منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) وجه الاستدلال بها واضح لظهورها في نفي الحرج فيما يجعله الله تعالى.

وتحقيق الكلام في ذلك : إن صدر الآية الكريمة قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ ) ، وهي بحسب ظاهرها تتكفل بيان جهتين : إحداهما سلبية ، وهي نفي وجوب الوضوء والغسل عند عدم وجدان الماء. والأخرى ثبوتية ، وهي إثبات وجوب التيمم في هذا الحال. والفقرة المستدل بها على القاعدة ذكرت بمنزلة قاعدة كلية أريد تطبيقها فيما نحن فيه. فمن المحتمل ـ بدوا ومع قطع النّظر عن صدر الآية وذيلها ـ ..

ان تكون مرتبطة بالجهة السلبية ، فتدل على نفي الحرج بقول مطلق وهو المدعي.

وأن تكون مرتبطة بالجهة الثبوتية ، فلا تدل على المدعى ، بل الّذي تدل عليه حينئذ ان ما جعلته عليكم من وجوب التيمم أو وجوب الوضوء والغسل ووجوب التيمم عند عدم وجدان الماء لم يكن الغرض منه والداعي له هو الإيقاع في الحرج ، بل الداعي له غاية أخرى شريفة تستدعي الجعل ولو استلزم الحرج. ومن الواضح أنها على هذا الوجه لا تدل على القاعدة بالمرة ، لأنها ليست في مقام نفي الحكم الحرجي ، بل في مقام تبرير جعل الأحكام الحرجية وأنه لغاية شريفة تدعو إلى ذلك.

والّذي نراه أن الآية الكريمة ترتبط بالجهة الثبوتية دون السلبية ـ لو سلم ظهورها في حد نفسها في ارتباطها بالجهة السلبية ـ ، وذلك لوجوه :

٣٤١

الأول : ان وجوب الوضوء ، مرتفع قهرا ، لأن عدم وجدان الماء يسلب القدرة فلا يصح التكليف به ، فلا معنى لبيان ارتفاعه بعدم جعل الحرج ورفعه.

الثاني : ان الاستدراك الّذي يتضمنه قوله تعالى : ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) ظاهر فيما ندعيه ، إذ هو إثبات لما نفي بقوله : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) ، ومقتضى الظهور ان يكون النفي والإثبات واردين على موضوع واحد ومرتبطين بجهة واحدة. ومن الواضح انه لو كان المراد من الآية نفي وجوب الوضوء لأجل الحرج لم يكن معنى للاستدراك أصلا لأنه لا يرتبط بالنفي بالمرة ، بخلاف ما لو كان المراد ما ادعيناه فانه يكون الاستدراك لبيان الغاية الشريفة التي دعت إلى جعل هذه الأحكام المشتملة على الكلفة ، أو خصوص التيمم بلحاظ ان إمساس الوجه واليد بالتراب مما قد يكون شاقا من الجهة النفسيّة على الطبع. فيكون المراد ـ والله العالم ـ ، انه ليس الغرض من جعل هذه الأحكام هو إيقاعكم في الحرج ، بل الغرض تطهيركم من الحدث.

فيكون النفي والإثبات مرتبطين بجهة واحدة.

ومثل هذا الاستعمال شائع في العرف وكثير ، فانه كثيرا ما يقول القائل لآخر عند ما يطلب منه شيئا ذا مشقة ، إني لا أريد ان أتعبك وليس غرضي إيذاءك ولكن الجهة الكذائية دعتني إلى هذا التكليف والطلب. فحين يأمر الوالد ولده الصغير ان يذهب إلى المربي الّذي هو شاق على أكثر الأطفال ، يقول له انه ليس غرضي إيذاءك ولكن غرضي تأديبك وتعليمك ليحصل لك الرقي ، إلى غير ذلك من الدواعي الحسنة.

وبالجملة : هذا الاستدراك قرينة صريحة على ما نذهب إليه. فالتفت.

الثالث : إن قاعدة نفي العسر والحرج على تقدير استفادتها لا نظر لها إلى الحكم الوارد مورد الحرج كالجهاد ، كما لا نظر لها إلى الحكم المقيد بعدم الحرج ، فانها تتكفل نفي مثل هذين الحكمين ، إذ دليل الأول مخصص للقاعدة.

٣٤٢

والثاني مرتفع بعدم موضوعه ، فلا حاجة إلى دليل نفي الحرج ، وهذا نظير ما يقال من ان دليل رفع الخطأ لا يتكفل رفع الحكم المختص بحال الخطأ ـ ككفارة قتل الخطأ ـ ، ولا رفع الحكم المختص بحال العمد ـ ككفارة قتل العمد ، أو الإفطار العمدي ـ ، لارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه لا بدليل رفع الخطأ.

وإنما الّذي تتكفله هذه القواعد هو رفع الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية ـ بحسب أدلتها ـ ، بحيث لا خصوصية للعمد والخطأ ولا للحرج وعدمه في ثبوتها.

وعليه ، فنقول : ان الفقهاء حملوا عدم وجدان الماء المأخوذ في موضوع وجوب التيمم في الآية على الأعم من عدم الوجدان العقلي والعرفي الّذي يتحقق بما إذا كان استعمال الماء حرجيا. كما استظهروا من الآية الكريمة أخذ الوجدان في موضوع وجوب الوضوء ، ويراد به الوجدان العرفي ، يعني عدم العسر والمشقة في استعمال الماء ، فوجوب الوضوء مقيد بعدم تحقق الحرج به ، فبناء على هذا الاستظهار المشهور بين الفقهاء لا يكون مجال لتطبيق قاعدة نفي الحرج على نفي وجوب الوضوء ، لأن ارتفاع وجوب الوضوء عند تحقق الحرج بارتفاع موضوعه ، وهو عدم الحرج ، ولا يحتاج في بيان نفيه إلى تطبيق القاعدة ، نظير عدم شمول رفع الخطأ للحكم الثابت في مورد العمد وعدم الخطأ. فلاحظ.

الثانية : قوله تعالى في سورة البقرة في آية الصوم : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (١). وجهة الاستدلال بها واضحة.

والتحقيق : أن صدر الآية هو قوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ) ، وبعدها قوله تعالى :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٥.

٣٤٣

( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

ولا يخفى ان الصدر اشتمل على جهتين : سلبية ، وهي نفي وجوب الصوم عن المريض والمسافر. وإيجابية ، وهي إثبات وجوبه في عدة من أيام أخر.

وقوله : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) يحتمل ارتباطه بجهة السلب ، فتكون دالة على القاعدة المدعاة وان كل حكم يستلزم العسر مرفوع. كما يحتمل ارتباطه بجهة الإيجاب ، وانها في مقام بيان انه لم يجعل عليكم الصوم في عدة من أيام أخر لأجل العسر ، ولكن الغاية أخرى شريفة ، ولعل الّذي يشهد لذلك ـ لو لم ندع ظهورها فيه بملاحظة الصدر ، وانه سبحانه في مقام تبرير جعل الصوم في أيام أخر وعلى عدم رفعه بالكلية ـ قوله : ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) ، فانه ظاهر في تعليل جعله في الأيام الأخر ، كما ان قوله : ( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ) انما يتناسب مع جعل الحكم وتشريعه لا مع سلبه ورفعه كما لا يخفى.

هذا ، مع ان رفع الصوم عن المسافر لا ينحصر بموارد الحرج في الصوم ، بل صريح النصوص الكثيرة (١) وما عليه الفقهاء ومذهب الشيعة هو أن الصوم مرفوع عن المسافر مطلقا استلزم الحرج أم لم يستلزم ، بل الأمر كذلك في المرض الرافع للصوم ، فانه لا يعتبر ان يكون الصوم حرجيا ، بل يكفي احتمال الضرر ولو لم يلتفت إليه الإنسان إلا بعد حين ، بحيث لا تكون مباشرة الصوم حرجية.

وهذا يتنافى مع تطبيق الآية على الجهة السلبية والحكم السلبي ، إذ هو أعم من الحرج ، ولو سلم نظر الآية إلى جهة السلب ، فذلك يكون قرينة على ان المراد بالآية بيان حكمة الرفع وهو العسر النوعيّ لا علته ، فلا يستفاد منها قاعدة كلية تفيد نفي الحكم الحرجي.

ولو تنزلنا عن جميع ذلك وقلنا بان الآية ناظرة إلى نفي الحكم الحرجي ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ ـ باب : ١ من أبواب من يصح منه الصوم.

٣٤٤

فلا إطلاق في الآية بحيث يستفاد منها قاعدة كلية في جميع الموارد ، فتختص برفع الصوم عن المسافر والمريض ، وان الله سبحانه يريد اليسر في هذا المورد بالخصوص. فتدبر.

الثالثة : قوله تعالى في سورة الحج : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) (١). وما يستدل به منها قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ووجه الاستدلال به واضح لا يحتاج إلى بيان.

والتحقيق فيها : انه يحتمل ان يكون المراد منها ما قيل من نفي الحكم المستلزم للحرج ورفعه عن المكلفين.

ويحتمل ان يراد منها ما ذكرناه في سابقتيها من انها لبيان ان الغرض من الأحكام ليس جهة الحرج ، وإنما الغايات المهمة الشريفة المترتبة عليها.

ولو سلمت انها في حد نفسها ظاهرة في الأول ، فلا بد من رفع اليد عن ذلك ، لأنها واردة في الجهاد ، وهو من أظهر مصاديق الحرج ، سواء أريد به جهاد الكفار أو جهاد النّفس. وقد عرفت ان مثل هذا الحكم لا يرتفع بدليل نفى الحرج لو ثبتت قاعدته ، كما لا يرتفع وجوب سجدتي السهو برفع النسيان.

وعليه ، فلا يمكن ان يراد بالآية نفي الحكم الحرجي ، وإلا للزوم خروج موردها ، وهو مستهجن ، فتحمل على ما احتملناه من انها لبيان تبرير جعل هذه الأحكام المشتملة على الكلفة بخصوصياتها أو بمجموعها ، وانه ليس المقصود إيقاع المكلفين في الحرج والمشقة ، بل المقصود إيصالهم إلى المصالح المجهولة لديهم.

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٧٧ و ٧٨.

٣٤٥

ويؤكد ذلك تعقيب الآية الشريفة بقوله : ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) ، فانه يتناسب مع مقام الترغيب في امتثال هذه الأحكام ولو كانت حرجية ، وتبرير جعلها إذ هي مجعولة من قبل وهي ملة إبراهيم الحنيف الّذي كانت العرب تكنّ له الإجلال والحب ، فانه يقرب إطاعتها في النفوس. ولا يتناسب مع رفع الأحكام بواسطة الحرج ، فان مثل ذلك لا يحتاج إلى مزيد تعليل وترغيب ، لأنه مما تقبله النفوس وتتقبله الأطباع.

هذا ، ولكن يمكن ان يستظهر من الآية الشريفة بملاحظة الصدر والذيل معنى آخر ، وهو : أن الله سبحانه وتعالى أمر أولا بالركوع والسجود وعبادته وفعل الخير ، ثم أمر بالمجاهدة في امتثال هذه الأحكام وعدم التواني فيها وإتيانه على أصوله ، فان ما جعله الله سبحانه ليس بحرجي ، بل شريعة سهلة سمحة وهي ملة إبراهيم. فلا نظر في الآية الكريمة إلى نفي الحكم الثابت بمقتضى دليله إذا كان مستلزما للحرج ، بل نظرها إلى بيان ان دين الله سبحانه المجعول فعلا واسع سهل ليس بحرجي ، في قبال بعض الأديان السابقة التي كانت تتضمن الأحكام الشاقة التي يعسر تحملها.

إذن فلا دلالة لها على المدعي.

فان قلت : الوجه الأخير يكفي في استفادة نفي الحكم في مورد الحرج ، وذلك لأن جعله في مورد الحرج يتنافى مع المدلول المطابقي للآية ، وهي كون الشريعة الإسلامية سهلة لا ضيق فيها ، فنفي الحكم الحرجي يكون بالملازمة لا بالمدلول المطابقي كما هو مقتضى الاستظهار الأول.

قلت : بما انا نعلم بورود أحكام في الشريعة في خصوص موارد الحرج كموارد الجهاد ، بحيث لا يمكن الالتزام بارتفاعها في مورد الحرج ، فيدور الأمر في عموم الآية بين حمله على بيان عدم الحرج في الدين بلحاظ نوع أحكامه وغالب تشريعاته بحسب غالب الموارد ، بحيث لا يتنافى مع ثبوت بعض

٣٤٦

التشريعات في موارد الحرج. وبين حمله على العموم الأفرادي الّذي يستتبع الحكم الحرجي وتخصيصه بالموارد التي يقوم الدليل فيها على ثبوت الحكم الحرجي بالخصوص ، ولازم ذلك تحقق التعارض بينه وبين ما يدل على ثبوت الحكم مطلقا في موارد الحرج وغيرها تعارض العامين من وجه.

ولو لم نستظهر من نفس لحن الآية الكريمة ـ ولو بملاحظة موردها لو أريد منه الجهاد المصطلح لا الجهاد في امتثال الأحكام ـ أنها واردة لبيان عدم الحرج بلحاظ النوع لا كل حكم حكم ، فلا أقل من إجمالها وعدم ظهورها في أحد الاحتمالين ، ومعه لا ظهور للآية الكريمة في المدعى. فتدبر جيدا.

والّذي يتحصل : انه لا دلالة للآيات الكريمة على قاعدة نفي العسر والحرج كما ادعي.

وأما السنة الشريفة : فعمدتها ما ورد فيها تطبيق الآية الأخيرة والاستشهاد بها بنحو لا يظهر منها أكثر مما استظهرناه منها أخيرا من تكفلها بيان سهولة الدين وعدم الضيق فيه. وقد عرفت ان هذا لا ينفع في إثبات المدعى.

وإليك بعض هذه النصوص :

منها : رواية أبي بصير قال : « قلت لأبي عبد الله : انا نسافر ، فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدّابّة وتروث؟. فقال : ان عرض في قلبك شيء فقل هكذا : ( يعني افرج الماء بيدك ) ثم توضأ فان الدين ليس بمضيق فان الله سبحانه يقول : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .. » (١).

ولا يخفى ان الأمر الّذي بيّنه عليه‌السلام هو طهارة الغدير وجواز الوضوء منه

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ باب : ٩ من أبواب الماء المطلق ، حديث : ١٤.

٣٤٧

لرفع ما يمكن ان يقع في قلب السائل من الاستقذار. ثم علّل ذلك بـ : « ان الدين ليس بمضيق ان الله ... ». ومن الواضح انه بيان لجعل هذه الأحكام وان الشريعة سهلة لا ضيق فيها كما قد يتخيل. فليس في تطبيق الآية نظر الا إلى ذلك لا إلى نفي حكم حرجي.

وهذا لا يختلف عن ظاهر الآية الأولى على ما عرفت.

ومنها : رواية الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الرّجل يغتسل فينتضح من الماء في الإناء؟. فقال : لا بأس ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .. » (١).

وهذه الرواية كسابقتها ، فان السائل يحتمل أن يؤثر اختلاط الماء بما استعمل في رفع الحدث الأكبر موجبا لعدم صحة الغسل منه ، فنفاه الإمام عليه‌السلام وبين انه لا بأس بالغسل منه ، إما لعدم مانعيته أو لعدم مانعية اختلاط هذا المقدار القليل منه ، ثم استشهد بالآية الشريفة. ومن الواضح ان نظر الإمام عليه‌السلام ليس إلى رفع الحكم في مورد الحرج ، بل إلى بيان عدم المانعية من رأس ، وهو من الأحكام السهلة التي بنيت الشريعة عليها.

وهكذا الكلام في غيرهما من النصوص فلاحظهما في مظانها.

وخلاصة الكلام فيها : ان دليل نفي العسر والحرج يتكفل ـ لو سلم ثبوته ـ رفع الأحكام التي يكون لها مقتضي الثبوت بلحاظ دليلها.

وفي موارد هذه النصوص ليس هناك حكم كذلك بحيث يتكفل النص رفعه ويكون حاكما على دليله ، بل هي تتكفل إثبات حكم سهل أو بيان عدم ثبوت حكم متوهم الثبوت ، ثم بيان ان ذلك مقتضى سهولة الدين وعدم الضيق فيه ، وهذا أجنبي عن رفع الحكم في مورد الحرج.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ باب : ٩ من الماء المضاف ، حديث : ٥.

٣٤٨

فلا يستفاد من النصوص أزيد مما يستفاد من الآية في حد نفسها ، ولو استدل ببعض النصوص الواردة في الصوم في السفر بأنه رفع لمكان الضرورة لكان أولى من حيث الظهور في المدعى ، لكن عرفت انها مما لا يعمل بها في موردها للنصوص الدالة على ان الصوم في السفر ساقط ولو مع عدم الحرج ، فتحمل هذه النصوص على بيان الحكمة.

نعم ، رواية عبد الأعلى مولى آل سام ظاهرة في رفع الحكم في مورد الحرج وان المراد بالآية ذلك ، وهي روايته عن الصادق عليه‌السلام قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟. قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجل. قال الله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه » (١).

ولكن هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها ، وذلك لأن ما يستفاد من كتاب الله سبحانه هو رفع المسح على البشرة. أما المسح على المرارة ، فلا تتكفله الآية الشريفة.

ودعوى : ان المسح الواجب يشتمل على جهتين : أصل المسح وهو إمرار اليد ، وكونه على البشرة ، فإذا تعذر أو عسر كونه على البشرة فلا يسقط أصل المسح.

تندفع : بان الظاهر أن الواجب واحد هو المسح على البشرة رأسا ، لا أمران كما ادعي.

مع ان مقتضى وجوب المسح على البشرة الضمني ارتفاع الأمر بالوضوء بتعذر كونه على البشرة ، لما ثبت في محله من ان رفع الأمر الضمني يرفع الأمر بالكل ، فمن أين نستفيد بقاء الأمر بالوضوء والمسح على المرارة؟.

ودعوى : ان ذلك يستفاد من قاعدة الميسور المرتكزة في النفوس ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ باب : ٣٩ من أبواب الوضوء ، حديث : ٥.

٣٤٩

فوجوب الوضوء الناقص يعرف من كتاب الله بضميمة قاعدة الميسور.

تندفع : بان قاعدة الميسور لو سلمت ، فهي إنما تتكفل تعلق الأمر بالباقي المتمكن منه ولا تثبت أمرا بأمر زائد عليه أجنبي عنه. إذن فالمسح على المرارة لا يستفاد من قاعدة الميسور ، لأنه ليس من أجزاء الوضوء في حد نفسه.

هذا كله مع ضعف سند الرواية ، فلا تصلح للاستناد إليها سندا ودلالة. فتدبر.

ونتيجة ذلك : انه لا دليل على قاعدة نفي العسر والحرج بالمرة ، فالتفت ولا تغفل.

ونعود بعد ذلك إلى الكلام فيما نحن بصدده ، وهو العمل بالاحتياط الّذي عرفت إنكار صاحب الكفاية ارتفاع وجوبه بدليل نفي الحرج.

وقد نبّه الشيخ رحمه‌الله هاهنا (١) على أمر يتلخص في : انه لو بني على نفي وجوب الاحتياط بالإجماع والعسر ، فانما ينفي به الاحتياط التام في مطلق الاحتمالات المظنونة والمشكوكة والموهومة ، أما لزوم الاحتياط الناقص بالمقدار الّذي لا يستلزم العسر فلا يرتفع.

وعليه ، فيلزم الاحتياط في مظنونات التكليف ومشكوكاته لاندفاع العسر بترك موهوماته.

ونتيجة ذلك : عدم الوصول إلى حجية الظن ، إذ لازم حجيته الرجوع في المورد الخالي عنه إلى الأصل المقرر في تلك الواقعة مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي ، وليس الحال كذلك على ما ذكرنا ، إذ في المشكوكات لا بد من العمل بالاحتياط ، لعدم استلزام ضمها إلى المظنونات العسر والحرج.

وبالجملة : نتيجة رفع الاحتياط بواسطة العسر هو التبعيض في الاحتياط

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٠

بالنحو المذكور لا حجية الظن.

ثم أورد قدس‌سره أيضا : أن رفع الاحتياط بواسطة نفي العسر حيث كانت نتيجته التبعيض في الاحتياط ـ ولو في خصوص المظنونات ـ لم يكن مستلزما لحجية الظن بنحو ينهض لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصة ومخالفة سائر الظواهر الثابتة بها ، لأن العمل به من باب الاحتياط ومنجزية العلم الإجمالي ، وهو غير الحجية.

وقد أورد على نفسه : بأن ضم الاحتياط في المشكوكات إلى المظنونات مستلزم للعسر أيضا.

وأجاب : بأنها دعوى خلاف الإنصاف لقلة موارد الشك.

ثم احتمل دعوى الإجماع على عدم وجوبه في المشكوكات.

وذكر : بأنها دعوى مشكلة جدا ، وان تحقق الظن بها ، لكن مجرد الظن لا ينفع ما لم يحصل إلى حد العلم.

ثم أوقع البحث في إثبات حجية مثل هذا الظن لأنه ظن بالطريق وعدمها ، تحت عنوان : « ان قلت » و: « قلت ». وفي بيان ذلك عبارتان إحداهما منسوبة إلى السيد الشيرازي قدس‌سره. وقيل إنه قرره عليها. وقد وقع النقض والإبرام فيهما بما لا يهمنا التعرض إليه ، ونكتفي بمجرد الإشارة.

والّذي يهمنا هو ما أفاده أولا من : ان التبعيض في الاحتياط غير حجية الظن ، بنحو يعدّه إشكالا على تمامية مقدمات الانسداد وإخلالا بها. فانه يتنافى مع ما يذهب إليه المحقق النائيني من : إن مرجع حجية الظن على الحكومة إلى التبعيض في الاحتياط. فالتفت. وليكن هذا على ذكر منك حتى ينفعك عند وصول الحديث عن نتيجة المقدمات.

ولا يخفى عليك : ان الالتزام بتبعيض الاحتياط يبتني ـ كما صرح به قدس‌سره ـ على الالتزام بالتوسط في التنجيز الّذي أنكره صاحب الكفاية ،

٣٥١

كما أشرنا إليه آنفا. فنوكل الحكم بصحته وعدمها إلى ما سنحققه في تلك المسألة في مباحث العلم الإجمالي. فانتظر.

هذا فيما يرتبط بالعمل بالاحتياط.

وأما الرجوع إلى الأصول بحسب ما تقتضيه كل مسألة بحد ذاتها ..

فالذي ذكره صاحب الكفاية من : انه لا مانع عقلا من العمل بالأصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف مع تمامية المقتضي لجريانها من حكم العقل أو عموم النقل.

ولا موهم لعدم إجراء الاستصحاب المثبت للتكليف ، إلا ما ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، بدعوى : ان شمول دليله لأطراف العلم الإجمالي يستلزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب وذيله ، إذ مقتضى صدره ـ وهو : « لا تنقض » ـ حرمة النقض في كل من الأطراف ، ومقتضى ذيله ـ وهو قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ـ وجوب النقض في بعضها ، وبما أنه يعلم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف الاستصحابات المثبتة للتكليف امتنع جريانها بناء على ذلك (١).

ولكن يندفع هذا الوهم : بان البناء المزبور لا يؤثر في عدم جريان الاستصحاب فيما نحن فيه ، وذلك لأنه إنما يلزم فيما كان الشك في أطرافه فعليا ، أما إذا لم يكن كذلك ، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه وكانت الأطراف الأخرى مغفولا عنها وليست بملتفت إليها أصلا فلا يلزم ذلك ، لأن مقتضى : « لا تنقض » هو حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك فعلا دون غيره ، لعدم تحقق الشك فيه من جهة الغفلة عنه ، ولا علم بالانتقاض في خصوص الطرف المشكوك كي يتحقق التناقض بين الصدر والذيل.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٩ و ١٢٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٢

وما نحن فيه كذلك ، لأن المجتهد في مقام استنباط الأحكام لا يكون ملتفتا إلى تمام الوقائع بأسرها ، بل هو غافل عن أكثرها ، فليس لديه شك فعلي إلا في بعض الأطراف التي لا يعلم بانتقاض الحالة السابقة فيها ، فله إجراء الاستصحاب في كل واقعة لعدم تحقق المحذور المزبور بالنسبة إليه.

ثم التزم بعد ذلك بجريان الأصول النافية لتمامية المقتضي من حكم العقل وعموم النقل ، وعدم المانع عقلا من جريانها ، لأن المانع المتوهم هو محذور المخالفة العملية للعلم الإجمالي ، وهو لا وجود له إذا فرض ان موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي كانت بمقدار المعلوم بالإجمال فينحل العلم الإجمالي بها حكما ، بل يكفي ان تكون بمقدار لا يستكشف معه وجوب الاحتياط شرعا لقلة الموارد المتبقية بنحو لا يعلم اهتمام الشارع بها بحيث يجعل الاحتياط. هذا ما أفاده في الكفاية بالنسبة إلى إجراء الأصول (١).

ونتيجة ما ذكره : أنه لا محذور في إجراء الأصول المثبتة وكذا النافية إذا انحل العلم الإجمالي ببركة العلم التفصيليّ والظن الخاصّ والأصول المثبتة.

ثم ذكر قدس‌سره : انه لو لم ينحل العلم الإجمالي بذلك كان خصوص موارد الأصول النافية محلا للاحتياط ، ويرفع اليد عنه كلا أو بعضا بمقدار رفع الاختلال أو العسر ـ على ما عرفت ـ لا مطلق محتملات التكليف (٢). انتهى ما أفاده.

وتحقيق الكلام : ان موارد الاشتغال والاستصحاب المثبت في الشبهات الحكمية في العبادات قليلة جدا ، كمسألة الماء المتغير الّذي يزول تغيره من قبل نفسه ، ومسألة الجمعة والظهر ، وغيرهما.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٥٣

وأما في المعاملات ، فان موارد الأصل الّذي يثبت التكليف ـ وهو أصالة عدم ترتب الأثر المعبر عنها بأصالة الفساد ـ كثيرة إذا لم نرجع إلى الإطلاقات العامة والخاصة والسيرة العقلائية في إثبات صحة المعاملة ، وإلا كانت قليلة كما في العبادات.

وعليه ، فنقول : إن ما ادعي من استلزام العمل بالأصول المثبتة للتكليف الحرج ليس بصحيح لقلة مواردها كما عرفت.

كما ان دعوى العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض مواردها ممنوعة ، إذ ما الوجه في ذلك بعد فرض قلة موارد الأصول ، وما المانع من كون جميعها مطابقة للواقع؟.

وهكذا ما ادعاه صاحب الكفاية من انحلال العلم الإجمالي بإجراء الأصول مع الضميمة ، فان موارد الأصول المثبتة إذا كانت قليلة كيف ينحل بها العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في العبادات والمعاملات؟.

وأما ما أفاده قدس‌سره من عدم منافاة العلم الإجمالي بالانتقاض لجريان الاستصحاب هنا ـ لو سلم منافاته في نفسه ـ ففيه : ان المجتهد بعد انتهائه من استنباط الأحكام جميعها يحصل لديه علم بان بعض الأحكام والتي اختارها استنادا إلى الاستصحاب غير واقعية ، فكيف يعمل بها أو يفتي على طبقها ليعمل بها مقلدوه؟. وهذا الإشكال واضح تعرض إليه الكثير.

وعليه ، فقد ظهر انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيما نحن فيه لو التزم بمنافاة العلم الإجمالي للأصول ولو كانت مثبتة إذا تحقق العلم بالانتقاض. كما ظهر أن إجراء الأصول المثبتة لا ينفع في حل العلم الإجمالي.

وعليه ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصول النافية في مواردها لاستلزامه المخالفة العملية للعلم الإجمالي بالتكليف. فلاحظ.

وأما ما ذكره قدس‌سره أخيرا من : انه مع عدم انحلال العلم الإجمالي

٣٥٤

يكون مورد الاحتياط هو موارد الأصول النافية فقط لا مطلق محتملات التكليف. فهو مما لا نعرف تأثيره في شيء ، لأن العمل بالأصل المثبت في بعض الموارد والاحتياط في الموارد الأخرى يكون حاله كحال الاحتياط التام في مطلق محتملات التكليف ، فنسبة دليل رفع الحرج أو اختلال النظام إلى الجميع على حد سواء ، فينبغي رفع اليد عن الاستصحاب كما يرفع اليد عن وجوب الاحتياط في موارد الأصول النافية. فيتحقق الدوران بين موارد احتمال التكليف كما هو الحال عند رفع اليد عن الاحتياط التام.

وبالجملة : ما ذكره لا تأثير له في الإخلال بمقدمات الانسداد. فالتفت.

وأما الرجوع إلى فتوى المجتهد العالم بحكم المسألة : فهو لا يجوز ، إذ المفروض ان من يريد الرجوع يرى انسداد باب العلم والعلمي. وعليه فهو يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم والعلمي ، ومع ذلك لا يجوز الرجوع إليه ، لأنه من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل ، وهو غير جائز قطعا.

واما احتمال الرجوع إلى القرعة ، فيندفع : بأنه إن لوحظت القرعة في حد نفسها ، فمن الواضح أنها لا كاشفية لها عن الواقع أصلا ولا طريقية لها إليه ، بل حالها حال اختيار أحد المشتبهين عن التفات وقصد. وإن لوحظت بالإضافة إلى دليلها ، فلا يخفى ان الدليل انما دلّ على جريانها في موارد خاصة ليس فيها طريق إلى الوصول إلى الواقع ، فلا وجه للتعدي منها إلى سائر الموارد ، كما لا يمكن تنقيح المناط ، إذ اعتبارها في موارد لا يمكن فيها التخيير ، كموارد فصل الخصومات ، إذ لا يمكن إيكال الأمر إلى اختيار الخصمين لبقاء النزاع ، ولا اختيار الحاكم لما فيه من المفاسد الشخصية والنوعية. فتدبر.

وأما المقدمة الخامسة : فقد أفاد صاحب الكفاية أنها مما يستقل بها العقل ، وانه لا يجوز التنزل بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها

٣٥٥

إلى غير الإطاعة الظنية من الإطاعة الشكية والوهمية لمرجوحيتهما بالنسبة إلى الإطاعة الظنية ، لأقربيتها إلى الواقع منهما ، ويقبح ـ في نظر العقل ـ ترجيح المرجوح على الراجح (١).

أقول : مراده بالإطاعة الظنية التي ورد التعبير بها في كلماته يحتمل أمرين :

الأول : ان اللازم أن يحصّل الظن بإطاعة الأحكام المعلومة ، وهذا إنما يتحقق بالإتيان بمظنونات التكليف ومشكوكاته ، إذ مع الاقتصار على المظنونات وترك المشكوكات لا يظن بالإطاعة ، بل يتحقق عنده الشك بها لوجود احتمال التكليف متساوي الطرفين لم يأت به.

وبالجملة : يكون المراد الإطاعة المظنونة.

الثاني : أن اللازم العمل بالظن في قبال العمل بالمشكوكات والموهومات ، فيكون المراد الإطاعة بالظن ، فيكون وصف الإطاعة بالظنية من باب أن ما يطاع به هو الظن.

والّذي يبدو لنا أن مراده هو الثاني ، كما يظهر من بعض عباراته صدرا وذيلا. فراجع.

إلى هنا تنتهي صورة دليل الانسداد.

وقد عرفت اننا ممن قرّب بعض مقدماته كالمقدمة الأولى والثانية والثالثة ، ولنا كلام في المقدمة الرابعة.

ولكن الّذي يبدو لنا فعلا أن المقدمة الأولى غير تامة بدعوى انحلال العلم الإجمالي بثبوت الأحكام بين مطلق الوقائع ، بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الاخبار الواصلة إلينا ـ كما تقدمت هذه الدعوى من صاحب الكفاية قدس‌سره ـ. فاننا وان كنا ممن يتوقف في انحلال العلم الإجمالي

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٥٦

الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، لكن الّذي نراه أخيرا هو الانحلال وفاقا لصاحب الكفاية ، وسنتعرض لذلك في محله من مباحث العلم الإجمالي ونشير الآن إلى وجهه بنحو الإجمال. فنقول : الّذي نختاره هو انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير بالانحلال الحقيقي ، مع احتمال انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير ، كما هو الحال فيما نحن فيه ، حيث نحتمل انطباق الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال مطلقا على الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال في ضمن الاخبار الواصلة إلينا ، إذ لا علم بأزيد من التكاليف الموجودة في ضمن الاخبار.

أما الانحلال الحكمي به فلنا مناقشة فيه. وبيان ذلك : ان الانحلال الحكمي عبارة عن انتفاء أثر العلم الإجمالي ، وهو المنجزية ، مع ثبوته بنفسه وعدم زواله ، كما لو قامت البينة على نجاسة أحد الإناءين المشتبهين ، أو جرى استصحاب نجاسة أحدهما فقط إذا كانت حالته السابقة هي النجاسة ، فان أصالة الطهارة في الإناء الآخر تجري بلا معارض ، لعدم جريانها في الإناء النجس بحكم البينة أو الاستصحاب. فالعلم الإجمالي وان كان موجودا في الفرض لكنه غير منجز.

وأما الانحلال الحقيقي ، فهو عبارة عن زوال العلم الإجمالي حقيقة ، كما إذا علمت تفصيلا بالإناء الّذي وقعت فيه النجاسة من الإناءين المشتبهين ، ونحو ذلك.

إذا عرفت ذلك : فقد تقرّب دعوى انحلال العلم الإجمالي الكثير بالعلم الإجمالي الصغير فيما نحن فيه بنحو الانحلال الحكمي ، بأن بعض أطراف العلم الإجمالي الكبير مما قام عليها المنجز ، وهو العلم الإجمالي الصغير ، فلا تكون مجرى للأصول النافية ، فتجري الأصول النافية في ما عداها بلا معارض.

وهذا هو معنى الانحلال الحكمي ، إذ لا يكون للعلم الإجمالي الكبير

٣٥٧

تأثير بالنسبة إلى أطرافه.

وفيه : أن نسبة العلمين ـ الكبير والصغير ـ إلى أطراف العلم الصغير نسبة واحدة ، فما الوجه في جعل المانع من جريان الأصل النافي في دائرة العلم الصغير هو العلم الصغير؟ ، فليكن العلم الكبير أو هما معا.

فالحق هو الانحلال الحقيقي ، ببيان : ان العلم الإجمالي إما أن يلتزم بأنه علم تفصيلي بالجامع والتردد في انطباقه على أحد الفردين أو الأفراد. وإما أن يلتزم بتعلقه بالفرد المردد ـ على كلام مفصل يأتي في محله ـ. وعلى كلا الالتزامين والمسلكين فالتردد مما يقوّم تحقق العلم الإجمالي ، فإذا زال التردد زال العلم الإجمالي.

وعليه ، نقول : إذا علم إجمالا بوجود النجس بين هذه العشرة أوان التي منها خمسة بيض ومنها خمسة سود ، وعلم في الوقت نفسه بوجود النجس بين الأواني السود الخمسة ، فان العلم الإجمالي بوجود النجس بين العشرة يزول قطعا ، إذ لا ترديد في وجود النجس بين الأواني السود ، فليس له أن يقول اعلم إجمالا بوجود النجس اما في السود أو البيض ، لعلمه بان النجس في السود.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه وإن علم إجمالا بثبوت الأحكام بين مطلق الوقائع المحتملة ، إلا أنه في الوقت نفسه يعلم إجمالا بثبوت أحكام بين الاخبار ، فيزول الترديد. فتدبر.

وإذا ثبت لدينا انحلال العلم الكبير بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في ضمن الاخبار ، اختل دليل الانسداد ، لأن الاحتياط في دائرة الاخبار لا محذور فيه من اختلال نظام أو حرج.

ونتيجة ما ذكرناه ، من التوقف في حجية خبر الواحد غير المفيد للاطمئنان ، وعدم وفائه بمعظم الفقه لو كان ، وانحلال العلم الكبير بالاحكام بالعلم الإجمالي في ضمن الاخبار ، هو : لزوم العمل بالأخبار الواصلة إلينا في

٣٥٨

الكتب المعتبرة بعنوان الاحتياط ، ولا بأس فيه.

ودعوى : ان لازم ذلك التوقف ـ في مقام العمل بالأخبار ـ في حمل المطلق المثبت للتكليف على المقيد ، وتخصيص العام المثبت للتكليف بالخاص ، لعدم العلم بصدور المقيد والخاصّ النافيين للتكليف ولا حجيتهما. فكيف ترفع اليد عن المطلق والعام ، مع انه خلاف الاحتياط ، لأن الفرض ان المقيد أو الخاصّ ينفي التكليف؟. كما أن لازمه التوقف في حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب ، لأجل معارضته بما هو نصّ في الإباحة ، لعدم العلم بحجية ما هو نصّ في الإباحة فلا يعلم بعدم إرادة الوجوب. ومثل ذلك يستلزم تأسيس فقه جديد.

مندفعة : بان شيئا من ذلك غير لازم ، بل نلتزم بالتقييد والتخصيص ورفع اليد عن الظهور كما لو كانت الاخبار حجة.

بيان ذلك : أما بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص ، فلأن المقيد والخاصّ كما انه ليس بحجة شرعا كذلك المطلق والعام ، وإنما يؤخذ به من باب الاحتياط لدلالته على الحكم المطلق أو العام. ومع احتمال صدور المقيد لا يبقى لنا علم بكون المراد الجدي للمطلق ـ على تقدير صدوره ـ هو الإطلاق ، فالقدر المتيقن المعلوم إرادته من المطلق على تقدير صدوره هو غير موارد المقيدات الواردة ، وحينئذ فطرف العلم الإجمالي هو الحكم المقيد لا المطلق والحكم الخاصّ لا العام ، فهو الّذي يجب الاحتياط فيه لا أزيد.

وبعبارة واضحة : ان مقتضى العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في ضمن الاخبار معناه العلم بثبوت الأحكام بحسب المراد من الألفاظ الواردة في الأخبار ، وهذا يقتضي لزوم الاحتياط بما تؤديه الأخبار من الأحكام بحسب مداليلها الكاشفة عن المراد الجدي ، فكل ما يحتمل أنه حكم المولى بحسب ظهورها وكشفها عن المراد الواقعي لا بد من الأخذ به ، لا كل ما يحتمل أنه

٣٥٩

مراد المولى ولو لم تكن ظاهرة فيه ، وبملاحظة وجود الخبر المقيد المحتمل للصدور لا يقين بان المراد الواقعي للمطلق على تقدير صدوره هو الإطلاق. فلا يجب الاحتياط إلا في غير موارد التقييد. وأما أكثر من ذلك ، فهو خارج عن أطراف العلم الإجمالي في ضمن الأخبار ، بل يمكننا ان ندعي عدم العلم بوجود حكم مطلق عند الشارع لكثرة التقييدات. ولا محذور فيه أصلا.

نعم ، قد يقال : إنه نعلم إجمالا بصدور بعض العمومات والمطلقات. ولا نعلم بصدور ما نجده مما نسبته إليها نسبة الخاصّ والمقيد إلى العام والمطلق وهذا يقتضي العمل بجميع العمومات والمطلقات ـ احتياطا ـ ، لأن العمومات الصادرة لا بد من العمل بها مع عدم ثبوت التخصيص للأصل ، فمع اشتباهها لا بد من العمل بجميع العمومات كي يعلم بالامتثال.

ولكنه يندفع : بأنا نعلم بان بعض المطلقات والعمومات الصادرة واقعا مقيد لا محالة وليست كلها مرادة بعمومها وإطلاقها.

وعليه ، فتسقط أصالة الإطلاق والعموم في جميعها للمعارضة ، فلا حجة على الحكم المطلق والعام.

وأما بالنسبة إلى ما هو ظاهر في الإلزام كالوجوب والحرمة ، فلا نستطيع أن ننفي العلم بإرادة الوجوب أو الحرمة من بعضها ، فانا نعلم بإرادة الوجوب أو الحرمة في بعض الاخبار ، ومقتضى ذلك الاحتياط في جميع ما هو ظاهر في الوجوب أو الحرمة ، لأن ما يقتضي الاستحباب والكراهية ليس بحجة شرعا كي ترفع اليد به عن الظهور في الوجوب والحرمة.

إلا انا نقول : ان هذا العلم الإجمالي بوجود الحكم الإلزامي في ضمن ظواهر الاخبار ينحل بما علم تفصيلا من الأحكام الإلزامية بواسطة الضرورة والتواتر والاطمئنان والسيرة القطعية والإجماعات ، بحيث لنا ان ندعي عدم العلم بوجوب أو حرمة غير ما علم وجوبه أو حرمته.

٣٦٠