منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

واعتبارهم ، وأخرى باعتبار انكشاف ذلك الشيء واقعا لديهم ، فإذا كانت رويّة العقلاء لكون الخبر طريقا من النحو الثاني صحت دعوى الانصراف ، واما إذا كانت من النحو الأول فلا تصح دعوى الانصراف لأن البناء على ان هذا علم لا يجدي في عدم شمول المفهوم له عرفا ، ألا ترى انه هل تصح دعوى انصراف : « لا تكرم الفاسق » عمن اعتبره العقلاء غير فاسق وكان فاسقا في الواقع؟ ولا يخفى ان بناءهم على كون الخبر علما من النحو الأول لا الثاني ، فانهم يعتبرونه علما لا انهم يرونه علما ، فتدبر.

واما الوجه الثاني : فلأن المراد :

ان كان هو الاستناد إلى سيرة العقلاء بنفسها ولو لم تقم حجة شرعية على إمضائها. ففيه : انه لا معنى لانصراف الآيات عن مثل ذلك بعد ان لم تكن السيرة القطعية حجة شرعا إذ أي دخل لهذه السيرة في رفع ظهور الآيات في النهي عن العمل بالظن ، وهل هو الا نظير الاستناد إلى امر علمي أجنبي عن حجية الظن وشئونه؟.

وان أريد الاستناد إلى السيرة التي قام الدليل على إمضائها ـ وفائدة دعوى الانصراف حينئذ مع انها تشترك مع الالتزام بالعموم والتخصيص في الأثر ، وهو رفع اليد عن عموم الآيات هو عدم ملاحظة النسبة بين الآيات الكريمة ودليل حجية السيرة شرعا بناء على الانصراف وخروج المورد عن موضوع الآيات الكريمة ، بخلافه بناء على الالتزام بالعموم والتخصيص فتدبره ـ. ففيه : انه قد عرفت ان الآيات الشريفة تتكفل حكما إرشاديا راجعا إلى نفى حجية الظن رأسا ، فلو أخذ في موضوع الآيات الظن الّذي لم يقم على اعتباره دليل كما يدعى كان من الضرورة بشرط محمول ، إذ يكون مفاد الآيات : ان الظن غير الحجة ليس بحجة ، وهو مستهجن جدا ومما لا محصل له اذن فالموضوع هو طبيعي الظن بجميع افراده.

٣٠١

واما دعوى ان رادعية الآيات عن السيرة على حجية خبر الواحد لا تثبت الا على وجه دائر. فيدفعها وجهان :

الأول : ان التخصيص لا يتحقق إلاّ بقيام الدليل على الحكم الخاصّ ، فهو يتقوم بالوصول ، فمع عدم ثبوت الحكم الخاصّ كان المرجح هو أصالة العموم كما هو الحال في كل عام شك في خروج بعض افراده عن حكمه ولم يقم دليل على الإخراج ، فليس خروج الفرد عن الحكم العام في الواقع يكفي في رفع اليد عن العمل بالعموم كي يكون الشك فيه ملازما للتوقف عن العمل بالعامّ ، بل لا بد في ذلك من قيام الدليل ، فإذا لم يقم الدليل على الإخراج كما فيها نحن فيه كان المتعين الرجوع إلى العام ، إذ لا دليل على الإمضاء كما هو الفرض.

الثاني : ان الدليل المفروض فيما نحن فيه على الإمضاء هو القطع بالتقرير وإمضاء الشارع للسيرة العقلائية. ومن الواضح ان مجرد التشكيك في رادعية الآيات واحتمال رادعيتها يلازم عدم تحقق القطع فلا دليل على التقدير ، ولا يمكن ان نقطع بعدم رادعية الآيات الكريمة إلاّ بنحو دائر.

وتوضيح ذلك : ان حجية الخبر بالسيرة بوجهين :

الأول : بناء العقلاء على معذورية العامل بالخبر ، كبنائهم على حجية الظن الانسدادي ومعذريته فانه يكفي في مقام الامتثال. وهذا لا يرجع إلى ثبوت التقرير الشرعي.

الثاني : إمضاء الشارع لبناء العقلاء ، وهذا يستكشف بطرق متعددة.

أحدها : انه اما ان يكون الشارع قد أمضى بناء العقلاء أو لا ، فالأوّل هو المطلوب. والثاني محال بدون بيان الردع لأنه إغراء بالجهل.

ثانيها : ان نفس عدم الردع ظاهر في تقريره ، نظيره استكشاف تقريره من سكوته في سائر الموارد.

ثالثها : ما يظهر من المحقق الأصفهاني من ان الشارع رئيس العقلاء

٣٠٢

وكبيرهم ، فلا بد ان يكون ديدنه دينهم (١).

رابعها : ان الغرض من التكاليف إيصال المكلفين إلى المصالح وإبعادهم عن المفاسد ، فإذا فرض ان العمل بخبر الواحد كان طبيعيا للعرف والعقلاء إذا لم يردع عنه الشارع بحيث لا يتأتى في ذهنهم التوقف عنه ، يعملون به بمقتضى طبعهم ، فلو لم يردع عنه الشارع فاما ان يكون مقررا لعمل العقلاء فهو المطلوب. وإلاّ استلزم فوات المصالح عليهم ووقوعهم في المفاسد بلا بيان منه ، وهو خلف الغرض من جعل التكاليف. فنفس الغرض الّذي يدعوه إلى بيان التكاليف يدعوه إلى بيان عدم الحجية لو لم تكن حجة بنظره.

وهذا الوجه امتن الوجوه.

وهذه الوجوه وان لم تكن خالية عن المناقشة ..

لأن الأول يندفع : بان الحكم بمعذرية الظن الانسدادي ومنجزيته لم يكن جزافا ، بل كان يبتنى على مقدمات متعددة تسمى بمقدمات الانسداد ، فما هي المقدمات الموجبة لحكم العقلاء بحجية الخبر في الأحكام الشرعية؟!.

واما الثاني فيندفع ، بان الإغراء بالجهل انما يتم لو كان عدم الردع ملازما للقبول في نظر العقلاء ، وهو عين المدعى الّذي يحاول الاستدلال عليه ، فتحقق الإغراء بعدم الردع في طول استكشاف الإمضاء من عدم الردع ، فلا معنى لكونه من طرق استكشافه.

واما الثالث : فهو مجرد الدعوى ، إذ ما الوجه في استكشاف التقرير من السكوت؟ ولا فرق بين هذا المورد وغيره.

واما الرابع : فهو في نفسه تام ، لكن لا ينفع في إثبات المدعى إذ كون الشارع رئيس العقلاء لا يستلزم ان لا يخالف العقلاء في كل امر ونظر ، فلعله

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٩١ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٣

يخالفهم في بنائهم على حجية الخبر ، فما هو الدليل على ان ديدنه ديدنهم في حجية الخبر؟.

الوجه الأخير ، متين جدا.

إلاّ اننا لسنا بصدد إثبات أحدها ، وانّما يهمنا الإشارة إليها لنعرف كيفية حصول الدليل على التقرير أو على حجية الخبر.

وقد ظهر ان ثبوت الحكم العقلي بالحجية أو ثبوت الإمضاء الشرعي معلق على عدم ثبوت الردع من الشارع ، وهو ينتهي إلى الجزم بالإمضاء أو بالحجية العقلائية.

وعليه ، فيظهر ان الدليل على التقدير هو القطع به ، وهو يتحقق عند عمد ثبوت الردع ، فالقطع بالإمضاء معلق على عدم ثبوت الردع.

وإذا كان الأمر كذلك استحال تأثيره في عدم ثبوت الرادع ، وحينئذ لم يكن ذلك دافعا لاحتمال رادعية الآيات ، لأن تحققه يتوقف على عدم ثبوت رادعيتها فكيف يتوهم منعه عن رادعيتها؟ فانه دور واضح.

يبقى شيء : وهو دعوى ان رادعية الآيات الكريمة تتوقف على عدم ثبوت الإمضاء فإذا كان عدم ثبوت الإمضاء ناشئا من الردع بها لزم الدور.

وهذه الدعوى واهية الأساس. ألا ترى انه هل يتوهم نظير هذا التوهم في قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فيقال : ان البيان يتوقف على عدم ثبوت قبح العقاب ، فلا يصلح لرفع قبح العقاب؟. فان ما نحن فيه نظير قبح العقاب بلا بيان تماما ، لما عرفت من ان حكم العقل بثبوت الإمضاء الشرعي معلق على عدم البيان والردع. ثم انه هل يتوقف أحد في عدم استكشاف رضا المالك ببيع داره من سكوته حال البيع مع مقارنته لبيان عام يدل على عدم رضاه بالتصرف في جميع متملكاته؟. فأي فرق بين الموردين وما نحن فيه.

وتحقيق الحال في دفع هذه الدعوى وحلّ مغالطتها : انك عرفت ان

٣٠٤

التخصيص بمعنى رفع اليد عن العموم لا يتحقق بالإمضاء بوجوده الواقعي ، لأنه من شأن الدليل المصادم للعام ـ نعم ، نفس الحكم العام يتضيق ثبوتا بخروج بعض الافراد لكنه لا يرتبط بالتمسك بالدليل الدال على العموم ـ. اذن فما يصلح للتخصيص وما يتوقف التمسك بالعامّ على عدمه هو الدليل الدال على الحكم الخاصّ.

وقد عرفت ان الدليل على الإمضاء الّذي يمكن ان يفرض هاهنا هو القطع به ، وعرفت انه معلق على عدم ثبوت الردع ، فإذا ورد عام يصلح للرادعية وتحقق احتمال الردع به لم يتحقق القطع بالإمضاء قهرا ، فلا دليل على التخصيص الواقعي ، فكانت أصالة العموم بلا مزاحم ، فلا يتحقق حينئذ القطع بالإمضاء.

وبعبارة أخرى : ان العمل بأصالة العموم لا يستلزم مخالفة الدليل ، إذ يرتفع القطع بالإمضاء تكوينا لارتفاع موضوعه ، وهو عدم الدليل على الردع ، كما هو شأن الوارد بالنسبة إلى المورود.

اما عدم العمل بأصالة العموم ، فهو اما ان يكون بلا وجه أو على وجه دائر إذا استند إلى ثبوت الإمضاء لأنّه ـ أعني ثبوت الإمضاء ـ يتوقف على عدم العمل بالعموم. فما يقال في تقدم الدليل الوارد على المورود يقال بعينه هاهنا.

اذن فالالتزام برادعية الآيات عملا بأصالة العموم لا محذور فيه. وما ادعاه في الكفاية من استلزامه الدور كلام صوري لا حقيقة له كما بينّاه بوضوح.

وعليه فيتلخص إشكالنا على الاستدلال بالسيرة في وجهين :

الأول : عدم ثبوت السيرة صغرويا.

الثاني : ثبوت الردع عنها بالآيات الكريمة. فلاحظ.

وقد قرب المحقق الأصفهاني دورية تخصيص الآيات بالسيرة : بان الأمر يدور بين ما هو تام الاقتضاء وما هو غير تام الاقتضاء ، ولا يمكن ان يتقدم ما

٣٠٥

هو غير تام الاقتضاء على ما هو تام الاقتضاء. بيان ذلك : ان العام حجة بالذات في مدلوله العمومي لظهوره فيه ، وتقديم الخاصّ عليه من باب تقديم أقوى الحجتين ، بخلاف السيرة فان أصل حجيتها تتقوم بعدم الردع الفعلي ، فمقتضى الحجية في السيرة إثباتا متقوم بعدم الردع الفعلي.

وعليه ، فمقتضى الحجية في العام تام إثباتا وهو الظهور ، ولا مانع عنه سوى السيرة التي يتوقف مانعيتها على تمامية اقتضائها ، وهو يتوقف على عدم رادعية الآيات عنها ، وعدم رادعيتها مع تمامية اقتضائها يتوقف على مانعية شيء ولا مانع سوى السيرة وهي لا تصلح للمانعية إلاّ بنحو دائر كما عرفت.

ثم انه قدس‌سره ناقش هذا الكلام مبنى وبناء ..

اما بناء فلأنه انما يتم لو كان عدم تمامية الاقتضاء مستندا إلى غير تأثير تام الاقتضاء ، وإلاّ لكان صالحا للمزاحمة ، وما نحن فيه كذلك ، فان عدم تمامية الاقتضاء في السيرة مستند إلى تأثير العام ورادعيته فعلا ، فكل من تأثير العام والسيرة منوط بعدم تأثير الآخر ، إلاّ ان إناطة تأثير العام بعدم حجية السيرة من إناطة المشروط بشرطه ، وإناطة تأثير السيرة بعدم حجية العام من إناطة المقتضي بمقومه ، وكلاهما في المنع عن فعلية التأثير على حد سواء.

واما مبناً ، فلأنه انما يتم لو كان للعقلاء في موارد التخصيص بناءان بناء عام وبناء خاص فيقال بالعمل بالبناء العام حتى يثبت البناء الخاصّ ، وليس الأمر كذلك ، بل هناك بناءان خاصّان أحدهما في مورد الخاصّ والآخر يخالفه في غير مورد الخاصّ.

وعليه ، فحيث ان حجية العام في مدلوله ببناء العقلاء ، فلا يمكن ان يكون لهم بناء على العموم وبناء مخصص له على حجية خبر الثقة ، بل لو ثبت البناء منهم على حجية خبر الثقة لم يكن منهم بناء على العموم بالمرة ، بل البناء منهم رأسا على العموم في غير مورد الخبر ، فلا مقتضى للحجية في العام في مورد

٣٠٦

خبر الثقة (١). هذا ملخص ما ذكره قدس‌سره.

وقد عرفت بما لا مزيد عليه تقريب دورية مانعية السيرة عن العموم بلا احتياج إلى التقريب المزبور في كلامه ، وإعطاء المطلب صورة برهانية دقيقة اصطلاحية ، وعرفت أيضا عدم دورية مانعية الآيات ورادعيتها عن السيرة.

واما ما ذكره أخيرا من المناقشة في مبنى كلامه ، فهو غير سديد ، لأن عدم تعدد البناء العام والخاصّ من قبل العقلاء انما هو في مورد يتنافى فيه البناءان ولا يمكن الجمع بينهما فيقال : انه لم ينعقد البناء العملي العام رأسا بل انعقد على غير الخاصّ.

اما مع عدم التنافي وإمكان الجمع عملا بينهما فلا موضوع لما ذكر.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن البناء على العموم يرجع إلى البناء على ان مراد الشارع النهي عن مطلق الظن وعدم حجية جميع افراده ، ومنها خبر الواحد ـ لأنّ معنى أصالة الظهور هو تشخيص مراد المتكلم من طريق الظاهر ـ.

وهذا البناء العملي منهم لا يتنافى بوجه من الوجوه ببنائهم العملي ـ بما انهم عقلاء ـ على حجية خبر الواحد.

وهذا واضح جدا فلا حاجة إلى إطالة البيان فيه.

وقد نفي المحقق العراقي (٢) والمحقق النائيني ـ على ما في تقريرات النائيني (٣) ـ رادعية الآيات عن السيرة : بأن عمل العقلاء بخبر الواحد يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف بنظرهم ورؤيته علما فلا تشمله آيات الردع عن غير العلم لخروجه موضوعا عنها وانصرافها عنه بعد عدم التفات العقلاء إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع. وقد اعترف الأول بعدم صحة دعوى دورية مانعية الآيات

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٩٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ١٣٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٩٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٠٧

عن السيرة لو أغمض النّظر عن دعوى الانصراف وخروج السيرة موضوعا عن الآيات الكريمة.

وقد عرفت فيها تقدم تقريب دعوى الانصراف والمناقشة في ذلك ، فلا نعيد وراجع ما تقدم تعرف عدم صحة هذه الدعوى لهذين العلمين.

واما ما ورد في بعض الكلمات من دعوى حكومة السيرة على الآيات لاعتبار الخبر علما لدى العقلاء ، فتترتب عليه آثاره (١). ففيه :

أولا : انه يبتنى على تصور الحكومة في الدليل اللبي وذلك يبتنى على تفسير الحكومة بالتصرف بموضوع الدليل الآخر توسعة وضيقا ونفيا أو إثباتا ، بحيث تشمل موارد اعتبار امر من افراد موضوع الحكم في الدليل الآخر الكاشف عن كون موضوع الحكم أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري.

اما إذا فسرت بنظر أحد الدليلين بمدلوله اللفظي إلى الدليل الآخر وتكفّله شرح الدليل الآخر فلا مجال لتوهم حكومة الدليل اللبي المتكفل للاعتبار على الدليل اللفظي. وتحقيق ذلك في محله.

وثانيا : انه لو سلمت الحكومة بالنسبة إلى الدليل اللبي ، فلا معنى لحكومة الاعتبار العقلائي على الدليل الشرعي.

إذ أي وجه لترتيب أو نفي الأثر الشرعي الثابت بالدليل على اعتبار العقلاء؟ ، فان الحكومة انما تصح إذا كان المعتبر هو جاعل الحكم نفسه ، كي يقال ان مقتضى اعتباره كون موضوع الحكم الأعم من الوجود الحقيقي والاعتباري ، اما إذا كان المعتبر غير جاعل الحكم فلا يصلح ذلك للحكومة. فاعتبار العقلاء الخبر علما لا يجدي في التصرف في الدليل الشرعي فلاحظ جيدا.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالسيرة.

__________________

(١) قد يستفاد من كلمات المحقق النائيني. كما انه صريح السيد الخوئي في دراساته. ( منه عفي عنه ).

٣٠٨

وأما العقل ، فقد استدل بوجوه :

الوجه الأول : ما اعتمده الشيخ رحمه‌الله سابقا ، وهو إنا نعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الأخبار المتضمنة للأحكام ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي لزوم الاحتياط في جميع الأخبار وهو غير ممكن ، فلا بد من العمل بمظنون الصدور لأنه أقرب إلى الواقع من غيره.

وقد بين الشيخ رحمه‌الله بتفصيل الوجه في تحقق العلم الإجمالي المذكور ، وملخصه هو : ان ملاحظة اهتمام الرّواة في رواية الحديث وضبطه والاهتمام في تدوينه والمحافظة عليه والتأكد من صحته توجب حصول العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار التي بأيدينا.

وقد ذكر قدس‌سره شواهد متعددة على الاهتمام والضبط فلاحظها.

وقد استشكل الشيخ رحمه‌الله في هذا الوجه لأسباب ثلاثة :

الأول : ان وجوب العمل بالأخبار الصادرة انما هو لأجل اشتمالها على الأحكام الواقعية التي يجب امتثالها ، فالعمل بالخبر الصادر من جهة كشفه عن حكم الله تعالى لا بما أنه خبر.

وعليه ، فالعلم الإجمالي بصدور كثير من الاخبار يرجع في الحقيقة إلى العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعية في ضمن هذه الاخبار ، والعلم الإجمالي بوجوده تكاليف واقعية لا يختص بالأخبار ، بل نعلم إجمالا أيضا بوجود التكاليف في ضمن الأخبار وغيرها من الأمارات الظنية كالشهرات والإجماعات المنقولة ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي اما الاحتياط ان أمكن ، أو العمل بكل ما يفيد الظن بالحكم الشرعي سواء كان خبرا أم غير خبر ، فلا اختصاص للحجية الثابتة بهذا الظن بالخبر.

٣٠٩

ثم إنه قدس‌سره تعرض إلى نفي دعوى انحلال العلم الإجمالي الكبير ـ وهو ما كانت أطرافه مطلق الأمارات الظنية خبرا كانت أم غيره ـ بواسطة العلم الإجمالي الصغير ـ وهو ما كانت أطرافه خصوص الأخبار ـ. ببيان : ان انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير انما يكون في صورة عدم بقاء العلم الإجمالي الكبير لو فرض انا عزلنا من أطراف العلم الإجمالي الصغير بمقدار المعلوم بالإجمال. أما إذا فرض بقاء العلم الإجمالي بين الباقي من أطراف العلم الإجمالي الصغير وسائر أطراف العلم الكبير لم يكن وجود العلم الإجمالي الصغير مؤثرا في انحلال العلم الإجمالي الكبير ، فيكون الكبير منجزا.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانه لو عزلنا من الاخبار طائفة بمقدار المعلوم صدوره من الأخبار ، كان هناك علم إجمالي بوجود أحكام واقعية بين باقي الأخبار وسائر الأمارات الظنية ، وهذا أمر وجداني ، إذ لا يستطيع أحد ان ينكر عدم مطابقة جميع هذه الأطراف للواقع.

إذن فالعلم الإجمالي الكبير لا ينحل بالعلم الإجمالي الصغير ، فيكون منجزا ، وقد عرفت أن أثره العمل بكل مظنون من الأحكام ، دون خصوص الاخبار المظنونة الصدور.

الثاني : ان مقتضى الوجه المذكور هو لزوم العمل بالخبر الّذي يظن بمضمونه سواء كان مظنون الصدور أو لا ، إذ عرفت أن جهة العمل بالخبر هو كونه مشتملا على حكم الله الواقعي ، وهو يقتضي كون المناط الظن فيه لا في الصدور.

الثالث : ان مقتضى هذا الدليل لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف دون النافي ، كما انه يقتضى العمل به من باب الاحتياط ، فلا ينهض لإثبات الحجية بنحو يصلح الخبر لمصادمة ظواهر الكتاب أو السنة القطعية. والمقصود في حجية الخبر هو إثبات كونه دليلا متبعا في قبال الأصول اللفظية والعملية ، وسواء كان

٣١٠

مثبتا للتكليف أو نافيا له.

هذا ما ذكره الشيخ في تقريب هذا الوجه والاستشكال فيه (١).

وقد نقله صاحب الكفاية بنحو لا يرد عليه الوجهان الأولان من الوجوه التي ذكرها الشيخ. فقرّ به : بنا نعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الأئمة الأطهار بمقدار واف بمعظم الفقه ، بحيث لو علم تفصيلا ذلك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيليّ بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا ، والشك البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائر الأمارات. ومقتضى ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة. واما النافي منها ، فان كان على خلافه أصل يثبت التكليف لم يجز العمل به ، بل يلزم الرجوع إلى الأصل. وان لم يكن على خلافه أصل مثبت للتكليف جاز العمل به.

هذا ما أفاده في الكفاية (٢).

ولوضوح الفرق بينه وبين ما أفاده الشيخ نشير إشارة إجمالية إلى موارد الانحلال ، فنقول : إن الانحلال ..

تارة : يكون بواسطة العلم التفصيليّ بالمعلوم بالإجمال ، وذلك هو الانحلال الحقيقي.

وأخرى : يكون بواسطة قيام أمارة معتبرة على إثبات المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ، وذلك يستلزم الانحلال الحكمي.

وهذان الموردان مما لا ريب في تحقق الانحلال بهما على أي مسلك من مسالك تنجيز العلم الإجمالي ، نعم هو مسلم في الجملة ، ويقع الكلام في جهاته من حيث تقدم العلم التفصيليّ أو تأخره أو تقدم المعلوم أو تأخره ، وهو في محله.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٠٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١١

وثالثة : يضم إلى العلم الإجمالي علم إجمالي آخر في بعض أطراف العلم الأول ، كأن يعلم إجمالا بوجود النجس في هذه الأواني الثلاثة ، ويعلم إجمالا بوجود النجس في إناءين منها. وانحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير محل إشكال ، والّذي اخترناه عدم الانحلال به ، لأن نسبة العلمين إلى الأطراف المشتركة متساوية ، فإجراء الأصول في جميع أطراف العلم الكبير يستلزم المعارضة.

ولو قيل بالانحلال فهو انحلال حكمي لا حقيقي كما لا يخفى.

والّذي يذهب إليه الشيخ رحمه‌الله هو الانحلال ، وقد جعل الضابط في تحقق الانحلال به هو : عدم زيادة المعلوم بالإجمال الكبير على المعلوم بالإجمال الصغير ، بحيث كان المعلوم الكبير محتمل الانطباق على المعلوم الصغير ، وطريق معرفة ذلك هو ما تقدمت الإشارة إليه ، من انه لو عزلنا من أطراف العلم الإجمالي الصغير بمقدار المعلوم بالإجمال ، وضممنا باقي أطراف إلى باقي أطراف العلم الإجمالي الكبير ، فان بقي لدينا علم إجمالي لم يكن المورد من موارد الانحلال ، وإن لم يبق كان من موارد الانحلال.

وعليه ، فاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال بالعلم الكبير على المعلوم بالإجمال بالعلم الصغير يكفي في تحقق الانحلال. وقد عرفت انه قدس‌سره ذهب إلى ان ما نحن فيه مما لا ينطبق عليه ضابط الانحلال ، بل ينطبق عليه ضابط عدم الانحلال ، كما تقدم تقريبه.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الظاهر من صاحب الكفاية انه يلتزم بكبرى الانحلال بهذا الضابط الّذي ذكره الشيخ رحمه‌الله ـ كما يشير إليه قوله : « بحيث لو علم تفصيلا ... » (١) ـ ، وانما اختلافه مع الشيخ صغروي ، بمعنى أنه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٢

يرى ان المورد من موارد الانحلال وان ضابط عدم الانحلال لا ينطبق عليه.

إذن فلا بد من إيقاع الكلام في هذه الجهة ـ اما الكبرى فمحل الكلام فيها ليس هذا المقام ، ونتكلم هاهنا على تقدير تسليم الكبرى ـ لنعرف أن الحق مع الشيخ أو مع صاحب الكفاية.

وقد عرفت ان دعوى الشيخ رحمه‌الله في تطبيق ضابط عدم الانحلال فيما نحن فيه وجدانية ، فانه إذا عزلنا طائفة من الأخبار بمقدار المعلوم صدوره بالإجمال ، وضممنا باقي الاخبار إلى سائر الأمارات يحصل العلم الإجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، وهذا مما لا يمكن ان ينكره فقيه ، إذ هل يستطيع أحد أن يدعى ان جميع هذه الأمارات وباقي الأخبار غير مطابقة للواقع؟ كيف؟ وقد ادعي وجود العلم الإجمالي في خصوص الأمارات غير الاخبار.

إذن فكيف يدعي صاحب الكفاية الانحلال مع تسليمه الكبرى وضابطها؟.

والّذي نستطيع ان نقوله في إيضاح الوجه الّذي التزم به صاحب الكفاية بالانحلال ، مع فرض التزامه بثبوت العلم الإجمالي ، مع عزل طائفة من الاخبار ، وبه يخرج كلام صاحب الكفاية عن مجرد الدعوى إلى كلام رصين متين ، هو : ان عدم الانحلال لا يتقوم لمجرد وجود علم إجمالي مع عزل بعض أطراف العلم الإجمالي الصغير ، بل يتقوم بوجود علم إجمالي زائد على ما هو المعلوم بالإجمال الصغير ، بحيث لا يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال الكبير على المعلوم بالإجمال الصغير ، وإلا فمع احتمال انطباقه ينحل العلم الكبير كما أشرنا إليه ، وما نحن فيه كذلك ، فان الّذي لا يستطيع ان ينكره الفقيه بعد عزل طائفة من الاخبار هو وجود علم إجمالي بوجود حكم واقعي بين الاخبار الباقية وسائر الأمارات ، للعلم بمطابقة بعضها للواقع. ولكن هذا لا يستلزم بمجرده عدم الانحلال ، بل الّذي يستلزمه هو ان يكون هذا المعلوم بالإجمال مقدارا زائدا على المعلوم

٣١٣

بالإجمال الّذي عزلنا طائفة من الاخبار بمقداره ، وهذا مما لا علم لدينا به ، إذ نحتمل قريبا أو بعيد ان تكون تلك الأمارات المطابقة للواقع متفقة في المضمون مع الاخبار الصادرة المتضمنة للتكاليف ولا علم لدينا بان من الأمارات التي ليس على طبقها خبر صادر أصلا ما هو موافق للواقع ومصادف له ، فتطبيق ضابط عدم الانحلال فيما نحن فيه ناشئ من الخلط بين العلم بمطابقة بعض الأمارات وباقي الاخبار للواقع وبين العلم بثبوت تكليف زائد بينها على المقدار المعلوم بالإجمال بين الاخبار من التكاليف. والّذي ينفعهم هو الثاني دون الأول ، والموجود هو الأول دون الثاني. إذن فالمعلوم بالإجمال الكبير محتمل الانطباق على المعلوم بالإجمال الصغير فيما نحن فيه ، فلا يكون العلم الإجمالي الكبير منجزا ، بل دعوى الانحلال دعوى صحيحة.

وقد أخذ صاحب الكفاية هذه الجهة في ضمن الدليل ، فلا يرد عليه الوجه الأول من وجوه الشيخ.

وأما الثاني من الوجوه ، فهو يرد على الاستدلال بالتقريب الّذي ذكره الشيخ له من لزوم العلم بمظنون الصدور بلحاظ تطبيق مقدمات الانسداد في الاخبار ، ولكن صاحب الكفاية لم يذهب إلى ذلك ، بل ذهب ـ في تقريبه ـ إلى لزوم العمل بجميع الأخبار المثبتة ، فلا موضوع للوجه الثاني من إيرادات الشيخ حينئذ.

وأما الوجه الثالث ، فقد اتفق صاحب الكفاية مع الشيخ فيه ، فهو إشكال مشترك الورود على كلا التقربين ، وهو ما عرفت من ان هذا الدليل لا ينهض على إثبات حجية الخبر بالمعنى المطلوب في باب الحجية من صلاحيته لتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وغير ذلك. بل إذا كان هناك إطلاق ينفى التكليف جاز العمل به في قبال الخبر المثبت له في بعض افراده وبالعكس ، بل يلزم العمل بالأصل العملي إذا كان مثبتا للتكليف ولو كان على خلافه خبر

٣١٤

ينفيه ، إذ لزوم العمل بالأخبار من باب الاحتياط وهو لا يؤسس الحجية بالمعنى المطلوب.

ثم ان الشيخ ذكر لزوم العمل بالخبر المثبت دون النافي في ضمن الإشكال على هذا الدليل ، ولكن صاحب الكفاية جعله من متممات الدليل. فالتفت.

ثم ان ما ذكره صاحب الكفاية من الترديد في جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في قبال الخبر النافي له لا يرجع إلى الترديد في الكبرى ، بل يرجع إلى الترديد في الصغرى ، وهي انه هل المورد من موارد جريان الاستصحاب أو من موارد عدم جريانه ، نظرا للاختلاف الواقع في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، وان عدم جريانه لقصور المقتضي أو لوجود المانع؟. فلاحظ.

هذا تحقيق الحال في هذا الوجه.

وقد أطال المحقق النائيني الحديث فيه مما لا يهم التعرض إليه لعدم دخله الكبير فيما نحن فيه.

ويظهر من صدر كلامه عدم تسليم دعوى الانحلال ، ومن ذيله تسليم دعوى الانحلال ، وهو تهافت واضح. فراجع كلامه (١).

الوجه الثاني : ما نسب إلى صاحب الوافية مستدلا به على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة ـ كالكتب الأربعة ـ مع عمل جمع به من دون رد ظاهر له ، وهو : انا نقطع ببقاء التكاليف إلى يوم القيامة ولا سيما بالأصول الضرورية ، كالصلاة والزكاة والحج والمتاجر ونحوها ، مع ان جل شرائطها واجزائها وموانعها لا تثبت إلاّ بالخبر غير القطعي ، بحيث انا لو تركنا العمل بخبر الواحد لقطعنا بخروج حقائق هذه الأمور التي نأتي بها عن حقيقتها

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ١٩٩ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣١٥

الواقعية ، فنعلم إجمالا بثبوت الاجزاء والشرائط في ضمن هذه الاخبار (١).

واستشكل الشيخ رحمه‌الله فيه لسببين :

الأول : ان العلم الإجمالي بوجود الاجزاء والشرائط حاصل بملاحظة جميع الأخبار لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكر ، وهو غير منحل بالعلم الإجمالي بوجودها في خصوص هذه الأخبار ، لعين ما تقدم بيانه في الوجه الأول من وجوه الإشكال على الدليل الأول. فاللازم هو ملاحظة العلم الإجمالي الكبير والعمل بما يقتضيه حكم العقل بالنسبة إليه (٢).

وأورد عليه في الكفاية بما تقدم من : ان العلم الإجمالي الكبير يحتمل ان يكون المعلوم به منطبقا على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير ، ولذا لو علم بما هو الصادر من بين الاخبار المخصوصة انحل العلم الإجمالي الحاصل بين جميع الاخبار.

وعليه ، فيكون العلم الإجمالي الصغير موجبا لانحلال العلم الكبير (٣).

ولا يخفى ان دعوى الانحلال تتوقف على ان يكون المعلوم بالإجمال الصغير بقدر الكفاية بحيث لا يعلم بوجود اجزاء أخر أو شرائط في ضمن غيرها من الاخبار ، كما أشار إلى ذلك في الكفاية. وهذا أمر وجداني يختلف باختلاف الأنظار. فالتفت.

الثاني : ان مقتضى هذا الوجه هو لزوم العمل بالخبر المثبت للجزئية أو الشرطية دون النافي لهما.

وذكر صاحب الكفاية : أن الأولى الإيراد عليه ، بان مقتضاه الاحتياط

__________________

(١) الوافية ـ ٥٧.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٠٥ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٦

بالعمل بالأخبار المثبتة إذا لم يقم على خلافها دليل معتبر من عموم أو إطلاق (١) ، وليس مقتضاه حجية الخبر بالمعنى المرغوب بحيث يكون صالحا لمصادمة دليل آخر على خلافه فيقيده أو يخصصه أو غير ذلك. كما لا يجوز العمل بالخبر النافي إذا كان في قباله دليل على الجزئية أو الشرطية ولو كان ذلك الدليل أصلا عمليا ، إذ لا يثبت هذا الوجه حجية الخبر بنحو يرفع موضوع الأصل ، بل العمل به من باب الاحتياط وهو لا يتصور في موارد النفي.

وما ذكره صاحب الكفاية متين جدا فلا بأس بالالتزام به.

الوجه الثالث : ما نسب إلى المحقق التقي صاحب الحاشية على المعالم (٢).

وملخص ما أفاده قدس‌سره ـ كما ذكره صاحب الكفاية ـ : انا نقطع بأننا مكلفون بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ولزوم العمل بهما. فإن تمكنا من الرجوع إليهما بنحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه تعين ذلك ، وإلا فلا محيص عن الرجوع إلى الظن بالصدور أو بالاعتبار (٣).

وناقشه الشيخ رحمه‌الله بما محصله : ان المراد بالسنة إن كان نفس قول المعصوم وفعله وتقريره ، فلزوم الرجوع إليها لا يختص بما إذا ثبتت بالخبر ، بل بكل طريق من الطرق ، فإذا لم يمكن العلم بها تعين الرجوع إلى كل ما يحصل الظن بها خبرا كان أو غيره من الأمارات الظنية ، فيكون مرجع ما ذكره إلى دليل الانسداد. وان كان المراد بالسنة الاخبار الحاكية عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فهو مضافا إلى انه خلاف الاصطلاح ، راجع إلى الوجه الأول ، إذ العلم

__________________

(١) والوجه فيه : ما يقرر في مبحث العلم الإجمالي من انه إذا قام على بعض أطرافه بالخصوص دليل جاز العمل به ولو كان ذلك الدليل من الأصول العملية ، ولا يقتضي العلم الإجمالي نفيه ، وسيأتي توضيحه في محله إن شاء الله تعالى ( منه عفي عنه ).

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. هداية المسترشدين ـ ٣٩٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٧

بلزوم الرجوع إلى الاخبار ولو لم يحصل العلم منها برأي المعصوم عليه‌السلام انما هو لأجل العلم الإجمالي بصدور بعضها فيرجع إلى الوجه الأول ، وإذا كان منشؤه العلم الإجمالي بمطابقة بعضها للأحكام الواقعية رجع هذا الوجه إلى دليل الانسداد.

وخلاصة المناقشة : انه على تقدير يرجع إلى دليل الانسداد ، وعلى تقدير آخر يرجع إلى الوجه الأول ، فليس هو وجها مستقلا في قبال الوجوه الأخرى (١).

واستشكل صاحب الكفاية فيما ذكره الشيخ : بان مراده يمكن ان يكون شقا ثالثا لا يرجع كلامه معه لا إلى دليل الانسداد ولا إلى الوجه الأول ، وهو ثبوت العلم الإجمالي بلزوم الرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة. وبعبارة أخرى : ثبوت العلم الإجمالي بحجية بعض الروايات من دون تمييز ، فينفصل كلامه عن دليل الانسداد وعن الدليل الأول كما لا يخفى.

وقد تنظر صاحب الكفاية فيه ـ ونعم التنظر ـ : بان مقتضى هذا العلم الإجمالي ليس الرجوع إلى الظن ، بل لزوم الرجوع إلى ما هو متيقن الاعتبار من بين الاخبار ـ لوجوده بينها جزما كالصحيح الأعلائي مثلا ـ ، فان وفى انحل به العلم الإجمالي. وإلا أضيف إليه متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره كخبر الثقة مثلا بالإضافة إلى الضعيف ، إذا كان هناك متيقن بالإضافة وبه ينحل العلم الإجمالي ، ولو لم يكن متيقن بالإضافة ، فاللازم الاحتياط بالعمل بالخبر المثبت إذا لم يقم على خلافه دليل ، إذ لا ينهض هذا الوجه على إثبات حجية الخبر بالمعنى المرغوب المطلوب ، بل ينهض على لزوم العمل به من باب الاحتياط فلا يصادم الدليل على خلافه. واما الخبر النافي فيجوز العمل به إذا لم يقم على

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٠٥ ـ الطبعة الأولى.

٣١٨

خلافه دليل على ما عرفت (١).

ونتيجة ذلك كله : انه لا دليل من العقل يقضي بحجية الخبر بالخصوص بحيث يصادم سائر الحجج المعتبرة ، فالوجوه العقلية كغيرها من وجوه الاستدلال على حجية الخبر.

ويتحصل لدينا : انه لا دليل على حجية الخبر بالخصوص.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٩
٣٢٠