منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

تتجسم فتصير زرعا طيبا أو غير طيب باختلاف جنس البذر ، فالمعصية تتجسم فتصير عقربا ـ مثلا ـ ، والطاعة تتجسم فتصير شجرة طيبة.

الثاني : أنه من قبيل الأثر الوضعي للمعصية ، فهو كالموت المسبب عن السم القاتل.

الثالث : أنه عمل المولى بقرار منه حيث أوعد على المخالفة بالعقاب كما وعد على الإطاعة بالثواب ، فيكون من باب المجازاة التي قررها المولى نفسه.

فعلى الرّأي الأول والثاني ، لا مجال لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ ليس هو فعلا اختياريا كي يتصف بالقبح والحسن ، بل هو أمر قهري يترتب على العمل بلا دخل للعلم والجهل فيه ، كما هو الحال في سائر موارد اللوازم الوضعيّة وتجسم الأعمال. فإذا فرض ان ذات العمل كيف ما تحققت مما يترتب عليها ذلك لم يكن في ذلك قبح.

وأما على الرّأي الثالث ، فلا سبيل إلى حكم العقل ـ بكلا مسلكيه ـ بقبح العقاب على المخالفة في صورة الشك وعدم البيان ، لعدم العلم بالملاك الّذي بملاحظته أوعد الشارع بالعقاب على المخالفة ، إذ الملاك في ثبوت العقاب دنيويا أنما هو ردع المخالف عن العودة في الفعل أو تأديب غيره لكي لا يرتكب المعصية ، وهذا إنما يتحقق بلحاظ العالم الدنيوي لا العالم الأخروي ، إذ ليس هو عالم التكليف والعمل ـ كما أوضحناه في مباحث القطع ـ ، فلا بد ان يكون العقاب الأخروي بملاك آخر لا نعرفه ، وإذا لم نتمكن من معرفته وتحديده لم يمكن الجزم بثبوته في صورة دون أخرى.

وعليه ، فمن المحتمل أن يكون الملاك ثابتا في مورد المخالفة مع الشك ، فكيف يدعى منافرته للقوة العاقلة ، أو انه يتنافى مع بناء العقلاء لأجل حفظ النظام؟ ، وانما يدور الأمر مدار بيان الشارع لموضوع العقاب وتحديده.

وبالجملة : لا سبيل إلى العقل في باب العقاب خصوصا على الرّأي القائل

٤٤١

بان مرجع الحكم العقلي إلى بناء العقلاء لأجل حفظ النظام. فلاحظ.

وعلى هذا ينتج لدينا إنكار حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فالقاعدة المشهورة لا أساس لها.

وقد اختلف ما أفاده المحقق النائيني في هذا المقام بحسب تقريري بحثه.

ففي تقريرات المرحوم الكاظمي : ان عدم العقاب في مورد عدم البيان الواصل إنما هو لأجل ان فوات مطلوب المولى ومراده الواقعي لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته من الفحص عن الدليل ، بل هو مستند إما إلى المولى نفسه فيما إذا لم يستوف مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، واما إلى بعض الأسباب الأخرى الموجبة لاختفاء مراد المولى على المكلف ، كإخفاء الظالمين أو تسبيبهم لضياع الأحكام. ولأجل عدم استناده إلى المكلف يستقل العقل بقبح مؤاخذته (١).

وفي تقريرات السيد الخوئي : ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأجل ان التكليف الواقعي عند عدم الوصول لا مقتضي التحريك فيه بنفسه ، بل التحريك يتقوم بوصول التكليف وإحرازه ، فان الأسد الخارجي لا يوجب الفرار عنه إلا بعد إحراز وجوده ، كما ان وجود الماء واقعا لا يستلزم تحرك العطشان إليه إلا بعد إحراز وجوده.

وعليه ، فالعقاب على مخالفة التكليف غير الواصل عقاب على ما لا يقتضي بنفسه المحركية ، ولا ريب في قبح ذلك كما يظهر بأدنى تأمل في أحوال العبيد مع مواليهم العرفية (٢).

وستعرف الإشكال في كلا البيانين بعد أن نذكر كلام المحقق الأصفهاني

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٦٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ١٧٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٢

فقد أفاد قدس‌سره : أنه بناء على عدم فعلية التكليف إلا بالوصول باعتبار انه عبارة عن جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهو لا يتحقق إلا بالوصول ، فلا إشكال في عدم المؤاخذة مع عدم وصول الحكم ، إذ لا موضوع لها ، لأن المؤاخذة انما هي على مخالفة التكليف ولا تكليف مع عدم الوصول.

ولكن هذا لا يمكن ان يكون أساس البراءة العقلية ، لأن البراءة محل الوفاق ، والمبنى المذكور محل خلاف وأنكره الأستاذ قدس‌سره ، فلا بد من ان يكون الوجه في البراءة على المسلك المشهور هو أن قبح العقاب بلا بيان ـ على تقديره ـ إنما هو لأجل كونه من صغريات الظلم المحكوم بقبحه.

ولا يخفى أن الحكم باستحقاق العقاب في مورده إنما هو لأجل خروج العبد عن زي الرقية الراجع إلى كونه ظالما لمولاه. ومن الواضح ان مقتضى الرقية لا يستلزم الامتثال إلا في صورة قيام الحجة ، أما مع عدم قيام الحجة فلا تكون المخالفة خروجا عن زي الرقية ولا تعد ظلما للمولى.

وعليه ، فلا يستحق العبد العقاب ، فيكون عقابه ظلما وعدوانا وهو قبيح. انتهى موضع الحاجة من كلامه (١).

والكل موضع مناقشة ..

أما ما جاء في تقريرات الكاظمي ففيه : انه إنما يصح لو كان المحتمل أو المدعى هو ترتب العقاب على نفس عدم الوصول إذ يقال ان العقاب على أمر خارج عن اختيار المكلف. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الكلام في ترتب العقاب على نفس مخالفة التكليف المشكوك ، وهو عمل اختياري للمكلف لالتفاته كما هو المفروض. ولم يتعرض لدفع احتمال ترتب العقاب على ذلك ، بل هو مغفول عنه في الكلام بالمرة.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٣

أما ما جاء في أجود التقريرات : فان كان مراده من كون العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل عقابا بلا مقتض ، هو ما يلتزم به المحقق الأصفهاني من أن فعلية التكليف بالوصول ، فلا تكليف بدون الوصول ، فهو يتنافى مع مسلكه من أن التكليف له وجود واقعي فعلي بفعلية موضوعه ولو مع عدم الوصول.

وإن لم يكن مراده. ذلك ، فلما ذا لا يصح العقاب مع تحقق موضوعه وهو مخالفة التكليف الفعلي؟.

وإن كان مراده من عدم المقتضي عدم الوجه المصحح فهو أول الكلام ونفس المدعى ، فلا معنى للاستدلال على المدعى بنفسه.

فكلامه قدس‌سره في كلا تقريريه لا يمكن الالتزام به.

وأما ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه‌الله على مسلكه من تقوم فعلية التكليف بالوصول ، ففيه :

أولا : انه قد تقدم منّا في مبحث الواجب المعلّق : ان التكليف هو جعل ما يقتضي الداعوية لا ما يمكن أن يكون داعيا ، واقتضاء الداعوية لا يتقوم بالوصول.

وثانيا : أن التكليف في صورة الاحتمال له إمكان الداعوية ، إذ الداعي ليس هو نفس الأمر ، فانه سابق على العمل وجودا مع ان الداعي ما يتأخر عن العمل في الوجود الخارجي ويسبقه في الوجود الذهني. وانما الداعي هو موافقة الأمر وامتثاله ، والموافقة يمكن أن تكون داعية في ظرف الاحتمال ، كما في موارد الاحتياط.

وأما ما أفاده على المسلك المشهور ففيه :

أولا : ان الجزم بان العقاب مع عدم الوصول ظلم ، لأن المخالفة مع عدم الوصول ليست خروجا عن زي الرقية فليست ظلما للمولى ، لا يخلو عن توقف ،

٤٤٤

إذ الثابت ان المخالفة مع الوصول ظلم للمولى ، كما انها في صورة الغفلة والجهل المركب ليست بظلم. أما المخالفة مع التردد ، فكونها ليست بظلم أول الكلام ، فإنكاره للواسطة غير سديد.

وثانيا : لو سلم ان المخالفة مع عدم الوصول ـ مطلقا ـ ليست خروجا عن زي الرقية ، فلا نسلم ان العقاب عليها ظلم من المولى الشرعي ، لما عرفت من أن الظلم هو الخروج عن الحقوق والحدود المفروضة بين الطرفين.

وهذا إنما يتأتى بالنسبة إلى المولى العرفي وعبده ، أما المولى الحقيقي فلا يتصور فيه ذلك ، فان العبد لمولاه وبيده تكوينا واعتبارا يتصرف فيه كيف ما يشاء ، ولا حق للعبد على المولى كي يكون الخروج عنه ظلما.

وثالثا : ان حكم العقل بقبح العقاب لأنه ظلم لا يتأتى على مسلكه في حكم العقل من كونه بملاك حفظ النظام ، لأن الظلم مخلّ بالنظام نوعا ، وهو قبيح ، كما صرح به هاهنا. إذ أيّ نظام يحافظ عليه بقبح الظلم في العالم الأخروي ، هل هو نظام ذلك العالم وهو مما لا نعرف كيفية وشئونه ـ وقد صرح قدس‌سره فيما يأتي في بيان عدم ثبوت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، ان الإقدام على العقاب يكون إقداما على ما يترتب في نشأة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام وعدمه. فلاحظ ـ ، أم نظام العالم الدنيوي وهو مما لا يرتبط بقبح الظلم في العالم الأخروي لعدم تأثيره كما لا يخفى؟.

كما أنه لا يتأتى على المسلك الآخر ، إذ لا علم لنا بان ملاك العقاب هو ظلم العبد مولاه كي يعد عقاب المولى عبده مع عدم خروجه عن زي الرقية ظلما وعدوانا ، وهو مما ينافر القوة العاقلة ، بل يمكن أن يكون بملاك آخر. كما تقدم بيان ذلك.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

ويبقى الكلام في الجهتين الأخريين ، ولنقدم الكلام في الجهة الثالثة ، وهي

٤٤٥

كيفية الجمع بين قاعدتي قبح العقاب بلا بيان ووجوب دفع الضرر المحتمل ـ لو سلم وجودهما ـ فنقول : إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل ، لأن موضوع الثانية احتمال الضرر. والأولى تنفي احتماله وتقضي بالجزم بعدمه فيرتفع موضوع الثانية وجدانا.

ومعه لا مجال لتقدم قاعدة دفع الضرر على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لاستلزامه الدور أو التخصيص بلا وجه ، كما هو الشأن في كل دليل وارد ودليل مورود كالأصل السببي والمسببي.

فراجع تلك المباحث تطلع على تفصيل الوجه الّذي أشرنا إليه.

وهذا المعنى أشار إليه الشيخ (١). واكتفي بذكره صاحب الكفاية (٢) ، ولم يتعرض لما يرد على هذا البيان من إشكال أشار إليه الشيخ في كلامه ودفعه (٣) ، مع أنه كان ينبغي أن يذكره ويردّه.

وعلى أي حال ، فقد يقول القائل : إن ما بيّن في وجه ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل يتأتى نظيره على العكس. فيقال : إن موضوع الأولى عدم البيان ، والثانية تصلح لأن تكون بيانا ، فيرتفع بها موضوع الأولى ، فكل من القاعدتين رافع لموضوع الأخرى ويتحقق التوارد بين القاعدتين.

وقد ذكر الشيخ رحمه‌الله في مقام دفع هذا الإشكال كلام مجملا إليك نصه : « ان الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها وان لم يكن تكليف في الواقع ، لا على

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٦

التكليف المحتمل على فرض وجوده ، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكور ، بل قاعدة ... » (١).

وتوضيح المراد من عبارة الشيخ يتم بتقديم أمرين :

الأول : ان المراد بالبيان ليس هو العلم ، بل هو الحجة على الحكم ، فانها تصحح المؤاخذة والاحتجاج ، إذ قد يتم البيان ولا يتحقق الظن فضلا عن العلم كالبينة غير المصحوبة بالظن ، فانها حجة على مؤداها.

الثاني : ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل قد فرض في موضوعها احتمال العقاب ، ويمتنع ان تكون القاعدة هي المصححة لهذا العقاب المحتمل ، لأنه في رتبة سابقة عليها والحكم متفرع عليه. بل لا بد أن يكون المصحح للعقاب المحتمل أمرا آخر غير نفس القاعدة ، كما يتنافى موارد تنجز التكليف الواقعي بالعلم الإجمالي أو الاحتمال قبل الفحص.

إذن فالعقاب على الواقع المحتمل لا يمكن ان تصححه القاعدة ، ومن هنا لا تصلح لأن تكون حجة على الواقع وبيانا له. فلو فرض كون القاعدة مصححة للعقوبة فلا بد ان يكون العقاب الّذي تصححه عقابا آخر غير العقاب المحتمل المأخوذ في موضوعها ، وذلك فيما يفرض الوجوب في القاعدة نفسيا ، بمعنى أنه يجب دفع الضرر المحتمل بما هو محتمل ، سواء وافق الواقع أم لم يوافق ، فيكون العقاب على مخالفته.

أما تعين كون الوجوب كذلك لو تمت القاعدة ، فلأنه لا يصح ان يكون الوجوب طريقا بداعي تنجيز الضرر المحتمل المأخوذ في موضوعه لفرض تنجزه في مرحلة سابقة عليه. كما لا يصح ان يكون إرشاديا إلى ترتب الضرر على تقدير وجوده ، إذ الأمر الإرشادي في الحقيقة اخبار عن ترتب المرشد إليه ،

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٧

وان كان في الصورة إنشاء ، والمرشد إليه هو ترتب الضرر على تقدير وجوده ، وهو انما يصح في مورد الغفلة عنه ، أما مع الالتفات إليه واحتمال تحققه فلا يصح ، إذ المخبر يعلم بتحققه على تقدير وجوده فلا معنى لإخباره بذلك ، فانه تحصيل الحاصل. فيتعين أن يكون وجوبا نفسيا يترتب العقاب على مخالفته.

ولكنه أيضا غير صحيح ، لأنه يستلزم ان يكون ارتكاب المحتمل أشد من ارتكاب المقطوع ، إذ ليس في ارتكاب المقطوع سوى عقاب واحد. ومقتضى ما بيّن : أن يكون في ارتكاب المحتمل عقابان على تقدير المصادفة ، وهو باطل جزما.

وعلى كل حال ، فلسنا الآن بصدد إنكار القاعدة كما انتهينا إليه ، لعدم تصور الوجوب بأنحائه.

وإنما بصدد بيان مراد الشيخ وهو عدم صلاحية القاعدة لبيان الواقع المحتمل. وأن الوجوب لو تم لكان العقاب على مخالفته ، وقد ظهر ذلك بوضوح فتدبر.

ونتيجة ذلك : ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان مقدمة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لورودها عليها.

وتصل النوبة الآن إلى البحث عن وجود قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وعدم وجودها.

ولا فائدة فيه بعد فرض كونها مورودة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولكن لا بأس به تنزلا.

والكلام في مقامين :

المقام الأول : في ثبوت وجوب دفع الضرر الأخروي المحتمل.

ولم يتعرض للبحث في ذلك مفصلا إلا المحقق الأصفهاني ، وقد انتهى قدس‌سره إلى عدم ثبوت حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل لا بمفاد

٤٤٨

الحكم العقلي العملي ـ بمعنى ما ينبغي أن يعمل وما ينبغي أن يترك ـ الراجع إلى التحسين والتقبيح ، ولا بمعنى بناء العقلاء عملا ، كبنائهم على العمل بخبر الثقة ونحوه.

أما الأول ، فلأن معناه في ما نحن فيه ، هو إذعان العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر ، ومرجع الحكم بالقبح هو الحكم بكون الفعل مذموما عليه لدى العقلاء ، وذمّ الشارع عقابه.

ومن الواضح ان الإقدام على ما فيه العقاب والذم العقلائي لا يترتب عليه سوى العقاب والذم الّذي أقدم عليه ولا يكون موردا لعقاب وذم آخر ، سواء في ذلك المقطوع والمحتمل.

هذا ، مع ان الحكم بالقبح من باب بناء العقلاء عليه لأجل حفظ النظام.

ومن الواضح ان الإقدام على العقاب اقدام على ما لا يترتب إلا في نشأة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام واختلاله. إذن فالإقدام على محتمل الضرر ، بل مقطوعه ، خارج عن مورد التحسين والتقبيح العقليين.

وأما الثاني ، فلان بناء العقلاء عملا على شيء كالعمل بخبر الثقة وبالظاهر ، ينبعث عن حكمة نوعية في نظر العقلاء تدعوهم إلى العمل المزبور.

ومن البيّن أن الإقدام على العقاب المحتمل ، بل المقطوع ، لا يترتب عليه إلا ما هو المحتمل والمقطوع من دون وجود مصلحة مترتبة على ترك الإقدام زائدة على الفرار من ذلك المحتمل والمقطوع.

ثم بعد ذلك أفاد قدس‌سره : أن الفرار عن الضرر فطري وطبعي ينبعث عن حب النّفس المستلزم لفرار عما يؤذيه (١).

هذا ما أفاده قدس‌سره نقلناه ملخصا وهو متين. وقد أشرنا في الجهة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٩٢ ـ ١٩٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٩

الثانية إلى تقريب عدم ثبوت وجوب دفع الضرر شرعا بجميع أنحاء الوجوب. فهي ليست بقاعدة شرعية ولا عقلية ولا عقلائية. وإنما هي أمر فطري جبلّي. فالتفت.

المقام الثاني : في ثبوت وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل.

وقبل الخوض في ذلك نتعرض إلى بعض الكلام على تقدير ثبوته ، وانه هل ينفي البراءة عقلا أو لا؟.

ولا يخفى انه لا مجال لدعوى ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على القاعدة بلحاظ الضرر الدنيوي.

إذ الضرر الدنيوي لا يناط ترتبه بالعلم ، بل هو من لوازم الفعل علم به أو لا ، فلا ينتفي احتماله بواسطة الجهل. والّذي تنفيه القاعدة هو خصوص العقاب دون مطلق الضرر.

وقد ذكر الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام : ان الشبهة من هذه الجهة موضوعية ، فلا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين ، فلو ثبت وجوب دفع الضرر المحتمل لكان الإشكال مشترك الورود ، فلا بد على كلا القولين إما من منع وجوب دفع الضرر المحتمل ، أو دعوى ترخيص الشارع واذنه في مورد الشك في مصاديق الضرر ، كما يجيء في الشبهة الموضوعية ، وهو يلازم الالتزام بالجبر والتدارك من قبل الشارع على تقدير الوقوع في الضرر (١).

وأورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل :

أولا : بان الشبهة ليست موضوعية ، لأنها مما يرجع فيها إلى الشارع لعدم معرفة وجود الضرر إلا من قبل الشارع ، ببيان الحكم الدال على ثبوت الضرر بطريق الإن.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٠

وثانيا : بأنه لو سلم كون الشبهة موضوعية ، فلا وجه للالتزام بالبراءة ..

لا عقلا ، لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وقد عرفت عدم المجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولا نقلا ، لأن العمدة مما دل من النقل على البراءة في الشبهة الموضوعية وهو قوله عليه‌السلام : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ... » (١). وقد ذكر الشيخ في محله ان هذا القيد لبيان منشأ الشبهة وأنه وجود القسمين. ومن المعلوم ان المنشأ للشبهة في المقام ليس ذلك ، بل هو احتمال الحرمة ، فلا يشمل الحديث المقام.

وأما دعوى استلزام الترخيص الشرعي للجبر والتدارك من قبله فهي تشكل بأنه يمكن ان يكون الترخيص لمصلحة داعية إليه من دون تدارك للمضرة الفعلية.

ثم إنه قدس‌سره أنكر موضوع القاعدة فيما نحن فيه ، وادعى ان احتمال الحرمة لا يلازم احتمال الضرر ، إذ احتماله بتبع احتمال الحرمة يبتني على تبعية الأحكام للملاك في المتعلق.

ولكنه على تقديره ، فهو بملاك المصالح والمفاسد في المتعلقات لا بملاك المنافع والمضار ، إذ قد يكون الشيء حراما ونافعا شخصا كالربا ، وقد يكون واجبا وضارّا بالضرر المالي كالزكاة والخمس ، أو الضرر البدلي كالجهاد والصوم (٢).

وخلاصة الجواب عن الإشكال من جهة وجوب دفع الضرر المحتمل بنحو يجمع كلمات الكفاية وغيره ، هو : أن القاعدة ممنوعة صغرى وكبرى :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ ـ باب : ٦١ من الأطعمة المباحة ، الحديث : ١ و ٧.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ١٢٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٥١

أما صغرى : فلأن الأحكام الشرعية غير تابعة للمضار والمنافع الشخصية ، بل هي تابعة للمصالح والمفاسد النوعية ، فاحتمال الحكم لا يستلزم احتمال الضرر.

وأما كبرى ـ وهو محل الكلام في هذا المقام ـ : فانه على تقدير تسليم ان تكون الأحكام ناشئة من المضار والمنافع الشخصية ، أو قلنا بعدم الفرق بين الضرر النوعيّ والشخصي ـ ببيان : ان العقلاء لا يفرقون بين الضرر المتوجه على الشخص والضرر المتوجه على الغير ، ولا يفرقون في الغير بين ان يكون فردا أو نوعا ـ ، فلنا ان ننكر أصل وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل لوجهين :

الأول : ان التحرز عن الضرر ولو كان مقطوعا ، لم يحرز الملاك فيه ، وانه بملاك حكم العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر ، أو أنه ناشئ عن العاقل بما هو ذي شعور محب لنفسه ، الّذي يشترك فيه مع الحيوان ، فهو فطري جبلّي.

وعليه ، فلا سبيل لنا إلى دعوى كون القاعدة مما يحكم بها العقل ، فان أصل التحرز محرز لكن ملاكه غير محرز.

الثاني : انه يمكننا ان نلتزم بأن دفع الضرر ليس بملاك حكم العقل بوجوبه ، وذلك لأن الإقدام على ما فيه الضرر اما ان يكون علة تامة للقبح كالظلم. أو مقتضيا له ـ ونعني به ما كان بطبعه قبيحا لو لا عروض صفة عليه مانعة كالكذب القبيح في نفسه المرتفع قبحه فيما إذا كان مقدمة لواجب أهم كحفظ نفس المؤمن ـ.

والأول باطل جزما ، لأن الإقدام على ما فيه الضرر لا يكون قبيحا إذا كان بداع عقلائي يخرجه عن كونه سفيها وتهوّرا ، كهبة المال للأجنبي إذا كانت مقدمة لدفع الضرر عنه أو جلب منفعة كبيرة إليه.

والثاني ممنوع أيضا ، لأنه لو كان قبيحا لو خلي ونفسه لم يرتفع قبحه بلا

٤٥٢

عروض صفة لازمة عليه تخرجه عن كونه قبيحا. ومن الواضح ان الإقدام على الضرر لا يكون قبيحا إذا كان بداع عقلائي ، ولو لم يكن لازما كالتحرز عن ضرر أهم أو لجلب منفعة لازمة ، كما لو وهب المال لأجنبي لمجرد كسبه محبته وصداقته أو تقديرا لعلمه وكرمه ، بلا ان يخاف من ضرره أو يرجو نفعه. فلاحظ وتدبر.

هذا تمام الكلام في قاعدة قبح العقاب بلا بيان وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، وما يتعلق بها من شئون.

يبقى الكلام فيما حكاه الشيخ عن السيد أبي المكارم مما استدل به على البراءة : وهو ان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق.

ووجّهه الشيخ رحمه‌الله بما توضيحه : ان الغرض من التكليف هو الإطاعة ، وهي الإتيان بالفعل بداعي الأمر ، وليس الغرض منه مطلق الإتيان به ولو بداع آخر ، لأنه لا يترتب على الأمر فلا يعقل أن يكون غرضا منه ، لأن الغرض من الشيء ما يترتب على الشيء. ومع عدم العلم بالأمر لا يمكن حصول الغرض منه وهو الإطاعة فلا أمر.

واحتمال ان يكون الغرض من الأمر عند الشك فيه هو الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر ..

مندفع ، بأنه مع وجود الملزم بالفعل بهذا الداعي في مورد احتمال الأمر ، يكون الأمر بذات الفعل لغوا وعبثا ، ومع عدم الملزم به لا ينفع التكليف المشكوك في حصول الغرض (١).

أقول : هذا الدليل ينفع في مقامين :

الأول : مسألة ان الأصل الأولي في الواجبات هل يقتضي التعبدية أو

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٣

التوصلية؟.

الثاني : مسألة البراءة ، إذ معه لا يحتاج إلى أصل البراءة للقطع بعدم التكليف مع الجهل.

وهو من الناحية الأولى ذو أهمية ، وقد تقدم الكلام منّا مفصلا فراجع (١).

وكيف كان فالجواب عن هذا الدليل بنحو الإجمال : ان الغرض من الأمر ليس هو الإطاعة ، لأنها تنفك عن الأمر كثيرا ، بل الغرض منه ـ على قول ـ إمكان الداعوية ، وهو حاصل ولو مع عدم تحقق الإطاعة.

وهل يتقوم إمكان الداعوية بالوصول ـ كما يراه الأصفهاني (٢) ـ أو لا؟. قد عرفت عدم تقومه بالوصول ، وان التكليف له إمكان الدعوة في صورة الجهل.

هذا ، مع انه لنا ان نلتزم بان الغرض هو جعل ما يقتضي الداعوية ، والاقتضاء يجامع الجهل. وقد سبق الكلام في ذلك عن قريب جدا. فراجع (٣).

ثم إنه قد عرفت ان كثيرا من الأدلة السابقة لا يزيد مدلوله على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ على تقدير ثبوتها ـ ، فلو تمت أخبار الاحتياط لكانت مقدمة عليها لورودها عليها.

ولعله لأجل ذلك تعرض الشيخ للبحث عن الاستدلال على البراءة بالاستصحاب ، فانه لو تم الاستدلال به لكان مقدما على الاحتياط ، لأنه حاكم أو وارد على البراءة والاحتياط ـ كما يوضح في محله ـ. ونحن نتعرض للبحث فيه وإن أهمل ذكره في الكفاية.

فنقول : مع الشك في ثبوت التكليف يجري استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر أو الجنون فتثبت البراءة بعد البلوغ أو العقل بواسطة استصحابها.

__________________

(١) راجع ١ ـ ٤١٢ من هذا الكتاب.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٩٠ ـ الطبعة الأولى.

(٣) راجع ٤ ـ ٤٤٢ من هذا الكتاب.

٤٥٤

وقد استشكل الشيخ فيه : بأنه لا ينفع في المقام ، لأن الثابت بأدلة الاستصحاب هو ترتب اللوازم الشرعية المجعولة على المستصحب لا غير ، والمستصحب هنا إما براءة الذّمّة من التكليف ، أو عدم المنع من الفعل ، أو عدم استحقاق العقاب عليه.

ولا يخفى ان المطلوب إثباته في الآن اللاحق ـ وهو آن الشك ـ هو القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل ، أو ما يستلزم القطع ، إذ مع عدم تحقق القطع وبقاء احتمال ثبوته احتيج إلى ضميمة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ومعه لا يحتاج إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ، لثبوت حكم العقل بمجرد الشك.

ومن الواضح ان المطلوب المزبور لا يترتب على المستصحبات المذكورة ، لأن عدم استحقاق العقاب ليس من اللوازم المجعولة لأحدها.

نعم ، هو مما يترتب على الإذن والترخيص الشرعي ، وهو أمر مجعول ، لكنه ـ أعني الاذن ـ ليس من اللوازم الشرعية للمستصحبات المزبورة ، بل من المقارنات ، من باب ثبوت أحد الضدين عند نفي الآخر (١).

وذكر المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل : ان أساس استشكال الشيخ هو عدم كون العدم قابلا للجعل ، لعدم كونه مقدورا.

وأورد عليه : ان القدرة تتعلق بطرفي الوجود والعدم بنحو الارتباط ، فإذا كان الوجود مقدورا كان العدم كذلك.

وعليه ، فاستصحاب عدم المنع استصحاب لأمر مجعول شرعا ، فلا حاجة إلى ترتب أثر شرعي عليه ، بل يكفي ترتب أثر عملي عليه ولو كان عقليا ، لأنه إنما يعتبر أن يكون الأثر شرعيا إذا كان المستصحب أمرا غير مجعول شرعا (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ١٢٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٥

وأفاد المحقق النائيني قدس‌سره ـ في وجه إنكار الاستصحاب ـ : ان الاستصحاب إنما يصح في المورد الّذي يدور الأثر فيه مدار الواقع.

أما إذا كان الأثر يترتب على مجرد الشك في الواقع ـ كما في المقام ، لأن عدم العقاب من آثار مجرد الشك لقبح العقاب بلا بيان ـ ، فلا فائدة في الأصل لأجل إثبات عدم العقاب فانه من تحصيل الحاصل ، بل هو من أردإ أنحائه ، لأنه من باب تحصيل المحرز بالوجدان بواسطة الأصل (١).

وقد استشكل المحقق العراقي قدس‌سره في توهم ان العدم ليس بمقدور فلا يقبل الجعل : بأن العدم مقدور وبيد الشارع إبقاؤه ورفعه.

كما استشكل فيما أفيد من عدم الفائدة في الاستصحاب ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بمجرد الشك ، فيتحقق القطع بعدم العقاب المطلوب من الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة : بان لدينا حكمين للعقل :

أحدهما : حكمه بقبح العقاب بلا بيان. والآخر : حكمه بقبحه لبيان العدم. والاستصحاب يحقق موضوع الحكم الثاني ، فيكون واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لنفيه موضوعها.

ولو لم يلتزم بذلك لامتنع جريان الأمارات النافية ، لعدم ترتب فائدة عليها بعد حكم العقل بالبراءة بمجرد الشك (٢).

أقول :

أما ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله ، فقد تقدم الحديث فيه مفصلا في مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية. فراجع (٣).

وأما ما أفاده الشيخ رحمه‌الله ، فالظاهر أن نظره هو : عدم قابلية عدم

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ١٩١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٣٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) راجع ـ ١٩٦ من هذا الجزء.

٤٥٦

التكليف للجعل الشرعي ، وذلك لا لأجل عدم كونه اختياريا ، كي يشكل بما ذكر ، بل لأجل أن العدم يتحقق بعدم جعل الوجود ، إذ هو لا يحتاج إلى علة ، بل هو يتحقق بعدم تحقق علة الوجود ـ فما أفاده الأصفهاني من احتياج العدم إلى علة في غير محله ـ. وعليه فلا معنى لتعلق الجعل به وتشريعه ، فعدم الحرمة يتحقق بعدم تشريع الحرمة لا بتشريعه بنفسه.

وعليه ، فيكون العدم كالموضوع التكويني لا يصح التعبد به بلحاظ نفسه لعدم قابليته للجعل ، بل لا بد ان يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب عليه ، كما إذا كان موضوعا لحكم شرعي تكليفي أو وضعي ، أو كان الوجود موضوعا للأثر الشرعي فيستصحب العدم لنفي أثر الوجود. مثل عدم الملكية في المال الموضوع لحرمة التصرف فيه وعدم حلية اللحم الموضوع لحرمة الصلاة فيه وضعا والعدم فيما نحن فيه ليس موضوعا لحكم شرعي كما بيّنه الشيخ وقد تقدم ذكره.

هذا ، مضافا إلى ان الاستصحاب إنما يتكفل جعل العدم ظاهرا ، وهو لا ينفي احتمال الوجود واقعا ، فيحتاج إلى إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويكفي شاهدا على ما نقول أنه لو قطع بجعل العدم في مرحلة الظاهر بتصريح الشارع به لم يستلزم ذلك القطع بالعدم في الواقع ، بل يحتمل أن يكون التكليف في الواقع ثابتا لعدم التنافي بين الواقع والظاهر ـ كما قرّر في محله ـ. إذن فلا ينفع الاستصحاب في نفي احتمال الواقع ، ومع احتماله نحتاج إلى الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

نعم ، مع جعل الإباحة ظاهرا لا حاجة إلى القاعدة ، إذ الترخيص ظاهرا يستحيل معه العقاب ، فلا احتمال له كي ينفي بالقاعدة.

وأما النقض بالأمارات القائمة على نفي التكليف ـ الوارد في كلام العراقي ـ ، فيندفع بالفرق بين الأمارة والاستصحاب ، لأن الأمارة الدالة على عدم الحرمة تدل بالملازمة على الترخيص ـ للملازمة بين عدم أحد الضدين

٤٥٧

ووجود الضد الآخر ـ ، ومع الترخيص لا يحتمل العقاب ، كما لا مجال للنقض بالبراءة الشرعية ، لأن دليلها ـ كحديث الرفع ـ دال على الترخيص أما التزاما أو كناية ـ كما تقدم ـ ، فلا تحتمل العقوبة.

أما الاستصحاب ، فليس هو حجة في اللوازم العقلية ، ولم يرد في خصوص المقام كي يدل على جعل الترخيص بدلالة الاقتضاء.

والنتيجة : ان الاستصحاب لا مجال له في هذا المضمار.

ثم إنه قد أشرنا فيما تقدم ـ في أوائل الكلام في حديث الرفع ـ إلى أن الشيخ رحمه‌الله يلتزم باقتضاء الدليل الدال على الرفع لجعل الإباحة ولكنه لم يصرح به ، وإنما صرح بلازمه وما ينتهى إلى الالتزام به ، وهو ما أفاده هاهنا من ان عدم المنع عن الفعل بعد العلم الإجمالي بعدم خلو فعل المكلف عن أحد الأحكام الخمسة لا ينفك من كونه مرخصا فيه ، فان مقتضاه ان الدليل الدال على عدم المنع دال على الترخيص إما التزاما أو كناية.

مع ان إشكاله في الاستصحاب مع عدم توقفه في حديث الرفع من هذه الجهة ، والحال مع أن مفادهما واحد ، يكشف عن كون نظره إلى ان حديث الرفع يتكفل الترخيص المستلزم لرفع المؤاخذة قهرا بلا احتياج إلى ضم قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فلاحظ (١).

هذا تمام الكلام في أدلة القول بالبراءة.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٨

« أدلة الاحتياط »

وقد عرفت أن في مقابل القول بالبراءة قول الأخباريين بالاحتياط ، واستدل له بالكتاب والسنّة والعقل :

أما الكتاب : فبطوائف من الآيات :

منها : ما دل على النهي عن القول بغير علم (١). فان القول بالبراءة وترخيص الشارع في ارتكاب المجهول حكمه قول بغير علم وهو منهي عنه ، ولا يرد مثله على الالتزام بالاحتياط ، فان الاخباري لا يفتي بالاحتياط ، بل يلتزم بترك المشكوك ، والترك لا يستلزم اسناد شيء إلى الشارع. وهو بخلاف الارتكاب على القول بالبراءة ، فانه يستلزم اسناد الترخيص وعدم المنع إلى الشارع.

ومنها : آية النهي عن الإلقاء في التهلكة (٢).

ومنها : ما دل على الأمر بالتقوى وجهاد النّفس (٣).

وأجيب عن الاستدلال بالطائفة الأولى : بان القول بالبراءة استنادا إلى دليلها ليس قولا بغير علم ، بل بعلم وحجة.

وعن الاستدلال بالثانية : بان المراد من التهلكة إن كان هو العقاب الأخروي فهو منفي بدليل البراءة ، فدليل البراءة وارد على الآية كوروده على قاعدة دفع الضرر المحتمل. وان كان هو الضرر الدنيوي أو ما يعمه ، فمضافا

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٣٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٩٥.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٣٥.

٤٥٩

إلى ان الشبهة تكون موضوعية ، انه ليس كل ضرر دنيوي يعد تهلكة ، بل التهلكة ما يؤدي إلى الموت وما يقرب منه ، ومن المعلوم ان المحرمات المحتملة لا يحتمل فيها الضرر بهذا النحو.

وعن الاستدلال بالثالثة : بان العمل على طبق البراءة بعد تمامية دليلها لا يعد منافيا للتقوى وجهاد النّفس كما لا يخفى.

واما السنة الشريفة (١) :

وقد خلط شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره بين الروايات فلم يصنفها تصنيفا كاملا. والمتأخرون عنه صنفوها إلى أصناف ثلاثة :

الاخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهات.

الاخبار الآمرة بالاحتياط في موارد الشبهات.

أخبار التثليث.

اما الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهات : فقد ادعى بعضهم تواترها. ولكن الظاهر هو عدم تواترها ، بل عدم بلوغها حدّ الاستفاضة ، فضلا عن التواتر ، وهي كالآتي :

مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ إلى ان قال في آخرها ـ : « فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (٢).

ورواية مسعدة بن زياد ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة .. ـ إلى ان قال ـ : فان الوقوف عند الشبهة خير من

__________________

(١) من هنا إلى دليل العقل على الاحتياط أخذ من ما كتبه العلامة الحجة سماحة الشيخ الجعفري بعد عدم وجوده في التقريرات.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٥ باب ٩ ـ الحديث ١ من أبواب صفات القاضي.

٤٦٠