منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

يؤمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمة صلوات الله عليهم ) بتبليغه إليهم.

وأخرى : يكون حكما فعليا بلّغ إلى الناس وبيّن لهم ، ولكنه خفي علينا ولم يصل إلينا لبعض الأسباب من ظلم الظالمين وغيره.

ولا يخفى ان محل الكلام في باب البراءة هو النحو الثاني ، فالبحث يقع في انه إذا احتمل صدور الحكم إلى الناس ولكنه خفي علينا بحيث لو اطلعنا عليه لوجب علينا امتثاله ، فهل تجري البراءة أو الاحتياط؟.

أما النحو الأول ، فهو ليس محل الكلام بين الأصوليين والأخباريين ، بل احتماله لا يوجب الاحتياط قطعا ولا يعتنى به أصلا ، إذ هو مما سكت الله تعالى عنه ، وقد ورد الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام بالأمر بالسكوت عنه (١).

إذا تبيّن ذلك ، نقول : انه قد ادعي ان الحديث المزبور ناظر إلى النحو الأول من الأحكام ، فلا دلالة له على البراءة فيما نحن فيه وهو النحو الثاني ، بل يكون مساوقا للحديث الشريف المروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام الّذي أشرنا إليه.

وفي تقريبه وجهان :

أحدهما : ما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره من ان الجهل بالحكم بالنحو الثاني لم يكن سببه الله تعالى ، إذ هو أمر بتبليغه وبلّغ ، وإنما نشأ عن إخفاء الظالمين للأحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلسين وغير ذلك من الأسباب الخارجية. بخلاف الجهل بالنحو الأول ، فانه ناشئ من عدم أمر الله تعالى بتبليغه وبيانه.

وعليه ، فلا يصح نسبة الحجب إلى الله سبحانه بلحاظ الجهل بالنحو الثاني ، ويصح نسبته إليه بلحاظ النحو الأول ، فلا بد من حمل الحديث على إرادة

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الحكم ١٠٥.

٤٢١

النحو الأول من الأحكام (١).

وهذا الوجه مردود : بان الأسباب الخارجية التي تكون سببا لخفاء النحو الثاني من الأحكام ..

تارة : لا تكون من الأفعال الاختيارية للعباد ، بل من الأسباب التكوينية ، كضياع كتب الحديث بواسطة غرق أو عارض سماوي ونحو ذلك.

وأخرى : تكون من الأفعال الاختيارية كوضع الوضّاعين وإتلاف الظالمين لكتب الحق.

ولا يخفى أنه يصح نسبة الحجب إلى الله تعالى إذا كان سبب الخفاء هو العوارض السماوية ونحوها مما لا تتدخل فيها إرادة العباد.

وأما إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياري للعبد ، فتصح نسبته إلى الله تعالى بلحاظ ما هو المذهب الحق من الالتزام بالأمر بين الأمرين ، فإن الفعل الصادر من العبد كما تكون له نسبة إلى العبد تكون له نسبته إلى الله سبحانه بملاحظة انه بيده وجود العبد ، كما حقق في محله.

نعم ، من يقول بالتفويض لا يصحح نسبة العبد الاختياري إلى الله سبحانه ، ولكنه خلاف ما نعتقد به نحن الإمامية أعلى الله كلمتنا ببركة محمد وآله صلوات الله وسلامه عليهم ).

إذن فكما يصح نسبة الحجب إلى الله سبحانه في مورد الجهل بالنحو الأول من الأحكام ، كذلك يصح نسبته إليه تعالى في مورد الجهل بالنحو الثاني.

الوجه الآخر : أنه وان صح نسبة الحجب إليه تعالى ، لكن الظاهر العرفي من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الإخفاء بأمره ، إذ لا يسند الحجب إليه عرفا إذا كان الإخفاء على خلاف أمره ، بل كان بواسطة الظلم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٢

المحرّم المبغوض إليه ، فيختص الحديث بالنحو الأول من الأحكام.

وهذا الوجه لا يخلو عن صورة وجيهة.

لكن يمكن أن ينحل الإشكال : بأن ظاهر قوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه » هو ثبوت الحكم في نفسه في الواقع ، إذ الحجب متعلق بالعلم به ، فانه ظاهر في ان الحكم له تقرير وثبوت في الواقع. فيراد من الموصول هو الحكم الثابت المجهول ، كما أن ظاهر قوله : « فهو موضوع عنهم » أنه في مقابل الوضع عليهم إرفاقا بالعباد وتسهيلا عليهم ، وحينئذ فيختص بالأحكام التي تكون قابلة للوضع على العباد فوضعها الله عنهم إرفاقا بهم.

والحكم القابل للوضع على العباد هو الحكم الفعلي الصادر المبيّن لبعض الناس وإن خفي بعد ذلك ، فانه قابل للوضع الظاهري في حال الجهل بجعل إيجاب الاحتياط.

أما الحكم الإنشائي المختص بعلم الله تعالى فقط أو مع النبي والأئمة عليهم‌السلام الّذي لم يبين إلى أحد لمصلحة تقتضي ذلك ، فليس هذا بقابل للوضع على العباد كي يرفع عنهم ، ولا موهم لوضعه عليهم بعد فرض عدم تبليغه وبيانه ، لقصور في مقتضية أو لغير ذلك ، ولذا لو تعلق به العلم ـ فرضا ـ لا يجب امتثاله وإطاعته ، بل قد لا يسمى حكما لدى العرف فلا يكون الكلام لديهم ظاهرا في كونه هو المنظور به.

ومع هذا الظهور لا مجال لدعوى الظهور السابق الّذي أريد به دفع دلالة الحديث على البراءة. إذن فالحديث من أدلة البراءة ، ومقتضى إطلاق الموصول إرادة مطلق الحكم أعم من موارد الشبهة الحكمية وموارد الشبهة الموضوعية.

ومنها : حديث الحل : وهو ما ذكره في الكفاية من قوله عليه‌السلام :

٤٢٣

« كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » (١). وادعى ان دلالته على حلية ما لم تعلم حرمته ـ مطلقا من جهة الاشتباه الحكمي أو الموضوعي ـ تامة. ولكنها بحسب ظهورها الأولي مختصة بالشبهة التحريمية. إلا أنه ذهب إلى تعميم الحكم للشبهة الوجوبية بأحد وجهين :

الأول : عدم الفصل قطعا بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية وعدم وجوبه في الشبهة الوجوبية ، فان كل من يرى البراءة في الشبهة التحريمية يرى البراءة في الشبهة الوجوبية ، وأن كان ليس كل من يرى البراءة في الشبهة الوجوبية يراها في الشبهة التحريمية.

الثاني : ان ترك محتمل الواجب محتمل الحرمة ، إذ الترك على تقدير الوجوب محرم ، فيكون ترك الواجب المحتمل مشمولا لحديث الحل رأسا للشك في حرمته (٢).

أقول : الكلام في هذا الحديث في مقامين :

الأول : في وجود حديث بهذا النص بالخصوص ومستقلا ، فقد ادعي ان هذا النص ورد في رواية مسعدة بن صدقة المشتملة على تطبيقه على بعض موارد الشبهات الموضوعية ، كالثوب المحتمل انه سرقة والجارية المحتمل انها أخته بالرضاعة ، والعبد المحتمل أنه حرّ.

نعم ، ورد نصّ آخر يقارب هذا النص بنحو الاستقلال تارة. وفي مورد الجبن أخرى. ولكنه ظاهر في الشبهة الموضوعية لقوله : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (٣). ولعله يأتي الحديث فيها مفصلا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ ـ باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : ١ و ٤.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) وسائل الشيعة ١٢ ـ باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : ١.

٤٢٤

الثاني : في دلالته على المدعى. ونتكلم فيه ..

تارة : على انه نصّ مستقل غير رواية مسعدة بن صدقة.

وأخرى : على أنه رواية مسعدة بن صدقة.

أما على الأول : فقد يستشكل ـ كما في تقريرات الكاظمي (١) ـ في شموله للشبهة الحكمية بملاحظة قوله : « بعينه » ، فانه ظاهر في كون الشك في تعيين الحرام ، وهو انما يكون في مورد ينقسم إلى قسمين حرام ، وغير حرام كاللحم المنقسم إلى الميتة والمذكى ، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية ، إذ لا معنى لمعرفة الحرمة بعينها.

ولكنه مخدوش : بأنه يمكن تعميم الحديث للشبهة الحكمية مع المحافظة على ظهور لفظ : « بعينه » كما في موارد العلم الإجمالي (٢) ، بدوران الحرمة المجعولة بين شيئين كحرمة الغيبة أو الغناء ، فانه يصدق على مثل ذلك بان كلا منهما حلال حتى يعرف الحرام بعينه ، مع كون الشبهة في كل منهما حكمية لا موضوعية. فالإشكال نشأ من تخيل لزوم رجوع لفظ : « بعينه » إلى الحرمة على تقدير إرادة الشبهة الحكمية ، وهو مما لا معنى له ، مع أنه غير لازم ، إذ يمكن إرجاعه إلى الحرام مع فرض الشبهة حكمية كما عرفت تصويره.

وأما ما ذكره صاحب الكفاية في مقام تعميم البراءة الثابتة بهذا الحديث للشبهة الوجوبية ، فهو ممنوع ..

أما الوجه الأول : فلأن عدم الفصل والإجماع المركب انما يؤخذ به لو كان

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٦٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) لا يلزم ان يفرض العلم الإجمالي منجزا كي يشكل بان الحديث مما يعلم بعدم شموله له ، وان موضوع الكلام هو موارد عدم العلم الإجمالي ، بل ينفع ما قلناه في موارد العلم الإجمالي غير المنجز كخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء أو لانحلاله حكما ـ كما هو أحد وجوه العلم الإجمالي الّذي ادعاه الأخباريون مستدلين به على الاحتياط ـ أو حقيقة. فلاحظ.

٤٢٥

منشؤه الاطلاع على رأي المعصوم عليه‌السلام من طريق ليس بأيدينا ، والأمر ليس كذلك هاهنا ، فان من يلتزم بالبراءة في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية يستند في التزامه إلى الوجوه المعلومة التي نحن في مقام التحدث عن تماميتها وعدم تماميتها ، فلا يكون مثل هذا الإجماع المركب حجة في المقام.

وأما الوجه الثاني : فلأن الترك في موارد الوجوب لا يصدق عليه أنه حرام عرفا ، ولا يصدق على الشك فيه انه شك في الحرام. فلا وجه لما أفاده ، ولعل قوله : « فتأمل » إشارة إلى ذلك.

وأما على الثاني : فقد يستشكل في دلالتها على البراءة في الشبهة الحكمية من جهة تطبيقها ـ بعنوان التمثيل ـ على موارد كلها من الشبهات الموضوعية ، وظاهر التطبيق والتمثيل كون المراد بالعموم هو خصوص الشبهات الموضوعية.

بل قد يشكل تكفلها لجعل أصالة البراءة التي هي محل البحث ، لأن جميع الأمثلة المذكورة في النص مما لا يكون المستند في الحلية فيها أصالة الحلّ ، بل الأصول أو الأمارات الموضوعية الحاكمة على أصالة الفساد أو أصالة الاحتياط في الفروج والأموال ، بحيث لو لا هذه الأصول الموضوعية لكان المرجع هو الاحتياط لا البراءة.

أقول : الإشكال من الجهة الأولى هيّن إذ لا ظهور في التطبيق بنحو يوجب صرف العام عن عمومه. وإنما العمدة هو الإشكال من الجهة الثانية.

وعليه ، يدور مفاد الرواية بين كونها اخبارا عن ثبوت الحلية في جميع موارد الشبهة ، كل شبهة بحسب ما يتقرر فيها من دليل أو أصل يقتضي الحلية ، فيكشف عن جعل أصالة الحل والبراءة في الموارد المشتبهة الخالية عن ما يقتضي الحلية من أصل موضوعي أو دليل. وكونها إشارة إلى ما جعله الشارع من أصول وأمارات تقتضي الحلية وبيان تسهيل الشارع على العباد وعدم تضييقه عليهم ،

٤٢٦

نظير ما دل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بالحنيفية السمحاء (١) ، فلا تدل على جعل أصالة البراءة في موارد الشبهات البدوية الخالية عن الأصول الموضوعية المقتضية للحلّ. ولا قرينة انها بالنحو الأول ، فتكون مجملة لا ظهور لها في المدعى ، بعد عدم إمكان الأخذ بظاهرها الأولي وهو جعل الحلية وإنشائها.

ومنها : حديث السعة : وهو قوله عليه‌السلام : « الناس في سعة ما لا يعلمون » (٢).

وهو في نصه وصياغته يحتمل وجهين :

أحدهما : ان تكون : « ما » موصولة أضيف إليها لفظ السعة فيكون المفاد : « الناس في سعة الّذي لا يعلمون ».

الآخر : ان تكون : « ما » ظرفية ، ولفظ سعة منون الآخر فيكون المفاد : « الناس في سعة ما داموا لا يعلمون ».

وقد ذكر صاحب الكفاية أنه يدل على البراءة على كلا الاحتمالين ، فانه يدل على ان الناس في سعة وتخفيف من جهة التكليف الّذي لا يعلمونه أو ما داموا لا يعلمون التكليف ، فيكون معارضا لأدلة الاحتياط ـ لو تمت ـ ، لأنها تقتضي ان المكلّف في ضيق من الواقع المجهول.

وقد يقال : ان أدلة الاحتياط تقتضي العلم بالاحتياط ، فتكون واردة على هذا الحديث المقيد بالعلم.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بان أدلة الاحتياط لا تستلزم العلم بالواقع ، بل انما تقتضي تنجيز الواقع وجعل المكلّف في عهدته ، لأن وجوب الاحتياط طريقي ، فلا يرتفع موضوع حديث السعة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ ـ ٧٤ باب ٤٨ الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢ ـ ١٠٧٣ باب : ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث : ١١.

٤٢٧

نعم ، لو كان وجوبه نفسيا كان المكلف في ضيقه وكانت أدلته رافعة لموضوع حديث السعة بالنسبة إليه (١).

أقول : ما أفاده قدس‌سره يتم بناء على احتمال إضافة السعة إلى : « ما » على أن تكون موصولة ، إذ الظاهر إرادة عدم العلم بنفس الحكم الّذي يكون المكلف في سعة منه وأدلة الاحتياط لا تستلزم العلم به.

وأما بناء على احتمال كون : « ما » ظرفية ، فلا يتم ما أفاده ، لأن ظاهر الحديث حينئذ : « ان الناس في سعة وراحة ما داموا لا يعلمون ». ومثل هذا التعبير متعارف الإطلاق لبيان رفع الحرج في حال عدم العلم ، ولكن من البديهي الواضح تقييد متعلق العلم بما يرتبط بما يكون في سعة منه ، إذ لا معنى لأن يراد ان الناس في سعة من حرمة شرب الخمر ما داموا لا يعلمون وجوب الخمس أو حرمة أكل الأرنب أو أي شيء كان ، وانما المراد ان الناس في سعة من حرمة شرب الخمر ـ مثلا ـ ما داموا لا يعلمون ما يرتبط به من ثبوته أو ثبوت الطريق عليه أو نحو ذلك مما يتعارف كونه رافعا للسعة وموجبا للوقوع في الضيق.

ومقتضى إطلاقه عموم متعلق العلم لكل ما ينجز التكليف. فتكون أدلة الاحتياط على هذا واردة على هذا الحديث.

ويكون مفاد الحديث على حدّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا يمكن الأخذ به إلا إذا لم تتم أدلة الاحتياط.

وبما أن الحديث يدور بين هذين الوجهين ـ المختلفي النتيجة ـ ولا ظهور له في أحدهما ، لم يكون من أدلة البراءة بالنحو الّذي يعارض أدلة الاحتياط لإجماله. فلاحظ.

ومنها : حديث الإطلاق : وهو قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه : « كل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٨

شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١).

وقد ذهب الشيخ رحمه‌الله إلى انها في الدلالة أوضح من الكل (٢).

ولكن صاحب الكفاية رحمه‌الله توقف في دلالتها على المدعى : بلحاظ ان الورود غير ظاهر في الوصول المساوق للعلم بالنهي ، بل يصدق الورود على صدور النهي ، ولو لم يصل إلى المكلف ولم يعلم به ، فيكون مفاد الحديث إباحة الشيء حتى يصدر فيه نهي ، فلا ترتبط بما نحن فيه ، إذ محل البحث هو حكم ما شك في صدور النهي فيه هل هو الإباحة أو الاحتياط؟ ، فلا يشمله هذا الحديث ، لأن موضوعه ما لم يصدر فيه نهي لا ما يشك في صدور النهي فيه ، فما يشك في صدور النهي فيه يكون من الشبهات المصداقية لهذا الحديث ، ولا يصح التمسك بالعامّ في مورد الشبهة المصداقية له (٣).

ولكن المحقق الأصفهاني رحمه‌الله حاول إثبات دلالتها على المدعى ، وهو الإباحة الظاهرية في مورد الشك في صدور الحرمة وعدم وصولها للمكلف بطريقين :

الطريق الأول : عدم تصور إرادة جعل الإباحة مقيدة بعدم صدور النهي واقعا على جميع تقادير الإباحة ، المستلزم ذلك لحمل الورود هاهنا على الوصول لو سلم أنه ظاهر في أصل الصدور ، فرارا عن المحاذير. بيان ذلك : ان الإباحة على قسمين ..

إباحة مالكية مرجعها إلى عدم الحرج ـ عقلا ـ في الفعل والترك في مورد احتمال الحرمة ، بملاحظة مالكية المولى لأفعال العبد وكون فعل العبد تصرفا في سلطان المولى وملكه ، مع قطع النّظر عن التشريع ، وهي المعبّر عنها بالإباحة قبل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٢٧ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٦٠.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٩ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٩

الشرع.

وإباحة شرعية ، وهي الترخيص المجعول من قبل الشارع بما أنه شارع ، وهي تارة تكون واقعية. وأخرى تكون ظاهرية.

فالمراد من : « الإطلاق » في المرسلة لا يخلو إما ان يكون الإباحة الشرعية الواقعية أو الإباحة الشرعية الظاهرية أو الإباحة المالكية. والكل لا يتلاءم مع إرادة عدم الصدور من عدم الورود.

أما الإباحة الواقعية ، فلأن إرادتها تقتضي ان يكون مفاد الحديث : « ان كل شيء لم يتعلق به نهي واقعا مباح واقعا ». وهو لغو لو أخذ التقييد بنحو المعرفية ، إذ مرجعه إلى بيان ان غير الحرام مباح ، وهو واضح لا يحتاج إلى بيان.

ولو أخذ التقييد بنحو الموضوعية فيرجع إلى أخذ عدم الحرمة في موضوع الإباحة. وهو غير صحيح لما حقق من ان عدم الضد لا يكون من مقدمات وشروط وجود ضده ، بل هما متلازمان.

وأما الإباحة الظاهرية ، فلأن إرادتها ممتنعة لوجوه :

أولا : تخلف الحكم عن موضوعه لأن موضوع الحكم الظاهري هو الجهل وعدم العلم ، فإذا كان مقيدا بعدم صدور النهي ، فقد يكون النهي صادرا ، ولكنه مشكوك ، فلا يكون هناك حكم ظاهري مع تحقق موضوعه وهو الشك.

وثانيا : ما أشرنا إليه من ان موضوع الإباحة الظاهرية إذا كان هو عدم صدور النهي فهو مشكوك ، فلا يمكن إثبات الإباحة الظاهرية في مورد الشك ، لأنه من التمسك بالدليل مع الشك في موضوعه.

والتمسك باستصحاب عدم الصدور ، لا يجدي إما لكفايته بنفسه بلا احتياج إلى الخبر ، أو عدم فائدته وعدم صحة الاستدلال به ، كما يأتي توضيحه.

وثالثا : ان جعل عدم صدور النهي غاية للإباحة الظاهرية يرجع إلى فرض عدم الحرمة حدوثا ، ومعه لا شك في الحرمة والحلية من أول الأمر ، فلا معنى

٤٣٠

لجعل الحلية الظاهرية حينئذ.

وأما الإباحة المالكية ، فلأن إرادتها بعيدة عن منصب الإمام عليه‌السلام المعدّ لتبليغ الأحكام ، خصوصا وأن الخبر مروي عن الصادق عليه‌السلام بعد ثبوت الشرع بمدة طويلة ، فلا معنى لأن يبين ذلك.

وإذا ظهر امتناع أخذ الإباحة بجميع اقسامها مفيدة بعدم صدور النهي فلا بد من حمل الورود هاهنا على إرادة الورود على المكلف المساوق لوصوله إليه ، ويراد من الإطلاق الإباحة الشرعية الظاهرية. والتعبير عن الوصول تعبير شائع في العرف.

الطريق الثاني : ان الورود ليس بمعنى الصدور ، بل هو بمعنى يساوق الوصول ، وذلك لأن الورود متعد بنفسه ، فهناك وارد ومورود ، فيقال ورد الماء وورد البلد ووردني كتاب فلان ، وقد يتعدى بعلي بلحاظ إشراف الوارد على المورود ، فيقال ورد عليّ كتاب فلان. وقد يكون للوارد محل في نفسه كالحكم ، فيقال : ورد فيه نهي مثلا. فموضوع الحكم محل للوارد لا مضايف له ، فلا يقال عن الموضوع انه ورده نهي ، بل مضايف الحكم الوارد هو المكلّف.

وعليه ، فيكون مفاد الرواية : « حتى يرد المكلف نهي » ، فلا يكون الورود بمعنى الصدور مفهوما حتى لا يحتاج إلى مكلّف يتعلق به ، بل هو يساوق الوصول لأجل التضايف بين الوارد والمورود.

فهذا الطريق يرجع إلى ظهور الورود عرفا فيما يساوق الوصول ، والطريق الأول يرجع إلى ضرورة حمل الورود على ما يساوق الوصول (١).

أقول : لا يمكن أن يكون المجعول هو الإباحة الظاهرية ، مع كون المراد من الورود الصدور ، إذ جعل الإباحة الظاهرية ترجع إلى جعل المعذورية. ومن

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٨٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٣١

الواضح انه لا معنى للحكم بالمعذورية مقيدا بعدم صدور النهي واقعا أو مغيا بالصدور الواقعي ، لأن المعذورية مع عدم الصدور واقعا لا إشكال فيها فلا حاجة إلى الحكم بها.

وأما ما أفاده المحقق الأصفهاني فيمكن ، المناقشة فيه ..

أما الطريق الأول : فلأنه يمكن فرض شق رابع ـ أشار إليه المحقق النائيني (١) ـ ، وهو : أن يكون المقصود الأمر بالسكوت عما سكت الله عنه كما ورد هذا المضمون في بعض النصوص (٢).

أو فقل : انا نختار الشق الأول ، وليس المراد بيان ان غير الحرام واقعا حلال واقعا ، بل المراد التنبيه على لزوم ترتيب أثر الحلية على ما هو حلال وعدم التصدي إلى الفحص والسؤال وإيقاع النّفس في الضيق ، فالإطلاق في النص لا يراد به نفس الإباحة ، بل هو بلحاظ أثر الإباحة من السعة في مقابل الضيق.

وأما الطريق الثاني : فلأن فرض كون الورود متعديا يحتاج إلى مفعول ، ويكون مضايفا للمورود كالعلة والمعلول ، لا ملازمة بينه وبين علم المكلف بالوارد ، إذ هو أول الكلام ، وأي شيء في كلامه قدس‌سره يدلّ على الملازمة ، بل غاية ما يدل عليه كلامه هو تعلق الورود بالمكلف. أما ان تعلقه به يستلزم علم المكلف بالوارد ، فهذا مما لا يتكفله كلامه كما لا يخفى ، كما انه محل تشكيك لدينا ولا نستطيع الجزم به ، إذ يصح ان يقول القائل وردني ضيف ولم أعلم به حتى خرج ، فتدبر.

ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عمن لم يعرف شيئا؟. هل عليه شيء قال : لا » (٣).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٦٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) نهج البلاغة ، قصار الحكم ١٠٥.

(٣) الأصول من الكافي ١ ـ ١٦٤. الحديث ٢.

٤٣٢

وتقريب الاستدلال بها ـ كما في الرسائل ـ : ان المراد بالشيء الأول فرد معين مفروض في الخارج ، فيكون المراد هل عليه في خصوص ذلك المجهول شيء ، وقد تكفلت الرواية نفي الشيء عليه وهي ظاهرة في معذوريته (١).

وللمناقشة في هذا الاستدلال مجال ، لظهورها في إرادة الجاهل القاصر الّذي لا يلتفت إلى غالب الأحكام ولا يعرف شيئا من الأحكام ويعبّر عنه بالفارسية : « چيزى سرش نمى شود » ، فلا ترتبط بما نحن فيه.

وأما ما أفاده العراقي في تقريب دلالتها من : أنها تشمل الجاهل الملتفت غير القادر على الفحص ، وبضميمة عدم الفصل تثبت المعذورية بالنسبة للجاهل الّذي لا يعرف شيئا خاصا الّذي هو محل الكلام فيما نحن فيه (٢).

ففيه : انه وإن أمكن إرادة ذلك من النص ، لكن العبرة بظهورها لا بما يمكن حمله عليه ، وهو ظاهر في ما عرفت من الجاهل القاصر الّذي لا يتوصل إلى إدراك الأمور.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه » (٣).

وتقريب الاستدلال بها واضح. وقد استشكل الشيخ في دلالتها بدعوى ظهورها في كون المراد هو الجاهل المركب والغافل عن الواقع لا الجاهل البسيط المتردد ـ الّذي هو محل الكلام في أصالة البراءة ، لأن الغافل والجاهل المركب مما لا إشكال في معذوريتهما ـ. ولم يوجّه الشيخ استظهاره المزبور. وبيّن الوجه فيه : بل ذلك ظاهر الباء لظهورها في السببية ، والارتكاب انما يكون بسبب الجهل إذا كان الجهل مركبا فيكون فعله الحرام مستندا إلى اعتقاد عدم حرمته ، لا ما

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٢٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) تهذيب الأحكام ٥ ـ ٧٣.

٤٣٣

إذا كان بسيطا إذ الفعل في مورد التردد لا يكون مسببا عن التردد.

وأيد الشيخ رحمه‌الله دعواه المتقدمة : بان تعميم النص للجاهل المتردد يستلزم التخصيص بالشاك غير المقصر إذ المقصر غير معذور قطعا ، مع ان سياق النص يأبى عن التخصيص (١).

وأورد على ذلك : بان التخصيص لازم على كل حال ، لأنه لو أريد خصوص الجاهل المركب ، فلا بد من تخصيصه بغير المقصر ، لأن المقصر غير معذور ولو كان جهله مركبا.

وأما ما أفاده من ظهور الرواية في إرادة الجاهل المركب وعدم شمولها لصورة التردد ، فهو متين.

وقد أورد عليه المحقق العراقي : بان السبب في الارتكاب في مورد الجهل البسيط هو الجهل أيضا بتوسيط قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالمستند بالآخرة هو الجهل ، فظهور الباء في السببية لا يقتضي تخصيص النص بالجاهل المركب (٢).

وفيه : ان الاستناد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ارتكاب المجهول بالجهل البسيط يستلزم ان يكون ارتكاب الحرام ـ لو صادف كونه حراما ـ عن عمل وجزم لا عن جهل ، لعلمه بعدم المؤاخذة ، فهو يقدم على ارتكاب المجهول ولو صادف كونه حراما لأمانه من العقاب بتوسيط القاعدة ، فلا يعد ارتكابه بسبب الجهل. وهذا بخلاف الجاهل المركب ، فان سبب ارتكابه الحرام هو جهل المركب به وغفلته عنه وتخيله بأنه ليس بحرام ، إذ لو التفت لم يرتكبه. فلاحظ.

ومنها : رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٢٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٣٤

قال : « سألته عن الرّجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبدا؟. فقال عليه‌السلام : لا ، اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، فقد يعذر الناس في الجهالة وبما هو أعظم من ذلك. قلت : بأي الجهالتين أعذر ، بجهالته ان ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ قال عليه‌السلام : إحدى الجهالتين أهون من الأخرى ، الجهالة بان الله تعالى حرّم عليه ذلك ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. قلت : فهو في الأخرى معذور؟. قال عليه‌السلام : نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها » (١).

والاستدلال بها واضح لا يحتاج إلى بيان.

ولكن الشيخ رحمه‌الله ناقش فيه : بأن موضوع السؤال إن كان هو الجاهل المركب أو الغافل ، فهو خارج عما نحن فيه وان كان هو الملتفت الشاك ، فالشك ..

تارة : يكون في انقضاء العدة مع العلم بتشريعها ومقدارها ، فالشبهة موضوعية.

وأخرى : يكون في انقضاء العدة لأجل الشك في مقدار العدة شرعا فالشبهة مفهومية.

وثالثة : يكون في أصل تشريع العدة فالشبهة حكمية.

أما إذا كانت الشبهة موضوعية ، فهي أجنبية عما نحن فيه ، لأن البحث في الشبهة الحكمية.

هذا ، مع انه لا مجال للبراءة فيها ، لأن مقتضى الاستصحاب المرتكز في الأذهان بقاء العدة ، فلا يكون معذورا لحكومة الاستصحاب على البراءة.

وأما إذا كانت الشبهة مفهومية ، فليس معذور أيضا ، لأنه يلزمه السؤال

__________________

(١) الأصول من الكافي ٥ ـ ٤٢٧. الحديث ٣.

٤٣٥

وتحصيل العلم فقد قصر بترك السؤال ، مع ان مقتضى الأصل بقاء العدة وأحكامها.

وأما إذا كانت حكمية ، فلا يكون معذورا أيضا لتقصيره في السؤال خصوصا مع وضوح الحكم لدى المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل لا قصوره. هذا مع ان أصالة عدم ترتب الأثر على العقد تقتضي الحكم بفساد العقد.

إذن فلا يمكن الالتزام بأنه معذور من حيث الحكم التكليفي في جميع الصور ، فلا بد ان يراد من المعذورية المعذورية من حيث الحكم الوضعي ، وهو الحرمة الأبدية كما وقع التصريح به ولا نظر إلى عدم المؤاخذة (١).

وما أفاده قدس‌سره متين جدا.

لكن يرد عليه : انه لا وجه للترديد في مراد الرواية بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية مع فرض تكفل الرواية لكلتا الشبهتين وتعرضها إلى كلتا الجهتين. فلم نعرف الوجه في ترديده.

ولا بأس بالتنبيه على أمرين يتعلقان بالرواية :

الأول : في بيان المراد بالأعذرية ، فان العذر ليس من الأمور القابلة للتشكيك والتفاضل ، فليس فيها شدة وضعف أو كثرة وقلة ، فهو كالقتل لا كالبياض والعلم.

والّذي يمكن ان يوجّه به التعبير بالأعذرية ، هو انه ناشئ عن ملاحظة السبب في تحقق العذر ، فما كان السبب في العذر فيه آكد وأقوى وأوجه كان أعذر ، فإذا اجتمع سببان للعذر كان أعذر مما إذا كان له سبب واحد. نظير التفاوت في أسباب القتل فانها قابلة للتأكد والتعدد ، وإن لم يكن القتل كذلك ، فالتعبير

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٦

بالأعذرية بلحاظ الأسباب لا المسبب.

الثاني : ورد في الرواية تعليل الأعذرية : بان الجهل بالحرمة لا يقدر معه على الاحتياط بخلاف الجهل بالعدة. وقد وجّه الشيخ ذلك بحمل الجاهل بالحرمة على الجاهل المركب المعتقد للجواز أو الغافل ، وحمل الجاهل بالعدة على المتردد الشاك.

وقد يشكل : بان التفكيك بين الجهالتين خلاف الظاهر. وقد أشار إليه الشيخ وقال بعده : « فتدبر فيه وفي دفعه » (١).

وقد دفعه غير واحد من المحشين على الكتاب : بان الجهل في كلا الموضعين استعمل في معناه العام الشامل لجميع افراده ، لكن الغالب في الجهل بالحرمة هو الغفلة واعتقاد الخلاف ، لأن حرمة الزواج في العدة واضحة جدا لدى الكل ، فتعرف بمجرد الالتفات إليها والسؤال عنها ، فلا يتمركز الشك فيها إلا نادرا.

وأما الجهل بالعدة ، فهو على العكس ، لأن الغالب الالتفات إليه وعدم الغفلة عنه عند الزواج لسؤاله عن خصوصيات الزوجة عادة ، فإذا تحقق الجهل بها فهو الجهل البسيط (٢).

ومنها : قوله عليه‌السلام : « إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم » (٣).

وناقشه الشيخ رحمه‌الله : بان مدلوله مما لا ينكره الأخباريون (٤).

وتوضيح ذلك : انه لو كان النص : « ان الله يحتج على ما آتاهم » لكانت

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٠٠.

(٢) حاشية الآشتياني ـ ٢١ من مبحث البراءة.

(٣) الأصول من الكافي ١ ـ ١٦٢ الحديث ١.

(٤) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٧

دالة على البراءة في قبال الأخباريين ، لأنها تنافي اخبار الاحتياط ، لأن مفاد اخبار الاحتياط الاحتجاج على المجهول وهو ما لم يأتهم ، وهو ما تنفيه هذه الرواية.

ولكن مفادها هو نفي الاحتجاج بما لم يأتهم لا على ما لم يأتهم فلا تنافي دعوى الأخباريين لأنهم يذهبون إلى الاحتجاج بأخبار الاحتياط ، وهو احتجاج بما آتاهم ، لوصولها إلى المكلفين وان كان على ما لم يأتهم.

هذا تمام الكلام في النصوص ، وقد ظهر انه لا دلالة لما يدل منها على أكثر من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ما عدا حديث الرفع والحجب.

وأما الإجماع : فلم يعطه سيدنا الأستاذ دام ظله أهمية في البحث ، فلم يزد على المقدار الّذي ذكره صاحب الكفاية ، وسرّ ذلك هو ان مثل هذا الإجماع لا يمكن الركون إلى انه تعبدي كي يكون دليلا في قبال غيره ، وذلك لما ذكر من الأدلة المتكثرة على البراءة من كتاب وسنة وعقل ، فهو إجماع مدركي فليس بحجة.

واما العقل : فالكلام فيه في جهات ثلاث :

الأولى : في تحقيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأنها ثابتة أو لا؟.

الثانية : في تحقيق قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وثبوتها.

الثالثة : في كيفية الجمع بين القاعدتين فيما نحن فيه.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها يتضح بتقديم مقدمة ، وهي ان الحكم العقلي بالقبح والحسن فيه مسلكان :

الأول : انه لا يتصور للعقل حكم شيء وإنما شأنه إدراك الأشياء على واقعها التي هي فيه سواء كانت شرعية أو عقلائية.

وعليه ، فمرجع دعوى حكم العقل بشيء إلى ثبوت أحكام عقلائية بنى عليها العقلاء وتوافقت عليه آراؤهم حفظا للنوع من الفساد.

فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ـ مثلا ـ لا واقع له سوى اتفاق

٤٣٨

العقلاء عملا على قبح ذلك ، ووافقهم الشارع باعتبار أنه رأس العقلاء وكبيرهم.

الثاني : ان يراد من الحكم العقلي بالحسن والقبح هو ملائمة الشيء للقوة العاقلة منافرته لها ، إذ الإنسان يشتمل على قوى متعددة كالباصرة واللامسة ومنها القوة العاقلة ، فكما يكون لسائر القوى ملائمات ومنافرات ـ كملاءمة الناعم للقوة اللامسة ومنافرة الخشن لها ـ كذلك للقوة العاقلة ملائمات ومنافرات ، فما يلائم القوة العاقلة يكون حسنا وما ينافرها يكون قبيحا. فالإحسان للمريض المنقطع في البيداء المسالم الّذي يأمن ضرره يكون ملائما للقوة العاقلة وفي قباله إضراره وإيذاؤه بلا سبب موجب ، فانه مما يتنفر منه العاقل بما له من القوة العاقلة ، فيعد الأول حسنا والثاني قبيحا بهذه الملاحظة.

وعليه ، فمرجع قبح العقاب بلا بيان ـ على هذا المسلك ـ إلى منافرة العقاب بلا حجة للقوة العاقلة.

والفرق بين المسلكين هو : انه مع الشك في مصداقية شيء للظلم ، يكون المرجع على المسلك الأول هو العقلاء وينظر ما هو بناؤهم العملي فيرتفع الشك. وعلى المسلك الثاني ، فلا طريق إلى تشخيص ذلك غير وجدان الشخص ، والمفروض انه مشكك ، فيبقى الشك على حاله.

ولتكن على علم بان مرجع الأحكام العقلية ـ على كلا المسلكين ـ بقبح الأشياء وحسنها إلى حكمه بقبح الظلم وحسن العدل.

وبعد هذه المقدمة يقع الكلام في صحة العقاب على المخالفة عند الشك في التكليف.

أما المخالفة مع العلم ، فقد تقدم الكلام فيها في مباحث القطع. فراجع.

والكلام في المخالفة مع الشك في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في صحة مؤاخذة المولى العرفي عبده.

ولا يخفى ان العقاب لا يقبح ـ على كلا المسلكين ـ عند تحقق المخالفة

٤٣٩

عن عمد وعلم. كما انه يقبح مع الغفلة والجهل المركب ـ إذا كان عن تقصير ـ.

أما العقاب مع التردد والشك في رضا المولى بالعمل وعدم رضاه ، فلم يعلم انه من منافرات القوة العاقلة ، كما لا يعلم ان بناءهم على عدمه حفظا للنظام ، لعدم العلم بأن المؤاخذة مخلة بالنظام ، ولا سبيل إلى إحراز ذلك. فمثلا لو ضرب العبد مولاه جاهلا في رضا المولى بذلك لاحتماله انه ليس بمولاه ، فلا يعلم قبح المؤاخذة من المولى ـ على كلا المسلكين ـ.

المقام الثاني : في صحة مؤاخذة المولى الشرعي في النشأة الدنيوية ، بعد تسليم قبح مؤاخذة المولى العرفي عبده على المخالفة في صورة الجهل والتردد.

ولا يخفى إنه لا سبيل إلى الجزم بالقبح على كلا المسلكين بالنسبة إلى المولى الحقيقي المكون للعباد ، إذ كثيرا ما يتحقق الإيلام بالمرض ونحوه بالنسبة إلى المطيع تمام الإطاعة فضلا عن المخالف ، من دون أن يرى العقل القبح فيه.

وأساس الوجه الّذي به ينفي حكم العقل بالقبح في هذا المقام هو ان مدار حكم العقل بالقبح والحسن بكلا مسلكيه على تحقق الظلم والعدل ، وأساس الظلم والعدل على فرض حقوق وحدود بين الطرفين بحيث يكون تجاوزها ظلما وعدمه عدلا. وهذا يتصور بين المولى العرفي وعبده وبين الوالد وولده.

أما بين المولى الحقيقي ومخلوقه ، فلا يتصور ان للعبد حقا خاصا على مولاه ، إذ هو ملكه ومخلوقه يتصرف به ما يشاء بفقره ويمرضه ويهمّه وغير ذلك ، مع علم العبد بالمخالفة وجهله ، بل ومع إطاعته لمولاه وخضوعه لأوامره ونواهيه ، ولا يتنافى ذلك مع بناء العقلاء ، كما أنه لا ينافر القوة العاقلة.

والمقام الثالث : في صحة مؤاخذة المولى الشرعي في النشأة الأخروية مع جهل العبد بالمخالفة بتردده فيها.

ولا يخفى أن العقاب الأخروي وهكذا الثواب فيه آراء ثلاثة :

الأول : أنه من باب تجسم الأعمال ، فحال العمل كحال البذرة التي

٤٤٠