منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

« حجية مطلق الظن »

ويقع الكلام بعد ذلك في حجية مطلق الظن.

وقد ذكر لإثباتها وجوه :

الوجه الأول : ان الظن بالتكليف يلازم الظن بالضرر على مخالفته ، ودفع الضرر المظنون لازم.

أما الصغرى ، فلأن مخالفة التكليف تستلزم العقوبة ، كما تستلزم الوقوع في المفسدة بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فالظن بالتكليف ملازم للظن بالعقوبة والمفسدة في مخالفته.

وأما الكبرى ، فلحكم العقل بدفع الضرر المظنون ، وحكمه بذلك لا يستند إلى حكمه بالحسن والقبح ، بل مع إنكار التحسين والتقبيح العقليين يلتزم بثبوت لزوم دفع الضرر المظنون ، إذ لا ينكر الأشعري ـ المنكر للحسن والقبح ـ بان العاقل بما هو عاقل له التزامات خاصة في أعماله ولا تصدر منه إعمال سفهية ، فهو لا ينكر ان العاقل لا يقدم على مظنون الضرر.

واستشكل صاحب الكفاية (١) في هذا الوجه بمنع الصغرى ، فذهب إلى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٢١

ان الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالضرر على مخالفته.

أما العقوبة ، فلأنها لا تترتب على مجرد مخالفة التكليف الواقعي ، بل هي تترتب على المعصية ، وهي لا تتحقق إلا إذا كان التكليف منجزا عقلا. إذن فالظن بالتكليف لا يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته.

ثم ذكر انه قد يقال : إن العقل كما لا يستقل بتنجز التكليف بمجرد الظن به لا يستقل بعدم العقاب على مخالفته ، فتكون العقوبة محتملة ، فيكون المورد من موارد دفع الضرر المشكوك ، ودعوى لزومه قريبة جدا.

ولكن هذا القول لو سلم فهو يرجع إلى إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولزوم الاحتياط لعدم المعذّر ، وهو أجنبي عن حجية الظن ، بل هو قول بلزوم الاحتياط. وهذا لم يذكره صاحب الكفاية.

وأما المفسدة ، فلوجهين :

أحدهما : إنكار لزوم تبعية الحكم للمصلحة أو المفسدة في متعلقه ، بل يمكن ان يكون تابعا لمصلحة فيه وهي تستوفي بمجرد الجعل.

والآخر : ان التكليف انما ينشأ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه نوعية لا شخصية ، ولذا كانت بعض الواجبات تستلزم إضرارا شخصية ، كالجهاد والزكاة ، كما ان بعض المحرمات تستلزم منافع شخصية ، كالسرقة والغصب. فلاحظ.

الوجه الثاني : انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.

وأورد عليه : بأنه انما يتم لو فرض عدم قيام الحجة على خلاف الظن ، وفرض أيضا لزوم العمل وعدم جواز ترك العمل بإجراء البراءة ، وفرض أيضا عدم إمكان الجمع بين الاحتمالين أو عدم جوازه شرعا ، فهذا الدليل يتوقف على تمامية مقدمات الانسداد ، وبدونها لا ينهض دليلا على حجية الظن ، فيرجع إلى

٣٢٢

دليل الانسداد.

الوجه الثالث : ـ ما عن السيد الطباطبائي قدس‌سره ـ : من انه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوب ذلك كله لأنه عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات لأن الجمع على غير هذا الوجه باطل إجماعا (١).

ويرد عليه : ان تمامية ما ذكر تبتني على ضم مقدمات أخرى إليه ، كانسداد باب العلم والعلمي ، وكعدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية أو التقليد. وإلا فمع عدم الانسداد ينحل العلم الإجمالي ، ولا يلزم الاحتياط إذا جاز الرجوع إلى البراءة أو غيرها من الأصول. ومع ضميمة هذه المقدمات يرجع الدليل إلى دليل الانسداد. فلاحظ.

الوجه الرابع : دليل الانسداد.

وقد ذكر في الكفاية : أنه مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية ـ حكومة أو كشفا ـ وبدونها لا يستقل العقل بذلك ، وهي خمسة :

الأولى : تحقق العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية في الشريعة.

الثانية : انسداد باب العلم والعلمي إلى كثير من هذه الأحكام.

الثالثة : عدم جواز إهمال الأحكام وعدم التعرض لامتثالها بالمرة.

الرابعة : عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم ، بل عدم جوازه في

__________________

(١) كما في فرائد الأصول ـ ١١١ حكاية عن أستاذه شريف العلماء ( قده ).

٣٢٣

الجملة ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مسألة بملاحظتها بنفسها من براءة أو احتياط أو تخيير أو استصحاب ، وعدم جواز الرجوع إلى فتوى العالم بحكم المسألة.

الخامسة : بما ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، يستقل العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة بالإجمال ، إذ لو نسلك هذا الطريق بعد فرض انسداد باب العلم والعلمي ، فاما ان نهمل الأحكام وهو ما نفى بالمقدمة الثالثة. أو نرجع إلى الاحتياط التام أو الأصل في كل مسألة أو التقليد فيها وهو ما نفي بالمقدمة الرابعة. أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية والوهمية وهو ما نفي بالمقدمة الخامسة. فالتفت.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في بيان دليل الانسداد (١).

وقد ألفه الشيخ رحمه‌الله من مقدمات أربعة بإسقاط مقدمية وجود العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الفعلية في الشريعة (٢).

وصححه المحقق النائيني : بأن الغرض من هذه المقدمة إن كان العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها ، فهو من البديهيات ، نظير العلم بوجود الشارع. وان كان المراد العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقائع المشتبهة ، فهو ليس من المقدمات ، بل أحد الوجوه التي تبتني عليها المقدمة الثالثة ـ أعني عدم جواز الإهمال ـ (٣).

واستشكل المحقق الأصفهاني في حذف هذه المقدمة من قبل الشيخ رحمه‌الله : بان إسقاطها إن كان لأجل عدم المقدمية ، فمن الواضح انه لولاها لم يكن مجال للمقدمات الآخر إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. وان كان

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١١١ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٢٦ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٢٤

لوضوح هذه المقدمة لدلالة سائر المقدمات عليها ، فمن الواضح ان وضوحها لا يوجب عدم مقدميتها ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها ، وإلا كان بعضها الآخر كذلك ، بل بعضها أوضح ، هذا تمام كلامه (١).

ولعل مقصوده من البعض الأوضح هو المقدمة الثالثة ـ بحساب صاحب الكفاية ـ ، فان عدم جواز إهمال الأحكام وعدم التعرض لامتثالها من الواضحات التي لا تقبل الإنكار كما سيجيء.

ولا يخفى عليك ان هذا الحديث بين الاعلام أشبه باللفظي ، فان دخالة وجود العلم الإجمالي بالاحكام وتأثيره في تمامية الدليل مما لا ينكر. انما البحث في ذكره مقدمة بالاستقلال وعدم ذكره كذلك ، بل استفادته من طي الكلام وهذا المعنى ليس بمهم. ونستطيع ان نقول : ان الشيخ أخذ وجود العلم الإجمالي في جملة المقدمات ، إذ فرض وجود الواقعيات التي لا يجوز إهمال امتثالها وفرض انسداد باب العلم والعلمي ملازم للعلم الإجمالي ، ولولاه لما كان للمقدمات الأخرى موضوع ومجال.

نعم ، يختلف الشيخ عن صاحب الكفاية في ان تنبيهه على العلم الإجمالي بالالتزام. بخلاف صاحب الكفاية فانه نصّ عليه مطابقة وصريحا. والأمر سهل.

هذا ، ولكن المحقق العراقي أعطى هذه الجهة من البحث أهمية ، وذهب إلى : ان أخذ العلم الإجمالي في جملة المقدمات ينتج ما لا ينتجه الغض عنه وإهماله من المقدمات.

فذهب رحمه‌الله إلى : انه إذا فرض أخذ العلم الإجمالي كانت النتيجة هي التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن ـ حكومة أو كشفا ـ ، بخلاف ما إذا لم يؤخذ العلم الإجمالي ، فان النتيجة هي حجية الظن لا التبعيض في الاحتياط.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٥

وقد أطال المقرّر في بيان هذا المطلب ، وملخص الّذي ذكره في بيان عدم إمكان الانتهاء إلى حجية الظن لو أخذ العلم الإجمالي بالتكليف في جملة المقدمات ، وانما النتيجة هي التبعيض في الاحتياط ، هو : انه لو كانت النتيجة هي حجية الظن لزم الوقوع في محذورين :

الأول : ان العلم الإجمالي منجز لأطرافه ، فقيام الحجة على بعض أطرافه محال لاستلزام ذلك تنجيز المنجز ، مع ان المتنجز لا يتنجز ثانيا ، فلا يمكن ان يكون الظن حجة في أطراف العلم الإجمالي ، إذ المتنجز لا يتنجز.

الثاني : ان الظن إذا كان حجة كان مستلزما لانحلال العلم الإجمالي وارتفاعه ، وهو مناف لفرض كونه مقدمة لحجية الظن ، كما لا يخفى (١).

وهذان الوجهان مردودان ، وذلك : لأن المأخوذ مقدمة اما أنه يكون هو العلم الإجمالي بوجوده التكويني بلا لحاظ منجزيته. أو يكون هو العلم الإجمالي المنجز.

فعلى الأول : يتّضح ردّ الوجه الأول من وجهي الإشكال اللذين ذكرهما ، إذ قيام الظن بما انه منجز وحجة على أحد الأطراف لا يكون من تنجيز المنجز ، إذ لم يفرض التنجيز سابقا على الظن.

وأما الوجه الثاني ، فيندفع :

أولا : بان قيام الحجة غير العلم يوجب انحلال العلم الإجمالي حكما لا حقيقة فهو بعد على حاله.

وثانيا : لو سلم الانحلال الحقيقي بحيث لا يبقى للعلم الإجمالي بعد قيام الظن عين ولا أثر ، فهو لا ينافي مقدمية العلم الإجمالي إذا كان سبب استكشاف حجية الظن هو العلم الإجمالي ، نظير ما لو علم العبد أن عليه تكليفا ما ، فكان

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ١٤٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٢٦

ذلك موجبا للفحص والتصدي إلى معرفته ، فان حصول اليقين وإن كان يرفع العلم الإجمالي السابق لكنه لا ينافي كونه مقدمة له بحيث لولاه لما حصل العلم التفصيليّ.

والسر في ذلك كله : ان العلم الإجمالي يفرض مقدمة بوجوده الحدوثي لا الاستمراري فلا ينافي ذلك انحلاله بحجية الظن ، لأنه مقدمة لحجية الظن حدوثا لا بقاء.

وعلى الثاني : فالمراد لا بد ان يكون هو التنجيز بلحاظ المخالفة القطعية لا بلحاظ الموافقة القطعية ، إذ يلغو حينئذ فرض عدم جواز الإهمال مقدمة ، لأنه مأخوذ في المقدمة الأولى كما يلغو أخذ المقدمة الثانية ، لأن المنجزية فرع انسداد باب العلم والعلمي. فلا بد ان يراد التنجيز في الجملة ولو بلحاظ المخالفة القطعية.

وهو لو سلم ولم يناقش فيه : بان المأخوذ ذات العلم الإجمالي بلا قيد التنجيز أصلا لعدم دخالته في النتيجة كما سيظهر في الكلام عن المقدمة الثالثة ـ لو سلم ذلك ـ لم ينفع في تمامية الوجهين المذكورين ..

اما الأول : فلأن منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية لا تنافي قيام المنجز على أحد أطرافه المعين ، لأن كل طرف بعينه لم يتنجز بالعلم كما لا يخفى.

وأما الثاني : فيندفع بما تقدم من ان العلم الإجمالي لا ينحل حقيقة ، بل ينحل حكما ، وهو لا ينافي منجزية العلم الإجمالي في الجملة. وان العلم الإجمالي لو فرض انحلاله حقيقة لم يضر ذلك في كونه مقدمة ، لأنه مؤثر بوجوده الحدوثي لا البقائي. فلاحظ.

والنتيجة : ان ما ذكره قدس‌سره غير تام ، وقد عرفت ضرورة فرض العلم بالاحكام ، إذ بدونه لا موضوع لباقي المقدمات ، كما هو واضح جدا.

٣٢٧

ثم إنه لا بأس بالتنبيه على شيء ، وهو : بيان الفرق بين التبعيض في الاحتياط وحجية الظن على الحكومة ، حيث أنكره المحقق النائيني والتزم بان معنى حجية الظن على الحكومة هو التبعيض في الاحتياط (١) ، وقد أشار إلى ذلك في بادي الأمر في البحث عن تعريف الأصول حول ما ذكره صاحب الكفاية من القيد الزائد فيه (٢).

والظاهر ان الفرق واضح ، فان التبعيض في الاحتياط يرجع إلى العمل بالظن في مقام إفراغ الذّمّة عن التكليف المنجز بواسطة العلم الإجمالي. وبتعبير آخر : هو متابعة العلم الإجمالي في بعض أطرافه وهو المظنونات خاصة.

أما حجية الظن ، فهي ترجع إلى إثبات التكليف المجهول بواسطة الظن وتنجزه على المكلف بطريقه.

والأثر العملي يظهر في جواز الإسناد والاستناد بناء على حجية الظن كسائر الحجج دون التبعيض في الاحتياط. كما يظهر في تقييد المطلقات وتخصيص العمومات المثبتة للتكليف بالظن النافي له بناء على حجية الظن ، وليس كذلك بناء على التبعيض في الاحتياط.

نعم ، هذا يتم لو فرض ان النتيجة هي العمل بالظن بقول مطلق حتى الظن بعدم التكليف ، وإلا لم تظهر الثمرة العملية من هذه الجهة كما لا يخفى.

ثم إنه لا يخفى ان إيقاع البحث في توجيه كون هذا الدليل عقليا وإطالة الكلام في ذلك ليس بذي أهمية وأثر ، فإغفال البحث عنه أولى. ويقع الكلام بعد ذلك في إثبات أو نفي كل مقدمة مقدمة.

أما المقدمة الأولى : فقد ذكر في الكفاية بأنها وان كانت بديهية ، لكن عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ١٣٥ ـ ١٣٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٢٨ ـ ٢٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٢٨

عليهم‌السلام التي تكون فيما بأيدينا من الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات ، وهو غير مستلزم للعسر ، فضلا عما يوجب الاختلال ولم يقم الإجماع على عدم وجوبه لو سلم قيام الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن انحلال (١).

ونظر صاحب الكفاية قدس‌سره إلى بيان انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير الّذي تقدم تحقيقه في الوجه الأول العقلي المستدل به على حجية خبر الواحد.

ولا يخفى ان المأخوذ في المقدمة الأولى هو العلم الإجمالي بوجوده التكويني ، كما تقدم تقريبه في مناقشة المحقق العراقي ، وحينئذ فنفي هذه المقدمة بوجود العلم الإجمالي الصغير المانع من تنجيز العلم الإجمالي الكبير ليس على ما ينبغي ، إذ لم يؤخذ التنجيز في المقدمة كي يكون نفيه نفيا للمقدمية ، إلا أن يكون مراد الكفاية تحديد دائرة المعلوم بالإجمال ومقداره لا نفي منجزية العلم الكبير ، بل بيان أن المعلوم بالإجمال له حد خاص كي يكون موضوعا للأبحاث اللاحقة في سائر المقدمات.

ولا يخفى انه انما يتم إذا فرض انه يلتزم باستلزام العلم الإجمالي الصغير انحلال العلم الإجمالي الكبير حقيقة لا حكما ، وإلا فلا تتضيق دائرة المعلوم بالإجمال بوجود العلم الصغير ، وانما يرتفع تنجيزه وهو خارج عن محل البحث.

هذا ، ولكن ما ذكرناه من التوجيه يتنافى مع ذيل كلامه من بيان لزوم الاحتياط التام ومنجزية العلم الإجمالي عين الاخبار ، لأن ظاهره كون محط النّظر منجزية العلم الإجمالي. إلا ان يقال : ان بيان ذلك استطرادي واستعجال في بيان نتيجة اختلاف المقدمة الأولى وتضييق دائرة المعلوم بالإجمال.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٢٩

وأما المقدمة الثانية : فهي بالنسبة إلى العلم لا تقبل الإنكار بلحاظ زماننا ، فان كل من يطلع على فروع الفقه وأدلته يحصل له اليقين بعدم انفتاح باب العلم فيه.

وأما بالنسبة إلى العلمي ، فقد بنى الشيخ رحمه‌الله تماميتها على عدم القول بحجية خبر الواحد الثقة. وإلا فمع الالتزام بحجية خبر الثقة لا تتم هذه المقدمة لوفائه بمعظم الفقه (١). ومن هنا ذهب صاحب الكفاية إلى انها غير ثابتة لنهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقة ـ ويريد به الأعم من كون السبب الوثاقة بالراوي أو الوثاقة بالصدور لأجل بعض القرائن ـ ، وهو بحمد الله واف بمعظم الفقه (٢).

أقول : تقدم عدم تمامية الأدلة لإثبات حجية خبر الواحد إلا إذا أحرزت وثاقته بالوجدان بحيث يحصل الوثوق والاطمئنان من خبره بصدور الحكم من المعصوم عليه‌السلام.

وهذا المعنى لم نتفرد به فقد قربه الشيخ في أواخر أدلة الحجية المتقدمة (٣). كما انه قد يظهر من عبارة الكفاية في هذا المقام (٤).

إذن ، فنحن متفقون على حجية الخبر المفيد للاطمئنان الّذي هو حجة بلا كلام ـ بل عرفت فيما تقدم في بعض تحقيقاتنا ان حجيته على حدّ حجية القطع (٥) ـ.

لكن الإشكال في الصغرى ، فهل لدينا من الاخبار التي يطمئن بصدورها

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١١٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٠٦ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٥) راجع ٤ ـ ١٨٦ من هذا الكتاب.

٣٣٠

ما يفي بمعظم الفقه ، كما يذهب إليه في الكفاية أو لا؟.

ولا يخفى ان ذلك يبتني على مزيد الفحص والسير في الاخبار وأحوال رواتها وحسن الظن في تعديلهم وتوثيقهم ، وإلا فالأخذ بتوثيقهم من باب التعبد لا ينفع في حصول الوثوق بالخبر ، كما عرفت ذلك في البحث عن دلالة السنة على حجية الخبر ، فراجع.

إذن فنستطيع ان نقول ـ حيث ليس لدينا حسن الظن بالتعدي بالنحو الّذي ينفي احتمال اشتباه الموثق لدينا وانما نأخذ به من باب التعبد ـ : بان هذه المقدمة ـ أعني انسداد باب العلم ، والعلمي ـ ثابتة تامة.

أما المقدمة الثالثة : فهي قطعية لا تقبل التشكيك. واستدل عليها الشيخ بوجوه ثلاثة :

الأول : الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال امتثال الأحكام بالمرة وصيرورتنا كالأطفال والمجانين.

وهذه المسألة لم تحرر في كتب الاعلام إلا أخيرا ، فدعوى الإجماع تستند إلى استفادة هذا الرّأي من تصريحاتهم في بعض الموارد بحيث يقطع أنهم يقولون به لو فرض انسداد باب العلم والعلمي عندهم.

الثاني : استلزام الإهمال للمخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين. ومن الواضح ان الخروج عن الدين مما يقطع بعدم جوازه شرعا.

الثالث : العلم الإجمالي المستلزم لتنجيز التكاليف المعلومة بين أطرافه ، فلا يجوز ترك جميع الأطراف لاستلزامه مخالفة العلم الإجمالي المنافية مع فرض تنجيزه ، مع غض النّظر عن استلزامه مخالفة العلم الإجمالي المنافية مع فرض تنجيزه ، مع غض النّظر عن استلزام ذلك للخروج عن الدين (١).

وقد ذكر المحقق النائيني هذه الوجوه بعينها ، والشيء الّذي أراد ذكره ،

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١١٢ ـ ١١٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٣١

هو : بيان اختلاف نتيجة دليل الانسداد باختلاف الوجوه. فإذا كان المستند لعدم جواز الإهمال الوجهين الأولين كانت النتيجة حجية الظن. وإذا كان المستند هو الوجه الأخير كانت النتيجة هي التبعيض في الاحتياط (١).

أما صاحب الكفاية ، فقد استدل على هذه المقدمة بالوجهين الأولين ، ولم يستدل بالعلم الإجمالي لبنائه على انحلال العلم الإجمالي وعدم منجزيته لو جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه ـ كموارد الاضطرار إلى بعض الأطراف ـ ، ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز كما التزم به غيره.

ومن هنا أورد على نفسه : بان العلم الإجمالي إذا لم يكن منجزا لم تصح المؤاخذة على مخالفته ، إذ العقاب حينئذ يكون بلا بيان والمؤاخذة عليها مؤاخذة بلا برهان وذلك قبيح عقلا بلا كلام.

وأجاب عنه : بان العلم باهتمام الشارع بالاحكام الواقعية يكون كاشفا بطريق اللم عن إيجاب الاحتياط من قبل الشارع ، فيكون منجزا للواقع ، وبه يرتفع موضوع قبح العقاب بلا بيان ، ويكون العقاب على المخالفة عقابا مع البيان (٢).

وقد يورد عليه :

أولا : بان إيجاب الاحتياط بوجوده الواقعي لا يصلح للبيانية والتنجيز ، وانما يكون كذلك بوجوده الواصل ، وإذا فرض صلاحية العلم باهتمام الشارع لإيصال وجوب الاحتياط وكونه بيانا له ، فهو صالح لبيان الواقع المجهول رأسا بلا احتياج إلى توسيط وجوب الاحتياط.

وثانيا : أن إيجاب الاحتياط إن أريد به الاحتياط التام من جهة المخالفة

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٣٢ ـ ٢٣٤. طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٢

القطعية والموافقة القطعية ، فهو مناف لما يفرض في المقدمة الرابعة من عدم وجوبه أو عدم جوازه على ما سيأتي. وان أريد به الاحتياط الناقص ـ يعني الاحتياط من حيث المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية ـ ، فهو يتنافى مع مسلكه من عدم إمكان التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، فإذا لم تجب هذه لم تحرم تلك (١).

وثالثا : ان فرض وجوب الاحتياط في هذه المقدمة يرفع موضوع المقدمة الرابعة التي يقع البحث فيها في العمل بالاحتياط أو الرجوع إلى الأصول أو التقليد ، إذ لا يبقى مجال لذلك أصلا كما لا يخفى ، لعدم الترديد في طرق الامتثال حينئذ ، وهذا خلف الفرض ، فلا بد من فرض المقدمة الثالثة بنحو يفسح المجال لسائر المقدمات لا بنحو يسد المجال عليها.

فالأولى أن يقال : ان مقتضى ما ذكر من الوجوه هو عدم جواز إهمال امتثال الأحكام والرجوع إلى البراءة بقول مطلق ، فالمقدمة الثالثة تتكفل إثبات هذه الجهة فقط.

أما ما هو المرجع والطريق في مقام الامتثال ، فهذا هو محل الكلام في المقدمتين الأخيرتين.

والعمدة في هذه الإيرادات هو الأخير. أما الإيرادان الأولان ، فهما قابلان للمنع.

أما الأول : فلأنه لا ملازمة بين صلاحية العلم بالاهتمام لبيان وجوب الاحتياط وصلاحيته لبيان الواقع ، إذ المدعى انه يوجب العلم بوجوب الاحتياط مع أنه لا يوجب العلم بالواقع ، فصلاحيته لإيصال وجوب الاحتياط لأجل سببيته للعلم به وهو ليس سببا للعلم بالواقع كما لا يخفى.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٠٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٣

وبعبارة أخرى : وصول وجوب الاحتياط بالعلم به المسبب عن العلم بالاهتمام ، ولا علم بالواقع ـ على الفرض ـ كي يكون منجزا بلا إيجاب الاحتياط.

وأما الثاني : فلأن صاحب الكفاية لا يلتزم بالتفكيك المزبور بلحاظ العلم الإجمالي ، بدعوى ان العلم الإجمالي إما ان يكون علة تامة للمنجزية ، فكما تحرم المخالفة القطعية تجب الموافقة القطعية. واما ان لا يكون علة تامة للتنجيز ، فكما لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية. أما إذا فرض عدم منجزية العلم الإجمالي واستفيد وجوب الاحتياط من دليل خارجي ، فالمتبع في مقدار الاحتياط دليله ، فقد يدل على الاحتياط التام وقد يدل على الاحتياط الناقص والتفكيك بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، كما التزم بلزوم الصلاة إلى جهة واحدة فقط مع اشتباه القبلة لمساعدة بعض الأدلة ، ولكن بشرط ان لا يعلم خروج القبلة عن الجهة التي يصلي إليها ، فالمخالفة القطعية محرمة مع عدم وجوب الموافقة القطعية. فلاحظ والتفت.

وعلى كل ، فالذي تفيده هذه المقدمة عدم جواز إهمال الواقعيات وعدم التعرض لامتثالها رأسا.

وأما المقدمة الرابعة : فهي على ما عرفت تتكفل نفي الرجوع إلى الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي. ونفي الرجوع إلى الأصل في كل مسألة بملاحظتها نفسها. ونفي الرجوع إلى فتوى المجتهد العالم بحكم المسألة.

فيقع الكلام في كل جهة من هذه الجهات ..

أما الاحتياط التام : فان كان يوجب اختلال النظام ـ والأمر كذلك كما يظهر من مراجعة كلام الشيخ في هذا المقام (١) ـ ، فلا كلام في عدم وجوبه. واما

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١١٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٤

إذا كان يوجب العسر والحرج بلا اختلال في النظام ، فقد يحتمل عدم وجوبه استنادا إلى ما دل على نفي العسر والحرج.

ولكن صاحب الكفاية استشكل في ذلك ، بل منعه ، ابتناء على ما اختاره في مفاد أدلة نفي الحرج ونفي الضرر (١).

وبيان ذلك : ان الاحتمالات في مفاد أدلة نفي الضرر ونفي الحرج متعددة ، وما يرتبط منها في المقام اثنان :

أحدهما : ما بنى عليه صاحب الكفاية من انهما يتكفلان نفي الحكم عن الموضوع الضرري أو الحرجي ، فالمراد من الضرر والحرج الموضوع الضرري والحرجي ، فيقصد نفي الحكم عنهما بلسان نفيهما (٢).

الآخر : ما ينسب إلى الشيخ من انهما يتكفلان نفي الحكم الضرري والحرجي ، بمعنى الحكم الناشئ من قبله الضرر والحرج ، فهما يتكفلان نفى السبب بلسان نفي المسبب (٣).

وعليه ، فقد ذكر في الكفاية : انه بناء على ما اختاره في مفاد دليل نفى الحرج لا يكون رافعا لوجوب الاحتياط العقلي. وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي الواقعي لا يستلزم الحرج ، ولذا لا يرتفع لو علم به ، فلا ترفعه أدلة نفى الحرج ، وإنما المستلزم للحرج هو الاحتياط والجمع بين محتملات التكليف ، وهو ليس متعلقا لحكم شرعي بل عقلي ، فلا يقبل الرفع شرعا.

أما بناء على المسلك الآخر ، فأدلة نفي الحرج متكفلة لرفع الحكم الشرعي الواقعي ، لأن العسر ينشأ من قبل التكاليف المجهولة فيرفعها دليل نفي الحرج ، وبرفعها لا يبقى مجال لقاعدة الاحتياط عقلا لارتفاع موضوعها.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٥

ثم ذكر صاحب الكفاية : أنه إذا التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج في المقام ورفع وجوب الاحتياط التام بواسطتها ، لا وجه لدعوى استقلال العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف ، بل لا بد من دليل آخر شرعي يقوم عليه (١).

وهذا أيضا يبتني على ما التزم به في مبحث العلم الإجمالي من أنه إذا كان هناك ما يمنع من تنجيزه التام ـ كالاضطرار إلى ارتكاب أو ترك بعض أطرافه ـ سقط عن المنجزية بالمرة ، فيجوز ارتكاب أو ترك الطرف الآخر غير المضطر إليه (٢). ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز فيما نحن فيه كما ذهب إليه الشيخ (٣) جمعا بين قاعدة الاحتياط ومقتضى العلم الإجمالي وبين دليل نفي العسر والحرج.

وقد استشكل المحقق النائيني في عدم ارتفاع وجوب الاحتياط العقلي إذا استلزم العسر والحرج ، وقدّم لذلك مقدمة طويلة ذكر انها لرفع شبهة غرست في أذهان الطلاب منشؤها ما ذكره في الكفاية. وملخص ما استند إليه في تحقيق الإشكال وجهان :

الأول : ان العسر والحرج كالاضطرار إلى بعض الأطراف ، فكما أنه موجب لعدم وجوب الاحتياط التام في جميع الأطراف كذلك العسر والحرج. فلا يبتنى عدم وجوب الاحتياط التام على حكومة أدلة نفي الحرج على وجوب الاحتياط شرعا.

الثاني : انه يمكن ان تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على وجوب الاحتياط العقلي. ببيان : ان وجوب الاحتياط الّذي يحكم به العقل انما يحكم به لأجل رعاية التكاليف الشرعية ، فإذا كانت رعايتها في حال الانسداد مستلزمة للعسر والحرج كانت أدلة نفيها مقتضية لعدم إلزام العقل بالاحتياط التام ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٢٤ و ٢٥٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٦

فتكون حكومتها على حكم العقل بالاحتياط من شئون حكومتها على الأحكام الشرعية ، فان انتشار الأحكام الواقعية بين الأطراف الكثيرة ولزوم امتثالها هو الّذي استلزم الحرج ، فهو ينتهي بالآخرة إلى الأحكام الشرعية (١).

وفي كلا الوجهين نظر :

أما الأول : فلما أفاده المحقق الأصفهاني من : ان القدرة لازمة في تنجز التكليف ، فإذا اضطر إلى أحد الأطراف اضطرارا عقليا يخرجه عن حد اختياره امتنع تنجز التكليف في حقه لو كان فيما اضطر إليه ، بل يحكم العقل بمعذوريته ، وهكذا الحال لو اضطر إلى غير معين ، فان العقل يرخصه في اختيار أحد الأطراف ويكون معذورا لو صادف الحرام. وليس كذلك العسر والحرج ، فانه ليس من شرائط التكليف أو التنجيز عقلا ، كما انها لا تستلزم رفع التكليف شرعا لعدم كون متعلقه حرجيا ، فلا يمتنع تنجز العلم الإجمالي إذا كان الاحتياط حرجيا (٢).

وأما الثاني : فلأن المقصود منه بيان ان أدلة نفي الحرج ترفع الحكم الناشئ من قبله الحرج ، فهو ليس إشكالا على صاحب الكفاية ، لأنه خلاف مبناه ، وقد أشار إلى المبنى الآخر الملازم لحكومة أدلة نفي الحرج على قاعدة الاحتياط ، فليس أمرا جديدا.

وإن كان المقصود منه بيان انها رافعة لوجوب الاحتياط حتى على مسلك صاحب الكفاية في مقادها. ففيه : ما عرفت ان ما يستلزم العسر هو الاحتياط وهو ليس موضوعا لحكم شرعي كي يقبل الرفع شرعا.

إلا أن يكون نظره إلى ان وجوب الاحتياط وان كان عقليا لكنه ناشئ

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٥٤ ـ ٢٥٥. طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٠١ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٧

عما يقبل الرفع ، لأنه لأجل مراعاة الأحكام الواقعية ، وذلك يصحح رفع وجوب الاحتياط من قبل الشارع.

ولكن ذلك غير صحيح ، لأن ما كان كذلك انما يصح رفعه ووضعه برفع منشئه ووضعه لا برفعه ووضعه مباشرة. لعدم قابليته للرفع إلاّ بلحاظ رفع منشئه. والمفروض ان أدلة نفي الحرج لا تتكفل رفع الأحكام الواقعية لعدم العسر في متعلقاتها فيبقى وجوب الاحتياط على حاله.

هذا ، ولكن الّذي يرد على صاحب الكفاية : ان ما التزم به في مفاد هذه الأدلة له مجال في مثل : « لا ضرر » ونحوها مما كان بهذا التركيب ، ولكن نفي الحرج لم يرد بهذا اللسان أصلا ، وإنما ظاهر دليله مثل قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ان المرفوع نفي الحكم الحرجي ، فان : ( مِنْ حَرَجٍ ) راجعة إلى ما تعلق به الجعل ، فقد أخذ وصفا للمجعول وبيانا له. إذن ، فلو سلمنا لصاحب الكفاية مبناه في مثل دليل نفي الضرر فلا نسلمه في دليل نفي الحرج ، لاختلاف لسان الرفع فيهما ، فلا مجال لعطف أحدهما على الآخر. فالتفت.

هذا ، ولكن الالتزام بذلك لا ينفع في رفع وجوب الاحتياط بدليل نفى الحرج ـ وان قاله صاحب الكفاية على ما تقدم ـ ، وذلك لوجهين ذكرهما المحقق الأصفهاني :

الأول : ان العسر والحرج ليس في امتثال التكليف كي يكون التكليف مرفوعا لكونه سبباً للامتثال الحرجي ، وانما هو في تحصيل العلم بامتثال التكليف بالجمع بين محتملاته ، وهو ليس من مقتضيات التكليف ، وانما هو واجب عقلا من باب ان اشتغال الذّمّة اليقيني يستدعي فراغها اليقيني لوجوب دفع الضرر المحتمل.

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٧٨.

٣٣٨

الثاني : انه لو التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج في مورد يكون العلم بامتثال التكليف مستلزما للحرج ، فما نحن فيه ليس كذلك ، لأن كل تكليف في حد نفسه لا حرج في الجمع بين محتملاته في مقام تحصيل العلم بامتثاله ، وانما الحرج في الجمع بين محتملات مجموع التكاليف وهو ليس من مقتضيات تكليف وحداني ، إذ كل تكليف انما يقتضي الجمع بين محتملاته خاصة لا الجمع بينها وبين محتملات غيره ، وليس مجموع التكاليف تكليفا وحدانيا كي يرتفع لأجل الحرج في الجمع بين محتملاته ، بل حاله حال تكاليف متعددة كان الحرج في امتثال مجموعها ـ كما لو عسر عليه صيام شهر رمضان كله ـ ، فانه لا ترتفع جميع التكاليف بأسرها ، بل اللازم امتثال كل واحد حتى يتحقق العسر فيسقط الباقي. فلاحظ (١).

ولا يخفى عليك ان المناقشة في حكومة دليل نفي الحرج على وجوب الاحتياط ليست بمهمة جدا ، إذ الاحتياط التام يستلزم اختلال النظام ـ كما أشرنا إليه ـ ، ومع ذلك يسقط وجوبه بلا شبهة ولا إشكال. وإنما تعرضنا لتفصيل بعض الكلام في ذلك مماشاة للاعلام قدس‌سرهم ، فالتفت.

وأما ما أفاده في الكفاية من : انه لو التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج ونفى وجوب الاحتياط التام بها ، فلا مجال للالتزام بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف. فقد عرفت انه يبتني على مسلكه القائل بعدم التوسط في التنجيز ـ خلافا للشيخ ـ ، وهو محل كلام بين الاعلام ، ونوكل تحقيقه إلى محله في مباحث العلم الإجمالي (٢).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ١٠١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) راجع ٥ ـ ١٢٦ من هذا الكتاب.

٣٣٩

تنبيه : في قاعدة نفي الحرج :

الملحوظ من كلمات الاعلام هاهنا وفي غير مقام ، المفروغية عن تمامية قاعدة نفي الحرج والعسر إثباتا ، وانه لا كلام لهم فيها ، وإنما يقع البحث في لوازمها وشئونها.

ولكن الأمر الّذي كان يجول في أذهاننا وتحقق لنا أخيرا ، أن هذه القاعدة بهذا اللسان لا دليل عليها وإن كانت من الأمور المسلّمة لدى الفقهاء.

وبما انه لم يعقد لها في مباحث الأصول والفقه عنوان خاص لإيقاع البحث فيها وإنما يشار إليها في بعض المباحث استطرادا ، رأينا من المناسب التعرض لها في هذا المقام لورود ذكرها فيه ووقوع البحث عن تحكيمها وعدمه.

وتحقيق ذلك : ان ما يمكن الاستدلال به على ثبوت هذه القاعدة هو الكتاب ، والسنة ، والإجماع.

ولكن الأخير لا يصلح للاعتماد عليه في مثل هذه المسألة ، لوجود ما يمكن ان يستند إليه الفقهاء في فتواهم ، فلا يكون الإجماع تعبديا.

يبقى الكتاب والسنة :

أما الكتاب : فما يستدل به على هذا المضمون ـ أعني نفي العسر والحرج ـ آيات ثلاث :

الأولى : قوله تعالى في سورة المائدة في آية الوضوء والغسل والتيمم : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١). ومركز الاستدلال هو قوله تعالى : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦.

٣٤٠