وجودها. وإلا كان الاكتفاء في العقاب بالتكاليف الواقعية المشكوك فيها قبيحا عقلا.

وقد أجاب عنه شيخنا الأنصاري قدس‌سره : بان الأمر بالاحتياط المستكشف من الروايات المذكورة بالالتزام أو بالظهور العرفي ، لا يخلو حاله من ان يكون أمرا مقدميا أو يكون نفسيّا.

والأول ـ وهو الأمر المقدمي ـ لا يصحح العقوبة ، فانه أمر تبعي لأجل التحرز من العقاب ، فلا يكون هو مصححا للعقوبة ، فتكون العقوبة بلا مصحّح ، لأنه لا تصح العقوبة على أمر مجهول باعترافه.

وبعبارة أخرى الأمر المقدمي إمّا هو غير معقول ، لكونه مقدمة للتحرز من العقوبة ، فلا يمكن ان يكون مصححا للعقوبة أو أنه على تقدير المعقولية لا يكون بيانا مصححا للعقوبة.

والثاني خلف الفرض ، فان العقوبة في مخالفة الأمر النفسيّ مترتبة على مخالفته ، مع أن صريح هذه الروايات ترتب العقوبة على مخالفة الواقع (١).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٦٤

هذا ، وقد اعترض عليه المحقق ، صاحب : « كفاية الأصول » قدس‌سره وغيره ممّن تبعه في ذلك : بعدم انحصار الأمر في هذين القسمين ، بل هناك قسم ثالث ، وهو الأمر الطريقيّ. وكأن شيخنا الأنصاري قدس‌سره ـ ويعتبر : المؤسس لهذا الاصطلاح ـ نسي ـ هنا ـ القسم المذكور ، فلذلك حصر الأوامر في القسمين (١).

أقول : الظاهر هو تمامية ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره ، وأنّه قد تعرض لجميع أقسام الأوامر ، بلا إهمال لشيء من أقسامها. وذلك ، لأن مراده ـ قدس‌سره ـ من الأمر النفسيّ هو ما يعم الأمر الطريقيّ.

بيانه : ان أقسام الأمر ثلاثة : الأمر الغيري ، النفسيّ ، الطريقي.

أمّا الأمر الغيري ، فامّا أنّه غير معقول ، لأنّه انما يكون بعنوان المقدمية للتحرز عن العقوبة المحتملة ، فلا بد وأن يكون هناك مصحّح للعقوبة حتى يعقل الأمر المقدمي للتحرز عنها ، فلا يعقل ان يكون هو مصححا للعقوبة. أو أنه لا يجدي ، فانه على فرض التسليم بالمعقولية لا يجدي لتصحيح العقوبة ، نظرا إلى ان الأمر الغيري لا تستتبع مخالفة العقاب ، بل العقاب يكون على مخالفة الأمر النفسيّ.

وأمّا الأمر النفسيّ ، فهو انما يستوجب العقوبة على مخالفة نفسه ، بمعنى : ان الأمر بالاحتياط لو كان نفسيا لكانت العقوبة مترتبة على مخالفة الأمر المذكور بنفسه ، مع أن مفاد الروايات انما هي العقوبة على مخالفة الواقع نظرا إلى ان الهلكة المفروض فيها في مورد الشبهات ، انما هي على مخالفة الواقع ، لا على مخالفة الأمر بالاحتياط.

وأمّا الأمر الطريقي ، فلأن المصحح للعقوبة على مخالفة الواقع إذا كان

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٣٤٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٦٥

هو الأمر الطريقي ، فلا محالة تكون العقوبة في طول الأمر الطريقي ومترتبة عليه ، ولا يعقل ان يكون الأمر الطريقي في طولها ومترتبا عليها. مع أن المفروض في الروايات انما هي العقوبة في مرتبة سابقة على الأمر بالاحتياط ، حيث انه علّل فيها الأمر بالاحتياط بالهلكة ، وهذا لا يتلاءم وكون الأمر بالاحتياط طريقيا.

وحاصل الكلام : ان فرض العقوبة في الروايات على الواقع ، وفي مرحلة سابقة على الأمر بالتوقف ـ بهذين القيدين ، أعني بهما : فرض العقوبة على الواقع ، وفرضها في مرحلة سابقة على الأمر بالتوقف ـ مما يتنافى مع كون الأمر به نفسيا وطريقيا. فان فرض العقوبة على الواقع مناف لكون الأمر بالتوقف نفسيا ، وفرضها في مرحلة سابقة مناف لكونه طريقيا.

وعليه ، فلم يهمل شيخنا الأنصاري قدس‌سره ذكر شيء من أقسام الأمر في المقام ، بل انه قد أشار إلى جميع ذلك. فلاحظ.

ودعوى : أن الأمر بالتوقف ـ في الروايات ـ وان لم يكن طريقيا لما تقدّم ، لكنه يستكشف من التعليل في الروايات ، بأن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، أمر آخر طريقي يكون هو المصحح للعقوبة. يأتي الجواب عنها ـ إن شاء الله تعالى ـ في نقد كلام المحقق الأصفهاني قدس‌سره ، فانتظر.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره أيد ما أفاده في الجواب عن روايات التوقف بوجه آخر ، كما يلي : ان الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهات شاملة لكل من الشبهتين : الوجوبية والتحريمية مطلقا ، سواء كانتا من الشبهة الحكمية أو الموضوعيّة. مع أنّ الأخباريين لا يقولون بالاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية والموضوعية ، وفي الشبهة التحريمية الموضوعية ـ إلا ما ينسب إلى صاحب الوسائل قدس‌سره من الاحتياط في الشبهة

٤٦٦

الوجوبية (١) ـ ، ولا مجال لتخصيص الروايات ، بإخراج الشبهة الوجوبية الحكمية ، والموضوعية التحريمية والوجوبية. فإن لسان الروايات المذكورة آبية عن التخصيص. فانه كيف يمكن التخصيص في الاقتحام في الهلكة ، بالترخيص في ذلك في مورد دون آخر. وعليه فلا بد من حمل الأمر بالتوقف فيها على الإرشاد حتى يختص ذلك بمورد يحكم العقل فيه بلزوم الاحتياط ، لتمامية المنجز فيه للتكليف المشكوك فيه ، كالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، والبدوية قبل الفحص. وبذلك نسلم عن الإشكال (٢).

هذا ، وقد حاول بعضهم تقرير هذا وجها مستقلا لنقد الروايات الآمرة بالتوقف قائلا : ان عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية مطلقا ، سواء أكانت تحريمية أم كانت موضوعية ، وعدم وجوبها في الوجوبية الحكمية ، مما يكشف لنا عن ان المراد بالشبهة في هذه الروايات ليست هي بمعناها المصطلح عليه ، أعني به : ما لم يعلم حكمه الواقعي. بل المراد بها : ما يساوق « المشكل » و « المشتبه » المأخوذين في قاعدة القرعة ، بان يراد به : ما ليس إليه طريق مجعول لا واقعا ولا ظاهرا. فلا تشمل ما كان حكمه في الظاهر الترخيص ، كالشبهات البدوية بعد الفحص ، التي هي مجرى البراءة (٣).

قلت : ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره تأييدا لما أجاب به عن نصوص الوقوف عند الشبهات يمكن الجواب عنه : بان الاستدلال بالنصوص الآمرة بالتوقف عند الشبهات انما كان يبتني على استفادة حكمين عامين منها : أحدهما : ان كل شبهة تكون مظنة للاقتحام في الهلكة. والآخر : ان الوقوف في كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة. والتخصيص ـ على فرض

__________________

(١ و ٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول ٢ ـ ٢٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٦٧

الالتزام به ـ انما يكون بالنسبة إلى العامّ الأوّل ، ولسانه ليس بآب من التخصيص ، حيث إنّه للشارع إخراج بعض افراد الشبهة عن كونها مظنة للاقتحام في الهلكة ، وهذا مما لا محذور فيه. نعم لسان العام الثاني آب عن التخصيص ، لكنه لا موجب للالتزام بالتخصيص بالنسبة إليه.

فالمهم هو الجواب المتقدم بنفسه ، بلا حاجة إلى ضمن المؤيد المذكور إليه.

كلام المحقق الأصفهاني قدس‌سره ونقده.

قال المحقق الأصفهاني قدس‌سره : « يمكن إصلاح الاستدلال بهذه الطائفة ، بناء على كون الفقرة تعليلا ، بإثبات أمرين : أحدهما : كون الشبهة مطلقة شاملة للشبهة البدوية ، لعدم تقيد الشبهة بما يأبى عن الشمول للبدوية. وثانيهما : ظهور الهلكة في العقوبة ، لا فيما يعم المفسدة. فيدلّ التعليل على أنّ الإقدام في كل شبهة اقتحام في العقوبة ، فصونا للكلام عن اللغوية يستكشف أمر طريقي بالاحتياط في الشبهة البدوية ، من باب استكشاف العلة عن معلولها. ولا يخفى عليك : أن إيجاب الاحتياط الواقعي وان كان غير قابل للمنجزية ، بل القابل هو الإيجاب الواصل. لكنه لا فرق في وصوله بين أنحاء وصوله ، فوصوله بوصول معلوله كوصوله بنفسه. نعم الأمر الإرشادي بالتوقف المعلل بهذه العلّة ، كما لا يمكن ان يكون بنفسه مصححا للعقوبة لفرض انبعاثه عن عقوبة مفروضة ، كذلك لا يعقل ان يكون وصوله وصول الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة ، لأن صحة المؤاخذة بنفس وصوله الموصل للأمر الطريقي ، فكيف ينبعث عن مؤاخذة مفروضة مستدعية لفرض الوصول بغير هذا الأمر المعلل؟.

وعليه ، ينبغي حمل ما أفاده شيخنا العلامة قدس‌سره ـ في آخر العبارة ـ : « فهذا الأمر المعلل لا بد من ان يكون كاشفا عن امر طريقي واصل .. » ، مع أنه لم يصل الا هذا الأمر في الشبهة البدوية. لأن الكلام في الاستدلال به لوجوب التوقف المنجز للواقع لا بغيره. إلا بدعوى : أنّ أمر المخاطب بالتوقف

٤٦٨

المعلّل بهذه العلّة كاشف عن وصول الأمر بالاحتياط إليه ، واحتماله في حق المخاطب بلا مانع ، وبضميمة ـ قاعدة الاشتراك ـ يكون واصلا إلينا ، لا بهذا الأمر الإرشادي ، ليكون مستحيلا. وحينئذ يكون الأمر بالتوقف ، بضميمة قاعدة الاشتراك مع المخاطب كاشفا عن إيجاب الاحتياط طريقيا في الشبهة البدوية .. » (١).

وحاصله : تقريب الاستدلال باخبار التوقف بوجهين :

أحدهما : استكشاف الأمر الطريقي بالاحتياط من التعليل بان الوقوف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، بدلالة الاقتضاء ، يكون هو المصحح للعقوبة ، فان مصحح العقوبة هو الأمر الطريقي الواصل مطلقا ، ولو كان وصوله من طريق وصول معلوله ، وهي العقوبة في كل شبهة ، فان اللازم هو الوصول ، واما اعتبار كونه واصلا بنفسه فلا موجب له ، بل يكفي وصوله ولو بوصول معلوله.

والآخر : استكشاف الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة من الأمر بالتوقف في الشبهات ، المعلّل .. ، لا من التعليل نفسه ، وذلك بان يكون أمر المخاطبين بالتوقف في الروايات المشار إليها كاشفا عن وصول الأمر الطريقي بالاحتياط إليهم ، وهذا مما لا مانع منه في حق المخاطبين ، وحينئذ بمقتضى قاعدة الاشتراك مع المخاطبين في التكليف ، يستكشف الأمر الطريقي بالاحتياط في حق غيرهم ، فيكون الكاشف عن الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة بالنسبة إلى غير المخاطبين ، الأمر بالتوقف ، مع قاعدة الاشتراك في التكليف.

والوجهان مما يشتركان في ابتنائهما على كون المراد بالهلكة في الروايات ، هي العقوبة الأخروية.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية ـ ١٩٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٦٩

ولذلك يكون ما أورده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من منع إرادة العقوبة الأخروية من الهلكة واردا على كلا الوجهين.

فقد أفاد قدس‌سره ما نصه : « فالأولى المنع من ظهور الهلكة في خصوص العقوبة ». لأن هذا الكلام ذكر في موردين ، لا مانع من إرادة العقوبة في أحدهما ولا يمكن إرادتها في الآخر.

أما الأوّل : ففي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة ـ بعد ذكر المرجحات وفرض التساوي من جميع الجهات ـ حيث قال عليه‌السلام : « إذا كان كذلك فأرجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » ، فانه لا مانع من إرادة العقوبة ، لأن المورد من الشبهات التي يمكن إزالتها بملاقاة الإمام عليه‌السلام.

مع أنه يمكن ان يقال : ان المراد هو التوقف من حيث الفتوى على طبق إحدى الروايتين في مقام فصل الخصومة ، كما هو مورد المقبولة.

ولذا لا تعارض الأخبار الدالّة على التخيير بعد فرض المساواة ، فانه لا مجال للتخيير في مقام فصل الخصومة ، فان كلا من المتخاصمين يختار ما يوافق مدّعاه ، فيبقى الخصومة على حالها.

وعليه ، فلزوم التوقف في الشبهة القابلة للإزالة أو التوقف في الفتوى لا ربط له بما نحن فيه. فكون الهلكة بمعنى العقوبة في مثلهما لخصوصية المورد.

وأمّا الثاني : ففي موثقة مسعدة بن زياد ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة. يقول : إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها أو أنّها لك محرّمة ، وما أشبه ذلك. فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » ، فانه لا شبهة في أن الهلكة لا يراد منها العقوبة ، بل المفاسد الذاتيّة الواقعية. كيف؟ وقد نصّ في موثقة مسعدة

٤٧٠

بن صدقة : بان الإقدام حلال ، ممثلا له بذلك وبأشباهه.

وعليه ، فما في رواية أخرى أيضا لا ظهور للهلكة فيها في العقوبة ، بل في الجميع إرشاد إلى ما يعم العقوبة والمفسدة ، كل بحسب ما يقتضيه المورد من وجود المنجز وعدمه » (١).

هذا ، وما أفاده قدس‌سره من الوجهين لتقريب الاستدلال باخبار التوقف على وجوب الاحتياط ، مما لم نفهمه ..

أما الوجه الثاني ، فهو مبني ـ كما عرفت ـ على ان يكون الأمر بالاحتياط واصلا إلى المخاطبين ، كي يتنجز ـ بذلك ـ الواقع في حقهم ، وبمقتضى قاعدة الاشتراك يثبت ذلك في حقنا أيضا.

ولكن هذا غير ثابت ، ولم يذكر قدس‌سره في كلامه مثبتا لذلك ، وإنّما ساقه كمجرد احتمال لا أزيد من ذلك.

وأما الوجه الأول ، فبأننا لا ننكر إمكان بيان الأمر والنهي ببيان ما يترتب عليهما من الثواب والعقاب ، فيكون وصول الأمر بوصول معلوله ـ وهو الثواب على الفعل ـ ، ووصول النهي بوصول معلوله ، وهي العقوبة على الفعل. كما أننا لا ننكر صدور الأمر أو النهي المولوي من مقام ، وصدور الأمر الإرشادي إرشادا إلى ما يترتب على إطاعة الأمر المذكور أو على مخالفة النهي المذكور من مقام آخر ، كما هو الحال في الخطباء والوعّاظ بالنسبة إلى أوامر الشرع الحنيف ونواهيه.

بل الّذي ننكره هو : صدور كلا الأمرين من المولى نفسه ، بأن يأمر المولى بأمر مولوي بشيء ـ مثلا ـ ويأمر معه ـ في ذلك الكلام ـ بأمر إرشادي ، فهذا ما لا نتصوره ولم نفهم له معنى محصلا. بل نراه مما يضحك منه العاقل. فلا يمكن

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية ـ ١٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٧١

ـ اذن ـ الجمع في روايات التوقف بين الأمر بالتوقف إرشادا ، والأمر المولوي المستكشف من فرض الهلكة ـ وهي العقوبة الأخرويّة ـ باعتبار كون العقوبة من لوازم الأمر المولوي.

وعليه ، فليس هناك سوى أمر واحد ، وهو الأمر بالتوقف ، وهو أمر إرشادي ، حسب البيان المتقدم ذكره.

واما الأخبار الآمرة بالاحتياط :

فمنها : صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا ، وهما محرمان ، الجزاء بينهما ، أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال : لا ، بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه. فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط ، حتى تسألوا عنه فتعلموا » (١).

وقد أجاب عنه شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره : بان المشار إليه بكلمة : « هذا » اما نفس واقعة الصيد ـ أي : الموضوع المشتبه حكمه ـ. أو السؤال عن حكم ما لا يعلم حكمه ، نظرا إلى ان المفروض : ان الراوي كان قد سئل منه حكم الصيد المذكور ، فلم يدر بذلك ، فيكون المراد : انه إذا ابتلي أحدهم بالسؤال عما لا يعلم بحكمه ..

فعلى الأوّل : بان تكون إشارة إلى أصل المسألة ، فامّا ان يكون المورد من قبيل الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين. أو يكون ذلك من الأقل والأكثر الارتباطيين.

فان كان الأوّل ، نظير الدين المردد بين الأقل والأكثر ، فيتوجه عليه :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١١ باب ١٢ الحديث ١ من أبواب صفات القاضي.

٤٧٢

أوّلا : ان ذلك مما لا يجب فيه الاحتياط باتفاق الأصوليين والأخباريين ، لكون مورد الرواية من الشبهات الوجوبية ، التي لا يجب الاحتياط فيها اتفاقا.

وثانيا : انه على تقدير التسليم بالاحتياط في مورد الرواية ، بفرضه من موارد الدوران بين المتباينين ، الواجب فيها الاحتياط ، فهو أجنبي عما هو محل البحث ، لأن التكليف في مورد الرواية يكون معلوما بالإجمال ، فيلزم فيه الاحتياط ، ومحل كلامنا هو الشك في التكليف وعدم العلم به ولو إجمالا.

وان كان الثاني ، فهو وان كان محل الخلاف ، ومذهب بعض الأصوليين فيه هو الاشتغال ، نظرا إلى فرض الشك فيه في المكلّف به بعد إحراز أصل التكليف. إلا أنه على هذا التقدير تكون الرواية أجنبية عن محمل البحث ، لأن البحث انما هو في الشك في التكليف ، لا في المكلف به مع إحراز أصل التكليف.

وعلى الثاني : بان تكون إشارة إلى الابتلاء بالسؤال عما لا يعلم بحكمه ، فاما ان يراد بالاحتياط هو الفتوى بالاحتياط ، أو يراد به الاحتياط في الفتوى ، بان لا يفتى بشيء احتياطا. وعلى كلا التقديرين فالرواية غير نافعة لمحل البحث ، فان المفروض في مورد الرواية هو التمكن من استعلام حكم الواقعة فيما بعد ، وذلك بالسؤال والتعلّم. ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط ـ بكلا محتمليه ـ في مثل هذه الواقعة الشخصية ، حتى يتعلم حكم المسألة في المستقبل. وأين ذلك مما هو محل البحث ، حيث انه لا مجال للتعلم فيما بعد أيضا ، فان الفحص بالمقدار اللازم قد تحقق ولم ينته به ـ على الفرض ـ إلى نتيجة معلومة ، فهو فيما يأتي ـ كما هو عليه الآن ـ في شك وحيرة من الحكم (١).

قلت : أمّا على تقدير ان يكون : « هذا » إشارة إلى السؤال ، لا إلى نفس الواقعة ، فالظاهر هو دلالة الرواية على ان حكم المشتبه هي الاحتياط دون

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٧٣

البراءة ، فيتم الاستدلال بها لما هو محلّ البحث.

بيان ذلك : ان مثل هذا الكلام : « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا وتعلموا » يمكن القول به في ثلاثة موارد :

أولا : بالنسبة إلى من يعتمد في استنباط الأحكام الشرعية الطرق غير الصحيحة والمعتبرة عند الإمامية ، كأن يعتمد على القياس ، والاعتبارات الظنية ، والاستحسانات العقلية ، فلا يقوم هو بدور الاجتهاد الصحيح ، وانما يفتي على أساس المستندات المشار إليها.

ثانيا : من يفتي بالبراءة بدون الفحص عن الدليل ، بل يفتي في كل مسألة ترد عليه بما يقتضيه حكم الشك في تلك المسألة ، من دون تريث وفحص عن الدليل الاجتهادي القائم في تلك المسألة.

ثالثا : من لا يعتمد في استنباطه الطرق غير الصحيحة ، كما لا يفتي بما يقتضيه الشك في المسألة إلا بعد استفراغ وسعه في البحث والفحص عن دليل المسألة واليأس عن تبيين حكمها على ضوء الأدلة الصحيحة ، فإذا لم يظفر بالدليل يحكم بالبراءة ، أو ...

اما الفرض الأول ، فهو بعيد عن مورد الرواية ، وان كانت الرواية ـ على تقديره ـ أجنبية جدا عما هو محل البحث. والوجه في بعده : هو ان ملاحظة الرّاوي ـ وهو عبد الرحمن بن الحجاج ـ وملاحظة نفس الرواية ممّا يبعدان ذلك.

واما الثاني ، فحمل الرواية عليه وان كان قريبا جدا ، وبذلك تصبح الرواية أجنبية عن المدعى ، فان القائل بالبراءة انما يقول بها بعد الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به ، لا مطلقا ولو كان قبل ذلك.

إلا ان هذا ـ أي دلالة الرواية على وجوب الاحتياط بالإضافة إلى ما قبل الفحص ـ يعتبر إشكالا آخر على الرواية ، ولا يرتبط ذلك بما هو محل

٤٧٤

البحث وهو : أنها هل تدل على وجوب الاحتياط ، من غير جهة اعتبار الفحص واليأس عن الدليل في إجراء البراءة؟.

وعليه ، فإذا فرضنا ـ كما هو مفروض كلام شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره ـ حمل الرواية على الفرض الثالث ، فلا محالة يتم دلالة الرواية على وجوب الاحتياط ، وأنّ الوظيفة في مورد الشك انما هو الاحتياط دون البراءة ، فانه إذا كان الواجب هو الاحتياط وعدم الفتوى بالبراءة حتى مع الفحص واليأس عن الدليل ، كانت الوظيفة ـ لا محالة ـ في الشبهة البدوية هو الاحتياط دون البراءة ، وإلاّ لم يكن موجب للاحتياط عن الفتوى أو الفتوى بالاحتياط مع كون حكم المورد هي البراءة ، كما هو ظاهر.

إلا ان الظاهر من الرواية هو الفرض الثاني ـ كما أشرنا إليه ـ ، فهي تدل على الاحتياط قبل الفحص واليأس عن الدليل ، فما دام لم يتحقق الشرط ـ وهو الفحص ـ على المكلّف الاحتياط. حتى يسأل ويتعلم ، أي : حتى يفحص. وبكلمة أخرى : الرواية دالة على الاحتياط في الفتوى أو الفتوى بالاحتياط ما دام لم يتحقق منه الفحص ، وهو السؤال عن حكم الموضوع وتعلمه في ما بعد.

وعليه ، فالرواية لا تدل على وجوب الاحتياط في ما هو محل الكلام ، وهو ما بعد الفحص واليأس عن الدليل ، وهذا إشكال آخر يتوجه عليها غير الإشكال الّذي وجهه إليها شيخنا الأنصاري قدس‌سره. فلاحظ وتأمل.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره أفاد بأنّه : بناء على التسليم بكون المورد من الأقل والأكثر الاستقلاليين ، والتسليم بكون الوظيفة فيه هو الاحتياط ، لا يتم الاستدلال بها لمحلّ البحث. فانه ـ على هذا ـ يكون التكليف بالأكثر معلوما في الجملة ، ووجوب الاحتياط في مثله بمقتضى الرواية ، لا يوجب التعدي والاحتياط في الشبهة البدوية ، التي لا يكون التكليف فيها معلوما

٤٧٥

أصلا (١).

ويتوجه عليه : انه ـ بناء على كون المورد من الأقل والأكثر الاستقلاليين ـ يكون التكليف بالأكثر مشكوكا فيه بالشبهة البدوية قطعا ، ويكون هذا المورد هو المتيقن به من موارد انحلال العلم الإجمالي ، وان الموجود هي صورة العلم الإجمالي. فالتعدي عن مورد الرواية إلى الشبهة البدوية ـ التي هي محل الكلام ـ في محلّه.

وعليه ، فبعد التسليم بهذا المبنى لا مجال للتوقف في الاستدلال بالرواية ، كما لا يخفى.

ومنها : موثق عبد الله بن وضّاح : « انه كتب إلى العبد الصالح عليه‌السلام ، يسأله عن وقت المغرب والإفطار. فكتب إليه : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك » (٢).

وتقريب الاستدلال بها ، بحيث تدل على وجوب الاحتياط مطلقا لا في خصوص موردها هو أن يقال : إن قوله عليه‌السلام : « وتأخذ بالحائطة لدينك » بمثابة التعليل لقوله عليه‌السلام : « أرى لك أن تنتظر » كما في قول القائل : « أرى لك أن توفي دينك ، وتخلص نفسك » حيث يدل هذا الكلام على ان تخليص النّفس مطلقا ـ ولو من غير جهة الدين ـ لازم. فتدل الرواية ـ اذن ـ على وجوب الاحتياط بقول مطلق.

والجواب عن ذلك ـ كما عن شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره ـ :

أوّلا : بان الرواية ظاهرة في استحباب الاحتياط لا وجوبه ، فان كلمة : « أولى » ظاهرة في الاستحباب ، ولا ظهور لها في الوجوب. فلا تدل الرواية على

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الوسائل ١٨ ـ ١٢٢ باب ١٢ ـ الحديث ٣٧ من أبواب صفات القاضي.

٤٧٦

وجوب الاحتياط.

وثانيا : ان ظاهر الرواية هي الشبهة الموضوعية ، بتقريب : ان الغروب عبارة عن استتار القرص عن خط الأفق ، وهو مشكوك فيه ، من جهة احتمال ان يكون ارتفاع الحمرة فوق الجبل علامة عدم استتار القرص حقيقة.

بيانه : انه لو كان مورد الرواية هي الشبهة الحكمية ، بان كان المشكوك فيه هو ان الغروب ـ شرعا ـ عبارة عن استتار القرص المفروض تحققه ، أو زوال الحمرة المشرقية ، لكان المناسب بالإمام عليه‌السلام رفع الشك المذكور ، فان شأنه ـ عليه‌السلام ـ هو ذلك ، وليس من شأنه عليه‌السلام أمره بالاحتياط ، المفروض معه إبقاء الشك بحاله. وعليه فحيث انه لم يقم عليه‌السلام ببيان ما هو حقيقة الغروب شرعا ونستكشف منه عدم كون الشك في مورد الرواية شكا في الشبهة الحكمية ، بل لا بد وان يكون هو الشك في الشبهة الموضوعية.

وبما ان الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية غير واجب باتفاق الأصوليين والأخباريين ، فلا بد وان يكون وجوبه في خصوص مورد الرواية لأجل خصوصية اقتضت ذلك ، وهي : ان المورد من موارد استصحاب بقاء الوقت. أو اشتغال الذّمّة بالتكليف مع الشك في الخروج منه. فان الإفطار عند استتار القرص ـ مثلا ـ يوجب الشك ـ لا محالة ـ في فراغ الذّمّة من الصّوم ، الّذي علم باشتغال ذمته به قطعا. وحينئذ فالتعدّي عن مورد الرواية إلى ما لا يشترك معه في الخصوصية المذكورة مما لا وجه له.

وثالثا : سلمنا ان الشك في مورد الرواية شك في مورد الشبهة الحكمية ، ومعلوم أيضا أنّ وظيفة الإمام عليه‌السلام انما هو رفع هذه الشبهة ، ولنفرض أن الغروب شرعا هو زوال الحمرة المشرقية ، إلا ان عدم تصدي الإمام عليه‌السلام لبيان هذا الحكم حتى يرتفع به الشك المذكور ، لأجل التقية من

٤٧٧

المخالفين حيث ان الغروب عندهم هو استتار القرص ، فلذلك توصّل الإمام عليه‌السلام إلى هذه بصورة غير مستقيمة ، حيث ان إيجاب الاحتياط بعد استتار القرص مما يحقق ـ عملا ـ النتيجة المترتبة على كون الغروب هو زوال الحمرة. والخلاصة : انه عليه‌السلام توصّل إلى هذه النتيجة بصورة غير مستقيمة ، وذلك بإيجاب الاحتياط بعد استتار القرص. فقد بيّن الإمام عليه‌السلام الحكم الواقعي ، وقام بما هو وظيفته من بيان الأحكام ، لكنه ـ لأجل التقية من المخالفين ـ لم يبيّن ذلك بصورة مستقيمة ، بل بصورة غير مستقيمة ، فالمخالفون يتخيلون ان الانتظار لأجل العلم باستتار القرص ، في حين أنّ ذلك ـ بحسب الواقع ـ لأجل تحقق زوال الحمرة المشرقية ، الّذي هو محقق الغروب شرعا (١).

إلا انا نقول ـ بعد التسليم بهذا ـ : لا يمكن دلالة الرواية على وجوب الانتظار والاحتياط ، فانه على خلاف التقية ، حيث ان العامة لا يوجبون الاحتياط ، فلا يمكن الإمام عليه‌السلام إيجاب الاحتياط بعد كونه خلاف التقية ، فلا بد وان يكون مفاد الرواية هو رجحان الاحتياط والانتظار ، وإلا كان ذلك على خلاف المفروض في مورد الرواية ، وهي التقية.

والمتحصل : ان الرواية لا دلالة لها على وجوب الاحتياط على جميع التقادير والفروض المتصورة فيها. فلاحظ.

ومنها : ما رواه ولد شيخ الطائفة الطوسي قدس‌سره في أماليه ، بإسناده عن أبي هاشم ، داود بن القاسم الجعفري ، عن الرضا عليه‌السلام : « إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك ، فاحتط لدينك بما شئت » (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٢٢ باب ١٢ الحديث ٤١ من أبواب صفات القاضي.

٤٧٨

والجواب عنه ـ كما عن شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره ـ :

أولا : بان الأمر بالاحتياط في الرواية اما محمول على الإرشاد ، أو على المولوي الجامع بين الوجوب والاستحباب. وذلك لأن حمله على الوجوب كلية يستلزم التخصيص بالأكثر ، وهو مستهجن. بيان الملازمة : ان الشبهات الموضوعية خارجة بنحو مطلق ، سواء فيها الوجوبية والتحريمية. كما ان الشبهة الحكمية الوجوبية أيضا خارجة ، للاتفاق على عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد. وبما انه لا مجال لحمله على الاستحباب ، لوجوب الاحتياط في بعض الفروض ، كموارد العلم الإجمالي. فلا بد اما الحمل على الإرشاد ، وحينئذ يكون اللزوم وعدمه تابعا للمرشد إليه ، كما مرت الإشارة إليه سابقا. أو الحمل على الجامع بين الوجوب والاستحباب.

والنتيجة : انه لا دلالة لها على الوجوب كلية.

وثانيا : ان الظاهر كون الأمر بالاحتياط في الرواية امرا استحبابيا مولويا ، وذلك بقرينة قوله عليه‌السلام : « بما شئت » فان هذه الجملة تقال في موردين :

أحدهما : لبيان التخيير في مراتب الشيء ، وفي مثل المقام يكون المراد هو التخيير في مراتب الاحتياط. نظير ذلك في الفارسيّة : « بگو هر مقدار كه دلت بخواهد » أو ما تعريبه : « قل ما شئت » فانه يراد به التخيير في مقدار الكلام ، قليلا أو كثيرا.

والآخر : لبيان المرتبة العالية من الشيء ، كما يقال في الفارسية : « اين كار يا سخن .. خوب بود هر مقدار كه دلت بخواهد » أو ما تعريبه : « هذا الفعل أو الكلام .. كان حسنا ما شئت » أي كان في أعلى مراتب الحسن وفي المقام يراد به : المرتبة العالية من الاحتياط.

٤٧٩

فان كان المراد بقوله عليه‌السلام : « بما شئت » المعنى الأوّل ، كان اللازم حمل الأمر بالاحتياط على الإرشاد أو على الجامع بين الوجوب والاستحباب ، وهو مطلق الرجحان. لوجوب بعض مراتب الاحتياط دون بعض. فلا يمكن حمله على الوجوب التخييري بين جميع المراتب. وان كان هو الثاني ، لم يكن مانع من حمله على الاستحباب ، لأنّ حمله على الوجوب غير صحيح ، لعدم وجوب الغاية القصوى والمرحلة العالية من الاحتياط قطعا. وتشبيه الدين بالأخ في الرواية ـ أخوك دينك .. ـ يقتضي الحمل على الثاني ، فان الأخوّة هي أعلى مراتب الارتباط بين افراد البشر ، حيث ان الصّلة بين الأخ والأخ هي أعلى مراتب الصّلة ، بالنسبة إلى الصلة مع غير الأخ من الأشخاص أو الأموال.

وحينئذ فجعل الدين بمنزلة الأخ معناه : رجحان المرتبة العالية من الاحتياط بشأن الدين ، كما ان المرتبة العالية من الروابط بين الإخوة متحققة وثابتة (١) (*).

واما روايات التثليث : كـ :

مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به عن حكمنا ، وبترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه .. وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. فمن ترك

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

(*) هذا ، ولم يتعرض سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) لسائر الروايات التي تكون بهذا المضمون لما تقدم من المناقشة في روايات الطائفة الثانية ، مضافا إلى ضعف إسنادها.

٤٨٠