منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

كون المراد بالموصول في جميع الفقرات واحدا.

ولكن هذا التوهم فاسد ، لأن أخذ الموصول في سائر الفقرات بمعنى الموضوع والفعل من جهة إضافة الاضطرار ونحوه إليه ، والفرض ان الاضطرار لا يقبل العروض على الحكم ، فمن ظهور الفقرة في عروض الاضطرار على المراد بالموصول ، وكون المراد بالموصول هو معروض الاضطرار لا غيره التزم بان المراد بالموصول هو الموضوع.

ومن الواضح ان مقتضى ظهور الوصف في تعلقه ـ في نفسه وبلحاظ وحدة السياق ـ بما هو المراد من الموصول وعروضه عليه بنفسه هو إرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون لا الموضوع ، لأنه لا يعرض عليه الجهل بنفسه ، فنفس القرينة التي بمقتضاها حملنا الموصول في سائر الفقرات على الموضوع هي تقتضي إرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون ، فلا مخالفة لوحدة السياق ، بل هو أخذ بظاهر السياق.

أما الوجه في عدم عروض الجهل على الموضوع بنفسه ، بل بعنوان آخر زائد عليه ، فلأن الموضوع ..

إما أن يراد به الموجود الخارجي المشكوك .. أو يراد به العنوان الكلي.

فعلى الأول : فالموجود الخارجي المشكوك كونه خمرا مثلا لا يتعلق الشك به ، بل يتعلق بعنوانه ، فلا شك في وجود المائع لأنه معلوم ، وانما يشك في خمريته. فالشك لا يتعلق به بنفسه.

وعلى الثاني : فلا يتصور الشك فيه ـ في موارد الشبهة الموضوعية ـ إلا بلحاظ انطباقه على الخارج ، فمثلا الخمر لا يشك في وجوده ، وانما يشك في انطباقه على المورد الخاصّ في الخارج ، إذن فلا شك في وجود الموضوع الكلي ، وانما الشك في جهة زائدة على وجوده ، وهو خصوصية وجوده في المورد الخاصّ المصطلح عليه بالانطباق.

٤٠١

أما الحكم ، فهو معروض الجهل بنفسه كليا كان أو جزئيا ، فيشك في وجود حرمة شرب التتن كما يشك في وجود حرمة شرب هذا المائع المشكوك كونه خمرا.

ولعل هذا هو مراد المحقق العراقي الّذي نقلناه واستشكلنا فيه (١).

وعلى هذا ، فالحديث يعم كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية. فتدبر.

الأمر الخامس : مقتضى ما ذكر في تقريب اسناد الرفع الظاهري إلى الحكم ، من ان الحكم مرفوع برفع وجوب الاحتياط ، لأن وضعه في مرحلة الظاهري إنما يكون بجعل الاحتياط ، لا يكون الحديث شاملا لموارد العلم الإجمالي ، وذلك لأن مفاد الحديث ـ على هذا ـ هو بيان عدم جعل الحكم ورفعه ظاهرا في فرض يكون ثبوته ظاهرا بيد الشارع بجعله وجوب الاحتياط فيرفعه. وهو بذلك ينصرف إلى الموارد التي يكون وضع التكليف الظاهري منحصرا بالشارع ، وانه هو الّذي يضيق على المكلف لو أراد ، فينصرف عن موارد العلم الإجمالي الّذي يكون الحكم الواقعي فيها منجزا بحكم العقل ، فلا ينحصر وجوب الاحتياط بالشارع فيها.

ثم على تقدير تسليم شموله في نفسه لموارد العلم الإجمالي ، لا ينفع في نفى الاحتياط العقلي ، لأن غاية مدلوله ان الشارع لم يجعل وجوب الاحتياط ، وهو لا ينافي أصلا تنجز الواقع بطريق آخر وبمقتضى حكم العقل.

ومن هنا ، يشكل الأمر في جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر بناء على عدم انحلال العلم الإجمالي فيه كما ذهب إليه صاحب الكفاية (٢). لما عرفت من قصور الحديث أو عدم منافاته للاحتياط العقلي الثابت في موارد العلم الإجمالي.

__________________

(١) راجع ـ ٣٧٨ من هذا الكتاب.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٠٢

وسيأتي له تتمة توضيح إن شاء الله تعالى في محله.

نعم ، لو كان مفاد الحديث الحلية الظاهرية بلسان الرفع كما قربناه سابقا ، كان شاملا لموارد العلم الإجمالي ومنافيا للاحتياط العقلي كما لا يخفى.

الأمر السادس : في عموم رفع ما لا يعلمون للمستحبات وعدم عمومه. والمعروف عدم شموله للمستحبات المجهولة.

والوجه فيه ..

أما على الالتزام بكون الرفع ظاهريا راجعا إلى عدم إيجاب الاحتياط ، فلأن مفاد الحديث على هذا هو نفي الحكم ظاهرا بملاحظة عدم جعل إيجاب الاحتياط الّذي هو نحو إيصال للحكم ظاهرا.

ومن الواضح ان استحباب الاحتياط شرعا في موارد الاستحباب المشكوك ثابت ، فهو وصول ظاهري للحكم الاستحبابي ، فلا يمكن ان يقال برفع الاستحباب بهذا المعنى ، ولو لم يثبت حسن الاحتياط شرعا فهو ثابت عقلا بلا كلام ، فيمنع من شمول الحديث لما عرفت في الأمر الخامس من قصور الدليل عن شيء ما يثبت فيه الاحتياط العقلي. فراجع.

وهذا الوجه مما لم نعلم من التفت إليه قبلنا وان كان قد طبع في بعض التقريرات لكنه مأخوذ منّا في مجالس المذاكرة.

وأما على الالتزام بأن مفاد الفقرة جعل الحلية الظاهرية بلسان الرفع ـ كما أشرنا إليه في الأمر الثالث ـ ، فلأنه لم يعهد بيان الترخيص برفع الحكم الاستحبابي ، لاشتمال الاستحباب على الترخيص في نفسه ، فلا معنى لشمول الحديث بهذا المعنى للاستحباب.

وأما على الالتزام بان الرفع واقعي ، فقد يشكل الأمر لقابلية الاستحباب للرفع الواقعي ، ومقتضى عموم الموصول هو إرادة مطلق الأحكام.

ولكن قد يقال : بان ظاهر الرفع هو ما يقابل الوضع ، وهو ظاهر في جعل

٤٠٣

ما هو ثقيل على المكلف ، فيختص بهذا الاستظهار برفع الأحكام الإلزامية دون غيرها. ولا يخفى أنه لا طريق برهاني لإثبات أخذ الثقل في مفهوم الرفع. فالمحكم هو الوجدان فراجعه تعرف صحة الدعوى من سقمها.

وعلى كل ، فالاختصاص بالإلزام ـ على هذا الالتزام ـ يبتني على صحة هذه الدعوى. فتدبر.

الأمر السابع : في تحديد موارد الحديث من الأحكام الوضعيّة والتكليفية. وتحقيق ذلك ..

أما الأحكام التكليفية ..

فتارة : يكون المجهول هو الحكم التكليفي الاستقلالي ، كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن.

وأخرى : يكون الجهل متعلقا بالحكم الضمني ، كالشك في وجوب السورة في الصلاة.

ويصطلح على مثل هذه الموارد بموارد الأقل والأكثر.

أما إذا تعلق الجهل بالحكم الاستقلالي ، فهو المتيقن من حديث الرفع ، ولا شبهة في شموله له.

وأما مورد الشك في الأقل والأكثر ، فهو على قسمين ، لأن الدوران بين الأقل والأكثر .. تارة : يكون في متعلق الحكم. وأخرى : في المحصل له.

أما مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في متعلق الحكم ، فالحديث في جريان البراءة في الجزء المشكوك ـ مع قطع النّظر عن ما تقدم في الأمر الخامس ـ ، إنما يتأتى بناء على الالتزام بانبساط الوجوب على الاجزاء وتوزّعه عليها ، بحيث يكون كل واحد من الاجزاء متعلقا لأمر ضمني.

أما بناء على الالتزام بما قد يستظهر من عبارة الكفاية في مبحث التعبدي والتوصلي من عدم انبساط الوجوب ، بل ليس إلا وجوب واحد بسيط متعلق

٤٠٤

بالاجزاء بعين تعلقه بالكل ، نظير الخيمة وما تظله من المكان ، واللحاف وما يغطيه من أجزاء الجسم ، فانه يبقى على وحدته بلا انثلام ولا توزع (١). فلا يتأتى هذا الحديث ، إذ لا أمر بالجزء على حدة يشك فيه ، بل ليس إلاّ أمر واحد لا شك فيه وليس متعلقا للجهل. فلاحظ.

وأما دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصل فقد نسب إلى بعض الأجلة التفصيل فيه بين المحصل الشرعي كالوضوء بناء على انه محصل للطهارة فتجري البراءة مع الشك في الأقل والأكثر فيه ، وبين المحصل غير الشرعي فلا تجري فيه البراءة (٢). والكلام في ذلك كله موكول إلى محله من مباحث الأقل والأكثر ، فانتظر واصبر فان الله مع الصابرين.

وأما الأحكام الوضعيّة ، فالبحث فيها في مقامين :

الأول : في الأحكام الوضعيّة في غير باب المعاملات ، كالنجاسة والطهارة واشتغال الذّمّة ونحو ذلك.

الثاني : في الأحكام الوضعيّة في باب المعاملات ، كالمبادلة الحاصلة بالبيع ونحوها.

أما الأول ، فمثل الطهارة مما ليس موضوعا على المكلف ـ بحسب ما هو ظاهر : « عليه » من الثقل والعهدة ـ لا يكون مرفوعا ، لأن الرفع عن المكلف في مقابل الوضع عليه ، والطهارة لا يقل فيها ، بل فيها تسهيل وتخفيف. وأما النجاسة فلا يشملها الحديث لوجهين :

الأول : انها ليست حكما موضوعا على المكلف الجاهل بخصوصه ، بل هي حكم موضوعه ذات النجس بلا توجيه إلى مكلف خاص ، بل يشترك فيه جميع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٧٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٦٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٠٥

المكلفين ، فلم توضع النجاسة عليه كي ترفع عنه.

ولو كانت من الأمور الانتزاعية المنتزعة عن الحكم الشرعي ، فهي تنتزع عن مجموع الأحكام التكليفية المتعلقة بالمكلفين لا عن حكم الجاهل بخصوصه.

الثاني : أنه قد عرفت ان الرفع الظاهري في قبال الوضع الظاهري ، وهو غير متصور هاهنا ، إذ لا معنى لتنجيز النجاسة الواقعية بوجوب الاحتياط كي يقال ان الرفع بلحاظ إمكان الوضع بوجوب الاحتياط ـ كما قلنا في الأحكام التكليفية ـ ، وجعل النجاسة ظاهرا ليس إيصالا للواقع ، بل هو فرد مماثل للواقع ، فهو وصول له لا للواقع ، بخلاف إيجاب الاحتياط في التكليف ، فانه يستلزم كون الواقع في العهدة عند الجهل ، وهو معنى الوصول الظاهري.

ومن هنا ، ظهر الحال في مثل اشتغال الذّمّة ، فانه ليس مرفوعا بحديث الرفع ، لأنه لا يقبل الوضع الظاهري كالنجاسة. نعم هو حكم وضعي مجعول على المكلف نفسه ، فلا يتأتى فيه الوجه الأول. فلاحظ.

ثم إن ثمرة البحث عن رفع النجاسة ظاهرا بحديث الرفع مع ان الشك فيها مجرى لأصالة الطهارة ، هو انه قد لا يمكن إجراء أصالة الطهارة للابتلاء بالمعارض ، ولا أصل يعين أحد الطرفين ، فينفع حديث الرفع حينئذ بناء على عدم معارضة جميع الأصول في طرف الأصل الواحد في الطرف الآخر. وسيأتي الحديث فيه في محله.

وأما الثاني ، فالحق ان الحكم الوضعي في مثل البيع ونحوه غير مرفوع لوجوه :

الأول : ان الحكم الوضعي في باب البيع ، وهو المبادلة والنقل والانتقال ، ليس فيه ثقل على المكلف بحسب طبعه ، بل قد يرغب فيه المكلّف ويقدم عليه بنفسه كما لا يخفى.

٤٠٦

الثاني : ما تقدم في باب النجاسة من ان الحكم الوضعي هاهنا غير ثابت للمكلف بخصوصه ووارد عليه ، فان المبادلة سواء كانت أمرا انتزاعيا عن حكم تكليفي أم كانت حكما وضعيا ، لا تختص بمكلف ، بل موضوعها المالان ، وتنتزع عن مجموع الأحكام الثابتة للمكلفين من عدم جواز تصرف البائع والمشتري فيما انتقل عنهما إلا بإذن الآخر وغير ذلك. فليست هي موضوعة على الجاهل ، بل هي واردة على الفعل والمخاطب بها الجميع.

وهذا البيان لا يجري في بعض الأحكام الوضعيّة ، كالحكم الوضعي في باب الطلاق.

وعليه ، فتطبيق الحديث على مورد الحلف بالطلاق مكرها لا يدل على تكفل الحديث لرفع الأحكام الوضعيّة مطلقا وبنحو العموم. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث : ما تقدم أيضا من أن الحكم الوضعي الواقعي غير قابل للوضع الظاهري ، لا بجعل الاحتياط ولا بغيره.

هذا كله بناء على كون مؤدي الحديث هو الرفع الظاهري.

أما بناء على كون مؤداه هو الحلية الظاهرية ، فلا موهم حينئذ لارتفاع الأحكام الوضعيّة به ، إذ لم يتوهم أحد بتكفل أصالة الحلّ ـ نظير : « كل شيء حلال ... » ـ ، رفع الحكم الوضعي فتدبر.

إلى هنا ينتهي بعض الكلام فيما يرتبط بـ : « رفع ما لا يعلمون ».

ويقع الكلام في سائر الفقرات.

أما رفع الاضطرار والإكراه وما لا يطيقون والخطإ والنسيان ، فيقع الكلام فيه من جهات :

الجهة الأولى : في بيان ان المرفوع بحديث الرفع هو الحكم الثابت للمضطر إليه أو غيره ، لا بعنوان الاضطرار وغيره ، بل لذات الفعل مع قطع

٤٠٧

النّظر عن عروض هذه الصفات عليه. بيان ذلك : ان الحكم ..

تارة : يكون ثابتا لموضوعه بوصف العمد ـ مثلا ـ ، نظير وجوب الكفارة المترتب على الإفطار العمدي.

وأخرى : يكون ثابتا بوصف الخطإ والنسيان وغيرهما ، كوجوب الكفارة المترتب على قتل الخطإ ، وكوجوب سجدتي السهو المترتب على تحقق السهو في الصلاة.

وثالثة : يكون ثابتا لذات الشيء لا بوصف العمد والخطإ ، بل هو ثابت له بعنوانه الأولي كحرمة شرب الخمر ، ووجوب القصر على المسافر ، وغير ذلك من الأحكام.

ومن الواضح ان حديث الرفع لا يتكفل رفع الحكم الثابت في حال العمد ـ بمقتضى دليله ـ ، إذ مع الخطإ وعدم العمد يرتفع الحكم بنفسه قهرا لعدم موضوعه ، بل لا احتياج لحديث الرفع.

وإنما الكلام في شموله للنحو الثاني من الأحكام. وهو محل الكلام في هذه الجهة.

وقد يحرر هذا البيان بصورة إيراد ، وهو : ان ظاهر حديث الرفع هو رفع الحكم عن المضطر إليه بما هو كذلك ، وهكذا في سائر الفقرات ، بمعنى انه يتكفل رفع الحكم الثابت بعنوان الاضطرار فيكون مصادما للأدلة التي تتكفل جعل الحكم في مورد الاضطرار بخصوصه وبعنوانه.

وقد يجاب عن هذا الإشكال ـ بما هو ظاهر الكفاية ـ من : ان الظاهر من الحديث أن هذه العناوين هي الموجبة لرفع الحكم ، إذ أسند إليها الرفع ، وظاهر كل موضوع دخالته في ثبوت محموله. إذن فهو ظاهر في ان علة الرفع هي هذه العناوين.

وبما أنه يستحيل ان يكون العنوان الواحد مقتضيا لعدم الشيء ومقتضيا

٤٠٨

لثبوته لم يكن حديث الرفع شاملا للموارد التي تكون هذه العناوين دخيلة في الحكم ، ويكون الحكم مترتبا عليها. لاستلزامه أن يكون الشيء الواحد مقتضيا للمتنافيين ، بل كان منصرفا ـ بمقتضى هذا الوجه العقلي ـ عن هذه الصورة ومختصا بمورد يكون الحكم ثابتا لذات العمل بعنوانه الأولي بلا دخالة هذه العناوين أصلا. فليس حديث الرفع ظاهرا في رفع الحكم الثابت في مورد الاضطرار ، بل هو ظاهر في رفع الحكم لأجل الاضطرار ، إذ « الاضطرار » أخذ في موضوع الرفع فيكون دخيلا فيه ، ولم يؤخذ في المرفوع كي يرد الإشكال المزبور (١).

وهذا البيان أشار إليه ملخصا المحقق النائيني (٢). وأوضحه المحقق الأصفهاني قدس‌سره بضميمة مقدمة إليه ، وهي ظهور ورود الحديث في مورد الامتنان (٣).

وهذه الجهة بنظرنا غير دخيلة في البيان ، فانه يتم ولو لم يؤخذ فيه ورود الحديث مورد المنّة والتسهيل.

بل التحقيق : ان هذا الأمر ـ أعني كون ملاك الرفع هو الامتنان كما يصرّح به ويلتزم بلوازمه ـ ، لو سلم كان مخلا بالبيان السابق ، إذ مرجعه إلى كون رفع التكليف في موارد هذه العناوين لأجل التسهيل والمنّة على العباد ، وهذا لا ينافي كون هذه العناوين بحسب ذواتها مقتضية لثبوت الحكم ، إذ لا منافاة بين كون الشيء بلحاظ ذاته مقتضيا لثبوت شيء ، وبلحاظ جهة أخرى فيه مقتضيا لعدم ذلك الشيء ، ولا مانع من اقتضاء الشيء الواحد للمتنافيين بهذا الوجه. إذن فلا مانع من الالتزام بظهور حديث الرفع في كون هذه العناوين لأجل المنة رافعة للحكم مع الالتزام بشموله لموارد تكون هذه العناوين بذواتها موجبة لثبوت

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٤٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٨٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٩

الحكم. فكون الشيء الواحد مقتضيا للمتنافيين ليس محذورا على إطلاقه.

فالتحقيق ان يقال في جواب الإشكال وتحقيق جهة البحث ، هو : أنا نقطع بصدور الأحكام الثابتة لهذه العناوين بما هي ، كما نقطع بثبوت ما هو مفاد حديث الرفع من رفع الاضطرار ونحوه ، ومقتضى ذلك هو حمل الحديث على كون نظره إلى الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية ، لأن حمله على رفع الأحكام الثابتة للأشياء بهذه العناوين يستلزم إما رفع اليد عنه أو عن أدلة تلك الأحكام للتنافي بينهما ، وهو مما لا يمكن الالتزام به. فلاحظ.

الجهة الثانية : في عموم رفع هذه العناوين لموارد الفعل والترك.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى عدم شمول الحديث لموارد الإكراه أو الاضطرار المتعلق بالترك ، وانما يختص بالاضطرار أو الإكراه على الفعل ، فقد ذكر بعد كلام طويل ـ لا يهمّنا التعرض إليه ـ : ان المكلف إذا أكره على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل ، ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال ، كما لو نذر ان يشرب من ماء دجلة ، فأكره على العدم ، أو اضطر إليه أو نسي الشرب.

وقد وجّه الإشكال : بان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، وليس تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن تنزيل المعدوم منزلة الموجود يكون وضعا لا رفعا. فإذا أراد ان يشمل حديث الرفع المثال المزبور كان مقتضاه انه ينزل عدم الشرب منزلة الشرب ، فيجعله كالشرب في ترتب الأثر عليه من عدم الحنث ومخالفة النذر.

وهذا بخلاف ما إذا توجه الرفع إلى الفعل ، فانه ينزله منزلة العدم في عدم ترتب الأثر فيصدق الرفع.

وبالجملة : بملاحظة ان حديث الرفع يتكفل التنزيل ، لا يصح تعلقه بالترك ، لأن مقتضاه تنزيله منزلة الوجود وهو يلازم الوضع لا الرفع. فيختص

٤١٠

بتنزيل الموجود منزلة العدم.

وانتهى قدس‌سره من هذا البيان إلى عدم إمكان تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط لنسيان أو إكراه أو نحو ذلك بحديث الرفع ، إذ لا مجال لورود الرفع على السورة المنسية ـ مثلا ـ لخلو صفحة الوجود منها.

هذا مضافا إلى ان أثر السورة هو الاجزاء وصحة العبادة ، ولا يمكن ان يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثرها المزبور ـ مع قطع النّظر عن عدم قابليته للجعل الشرعي ـ ، لأن مقتضاه فساد العبادة وهو خلاف الامتنان.

وذكر بعد ذلك : احتمال ان يكون المرفوع نفس جزئية المنسي للمركب. ودفعه : بان الجزئية ليست منسية وإنما الّذي طرأ عليه النسيان هو الجزء (١).

أقول : فيما أفاده قدس‌سره مواضع للنظر ..

منها : ما أفاده من ان شأن حديث الرفع هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود. إذ فيه ..

أولا : انه لا وجه للالتزام بان حديث الرفع يتكفل التنزيل بعد ما عرفت من تصوير تعلق الرفع حقيقة بالفعل المعروض لهذه العناوين بملاحظة كون الرفع في عالم التشريع والجعل. وعرفت أنه ممن أفاده قدس‌سره ، وإذا كان حديث الرفع يتكفل رفع معروض هذه العناوين حقيقة ، فلا فرق بين الفعل والترك فهو كما يرفع الفعل في عالم التشريع يرفع الترك أيضا في عالم التشريع بملاحظة رفع أثره ، فلا يكون رفع الترك مساوقا للوضع.

فما أفاده هاهنا هدم لما شيده قبل قليل فالتفت.

وثانيا : انه لو سلم ان حديث الرفع يتكفل التنزيل ، فلا محذور في شموله للترك ، وذلك لأنا نقول انه يتكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود في عدم ترتب أثر

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٥٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤١١

المعدوم لا في ترتب أثر الموجود كي يكون الرفع وضعا.

بيان ذلك : ان العدم والترك إذا كان موضوع أثر خاص ، فهو مما لا يترتب على الوجود قهرا ، فمثلا إذا كان الترك محرما لم يكن الوجود كذلك ، وإن كان للوجود أثر وجودي خاص كالوجوب مثلا. فالذي نقوله : أن الإشكال نشأ عن تخيل ان حديث الرفع إذا تكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود فهو يقتضي ترتب آثار الموجود عليه ، وهذا وضع لا رفع. مع ان الأمر ليس كذلك ، بل حديث الرفع انما يتكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود في عدم ترتب الأثر عليه لا غير ، فيكون الترك ـ في المثال المزبور ـ بمنزلة الفعل في عدم كونه محرما ومخالفة لا في كونه واجبا ومما يتحقق به الامتثال ، فلا يكون رفع العدم على هذا وضعا.

ومنها : ما ذكره من عدم إمكان استفادة صحة الصلاة من حديث الرفع فيما إذا نسي الإتيان ببعض الاجزاء أو اضطر إلى تركه أو أكره عليه ، لما تقدم من ان الترك لا يكون مشمولا بالحديث. فانه لا يخلو من خلط ، إذ النسيان كما ينتسب إلى الترك كذلك ينتسب إلى الفعل ، فالترك الناشئ عن نسيان لا بد ان يكون عن نسيان الفعل ، فالنسيان عارض على الفعل وعلى الترك ، فالمتعين إفراده بالكلام وفصله عن صورة الاضطرار إلى الترك ، إذ لا يتصور صدور الترك عن نسيان مع عدم نسيان الفعل.

ولعل مراده ما ذكرنا من تعدد الملاك ، وأن الكلام في الاضطرار لا يتأتى في النسيان ، بل عدم شمول حديث الرفع لنسيان الجزء لوجوه أخرى ، والاشتباه كان من المقرّر.

ومنها : ما ذكره من ان الجزئية غير منسية مع نسيان الجزء. وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، إذ يمتنع ان يكون المكلّف في المكان المقرّر للجزء ملتفتا إلى جزئية الجزء ثم ينسى الإتيان بالجزء بل لا بد ان يكون نسيان الجزء مصاحبا لنسيان الجزئية. ويستحيل التفكيك بينهما. فالتفت ولا تغفل.

٤١٢

وقد تعرض إلى بعض ما أوردناه على المحقق النائيني بعض الأعاظم المحققين فراجع تقريرات بحثه (١).

ثم إنه قد يشكل شمول الحديث لموارد ترك الواجب من جهة أخرى ، وهي : ان ظاهر الحديث هو رفع الأثر الشرعي المترتب على معروض الإكراه ـ مثلا ـ دون غيره ، لما عرفت من ان المراد بالموصول الفعل الّذي يتعلق به الحكم أو يكون موضوعا له ، والإكراه على الترك لا يكون من الإكراه على موضوع الأثر ، إذ الوجوب متعلق بالفعل ، فلا أثر للترك كي يرتفع بالإكراه ، وما هو موضوع الأثر لم يعرض عليه الإكراه.

ولكنه يجاب بما حقق في مسألة الضد من : ان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد العام له وهو الترك. بتقريب : ان البعث والتحريك الاعتباري كالبعث الخارجي ، فكما ان البعث الخارجي نحو شيء تكون له نسبتان : نسبة إلى الفعل المبعوث نحوه ، وهي نسبة القرب إليه. ونسبة إلى عدمه ، وهي نسبة البعد عنه.

كذلك البعث الاعتباري ، فان البعث نحو شيء اعتبارا كما ينسب إلى الفعل فيكون محركا إليه كذلك ينسب إلى عدمه فيكون زاجرا عنه. فنفس طلب الفعل ووجوبه ينهى عن الترك ويبعد المكلف عنه بالتقريب المذكور ، فيكون الترك موضوعا للأثر الشرعي لانتساب الحكم إليه بنسبة الزجر عنه.

ولو لا هذا البيان لأشكل الأمر في تعلق الإكراه بالمحرم أيضا بناء على ان الحرمة طلب الترك ـ كما قربناه ـ لا الزجر عن الفعل. فان الإكراه على الفعل لا يكون من الإكراه على متعلق الحكم ، إذ متعلقه هو الترك.

نعم ، لو كانت الحرمة هي الزجر عن الفعل كان الفعل بنفسه متعلقا للحكم.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢١٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤١٣

ولا طريق إلى التفصي عن هذا الإشكال في موارد الحرمة ، إلا بنظير ما ذكرناه في موارد الوجوب ، فنقول ان طلب الترك كما ينسب إلى الترك فيكون محركا نحوه كذلك ينسب إلى الفعل فيكون زاجرا عنه. فتدبر.

الجهة الثالثة : في ما هو المرفوع من الأحكام التكليفية بهذه الفقرات.

لا إشكال في شموله للأحكام الاستقلالية ، كما لو أكره على ترك الواجب أو اضطر إليه أو نسيه ، أو أكره على شرب الخمر أو اضطر إليه أو شربه ناسيا.

وهل تشمل موارد الأحكام الضمنية أو لا؟. فيه كلام. كما لو اضطر إلى ترك بعض أجزاء الصلاة أو أكره عليه أو نسي جزئيته فتركه.

قد يقال : بعدم شمول رفع الاضطرار والإكراه للجزئية إذا أكره على ترك الجزء أو اضطر إليه ، لا لأجل ان الجزئية ليست من الأمور المجعولة شرعا ، فان له حديثا آخر نتعرض له فيما يأتي إن شاء الله تعالى ، بل لأن حديث الرفع إنما يتأتى في المورد الّذي يكون جريانه فيه على وفق المنّة والتسهيل. وجريانه هاهنا يستلزم الكلفة والتثقيل ، وذلك لأن مقتضى الاضطرار إلى ترك الجزء هو سقوط الوجوب عن الكل لارتفاع الكل بارتفاع الأمر الضمني المتعلق بالجزء ، ومقتضى رفع جزئيته بحديث الرفع هو لزوم الإتيان بالباقي لأنه مركب تام الاجزاء بلحاظ حال الاضطرار. فيكون حديث الرفع مقتضيا للوضع وهو خلاف الامتنان.

وأما في صورة النسيان فجريان حديث الرفع موافق للامتنان ، إذ الناسي لا يلتفت إلى نسيانه وهو كذلك ، ومعنى ذلك انه أتى بالمركب الناقص ناسيا ، وانما يلتفت بعد ذلك وبعد زوال النسيان ، فعدم رفع جزئية ما نسيه يلزمه بالإعادة للإخلال بما أتى به ، فيكون إجراء حديث الرفع موافقا للامتنان.

هذه خلاصة ما يذكر في مقام الفرق بين صورة النسيان وصورة الاضطرار.

وقد ينجر البحث هاهنا كما ينجر في رفع ما لا يعلمون إلى ان الجزئية هل

٤١٤

تقبل الرفع بحيث يثبت الأمر بباقي الاجزاء أو لا؟. فقد يقال : ان جزئية الجزء ليست مجعولة شرعا ، وإنما هي منتزعة عن تعلق الأمر بالمركب ، فينتزع عن كل جزء من المركب أنه جزء المأمور به ، وهي بهذا المعنى تكون قابلة للوضع والرفع شرعا. ولكنها انما تقبل الرفع بلحاظ رفع منشأ انتزاعها وهو الأمر الضمني المتعلق بالجزء ، وبما ان الأمر الضمني لا يثبت مستقلا ومنفردا عن سائر الأوامر الضمنية المتعلقة بسائر الاجزاء ، لم يمكن رفعه وحده ، بل لا يرتفع إلا بارتفاع الأمر بالكل. وعليه فرفع الجزئية لا يكون إلاّ برفع الأمر بالكل ، فلا دليل على ثبوت الأمر بالباقي.

ومن هنا أشكل الأمر في إثبات وجوب الأقل لو دار الأمر بينه وبين الأكثر ، بواسطة شمول حديث الرفع للجزء المجهول كونه جزء.

وقد تصدى صاحب الكفاية إلى الإجابة عن هذا الاستشكال بما لم نعهد صدوره قبله ، ومحصل ما أفاده قدس‌سره : ان لدينا دليل على الأمر بالكل. ولدينا دليل يرشد إلى جزئية أمر ، كقوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (١) ، وهذا الدليل بمقتضى إطلاقه يتكفل الأخبار عن دخالة الجزء في العمل في مطلق الأحوال. فحديث الرفع يتكفل الاخبار عن عدم جعل جزئية الفاتحة في حال الجهل أو غيره ، فيكون مخصصا لدليل الجزئية ، ولا نظر له إلى دليل الأمر بالكل مباشرة. فيكون نظير الاستثناء المتصل الدال على عدم الجزئية في غير مورد الجهل. فلو ورد الدليل هكذا : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب في حال عدم الجهل » ، هل يتوقف أحد في ثبوت الأمر في مورد الجهل بالفاقد للجزء المضطر إلى تركه؟.

وبالجملة : بعد تخصيص دليل الجزئية بحديث الرفع يرجع في إثبات الأمر بالباقي إلى دليل الأمر بالعمل نفسه. فلاحظ.

__________________

(١) العوالي اللئالي ١ ـ ١٩٦. الحديث ٢.

٤١٥

ولكنه قدس‌سره خصّ هذا البيان بمورد الشك في الجزئية أو نسيانها ، أما مورد الاضطرار إلى ترك الجزء ، فقد ذهب إلى عدم جريان حديث الرفع فيه (١).

ويمكن أن يقال في بيان الفرق بين صورة الاضطرار وصورة الجهل : إن الاخبار بعدم جزئية شيء لشيء لازم أعم لعدم تعلق الأمر بالمركب أصلا وللأمر بالمركب الفاقد لذلك الشيء. إلا ان الاخبار بالرفع المقابل للوضع ، لا يصح إلا في مورد يكون أصل ثبوت الأمر مفروغا عنه ، وانما الشك في جزئية شيء للمأمور به ، فإذا قال المولى : « جزئية هذا الشيء للمأمور به مرفوعة » ، فانه ظاهر في المفروغية عن ثبوت الأمر بالمركب ووجود المأمور به. فلا يشمل المورد الّذي لا يكون للمركب المأمور به ثبوت.

وعليه ، نقول : في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر لما كان وجود المأمور به المركب مفروغا عنه للعلم به ، وانما الشك في جزئية شيء له ، كان الرفع صادقا ، إذ يصدق رفع جزئية المشكوك عن المأمور به. فيكون حديث الرفع شاملا لموارد الجهل بالجزئية.

أما مع العجز عن إتيان الجزء ، فبما أنه يسقط الأمر بالكل للعجز عن بعض أجزائه ، فلا يكون ثبوت المأمور به مفروغا عنه ، مع قطع النّظر عن حديث الرفع الّذي يحاول به إثبات الأمر بالباقي ، فلا يصدق حينئذ رفع الجزئية ، فعدم شمول حديث الرفع لموارد الاضطرار العقلي إلى ترك الجزء من باب عدم صدق الرفع على نفي الجزئية.

ولعل هذا هو الوجه الفارق بين الصورتين في نظر صاحب الكفاية ، فيكون مراده ان حديث الرفع لا يشمل مورد الاضطرار لعدم صدق الرفع ، لا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٦ ـ ٣٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤١٦

لأجل صدق الوضع من جهة إثباته للأمر بالباقي.

وبعبارة أخرى : يكون مراده ان شمول حديث الرفع يتفرع على المفروغية عن أصل الوضع ، فلا يثبت في مورد لا وضع فيه. لا أن مراده انه لا يتكفل وضع التكليف ، لأنه خلاف الامتنان كما هو ظاهر كلامه. فتدبر.

وهذا بعض الكلام في هذه الجهة ، وتمام التحقيق يأتي في محله من دوران الأمر بين الأقل والأكثر إن شاء الله تعالى فانتظر.

الجهة الرابعة : في شمول رفع الاضطرار والإكراه للأحكام الوضعيّة.

وعمدة الكلام في الأحكام الوضعيّة المرتبطة بباب المعاملات. وهي على قسمين : عقود وإيقاعات ...

أما المعاملات العقدية كالبيع ونحوه ، فلا يشمله رفع الإكراه والاضطرار لما تقدم من ان ظاهر الرفع عن المكلف انه في مقابل الوضع عليه الظاهر في نوع من الثقل ، ولا يقل في الحكم الوضعي كصحة البيع ونحوها بلحاظ ذاته ، إذ قد يرغب فيه المكلّف ويحاول تحقيقه بشتى الطرق في بعض الأحيان.

ولما تقدم من ان مثل صحة البيع ونحوها ليس مما يتعلق بمكلف خاص يخاطب به ، بل هو حكم يخاطب به جميع المكلفين ، فليست هي مجعولة على المضطر أو المكره ، كي ترتفع عنه بالاضطرار أو الإكراه ، سواء كانت حكما وضعيا أم كانت حكما انتزاعيا ، إذ هي تنتزع عن مجموعة أحكام تكليفية تتعلق بمجموع المكلفين لا من خصوص ما يتعلق به من أحكام.

هذا ، مع أن رفع صحة البيع بالنسبة إلى المضطر إليه خلاف الامتنان والإرفاق به ، إذ يؤدي به ذلك إلى الهلاك.

كما أنه لا جدوى في إثبات شمول رفع الإكراه للمعاملات المالية كالبيع ، لما علم من الأدلة بتقييد الصحة فيها بصورة عدم الإكراه وطيب النّفس والرضا ، فالصحة منتفية في صورة الإكراه لتلك الأدلة.

٤١٧

هذا ، مع أن ذلك مانع عن شمول الحديث ، لما عرفت في الجهة الأولى ان هذا الحديث لا يتكفل رفع الأحكام الثابتة للشيء بقيد عدم الإكراه. فراجع.

وأما المعاملات الإيقاعية ، كالطلاق والعتق ، فالحال فيها كالحال في العقود.

ثم إنه قد يدعى شمول رفع الإكراه للأحكام الوضعيّة بدلالة رواية صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا عن أبي الحسن عليه‌السلام : « في الرّجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال :

لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا » (١).

والتحقيق : ان المكره عليه إن كان الحلف على الفعل من إيجاد الطلاق والعتق والصدقة ـ بالمعنى المصدري ـ فيراد من قوله : « أيلزمه ذلك » وجوب صدور ذلك منه ، كانت الرواية أجنبية عما نحن فيه ، إذ هي تتكفل رفع الحكم التكليفي بوجوب الوفاء باليمين وحرمة الحنث. وان كان الحلف على الطلاق وغيره بالمعنى الاسم المصدري ، نظير نذر النتيجة ، فيكون المراد من قوله : « أيلزمه ذلك » نفوذ ذلك ولزومه الوضعي وترتب هذه الأمور بمجرد الحلف ، كانت مما نحن فيه. ولكن ذلك خلاف ظاهرها ، فان ظاهرها كون الحلف على إيجاد هذه الأمور لا على ترتبها وتحققها في أنفسها.

هذا ، مع ان الحلف على هذه الأمور باطل عندنا ، ولو كان بدون إكراه ، فتطبيق حديث الرفع عليه ظاهر في كون الطرف السائل من المخالفين ، أو المورد مورد التقية (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٦ ـ ١٦٤ باب : ١٢ من أبواب كتاب الإيمان ، الحديث : ١٢.

(٢) مضمون هذا الإيراد ذكره المحقق الأصفهاني راجع نهاية الدراية ٢ ـ ١٨٢ ـ الطبعة الأولى.

٤١٨

وعليه ، فلا ظهور في كون الاستدلال بحديث الرفع استدلالا واقعيا ، بل يمكن ان يكون جدليا لإلزام الطرف المقابل لتسليمه ظهور الحديث في رفع الحكم الوضعي. وهذا لا يعني ان الإمام عليه‌السلام يرى ذلك. ومثل ذلك كثير في كلامهم عليهم‌السلام.

ولو سلم ظهور الرواية في المدعى ونريد العمل بها ، فهي لا تقتضي شمول الحديث لمطلق موارد الأحكام الوضعيّة ، بل تختص بالإيقاعات.

وذلك للفرق بين العقود والإيقاعات في ان الحكم الوضعي في باب العقود يترتب على مجموع الإيجاب والقبول ، وليس هو فعل المكره فقط ، فالإيجاب المكره عليه أو القبول ليس موضوع الأثر ، وموضوع الأثر ليس فعل المكره كي يرتفع بالإكراه ، بخلاف الإيقاع ، فان موضوع الأثر هو نفس فعل المكره.

وبالجملة : لو أردنا التنزل عن الإشكالات المتقدمة ، فهاهنا إيراد آخر في باب العقود ، وهو : ان الظاهر من الحديث هو رفع الأثر المترتب على فعل المكره دون غيره ، وفعل المكره في باب العقود ليس مورد الأثر ، إذ الأثر يترتب على فعل شخصين الموجب والقابل ، فلا يتكفل رفع الإكراه رفع صحة البيع مع الإكراه على الإيجاب ، لأن الصحة تترتب على الإيجاب والقبول لا خصوص الإيجاب.

وهذا الإيراد لا يتأتى في باب الإيقاعات ، لأن موضوع الأثر نفس إنشاء المكره لا غير ، فيمكن ان يشمله حديث الرفع. فإذا دلّ دليل على الرفع في مورد الإيقاعات فلا يلازم ثبوت الرفع في موارد العقود.

ولا يخفى ان الحديث يرتبط بباب الإيقاعات ، إذ فرض الاستدلال بالنص ان هذه الأمور تتحقق بمجرد الحلف بلا احتياج إلى قبول في مثل الصدقة ، بل تكون نظير الوقف على المساجد ، واما كل من الطلاق والعتق فهو في نفسه لا يحتاج إلى قبول. فلا دلالة له على دلالة الحديث على رفع مطلق الأحكام

٤١٩

الوضعيّة. فلاحظ وتدبر.

ثم إنه بقيت في هذا الحديث أبحاث أخر مختصرة خارجة عما نحن بصدده أهملنا التعرض إليها.

تنبيه : تكرر في بعض الكلمات ورود هذا الحديث مورد الامتنان على الأمة الظاهر في الامتنان بحسب النوع ، ومقتضى ذلك تحقق التعارض في بعض الموارد فيما إذا دار الأمر بين ضررين على شخصين ، بان كان جريان حديث الرفع مستلزما في حق أحد لضرر آخر ، فيلتزم بعدم شمول حديث الرفع لمثل ذلك.

ولكن هذه الدعوى لا شاهد عليها ، بل غاية ما يستفاد من الحديث هو وروده مورد التسهيل ، وهو ظاهر في التسهيل الشخصي نظير رفع الحرج.

وعليه ، فلا مانع من شمول حديث الرفع للمثال المزبور إذ فيه تسهيل وإرفاق بمن يجري في حقه بلا كلام. فتدبر.

هذا تمام الكلام في حديث الرفع.

ومنها : حديث الحجب : وهو قوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (١). وتقريب الاستدلال به : أنه يدل على ان الحكم المجهول موضوع عن العباد ، وهو من حيث شموله للشبهة الحكمية أظهر من حديث الرفع ، إذ لا يتأتى فيه إشكال وحدة السياق لعدم الموضوع له ، بل المتيقن منها بقرينة اسناد الحجب إلى الله إرادة الشبهة الحكمية ، فانه يتناسب مع إرادة الحكم الكلي المجهول كما لا يخفى. وقد نوقش في الاستدلال بها.

وتحقيق الكلام فيه : ان الحكم المجهول ..

تارة : يكون حكما إنشائيا صرفا لم يبيّن إلى الناس لبعض المصالح ، ولم

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١٩ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٢٨.

٤٢٠