منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

وأما ما ذكره من المحذور على تقدير إرادة الحكم من التكليف ، فيندفع : بأنه ان لم يقم دليل قطعي على بطلان تقييد الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، فلا مانع من الالتزام بما هو ظاهر الآية الشريفة من تقييد الأحكام الواقعية بالعالمين بها. وإن قام دليل على ذلك نرفع اليد عن ظهور الآية في ذلك ونلتزم بنفي التكليف ظاهرا ، نظير حديث الرفع. ولا يسوغ ذلك لرفع اليد عن ظهور لفظ التكليف وصرفه إلى معنى آخر.

وأما إيراده الأول على الاستدلال بالآية ـ بعد تقريب دلالتها على العموم ـ ، وهو عدم جواز التمسك بالإطلاق لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب. فهو إيراد مبنائي ، وقد تقدم الحديث عن مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب عن التمسك بالإطلاق فراجع.

نعم إيراده الثاني وجيه ، وهو إيضاح ما أشار إليه الشيخ من انه لو تمت دلالة الآيات كان مورودة لدليل الاحتياط لو تمّ ، لتعليق الحكم فيها على عدم البيان. وأما إيراده الثالث : فمدفوع : بان الإيتاء في الآية الكريمة كما هو منسوب إلى الله سبحانه منسوب إلى العباد. ومن الواضح أن مجرد إبلاغ الرسل بالحكم لبعض الناس لا يوجب صدق إعلام الآخرين به.

نعم يصدق الاعلام بقول مطلق ، لا إعلام هذا الجاهل ، لكنه لا ينفع فيما نحن فيه بلحاظ مدلول الآية ، فما دام الشخص لم يعلم بالحكم يكون مشمولا للآية الشريفة وإن كان قد أبلغ الحكم لبعض الناس الآخرين. وشاهدنا على ذلك الّذي لا يقبل الترديد ، هو انه لو هيئت لشخص أسباب الرزق وكسب المال وتقاعس ولم يندفع في هذا السبيل ، فهل يلزم بالإنفاق مع فقره بلحاظ ان إيتاء المال المألوف من قبل الله سبحانه قد تحقق؟. إذن فمجرد الإيتاء من قبل الله سبحانه لا ينفع في تحقق التكليف ما لم يعلم المكلف بالحكم نفسه ، إذ بدون

٣٨١

العلم لا يصدق إيتاء الله المكلّف وإن صدق إيتاء الله سبحانه ، فالإيراد ناشئ عن قصر النّظر على نسبة الإيتاء إلى الله سبحانه وقطع النّظر عن نسبة إيتائه إلى المكلف.

والّذي يتحصل : ان إشكال استعمال اللفظ في أكثر من معنى وارد على الاستدلال بالآية.

وعلى أي حال ، فظاهر الآية إرادة المال من الموصول لظهورها في كون المراد من الموصول فيها نفس المراد من قوله : ( فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ). ومن الواضح إرادة المال من الموصول هنا. هذا مع ان إرادة مطلق الفعل تتوقف على تقدير القدرة عليه لأنها هي المعطاة ، أو أخذ الإيتاء كناية عن الإقدار ، وكل منهما خلاف الظاهر. كما ان إرادة الحكم تتوقف على جعل الإيتاء كناية على الاعلام وهو خلاف الظاهر ، فان معنى الإيتاء هو الإعطاء.

هذا مع أن رفع التكليف في صورة الجهل ظاهري ورفعه في صورة العجز واقعي.

والجمع بينهما في إنشاء واحد لعله منشأ إشكال ، ولو أمكن تصحيحه فهو مئونة زائدة لا تثبت بالإطلاق ، بل هي مانعة عن التمسك به كما لا يخفى.

وعليه ، فلا دلالة للآية على المدعى.

وأما السنة : فبروايات عديدة :

منها : حديث الرفع : وهو رواية حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ( الخلوة خ ل ) ما لم ينطقوا

٣٨٢

بشفة » (١).

ومحل الاستشهاد قوله : « ما لا يعلمون » ، ولوضوح الحال في دلالة الرواية وفي كلمات الاعلام في المقام نتعرض إلى ذكر أمور :

الأمر الأول : في ان الرفع والدفع متغايران أو لا؟.

ذهب المحقق النائيني إلى وحدتهما ، وان الرفع في الحقيقة دفع ، لأنه يمنع من تأثير المقتضي في الزمان اللاحق بملاحظة ان بقاء الشيء يحتاج إلى علة كحدوثه.

وعليه ، فيصح استعمال الرفع في مقام الدفع حقيقة وبلا تجوز وعناية (٢).

وأورد عليه : بان حقيقة الرفع والدفع وان كانت واحدة إلا انه بعد ان كان لدينا أمران : أحدهما ما يمنع المقتضي في مرحلة الحدوث. والأخر ما يمنع المقتضي في مرحلة البقاء. وفرض ان لفظ الدفع وضع للأمر الأول ، ولفظ الرفع وضع للأمر الثاني ، وكان المفهوم العرفي للدفع والرفع ذلك لم تكن وحدة تأثيرهما موجبة لصحة استعمال أحدهما مقام الآخر ، لأن ذلك لا يرتبط بمقام الوضع. إذن فالرفع مفهوما غير الدفع. والمراد به في الحديث ما يساوق معنى الدفع ، إذ من المعلوم عدم حدوث الأحكام في موارد الاضطرار وغيره ، لا انها حدثت ، والمقصود بيان عدم استمرارها كما هو واضح.

ولأجل ذلك حاول البعض (٣) تصحيح إرادة معنى الرفع من لفظه في الحديث الشريف بفرض لحاظ ثبوت هذه الأحكام للأمم السابقة ، فبملاحظة ذلك يكون عدم ثبوتها لنا ارتفاعا لا اندفاعا ، أو بملاحظة مرحلة الإسناد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١١ ـ باب ٥٦ من أبواب جهاد النّفس ، الحديث : ١.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٣٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٢٦٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٣

الكلامي.

وأنت خبير ، بأنه بعد ان كان المراد من الحديث معلوما لم يكن البحث في جميع ذلك من اتحاد مفهوم الرفع والدفع ، ومن كون الرفع هاهنا مستعمل في معناه حقيقة أو في معنى الدفع مجازا وغير ذلك بذي أثر عملي أصلا في ما هو المستفاد من الحديث ، ولم نعرف السر في اهتمام الاعلام بذلك ، فالاكتفاء بهذا المقدار متعين.

الأمر الثاني : لا يخفى ان المراد من الموصول في : « ما اضطروا إليه وما أكرهوا عليه » هو المتعلق للحكم ، إذ لا معنى للاضطرار إلى نفس الحكم.

وعليه ، فيقع الكلام في ان اسناد الرفع إلى متعلقات الأحكام هل هو اسناد حقيقي أو اسناد مجازي ، باعتبار انها غير مرفوعة حقيقة وانما المرفوع حكمها؟.

وثمرة هذا البحث تظهر ..

أولا : في البحث عن المراد بـ : « ما لا يعلمون » ، وانه خصوص الشبهة الموضوعية أو الأعم منها ومن الشبهة الحكمية ، وذلك لأنه إذا فرض كون اسناد الرفع إلى المتعلق للحكم إسنادا مجازيا امتنع إرادة العموم ، لأن اسناد الرفع إلى الموضوع المجهول الحكم يكون إسنادا مجازيا ، واسناده إلى الحكم المجهول يكون إسنادا حقيقيا ، ولا جامع بين النسبتين ، فيمتنع إرادة العموم لاستلزامه التعبير عن النسبتين بنسبة كلامية واحدة وهو ممتنع.

وعليه ، فيسقط الاستدلال على البراءة في الشبهات الحكمية بهذا الحديث.

وتوهم : اختيار إرادة خصوص الشبهة الحكمية فيتحد الإسناد ويكون حقيقيا ولا ينافي كونه مجازيا بالنسبة إلى الفقرات الأخرى ، لعدم امتناع ذلك بعد تعدد النسب الكلامية بتعدد أطرافها في الكلام ، فيمكن ان يراد بإحداها

٣٨٤

الإسناد المجازي وبالأخرى الحقيقي.

مندفع : بأنه لما كان ظاهر الفقرات الأخرى إرادة الموضوع من الموصول كان مقتضى وحدة السياق كون الموضوع مرادا قطعا من الموصول في : « ما لا يعلمون ». غاية ما في الأمر انه يمكن إن يدعى إرادة الأعم من الموضوع والحكم لو لم يكن محذور فيه. اما إرادة خصوص الحكم دون الموضوع فهو مما يتنافى مع وحدة السياق. فالتفت.

وثانيا : في البحث عما هو المقدّر من كونه جميع الآثار أو المؤاخذة أو الأثر الظاهر ، فانه إذا ظهر أن الإسناد إلى نفس المتعلق يكون بنحو الحقيقة ، فلا مجال للبحث المزبور ، وانما يتأتى على تقدير مجازية الإسناد ، فيقع الكلام في ان الرفع مسند مجازا إلى نفس المذكورات. أو مسند حقيقة إلى أمر مقدر مضاف إليها ، ويقع الكلام بعد ذلك فيما هو ذلك الأمر المقدّر.

وتحقيق الكلام : ان اسناد الرفع إلى متعلق الحكم يكون إسنادا حقيقيا لا تجوّز فيه ولا عناية ، وذلك إذا كان الملحوظ رفعه في عالم التشريع لا عالم التكوين. فان رفع الحكم عنه ملازم لعدم ثبوته في عالم التشريع والأحكام حقيقة فيصح اسناد الرفع إليه حقيقة ، وذلك كما تقول : « اني محوت الكلمة الكذائية وأعدمتها » بلحاظ دفتر خاص تكون فيه ، فانه يصدق إعدامها حقيقة من ذلك الدفتر.

وبالجملة : ان رفع الموضوع في عالم التشريع وان كان برفع حكمه ، لكنه يصحح اسناد الرفع إليه حقيقة بلحاظ ذلك العالم الخاصّ ، فرفع الحكم واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض. وما ذكرناه هو ما أفاده المحقق النائيني (١).

ومع هذا البيان لا حاجة إلى تكلّف تقريب كون اسناد الرفع إلى

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٤٢ و ٣٤٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٨٥

الموضوع حقيقة ، ببيان : أن الشوق والإرادة من الصفات التعلقية التي لا تكاد تتحقق وتتصور بدون متعلق ، وهكذا البعث ، وكما أن للماهية وجودا خارجيا وذهنيا كذلك يكون للماهية بلحاظ عروض الشوق عليها وجود شوقي ، فهي موجودة بوجود الشوق.

وعليه ، فيصح اسناد الرفع إلى معروض الحكم حقيقة لانعدامه بما هو موضوع الحكم حقيقة بانعدام نفس الحكم ، لأن له وجود بوجود الحكم نفسه ، فان هذا الوجه مضافا إلى دقته لا يخلو عن إشكال. فراجع مبحث تعلق الأحكام بالطبائع أو الأفراد لتعرف حقيقة الحال (١).

الأمر الثالث : في بيان المرفوع بحديث الرفع.

وتحقيق الحال في مفاد الحديث : أنه يمكن الالتزام بان الرفع فيما لا يعلمون رفع واقعي كالرفع في سائر الفقرات المذكورة في الحديث ، بمعنى : ان الحديث يكون متكفلا لبيان ارتفاع الحكم الفعلي عند عدم العلم ، فلا يكون من أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه كي يكون محالا ، كما لا يكون من إناطة الواقع بقيام الأمارة كي يكون تصويبا مجمعا على بطلانه.

وأما ما ادعي من وجود الاخبار المتواترة الدالة على ان الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل. فليس له في الاخبار عين ولا أثر ، وما يستظهر منه ذلك يختص بموارد الشبهات الموضوعية. اذن فلا محذور في الالتزام بان الرفع واقعي ، فالحكم مرتفع واقعا عند الجهل به ، ولا موجب للالتزام بان الرفع ظاهري كما عليه الاعلام رحمهم‌الله.

وبعض منهم ـ كالشيخ (٢) ـ قد التزم في مقام الجمع بين الحكم الواقعي

__________________

(١) راجع ٢ ـ ٤٦٩ من هذا الكتاب.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٦

والظاهري : بان الحكم الواقعي ليس بفعلي وانما هو إنشائي أو شأني أو غير ذلك من التعبيرات.

ولكنهم هاهنا يلتزمون بان الرفع ظاهري وهو بلا ملزم.

وعليه ، فما نقرّبه ليس خرقا لإجماع أو مناهضة لضرورة. نعم الّذي يوقعنا عن الجزم بهذا الأمر هو ان المتيقن من الحديث هو إرادة الشبهة الموضوعية. وقد عرفت ان النصوص كثيرة على بقاء الحكم الواقعي وثبوته فيها ، فلا يسعنا الالتزام بان الرفع واقعي في المقام.

ثم إنه لو لم نلتزم بذلك ، فهل يتكفل حديث الرفع جدا حكما وجوديا ، أم ان المراد الجدي منه هو الرفع تمسكا بالتعبير على حدّه؟. الّذي نستظهره هو أن المقصود الجدي من الكلام هو جعل الحلية الظاهرية ، ولكن كني عنها برفع الحكم ، لأنه استعمال شائع عرفا ، فانه كثيرا ما تؤدى حلية الشيء بالتعبير بعدم المانع منه ، ويكون المولى في مقام بيان حلية الشيء ، فيعبر بأنه لا مانع منه. إذن فالمنشأ جدا بحديث الرفع هو الحلية الظاهرية لا رفع الحكم ، نظير قوله عليه‌السلام : « كل شيء لك حلال ... » (١) ، لكنه يؤدي الحلية مطابقة وحديث الرفع يؤديها كناية. وهذا المعنى التزم به الشيخ وان لم يصرح به ولكنه التزم بلازمه كما سيأتي التنبيه عليه.

وبناء على هذا الظهور فتحقيق نسبته مع دليل الاحتياط أن يقال : انه ان قيل ان الحلية الظاهرية ملازمة لرفع الحرمة واقعا دفعا لمحذور اجتماع الحكم الظاهري والواقعي ، كان الحديث على هذا حاكما على دليل الاحتياط ، وذلك لأنه يدل بالدلالة الالتزامية على نفي الواقع ، فيرفع موضوع وجوب الاحتياط الّذي هو احتمال الواقع ، فيكون من باب قيام الأمارة على عدم موضوع حكم

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ ـ باب : ٦١ من الأطعمة والأشربة ، الحديث : ١ و ٢.

٣٨٧

آخر ، ولا يتوقف أحد في حكومتها على الدليل الآخر.

وهكذا الحال في قوله عليه‌السلام : « كل شيء لك حلال ... » لأنه يدل بالملازمة على نفي الحرمة الواقعية.

وإن لم يلتزم بان الحكم الظاهري ملازم لارتفاع فعلية الواقع ، بل الواقع على فعليته مع قيام الحكم الظاهري ـ كما عليه المحقق النائيني الشيخ رحمه‌الله (١) ـ ، فقد يتخيل تعارض هذا الحديث مع دليل الاحتياط.

ولكنه يتم في مثل : « كل شيء لك حلال ... » ، لا في مثل حديث الرفع ، لأن واقعه وإن كان جعل الحلية ، لكنه بلسان رفع الواقع وهو يكفي في الحكومة ، إذ النّظر في مقام الحكومة إلى لسان الدليلين ونظر أحدهما إلى موضوع الآخر.

وإلا فالحكومة تشترك مع التخصيص ومرجعها إلى رفع الحكم عن الموضوع المنفي تنزيلا. فحديث الرفع ينظر بحسب لسانه اللفظي إلى موضوع دليل الاحتياط ويتصرف فيه. فلاحظ.

ولو لم يلتزم بما استظهرناه من : أن المنشأ في الحديث هو الحلية الظاهرية ، والتزم بمدلوله المطابقي الصريح ، وهو رفع الحكم ظاهرا عند عدم العلم ، فيقع البحث في متعلق الرفع الظاهري ، وأنه هو الحكم الواقعي نفسه أو وجوب الاحتياط؟.

يمكن أن يقرّب تعلقه بنفس الواقع ظاهرا : بان الرفع إنما يصلح أن يتوجه ويتعلق بالحكم إذا كان أمر وضعه بيد المولى ، وإلا فيمتنع عليه رفعه.

وعليه ، فنقول : ان الحكم الواقعي في ظرف الجهل يمكن ان يوضع على المكلّف ظاهرا بجعل إيجاب الاحتياط عليه ، فإيجاب الاحتياط يكون سببا لنحو ثبوت للحكم الواقعي يصحح اسناد الوضع إليه ، فعدم جعل إيجاب الاحتياط

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٠٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٨٨

في هذا الظرف ، يكون رفعا للواقع حقيقة ، فيصح تعلق الرفع حقيقة بالواقع بلحاظ عدم جعل إيجاب الاحتياط. نظير نفي الإحراق بلحاظ نفي سببه وهو النار.

وعلى هذا ، فلا ملزم للالتزام بان المرفوع رأسا وحقيقة هو إيجاب الاحتياط كما هو ظاهر الشيخ في قوله : « والحاصل : ان المرتفع فيما لا يعلمون وأشباهه مما لا يشملها أدلة التكليف هو إيجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي » (١). أما قوله : « معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم إيجاب الاحتياط » (٢) ، فهو يحتمل الأمرين وان استشهد به المحقق النائيني على ما نسبه إليه من كون المرفوع رأسا وجوب الاحتياط (٣) ، فالنكتة التي تنحل بها المشكلة هي ما عرفت من انه يكون للواقع بإيجاب الاحتياط نحو جعل ووضع ، فيصح اسناد الرفع إليه حقيقة برفع سببه وهو إيجاب الاحتياط.

نعم لو لم يكن إيجاب الاحتياط مصححا لوضع الواقع ونسبة الجعل إليه ، لم يكن رفعه مصححا لإسناد الرفع إلى الواقع حقيقة ، إذ جعل الواقع حينئذ لا يكون بيد الشارع كي يرفعه.

وقد عبّر عما أوضحناه من تصحيح نسبة الرفع إلى الواقع صاحب الكفاية بعبارة مختصرة أشار فيها إلى النكتة ، فقال : « فالإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا ، وإن كان ثابتا واقعا ، ولا مؤاخذة عليه قطعا » (٤) حيث جعل الرفع متعلقا بنفس الحكم الواقعي في مرحلة الفعلية مع الالتزام بثبوته الواقعي ، وهو معنى الرفع الظاهري ، ولم يلتزم بتعلق الرفع رأسا بإيجاب

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ١٧٢ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٨٩

الاحتياط. نعم ذكر بعد ذلك أن مقتضى رفع الواقع هو رفع إيجاب الاحتياط ، وقد تقدم تقريبه. فإن في تعبيره : « فلا مؤاخذة عليه » وعدم تعبيره برفع المؤاخذة ملحوظة مهمة ، وهي الفرار من الإشكال بان المؤاخذة ليست من الأمور الشرعية القابلة للرفع والوضع ، إذ هو التزم بارتفاعها لا برفعها ، وارتفاعها إنما هو لأجل عدم تحقق موضوعها بعد ان كان الحديث دالا على رفع الواقع ورفع إيجاب الاحتياط ، فهي ترتفع عقلا ولا ترفع شرعا.

ومن الغريب جدا ما جاء في تقريرات المرحوم الكاظمي في هذا المقام ، فانه بعد أن حكم بأن الرفع يتوجه إلى الواقع وأنه ملازم لرفع وجوب الاحتياط ، وأورد على الشيخ رحمه‌الله في التزامه : بأن المرفوع أولا وبالذات هو وجوب الاحتياط ، قرب المطلب بما لا ينتهي إلى ما لا يختلف مع التزام الشيخ من كون المرفوع وهو وجوب الاحتياط. فلاحظ كلامه من قوله في الأمر الأول : « وتوضيح ذلك هو أن أدلة الأحكام ... » إلى آخر كلامه تعرف حقيقة الحال فيه (١). فالتفت.

الأمر الرابع : في عموم الحكم للشبهة الحكمية والموضوعية.

وقد يدعى العموم بتقريب : ان مقتضى إطلاق الموصول في : « ما لا يعلمون » إرادة الأعم من الحكم والموضوع.

واستشكل في ذلك بوجهين :

الأول : ان اسناد الرفع إلى الحكم اسناد حقيقي وإلى ما هو له ، واسناده إلى الموضوع إسناد إلى غير ما هو له ، لأن المرفوع في الحقيقة هو الحكم لا الموضوع. فإرادة الأعم من الحكم والموضوع من الموصول مستلزمة لاستعمال النسبة الكلامية الواحدة في نسبتين واقعيتين مختلفتين وهو ممتنع ، لأنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى. ولا يتصور الجامع بين النسب لأنها من سنخ الوجود

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٣٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٩٠

ولا وجود جامع بين وجودين.

الثاني : ان المراد بالموصول في الفقرات الأخرى هو الفعل الموضوع لعدم تصور معنى معقول للإكراه على الحكم أو الاضطرار إليه ، فلا يتعلق الإكراه ونحوه إلا بالموضوع. ومقتضى وحدة السياق كون المراد من الموصول فيما لا يعلمون هو الموضوع أيضا ، لأن إرادة الأعم تنافي وحدة السياق والظهور العرفي للكلام في وحدة المراد من الموصول المتكرر في جميع فقراته.

والجواب عن الأول قد اتضح في الأمر الثاني ، فانه قد بينّا ان اسناد الرفع إلى الموضوع حقيقي كإسناده إلى الحكم ، وذلك بملاحظة كون الرفع بلحاظ صفحة التشريع لا صفحة التكوين ، فإرادة الجامع لا تستلزم تعدد النسبة ، بل ليس هناك إلا نسبة واحدة حقيقة. فراجع.

وأما الإشكال الثاني ، فقد أجيب عنه بوجهين :

الوجه الأول : ان التفكيك في المراد من اللفظ الواحد المتكرر بين أفراده إنما يضر بالظهور إذا كان التفكيك في المراد الاستعمالي ، بان يستعمل اللفظ في كل فقرة في غير ما استعمل فيه في فقرة أخرى فانه خلاف الظاهر عرفا.

أما التفكيك في المراد الجدي مع وحدة المستعمل فيه فلا يضر بوحدة السياق وليس هو أمرا خلاف الظاهر.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأن الموصول في كل فقرة مستعمل في معناه العام وهو الشيء ، ولكن المراد الواقعي منه بقرينة الصلة في بعض فقراته هو الموضوع ، فلا ينافي ان يراد به جدا الأعم من الموضوع والحكم في فقرة : « ما لا يعلمون » لعدم اختلال السياق باختلاف المراد الجدي ، وليس المدعى كون المستعمل فيه الموصول فيما اضطروا إليه هو الفعل ، والمستعمل فيه فيما لا يعلمون هو الأعم ، كي يكون ذلك مخالفا للظهور العرفي ووحدة السياق.

وهذا الجواب لا يخلو عن نظر ، بل منع لوجهين :

٣٩١

أحدهما : عدم وضوح ما ادعي من اختصاص وحدة السياق والظهور السياقي في وحدة المستعمل فيه فقط دون المراد الجدي ، فانها دعوى بلا شاهد ، فلا بد من الجزم بأحد الطرفين نفيا أو إثباتا من تتبع موارد الاستعمالات العرفية وملاحظة ما تقتضيه. وعلى كل فنحن نقف الآن موقف المشكك من هذه الدعوى.

ثانيهما : ان التفكيك اللازم فيما نحن فيه هو التفكيك في المراد الاستعمالي لا الجدي فقط ، وذلك لأن القرينة المقتضية لاختصاص الموصول في الفقرات الأخرى بخصوص الموضوع ليست قرينة منفصلة حتى لا تكون مخلة بظهور الموصول استعمالا في العموم وإنما هي قرينة متصلة وهي صلة الموصول من الاضطرار والإكراه وعدم الإطاقة ، فانها بنفسها تضيق دائرة الموصول في المراد الاستعمالي منه وتحدد المراد منه بما يقبل الاضطرار والإكراه ، وهو خصوص الموضوع ، نظير العادل في قول الآمر : « أكرم العالم العادل » ، فانه يضيق المراد الاستعمالي من العالم ، فلا يمكن ان يراد به مطلق العالم ، بل خصوص ما يصلح لطروّ العدالة عليه ، وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي من الموصول في سائر الفقرات هو خصوص الشيء الّذي يقبل الاضطرار وغيره المساوق للفعل ، فيكون الالتزام بكون المراد منه فيما لا يعلمون مطلق الشيء أعم مما يقبل الاضطرار وما لا يقبله كالحكم منافيا للظهور السياقي. فلاحظ.

الوجه الثاني : ما جاء في تقريرات المحقق العراقي من إنكار وحدة السياق ...

أولا : لأن من الفقرات في الحديث الطيرة والحسد والوسوسة ، ولا يكون المراد منها الفعل ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبه؟ ، ومن ان الحمل على الموضوع فيما لا يعلمون يقتضي خلاف الظاهر السياقي من جهة أخرى.

٣٩٢

ثانيا : لأن الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون هو ما كان بنفسه معروض الوصف ـ أعني عدم العلم ـ كما في سائر الفقرات ، فان المراد بالموصول فيها ما كان معروضا للوصف المأخوذ في الصلة من الاضطرار والإكراه وغيرهما.

فإذا أريد من الموصول فيما لا يعلمون الموضوع يلزم منه مخالفة هذا الظهور ، لأن الموضوع لا يكون بنفسه معروض لعدم العلم ، وإنما يكون المعروض له عنوانه. فيدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول على إرادة الحكم المشتبه ، وبين حفظه من الجهة الأخرى بحمله على إرادة الموضوع ، والعرف يعين الأول فيتعين الحمل فيما لا يعلمون على إرادة الحكم (١).

ومع التردد يكون الكلام مجملا لا يتعين فيه أحد الاحتمالين.

ولكن هذا الوجه كسابقه محل منع ، وذلك ..

أما دعوى اختلال السياق بذكر الطيرة والحسد والوسوسة ، لعدم إرادة الفعل منها. فلأنه لا يلزم في وحدة السياق ان يكون المراد بجميع فقرات الكلام الطويل شيئا واحدا حتى تحمل عليه الفقرة المشكوكة ، بل يكفي فيه تكرر اللفظ الواحد بلا فصل ، ولو كان صدر وذيل الكلام أمرا بعيدا عن المراد باللفظ المتكرر. وليس في هذه الألفاظ لفظ الموصول كي يقال ان اللفظ الواحد المتكرر أريد منه في مورد شيء وفي آخر معنى آخر فيختل السياق. كما أنها لم تقع فاصلة بين : « ما لا يعلمون » وسائر الفقرات ، حتى لا يكون هناك ظهور في وحدة المراد من الموصول ، بل جاءت هذه الألفاظ في آخر الكلام ، فلا تكون موجبة للاختلال بالظهور السياقي للموصول في الفقرات المتعددة.

وأما دعوى معارضة وحدة السياق من جهة الموصول بوحدة السياق من

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢١٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٩٣

جهة الوصف العارض وترجيح الثاني على الأول فلأن المراد من الموصول بقرينة تعلق الرفع التشريعي به ليس ذات الفعل ، بل الفعل المأخوذ موضوعا للحكم ، لأنه هو القابل للرفع ، فلا معنى لرفع ما لم يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي ، كما هو. فليس المراد منه المائع الّذي اضطر إلى شربه ، بل بما هو خمر ، لأن وصف الخمرية دخيل في الموضوع. فالمراد بالموصول ما هو الموضوع بالحمل الشائع وذات ما يكون معروضا للحكم. ومن الواضح ان حمل الموصول فيما لا يعلمون على إرادة الفعل لا يستلزم عدم تعلق عدم العلم بنفسه ، بعد هذا البيان ، لأن المجهول ما هو موضوع الحكم ، وهو المراد من الموصول ، فعدم العلم تعلق بنفس المراد منه ، فشرب الخمر ـ في مورد المائع المردد ـ مجهول. نعم بلحاظ ذات المائع يقال ان الفعل بنفسه غير مجهول ، بل بعنوانه وهو كونه خمرا ، ولكن عرفت أنه ليس بمراد من الموصول إلا مقيّدا بعنوانه الدخيل في الموضوع ، فمع الجهل بالعنوان يصدق الجهل بما هو موضوع بنفسه. فتنحفظ وحدة السياق من هذه الجهة مع فرض إرادة الموضوع من الموصول.

وهذا البيان مستفاد من بعض كلمات المحقق الأصفهاني ، لا في مقام الرد على الدعوى المتقدمة ، بل في مقام آخر فيما نحن فيه (١).

وقد تصدى المحقق الكاظمي ـ في تقريراته لبحث أستاذه المحقق النائيني ـ إلى دفع الإشكال على التعميم ، بعد ان قرّبه بنظير ما تقدم منّا. ولكنه لم يأت بما يغني ، بل الّذي قرّره وقرّبه هو تعلق الرفع في جميع الفقرات بالحكم ، لأنه هو القابل للرفع والوضع ، فيراد من الموصول فيما لا يعلمون مطلق الحكم على اختلاف أسباب الجهل به ، وذكر : ان إضافة الرفع في غير ما لا يعلمون إلى الأفعال الخارجية إنما هو لأجل ان الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنما يعرض

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٨١ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٤

الأفعال لا الأحكام وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي (١).

وأنت خبير ، بان ما أفاده لا يحلّ الإشكال ، إذ هو بمقتضى بيانه التزم بان اسناد الرفع إلى الأفعال مجازي ، لأن المرفوع في الحقيقة هو الحكم. فإرادة خصوص الحكم من ما لا يعلمون يستلزم اختلال السياق في الموصول ، كما يستلزم تعدد النسبة واختلافها بين الفقرات.

وعجيب منه إغفاله لدعوى ان الرفع متعلق بالموضوع حقيقة بلحاظ عالم التشريع ، مع أنه قرّب ذلك وصحّح اسناد الرفع الحقيقي إلى الموضوع.

ويتلخص مما مرّ : أن إشكال وحدة السياق مما لم نعرف له جوابا وجيها.

وعليه ، فلا مناص من الالتزام بكون المراد بالموصول فيما لا يعلمون هو الموضوع لا الأعم منه ومن الحكم.

هذا ، ولكن قد ادعي : ان أخذ الموصول بمعنى الفعل لا الأعم منه ومن الحكم لا يستلزم اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية ، بل يمكن الالتزام بعمومه للشبهة الحكمية ، ولو كان المراد من الموصول هو الفعل. وتقريب ذلك بوجوه ثلاثة :

الأول : ان يراد من الموصول الفعل ، لكنه لا بذاته ، بل بما هو واجب وحرام مع التعميم من حيث أسباب الجهل ، فكل ما لا يعلمون أنه واجب أو حرام لعدم النص أو لاشتباه الأمور الخارجية فهو مرفوع.

وأورد عليه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله إيرادين :

أحدهما : ان الالتزام بذلك يوجب اختلال السياق في الحديث ، لأن ظاهر الفقرات الأخرى كون المراد من الموصول هو الفعل بعنوانه لا بما هو واجب أو حرام ، وذلك لأن الوصف المذكور في الصلة من الإكراه والاضطرار ونحوهما

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٤٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٩٥

لا يعرض على الفعل بما هو حرام أو واجب ، بل بما هو هو. فالإكراه على شرب الخمر بما هو لا عليه بما أنه حرام.

والآخر : أن المشتق لا وجود له بالذات ، وانما الموجود بالذات هو ذات الموضوع ومبدأ المحمول ، فعنوان الحرام لا وجود له بالذات ، بل الموجود بالذات هو الحرمة والخمر مثلا. وإذا لم يكن العنوان الاشتقاقي موجودا بالذات ، بل كان موجودا بالعرض لم يتعلق الجهل به بالذات أيضا ، بل المجهول بالذات إما ذات الموضوع كالخمر أو مبدأ المحمول كالحرمة. واما الفعل الحرام ، فالجهل به ليس امرا وراء أحد النحوين من الجهل بالذات. وإذا كان العنوان مجهولا بالعرض امتنع أن يراد من الموصول الفعل بما أنه حرام ، إذ الظاهر أن المراد مما لا يعلمون ما لا يعلمونه حقيقة لا ما لا يعلمونه عرضا (١).

أقول : الإيراد الأول لا إشكال فيه.

وأما الإيراد الثاني ، فهو ممنوع ، فان كون العنوان الاشتقاقي مما لا يوجد إلاّ بالعرض ولا يوجد بالذات ولا يكون من المقولات لا ينافي تعلق الجهل به بالذات وحقيقة ، بل الجهل حقيقة يتعلق به بما له من الوجود ولو بواسطة الجهل بما هو الموجود بالذات ، فان الأمور الانتزاعية قابلة لتعلق الجهل والعلم بها حقيقة ، كيف؟ وهي تقبل النفي والإثبات حقيقة ، بل قد يحاول إقامة البرهان على ثبوتها أو نفيها كإثبات إمكان العالم ، فان الإمكان من الأمور الانتزاعية مع انه يتعلق للنفي والإثبات ويبرهن عليه في محله.

وإذا أمكن تعلق النفي والإثبات وتواردهما على الأمر الانتزاعي أمكن تعلق العلم والجهل به كما لا يخفى.

وبالجملة : المطلب واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٨٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٦

الثاني : أن يراد من الموصول الفعل ، ويراد من الجهل به الأعم من الجهل به بنفسه أو بوصفه ، وهو الحكم.

وأورد عليه المحقق الأصفهاني : بأن وصف الشيء بالجهل بلحاظ الجهل بوصفه من وصف الشيء بحال المتعلق ، وهو خلاف الظاهر ، فان الظاهر من قوله : « ما لا يعلمون » انه لا يعلمونه بنفسه من الوصف بحال الشيء ، لا أنه لا يعلمونه بحكمه من الوصف بحال المتعلق.

ثم إنه استشكل على نفسه : بان العلم التصديقي والجهل التصديقي لا يتعلقان بالمفردات ، بل انما يتعلقان بالمركبات وثبوت شيء لشيء ، فالفعل بنفسه لا يتعلق به الجهل التصديقي ، وانما يتعلق الجهل بثبوت الوصف له ، والجهل به تصديقا يرجع إلى ذلك.

وعليه ، فلا فرق بين الجهل بثبوت الخمرية للمائع والجهل بثبوت الحرمة لشرب التتن من هذه الجهة ، وإنما الفرق بينهما ان عنوان الخمرية ذاتي وعنوان الحرمة عرضي وهو ليس بفارق فيما نحن فيه.

وأجاب عنه : بان المراد بالفعل ليس ذات الفعل ، بل هو الفعل المأخوذ في موضوع الحكم بقرينة تعلق الرفع التشريعي به.

وعليه ، فلا يراد بالموصول هو شرب المائع بما هو شرب مائع ، لأنه كذلك ليس مأخوذا في موضوع الحكم ، واما الّذي يراد به هو شرب الخمر بما هو كذلك لأنه مأخوذ كذلك في موضوع الحكم.

ومثل ذلك يتصور تعلق الجهل به بنفسه ، لأنه يكون مجهول الوجود ، ولا يخرج الجهل بذلك عن الجهل التصديقي ، فيقال : « شرب الخمر مجهول الوجود فيرفع تشريعا ». إذن فلا ملزم لحمل الجهل هاهنا على الجهل بعنوانه كي يعم المراد إلى العنوان الذاتي والعرضي المجهول. فتدبر (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٨٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٧

الثالث : ما أفاده قدس‌سره وهو يبتني على مقدمتين ذكرهما :

إحداهما : ان الموضوع للحكم الشرعي ليس هو الوجود الخارجي ، إذ متعلق الحكم وموضوعه هو ما يتقوم به الحكم في أفق الاعتبار ، وهو الموضوع الكلي ، لامتناع كون الشيء الخارجي متعلقا للحكم ، كما بيّن في محله.

وثانيتهما : ان للموضوع والمتعلق وجودا بوجود الحكم ، فان الحكم والبعث حيث انه من الصفات التعلقية التي لا توجد إلا متعلقة بمتعلقها ، كان المتعلق والموضوع موجودا بعين. وجود الحكم يصطلح عليه بالوجود الشوقي ، وهو وجود للماهية غير وجودها الخارجي والذهني.

وذكر : بان نسبة الوجود إلى متعلق الحكم في أفق الاعتبار نسبة حقيقية عرفا ، وإن كانت بالدقة مجازية كنسبة الوجود إلى الماهية ، فانها عرفا حقيقية لكنها بالدقة مجازية ، إذ الموجود في الخارج هو الوجود لا الماهية.

إذا عرفت ذلك ، فقد ذهب قدس‌سره إلى : أخذ الفعل بمعنى الموضوع الكلي ويسند الرفع إليه حقيقة ، لأن رفع الموضوع تشريعا مساوق لرفع الحكم ، كما ان وضعه بعين وضع الحكم ، فتنحفظ وحدة السياق.

ويراد من الحديث رفع الموضوع الكلي المجهول نفسا ، كشرب التتن المجهول كونه موضوعا ، والمجهول تطبيقا كشرب الخمر المجهول كونه موضوعا تطبيقا ومن جهة انطباق الموضوع الكلي عليه (١).

ولكن ما أفاده لا يمكن الموافقة عليه بأكثر جهاته ..

أما ما أفاده قدس‌سره من ان متعلق الحكم ليس هو الوجود الخارجي ، فهو مما لا إشكال فيه كما تقدم في مبحث متعلق الأحكام. لكن تقدم هناك لا يمكن أيضا الالتزام بان متعلق الحكم هو الماهية ، لأنها بما هي غير قابلة لتعلق

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٨١ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٨

الطلب فاقدة للغرض الداعي للطلب. فما التزم به هاهنا من ان متعلق الطلب هو الموضوع الكلي الّذي يوجد بالطلب غير صحيح ، بل الّذي حقق هو الالتزام بكون متعلق الطلب هو الوجود التقديري للماهية ـ بحسب اصطلاح الفلاسفة ـ ، أو الوجود الفرضي أو الزعمي ـ بحسب اصطلاح بعض الأصوليين ـ.

هذا ، مع انه من الواضح جدا والّذي يلتزم به كل أحد هو ان الحكم لا يصير فعليا إلا إذا وجد موضوعه في الخارج ، وكثيرا ما يعبر قدس‌سره بان فعلية الحكم بفعلية موضوعه. فما لم تتحقق الاستطاعة خارجا لا يصير وجوب الحج فعليا.

نعم هو قبل وجود موضوعه موجود إنشاء. كما حققناه سابقا في بيان مرتبتي الإنشاء والفعلية ـ.

وإذا ارتبطت فعلية الحكم بوجود موضوعه الخارجي ، فلا معنى حينئذ لأخذ العنوان الكلي هو موضوع الحكم ، كي يرجع الشك في الشبهة الموضوعية إلى الشك فيه تطبيقا. إذن فيكون الشك في الشبهة الموضوعية شكا في وجود الموضوع الجزئي للحكم الفعلي الجزئي ، لا شكا في الموضوع الكلي ، إذ ليس العنوان الكلي مدارا لثبوت الحكم خارجا ، بل المدار على وجود الموضوع خارجا ، فلا يتم ما أراده من جعل المراد هو الموضوع الكلي المجهول اما نفسا أو تطبيقا ، كي يكون الحديث عاما للشبهة الحكمية والموضوعية.

وأما المقدمة الثانية ، فان كان مراده من سردها هو بيان ان الجهل بالحكم عين الجهل بالموضوع لا غيره لوحدة وجودها ، فيرجع الشك في الحكم الكلي إلى الشك في الموضوع حقيقة ، فلا يكون الجهل بالموضوع بلحاظ حكمه من الوصف بحال المتعلق. ففيه : انه خلاف الفهم العرفي ، إذ لو تم ما أفاده في المقدمة ، فالمغايرة عرفا بين الموضوع وحكمه ثابتة ، ولا يرى العرف ان الجهل بالحكم عين الجهل بالموضوع ، ولا يصحح اسناد الجهل إلى الموضوع بعين

٣٩٩

اسناده إلى الحكم.

وأما ما أفاده من أخذ الفعل بمعنى الموضوع الكلي بما هو موضوع ، ويراد من الجهل به الجهل به نفسا ، بمعنى الجهل بموضوعيته أو الجهل به تطبيقا. فيرده : ان موضوعية الموضوع تساوق ثبوت الحكم له ، فأخذ الجهل بالفعل بما هو موضوع يرجع إلى أخذ الجهل به بما هو واجب أو حرام ، وهذا هو الوجه الأول الّذي نفاه قدس‌سره بأنه مخالف لوحدة السياق.

وبالجملة : الاضطرار وغيره لا يتعلق بالفعل بما هو موضوع ، فلأجل المحافظة على وحدة السياق لا بد من أخذ الجهل بالفعل بذاته لا بما هو موضوع. فتدبر.

ويتحصل من مجموع ما تقدم : انه لم يتم ما قيل في وجه تعميم الموصول للحكم والموضوع ، كما لم يتم ما قيل في وجه تعميم الحديث للشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية.

والتحقيق أن يقال : ان المراد بالموصول هو الحكم أعم من الحكم الكلي أو الجزئي. وبتعبير آخر : مع تعميم الجهل به من حيث كونه ناشئا من اشتباه الأمور الخارجية أو ناشئا من إجمال الدليل أو عدمه أو تعارض الدليلين ، فيعم الشبهة الحكمية والموضوعية ، كما التزم بذلك صاحب الكفاية (١) وقرّبه المحقق العراقي (٢).

ولا محذور في ذلك سوى ما يتوهم من : ان الالتزام به يتنافى مع وحدة السياق ، لأن المراد بالموصول في الفقرات الأخرى هو الموضوع ، فإرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون يتنافى مع وحدة السياق ، فان ظاهر سياق الحديث

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٤٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢١٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٠٠