منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

وعليه ، فما هو ظاهر في الوجوب في نفسه بملاحظة ما هو نصّ في الإباحة لا يكون ظاهرا في الوجوب ، فلا يقين بحكم إلزاميّ في ضمن ما يدل عليه بظاهره بنفسه بعد ملاحظة وجود ما يصرف الظهور عرفا ، وكما ان الصارف للظهور ليس بحجة ، كذلك ما يدل على الحكم الإلزامي.

وبالجملة : الكلام في هذا المقام كالكلام بالنسبة إلى المطلق والمقيد.

يبقى الكلام في أمر أشير إليه سالفا ، وهو : أنه بناء على العمل بالأخبار من باب الاحتياط لا يمكن الأخذ بها في قبال ظهورات الكتاب من إطلاق أو عموم أو غير ذلك. والّذي نقوله في حل هذه المشكلة ، هو : أنا نعلم إجمالا بتقييد وتخصيص بعض مطلقات وعمومات الكتاب المجيد. وذلك مما يسقطها جميعها عن الحجية ، لعدم تمييز المقيد منها عن غيره ، فالعلم الإجمالي مانع من إجراء أصالة الظهور فيها.

ولو تنزل عن هذه الدعوى ، فلا يكون ما ذكر مشكلة مهمة ، إذ ليست ظهورات الكتاب المصادمة للاخبار بتلك الكثرة بنحو يكون العمل بها موجبا لتأسيس فقه جديد. فتدبر واعرف (١).

__________________

(١) ثم ان سيدنا الأستاذ دام ظله تعرض إلى البحث عن نتيجة دليل الانسداد من حيث تعلق الظن بالواقع وبالطريق ومن حيث الإهمال والتعيين الّذي يتفرع الكلام من الكشف والحكومة. تعرض إلى ذلك بمقدار سطح الكفاية تقريبا ، ولأجل وضوحه أهملنا كتابته ، كما انه اكتفي بهذا المقدار ولم يسهب في تحقيق تنبيهات دليل الانسداد ، لأنه بحث بلا ثمرة عملية بعد ان كان باطلا في نظره ونظر غيره في هذه الآونة. والله سبحانه الموفق. انتهى البحث عن ذلك يوم الأربعاء ١٤ ـ شوال ١٣٨٩ ه‍ ـ.

٣٦١
٣٦٢

مباحث

الأصول العملية

٣٦٣
٣٦٤

مباحث الأصول العملية

« تمهيد »

ذكر الشيخ في مدخل بحثه في الأصول العملية بحثا مفصلا ، نقتطف منه أمرين :

أحدهما : ما أفاده من ان الحكم الظاهري هو الحكم الثابت في فرض الشك بالواقع. فقد استشكل فيه : بأنه يشمل الأحكام الواقعية للشكوك ولا يلتزم به ، إذ لا يلتزم أحد أن قول المولى : « يجب عليك التصدق إذا شككت في وجوب الصلاة » يقتضي ان يكون وجوب التصدق حكما ظاهريا لتفرعه عن الشك في الواقع (١).

فلا بد ان يقيد ما ذكره بأنه الحكم الثابت في فرض الشك بالواقع بعنوان تعيين الوظيفة بالنسبة إلى الواقع المشكوك. فلاحظ.

والآخر : ما أفاده من ان الحكم الظاهري الثابت بالأصل في طول الحكم الثابت بالدليل العلمي أو الظني ، لأن موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الواقع ، فهو متأخر طبعا عن الواقع (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٥

وقد نسب المحقق النائيني قدس‌سره إلى الشيخ : أنه يرى ان التنافي بين حكم الأصل وحكم الأمارة كالتنافي بين الحكم الظاهري والواقعي وان الجمع بينهما بتعدد المرتبة. واستشكل في ذلك : بأنه لا تنافي بينهما بالمرة ، لأن المجعول في الأمارة هو الطريقية فلا حكم في موردها كي يتخيل المنافاة (١).

أقول : الظاهر ان منشأ نسبة المحقق النائيني إلى الشيخ ما تقدم ، هو تعبير الشيخ بالطولية والتأخر الطبعي.

ولكنه لا يلازم ما نسبه إليه ، بل يمكن ان يكون نظر الشيخ إلى بيان عدم المنافاة بين الدليلين ـ دليل الأمارة ودليل الأصل لتوهم المعارضة بدوا كما لو كانت الأمارة ملزمة والأصل ينفي التكليف ـ لعدم اجتماع حكميهما في آن واحد ، فان حكم الأصل إنما يثبت مع الشك وعدم الحجة فمع ارتفاع الشك بالأمارة لا حكم للأصل.

وهذا لا بد ان يذكر ولو فرض ان دليل الأمارة إنما يجعل الطريقية ، إذ جعل الطريقية لا يجتمع مع إطلاق العنان بالنسبة إلى الواقع ـ كما هو مفاد أصل البراءة ـ.

وبالجملة : نظر الشيخ في ذكر الطولية إلى بيان عدم تحقق التنافي بين الدليلين ـ بما هما دليلان ـ ، لعدم اجتماع مفاديهما في آن واحد ، لا إلى ان التنافي بينهما من باب التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي ، بل تنافيهما المتوهم من قبيل التنافي بين الحكمين الظاهريين أو الواقعيين. فلاحظ.

وبعد ذلك يحسن بنا أن نشير إلى الوجه في إدراج مسائل الأصول العملية في علم الأصول.

وقد تقدم البحث ـ مفصلا ـ عن ذلك في صدر المباحث الأصولية عند

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٣٢٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٦٦

البحث في ضابط المسألة الأصولية.

وقد عرفت هناك ان صاحب الكفاية حاول إدراجها في المسائل الأصولية بزيادة قيد : « أو التي ينتهى إليها في مقام العمل عند اليأس عن الظفر بالدليل » (١).

ولكن عرفت فيما تقدم تحديد ضابط المسألة الأصولية بنحو لا يعطي مجالا لدخول بعض المسائل الفقهية فيها ، كما هو الحال بناء على بعض التعريفات. وهو أن المسألة الأصولية هي التي تتكفل رفع التحير والتردد في مقام الوظيفة العملية بالنسبة إلى الحكم الشرعي وبذلك تدخل مسائل الأصول العملية بلا توقف.

وعرفت أن مقتضى التعريف الّذي ذكرناه هو اندراج مسائل الأصول في الشبهات الموضوعية في علم الأصول ولا ملزم لإخراجها عنه ، وانما خص المسائل الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية ـ من خصها ـ لعدم انطباق تعريفه عليها. وعليه فتدخل مثل قاعدة الفراغ والتجاوز في علم الأصول.

ولعله إلى ما ذكرناه يرجع تعريف الأصفهاني للمسألة الأصولية بأنها ما كانت في مقام تحصيل الحجة على الحكم الشرعي (٢). فلا وجه لالتزامه بان مسألة البراءة بناء على كون المجعول فيها الإباحة الظاهرية أو أن مرجعها إلى رفع الحكم ، لا تكون من مسائل الأصول ، بل يكون البحث فيها استطراديا ، لأنه على كلا التقديرين توجب معذورية المكلف عن الواقع ، وهي من آثار الحجة ، إذ الحجة يترتب عليها المنجزية والمعذرية.

وإذا أردت المزيد من الحديث فراجع مبحث ضابط المسألة الأصولية (٣).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) راجع ١ ـ ٢١ من هذا الكتاب.

٣٦٧
٣٦٨

مبحث

البراءة

٣٦٩
٣٧٠

فصل :

في الشك في التكليف

وقبل الخوض في أصل المبحث نشير إلى أمر ، وهو أن الشيخ رحمه‌الله تعرض إلى أصل البراءة في ضمن مباحث ومسائل متعددة بلغت الاثني عشرة مسألة (١). وخالفه صاحب الكفاية فعنون المبحث بعنوان واحد وجعل المسألة واحدة (٢).

والسبب في ذلك : ان تعدد المسائل بنظر صاحب الكفاية ـ كما صرح بذلك في مبحث اجتماع الأمر والنهي (٣) ـ بتعدد جهة البحث ، فمع وحدة الجهة تتحد المسألة ولو مع تعدد الموضوع أو المحمول ، وبما أن جهة البحث هاهنا واحدة لا تختلف فيها الموضوعات المتعددة ، إذ دليل البراءة والاحتياط على تقديره واحد يعم جميع ما فرض من الموضوعات المتنوعة ، ولا خصوصية لبعض تلك الموضوعات عن الأخرى في جهة البحث.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧١

ومنشأ تفصيل الشيخ وتعداده المسائل يمكن ان يكون لأجل اختلاف الموارد في بعض الخصوصيات ، ولذا ذهب الأخباريون إلى البراءة في الشبهة الوجوبية وإلى الاحتياط في الشبهة الحكمية بدعوى وجود الفرق بينهما ، فلا بد من إفراز المباحث والبحث عن كل مسألة على حدة ، لاختلاف جهة البحث.

وهذا هو الأوجه ، لكنا نسلك ما سلكه صاحب الكفاية من المنهج ، لأن طريقتنا في المباحث كطريقته.

فيقع الكلام في ما إذا شك في التكليف وجوبا كان أو حرمة ولم يكن في البين دليل يعين أحد الطرفين.

أدلة البراءة

وقد قيل : بأن الأصل مع هذا الشك هو البراءة وهو مختار الأصوليين في قبال الأخباريين ـ ، واستدل على ذلك بالأدلة الأربعة :

أما الكتاب : فبآيات متعددة :

منها قوله تعالى ـ في سورة الإسراء ـ : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١). وتقريب دلالتها على المدعي : ان التعبير ببعث الرسول ليس لأجل خصوصية فيه ، بل هو كناية عن قيام الحجة ، نظير قول القائل : « لا أصلي حتى يؤذن المؤذن » يقصد به الكناية عن دخول الوقت ، فتكون ظاهرة في نفي العذاب قبل قيام الحجة.

وأورد على الاستدلال بها بوجوه عديدة :

الأول : انها تختص بالعذاب الدنيوي ، فلا ظهور لها في ما نحن فيه من نفي عذاب الآخرة.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ١٥.

٣٧٢

الثاني : انها تتكفل الحكاية عن عذاب الأمم السابقة ، وانه لم يكن يحصل الانقياد لقول الرسول ، فلا ربط لها بما نحن فيه. والوجه فيه هو ما يظهر من لفظ : « كنّا » في كونه حكاية عن الفعل في الزمان الماضي.

الثالث : ان غاية ما تتكفله هو نفي العذاب الفعلي ، وهو لا يلازم عدم الاستحقاق لإمكان ان يكون منشؤه ـ مع تحقق الاستحقاق ـ هو المنّة على العباد واللطف بهم ، ومركز البحث بين الأخباريين والأصوليين هو الاستحقاق وعدمه لا ثبوت العذاب وعدمه. وهذا الإيراد لصاحب الكفاية رحمه‌الله (١).

والّذي نراه : ان الآية الشريفة وافية بالمدعى ، وانه لا وقع لجميع هذه الإيرادات.

وذلك لأن ما قبل الآية هو قوله تعالى : ( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا ... ).

ومن الواضح ان ظاهر هذه الفقرات المتعددة أنها لبيان ان الطريقة المشروعة في مقام العذاب والثواب وان العذاب لا يكون إلاّ على طبق الموازين العقلائية ، ولذا لا تزر وازرة وزر أخرى ، والهداية للنفس والضلالة عليها ، فتكون ظاهرة في نفي العقاب عند عدم الحجة لأنه على خلاف الموازين وان تقيّده بقيام الحجة مما تقتضيه الموازين فنفي العذاب ، وإن كان في حد نفسه أعم من نفى الاستحقاق ، لكنه في المقام ظاهر في ان منشأه هو عدم الاستحقاق.

وبتوضيح آخر نقول : ان قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) لا ظهور له في إرادة الزمان الماضي عن وقت التكلم ، بل هو ظاهر في

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٣

إرادة الماضي منه بالنسبة إلى زمان بعثة الرسول وقيام الحجة ، فلا عذاب قبلها ، فتكون الآية ظاهرة في بيان ما هو شأن الله تعالى وسنته في باب العذاب ، وأنه ليس من شأنه العذاب قبل قيام الحجة (١).

ولو استشكل في ظهور الآية في ذلك في حد نفسها ، فالقرينة على هذا الظهور ما يظهر من صدر الآية الكريمة الّذي نقلناه من بيان الطريقة العادلة لثبوت العقاب على الإنسان ، وعدم تخطي الموازين العقلائية في ذلك ، وانهما في مقام ما يقتضي العدل. هذا مع ان العذاب الدنيوي لا يرتبط بقيام الحجة ، إذ هو يعم الصالح والطالح والكبير والصغير والرضيع. فتكون الآية لبيان عدم استحقاق العبد للعقاب قبل قيام الحجة ، وانه ليس من شأن الله سبحانه ان يعذب قبل قيام الحجة.

وعليه ، فلا اختصاص لها بالعذاب الدنيوي ، ولا نظر لها إلى خصوص الأمم السابقة ، كما انها تتكفل نفي الاستحقاق لا نفي الفعلية فقط.

ولو كابرت في القول ولم تقتنع بما ذكرناه وقلت : ان « كنا » ظاهر في الزمان الماضي عن وقت التكلم ، فتتكفل الآية بيان حال الأمم السابقة بالنسبة إلى العذاب الدنيوي خاصة.

فلا يضر الاستدلال بها ، وذلك لأن الآية الشريفة على هذا تتكفل بيان ان العذاب الدنيوي منوط بقيام الحجة.

وهذا مما لا يمكن الالتزام به على إطلاقه ، لأن العذاب الدنيوي قد يشمل من هو مكتمل الإيمان ، ولذا نجد المؤمنين كثيري المحن والمصائب ، كما قد يشمل من لا يتصور في حقه قيام الحجة كالأطفال والرضع والمجانين. إذن فتعليق

__________________

(١) هذا الاستظهار للمحقق العراقي ( قده ) وان كان في ذهن السيد الأستاذ قبل مراجعة مطلب العراقي.

كما ذكر ذلك حفظه الله تعالى ( منه عفي عنه ).

٣٧٤

العذاب على قيام الحجة لا بد أن يخصص بالعذاب الوارد على المعذّب بعنوان الجزاء والعقاب ، فانه الّذي يصح ان يناط بقيام الحجة ، وإلا فغيره من أنواع العذاب لا تناط بقيام الحجة ، بل تحصل لمصالح نوعية أو شخصية.

وإذا حملت الآية ـ تصحيحا لمدلولها ـ على إناطة المجازاة بالعذاب الدنيوي على قيام الحجة ، دلّت على إناطة استحقاق العذاب الأخروي بقيام الحجة بالأولوية ـ كما قيل ـ ، لأنه إذا فرض ان استحقاق العقاب القليل نسبتا يتوقف على قيام الحجة ، فاستحقاق العقاب الكبير لا بد ان يتوقف على قيام الحجة بطريق أولى.

والمتحصل : ان الآية ظاهرة عرفا في نفي الاستحقاق بدون قيام الحجة ، وان عدم العذاب فيها لأجل عدم الاستحقاق.

ولو التزم بأنها ظاهرة في نفي فعلية العذاب فقط من دون ظهور في نفى الاستحقاق ، فهل تصلح للاستدلال أو لا؟.

قد يقال : بان الخصم يدعي الملازمة بين نفي فعلية العقاب ونفى استحقاقه ، فتكون الآية ردا على الخصم الّذي يدعي استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة. وناقشه صاحب الكفاية : بان الاستدلال بالآية يكون جدليا لا برهانيا يطلب فيه اليقين بالمطلب.

هذا مع وضوح منع الملازمة ، لأن الملازمة لو ثبتت بين نفي فعلية العقاب ونفي استحقاقه لكانت هناك ملازمة بين الاستحقاق والفعلية ـ لأنه لو ثبت الاستحقاق ولم يتحقق العقاب ، لكان ذلك خلف الملازمة بين عدم العقاب وعدم الاستحقاق ـ. ومن الواضح انه لا يدعي أحد ثبوت الملازمة بين استحقاق العقاب وفعليته ، إذ ليست الشبهة بأهم من نفس المحرّم المعلوم ، مع أن الوعيد بالعقاب عليه قد لا يلازم فعليته لتوبة أو شفاعة أو غير ذلك.

أقول : إن عمدة ما يستدل به الأخباريون على مدعاهم الروايات الآمرة

٣٧٥

بالوقوف عند الشبهة تورعا عن الاقتحام في الهلكة وتجنبا عن الوقوع فيها ، الّذي هو ظاهر في ثبوت احتمال الهلكة والعقاب في كل شبهة. وإذا بطل هذا الدليل فلا محيص عن القول بالبراءة.

وعليه ، فنقول : أن الآية إذا دلّت على نفي فعلية العقاب كانت منافية لمفاد روايات الوقوف عند الشبهة ، إذ لا يجتمع احتمال الهلكة مع عدم فعلية العقاب. ومقتضى ذلك اما تخصيص الروايات إن كانت الآية أخص مطلقا منها. أو طرحها إن كانت النسبة هي العموم من وجه لأنها روايات مخالفة للكتاب.

فالآية الشريفة كما هي صالحة لإلزام الخصم ، كذلك هي صالحة لردّ دعواه في نفسها ، لعدم الدليل عليها مع تسليم دلالة الآية.

ولعل نظر الشيخ رحمه‌الله في دعوى الملازمة بين نفي الفعلية ونفى الاستحقاق إلى دعوى الملازمة في خصوص ما نحن فيه بلحاظ مقام الإثبات ، وإنه ان قام الدليل على نفي الفعلية فقد دلّ على نفي الاستحقاق لعدم الدليل على الاستحقاق سوى ما هو ظاهر في فعلية العقاب المنفي بالآية الشريفة ، فلا يكون الاستدلال بالآية حينئذ جدليا ، كما لا يدعى الملازمة في مقام الثبوت كي يدفع بما جاء في الكفاية من نفي الملازمة. فتدبر (١).

هذا ولكن الآية إنما تصلح للاستدلال ورد الخصم بناء على ان يكون استدلال الخصم بروايات الوقوف عند الشبهة بالتقريب المتقدم.

أما بناء على ان يكون استدلالهم بدعوى ظهور النصوص في وجوب الاحتياط والتوقف ، وأن قوله : « فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (٢) ، لبيان وجوب الوقوف بالطريقة المألوفة في مقام بيان الواجبات بإثبات

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١.

٣٧٦

العقاب على تركها وبيان المحرمات بإثباته على الفعل فيكون الاستعمال كناية عن وجوب التوقف وحرمة الاقتحام ، لا لبيان احتمال الهلكة في الشبهة ويكون وجوب التوقف إرشاديا كما هو الحال على التقريب الأول.

بناء على هذا التقريب تكون اخبار الاحتياط واردة على الآية الشريفة ، لأنها تتكفل بيان الحكم الواقعي وإقامة الحجة عليه.

ولعله إلى ذلك أشار الشيخ فيما ذكره من أن هذه الآيات تكون مورودا لدليل الاحتياط لو تم ، وتكون نسبتها له نسبة الأصل إلى الدليل.

ومنها : قوله تعالى ـ في سورة الطلاق ـ : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (١). وتقريب الاستدلال بها : أنها تدل على عدم التكليف إلا بما آتاه الله من الأحكام ، فما لم يؤته لا تكليف به ، والتكليف المجهول مما لم يؤته الله.

وتحقيق الكلام في ذلك : ان في مدلول الآية الشريفة محتملات أربعة :

الأول : ان المراد بالموصول فيها خصوص المال ، فيكون المعنى ان الله لا يكلّف إلا إنفاق ما أعطاه من المال.

الثاني : ان يراد بالموصول مطلق الفعل أعم من إنفاق المال وغيره ، فيكون الإيتاء بمعنى الإقدار وإعطاء القدرة ، ويكون المعنى انه لا تكليف إلا بما أقدر الله العبد عليه ، وهي بذلك تشتمل المورد ، إذ الإنفاق مع التقتير في الرزق من مصاديق ما لم يقدر الله العبد عليه.

الثالث : ان يراد بالموصول خصوص الحكم الشرعي ، فيكون الإيتاء بمعنى الاعلام.

الرابع : ان يراد بالموصول أعم من الفعل والحكم ، فيكون المراد بالإيتاء الاعلام بالنسبة إلى الحكم والإقدار بالنسبة إلى الفعل ، فان إيتاء كل شيء

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآية : ٧.

٣٧٧

بحسبه.

ولا يخفى ان الآية على الأولين لا ترتبط بما نحن فيه كما لا يخفى ، إذ هي على الأول تنفي التكليف بإنفاق ما لم يعط من المال. وعلى الثاني تنفي التكليف بغير المقدور. وشيء منهما لا ينطبق على ما نحن فيه. نعم على الثالث والرابع تفيد نفي التكليف المجهول.

لكن الثالث لا يمكن الالتزام به ، لأنه يتنافى مع مورد الآية الكريمة ، لأن موردها الإنفاق بما يملك من المال.

وأما الرابع ، فقد استشكل الشيخ فيه : بان تعلق الفعل في الآية وهو : « يكلّف » بالحكم يختلف عن نحو تعلقه بالفعل ، فان تعلقه بالحكم والنسبة بينهما نسبة المفعول المطلق ، ونسبته إلى الفعل نسبة المفعول به ، ولا جامع بين النسبتين ، فإرادتهما معا يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممتنع (١).

ولكن المحقق العراقي قدس‌سره حاول تصحيح إرادة الجامع للفعل والحكم من الموصول بوجهين :

الأول : انه انما يرد هذا الإشكال إذا فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول ، وإلاّ فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلي العام وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوال أخر خارجية فلا محذور ، لأن تعلق الفعل بالموصول يكون بنحو واحد ، وتعدده بالتحليل إلى نحوين لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الّذي هو مفاد الموصول. وعليه فيمكن التمسك بإطلاق الآية على البراءة ، لإمكان إرادة الأعم من الموصول.

الثاني : المراد من التكليف في الآية الشريفة ليس هو المعنى الاصطلاحي وهو الحكم كي يلزم منه كون نسبة إلى الحكم نسبة المفعول المطلق ، إذ إرادته

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٨

من الآية تستلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها لتكفل الآية نفى التكليف واقعا في حق الجاهل ، وهو مما لا يمكن الالتزام به.

وإنما المراد بالتكليف هو المعنى اللغوي منه وهو المشقة والكلفة.

وعليه ، فيكون تعلقه بالموصول بمعناه الجامع بنسبة المفعول به أو المفعول منه وهو المفعول النشوي ، فيكون المعنى على الأول انه سبحانه لا يوقع عباده في كلفة حكم أو فعل إلا الحكم والفعل الّذي آتاه المكلف. وعلى الثاني انه لا يوقع عباده في كلفة الا من قبل حكم أو فعل آتاه إياهم فنسبة الفعل إلى الموصول نسبة واحدة مع التحفظ على إرادة المعنى العام منه واستفادة الخصوصيات من دال آخر خارجي.

وعليه ، تكون الآية بإطلاقها دالة على البراءة.

ولكنه بعد ان قرب دلالتها على البراءة ناقشها بمناقشات ثلاثة :

الأولى : ان القدر المتيقن بقرينة السياق هو المال ، وهو مانع من التمسك بإطلاق الموصول.

الثانية : ان مفاد الآية مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فهي تنفي الكلفة من قبل التكليف مع عدم وصوله ، فأدلة الاحتياط على تقدير تماميتها تكون واردة عليها ، لأنها تفيد إيجاب الاحتياط فيكون واصلا ، فيقع المكلف في الضيق من جهته.

وبعبارة أخرى : ان الاحتياط حجة على الواقع بمقتضى دليله ، فيرتفع به موضوع الآية الكريمة ، فلا يضر الاخباري الاستدلال بالآية.

الثالثة : ان الإيتاء بما انه منسوب إليه جل اسمه ، فهو عبارة عن إعلامه بالتكليف بالسبب العادي المتعارف ، وهو إعلامه بطريق الوحي إلى أنبيائه وأمرهم بتبليغ الحكم ، فما لم يعلمه يكون عبارة عما لم يبلغه لأنبيائه أو عما امر أنبياءه عدم تبليغه ، فيكون مفاد الآية الشريفة مفاد قوله عليه‌السلام : « ان الله

٣٧٩

سكت عن أشياء لم يسكت ... » (١) فلا ترتبط بما نحن فيه مما لم يصل إلى العباد من جهة خفائه بسبب ظلم الظالمين. فلاحظ (٢).

ولكن لنا في كثير مما أفاده توقف :

أما الوجه الأول : الّذي ذكره لتصحيح تعلق التكليف ـ الفعل ـ بالأعم من الحكم والفعل ، فيرد عليه : انه بعد ان كانت نسبة التكليف إلى الحكم في الواقع نسبة المفعول المطلق ، ونسبته إلى الفعل في الواقع نسبة المفعول به ، فخصوصية الحكم والفعل ان استفيدت من قرينة خارجية بحيث تتعدد النسب الكلامية بتعدد القرائن الحافّة بالكلام فلا محذور فيه ، إذ لا مانع من تعدد نسبة إلى الفعل الواحد إلى غيره كنسبته في كلام واحد إلى الفاعل والمفعول به ، فإذا فرض تعدد الدال على المفعول به والمفعول المطلق في الكلام كانت النسبة الكلامية متعددة لتعدد أطرافها ولا مانع منه. إلا انه على هذا لا معنى لما ذكره من الرجوع إلى إطلاق الموصول في استفادة العموم ، إذ مع وجود الدال على كل من الحكم والفعل أي حاجة تبقى للتمسك بالإطلاق.

وإن كان الدال الكلامي منحصرا في الموصول وأريد استفادة العموم من إطلاقه ، فمع فرض تعدد نسبة التكليف واقعا بلحاظ أفراد الموصول لا يمكن إرادة العموم من الموصول ، لأنه يستلزم الدلالة على النسبتين الواقعيتين بنسبة واحدة كلامية وهو ممتنع.

وأما الوجه الثاني : الّذي ذكره في تقريب إرادة العموم من الموصول ، فيرد عليه : أنه خلاف الظاهر من لفظ التكليف ، فانه يساوق الحكم ولا ظهور له في المعنى اللغوي.

__________________

(١) نهج البلاغة الحكم : ١٠٥.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٢٠٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٨٠