منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

القطع

٢١
٢٢

القطع

ويقع الكلام فيه من جهات :

الجهة الأولى : في وجوب اتباع القطع ومنجزيته.

وقد ذكر صاحب الكفاية انه لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ، ولزوم الحركة على طبقه جزما ، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته وعذرا فيما أخطأ قصورا (١).

وكلامه ظاهر في ان للقطع أثرين عقليين. أحدهما : وجوب متابعة القطع ، والآخر : منجزيته بمعنى استحقاق العقاب على مخالفته.

أما الأثر الأول : وهو وجوب متابعة القطع ، فالذي تصدى إلى إطالة الكلام في البحث هذا وتحقيقه بتفصيل وتشريح هو المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ، والّذي أفاده قدس‌سره مما هو مورد الحاجة : هو ان المقصود من وجوب العمل عقلا هو إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة المقطوع ، لا أن هناك بعثا وتحريكا من العقل أو العقلاء نحو المقطوع ، إذ ليس شأن القوة العاقلة الا إدراك الأشياء لا البعث والتحريك.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٣

ثم ان تأثير القطع في تنجز التكليف واستحقاق العقاب ليس أمرا ذاتيا قهريا ، بل هو امر جعلي عقلائي وذلك لأن استحقاق العقاب على المخالفة الواصلة ، من باب انها خروج عن زي الرقية والعبودية ، فتكون هتكا للمولى وظلما له ، وليس حسن العدل وقبح الظلم ـ بمعنى استحقاق المدح والذم عليه ـ من الأحكام العقلية الواقعية ، بل من الأحكام العقلائية ، وهي ما تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظا للنظام.

ويعبر عن ذلك بالقضايا المشهورة في قبال المدركات العقلية الداخلة في القضايا البرهانية. وقد علل عدم دخول هذا الحكم العقلي في القضايا البرهانية ، بان مواد القضايا البرهانية منحصرة في الضروريات السّت ، وهي الأوليات والحسّيات والفطريات والتجربيات والمتواترات والحدسيّات ، وليس حسن العدل وقبح الظلم من أحدها فيتعين ان يكون داخلا في القضايا المشهورة (١).

وبالجملة : يختار قدس‌سره ان استحقاق العقاب امر جعلي من قبل العقلاء ، ورتّب على ذلك قابلية هذا الحكم للمنع شرعا كسائر مجعولات العقلاء وبناءاتهم.

ولا يخفى ان هذا له أثر كبير في منجزية العلم الإجمالي وإمكان جعل الأصول في أطرافه ، ولأجل ذلك لا بد من تحقيقه فنقول :

ان ما ذكره من ان الحكم بحسن العدل بمعنى استحقاق المدح عليه والحكم بقبح الظلم بمعنى استحقاق الذم عليه ليس من الأحكام العقلية الداخلة في القضايا البرهانية ، بل من الداخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء وإنظارهم ، فيكون حكما مجعولا لا امرا واقعيا. ـ ما ذكره بهذا الصدد ـ غير صحيح ، وذلك لأن المراد من نظر العقلاء ليس إدراكهم وإلا كان

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٤

قبح الظلم امرا واقعيا ، بل المراد من النّظر ما يساوق بناء العقلاء في مقام العمل. وعليه فنقول : ان بناء العقلاء العملي يمتنع ان يكون عن ارتجال ، فان ذلك ينافى مع فرض كونهم عقلاء ، بل لا بد ان ينشأ بناءهم عن امر راجح ، بحيث يكون ما بنوا عليه من مصاديقه أو أسبابه.

وعليه ، فإذا فرض ان بناءهم على قبح الظلم ناش عن امر راجح كحفظ النظام مثلا فننقل الكلام في ذلك الأمر الراجح ، فهل يكون رجحانه وحسنه أمرا عقليا أو عقلائيا؟ فعلى الثاني ، ننقل الكلام فيما دعى إليه ويتساءل عن أنه امر عقلي واقعي أو عقلائي جعلي وهكذا. وعلى الأول ، يلزم ان لا يكون حسن العدل وقبح الظلم أمرا عقلائيا مجعولا ، بل أمرا عقليا واقعيا ، لأنه من مصاديق العنوان الراجح ، فالعدل حفظ النظام وهو حسن والظلم إخلال به وهو قبيح.

ثم انا نرى أن حسن العدل وقبح الظلم ثابت ولو لم يكن مستلزما لإخلال النظام ، فكيف يقال : ان حسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلائية ومما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع؟.

والتحقيق ان يقال : ان النّفس تشتمل على قوى متعددة كالقوة الغضبية والقوة الشهوية ، ولكل من هذه القوى ملائمات ومنافرات بالإضافة إليها وبلحاظها ، فالانتقام مما يلائم القوة الغضبية وينافرها عدم الانتقام. ومن قوى النّفس القوة العقلية ولها ملائمات ومنافرات أيضا. فالنفس تدرك ان هذا الأمر مما يلائم القوة العقلية وذلك ينافرها.

ولا يخفى ان شأن القوة العاقلة تعديل جميع القوى وتنظيمها بحساب العقل ، وعليه فنقول : ان العدل يلائم القوة العقلائية والظلم ينافرها ، فمعنى كون حسن العدل وقبح الظلم امرا عقليا ، ان العدل يلائم القوة العقلية والظلم ينافرها ، فالتحسين والتقبيح يرجعان إلى ملائمة القوة العاقلة ومنافرتها. فكما ان

٢٥

الانتقام يلائم القوة الغضبية فالعدل يلائم القوة العقلية.

ومما يشهد لذلك : ان نفرة العقل من الظلم ثابتة ولو لم يرتبط بالإنسان أو بالنظام بأي ارتباط ، فمثلا لو سمعنا بان أحدا مثّل بغيره ولم يمت لنا ذلك الغير بصلة ، وكان تمثيله به في مكان بعيد عن الأنظار بحيث لا يوجب الجرأة من الغير ، فلا إشكال في حصول التنفر من هذا العمل بحساب العقل لو كان من دون حق وعدم التنفر منه لو كان بحق.

وبالجملة : الّذي نلتزم به حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم بمعنى ملائمة الأول ومنافرة الثاني للقوة العاقلة.

والتعبير بحكم العقل ، تعبير عرفي على حد التعبير بحكم القوة الغضبية على الإنسان بلحاظ ما للقوة من اقتضاء العمل الملائم. وليس المراد ما قد يظهر من بعض العبارات من ان له بعثا وتحريكا وزجرا كأحكام الشارع. فانه ليس شأن العقل هو البعث والزجر ، بل شأنه إدراك الأشياء.

وإذا ثبت حكم العقل بهذا المعنى بحسن العدل وقبح الظلم ، فهو يحكم بحسن الإطاعة وقبح المعصية من باب ان المعصية ظلم للمولى والإطاعة عدل ، ولكن هذا يثبت مترتبا على ثبوت المولوية والعبودية والإذعان بها ليثبت حق الإطاعة على العبد ، فتكون معصيته ظلما ، ففي أي مورد ثبت ذلك ترتب عليه الحكم العقلي.

ونتيجة ما ذكرناه : يثبت الأثر الأول الّذي ذكره صاحب الكفاية للقطع وهو وجوب متابعة القطع. إذ عدم متابعة القطع معصية للتكليف وقد عرفت ان المعصية ظلم للمولى وهو مما ينافر القوة العقلانية.

واما الأثر الثاني : وهو المنجزية ، بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة ، فهل هو مما يحكم به العقل أو لا دخل للعقل به؟

والتحقيق : انك عرفت حكم العقل ـ بمعنى إدراكه ـ بملائمة الإطاعة

٢٦

للقوة العقلائية ومنافرة المعصية لها. ولا يخفى ان هذا التقبيح والتحسين يتعلقان بالافعال الاختيارية ، اما الفعل غير الاختياري فلا يلائم ولا ينافر القوة العقلية ، بل هو بلحاظ هذه القوة على حد سواء ، وان كان قد يختلف بلحاظ غيرها من قوى النّفس.

ثم ان هذا التقبيح انما يستتبع الحكم باستحقاق العقاب في المورد الّذي يترتب على العقاب فائدة لازمة بنظر العقل ، كالتأديب لأجل عدم تكرر العمل من نفس الشخص أو من غيره.

اما مع عدم ترتب أي أثر راجح على العقاب ، فلا يحكم العقل باستحقاق العقاب لأنه لغو محض ، وهو لا يصدر من العقل.

والتشفي وان كان منشئا لتحقق العقاب ، لكنه ليس منشئا عقلائيا ، بل هو يلائم القوة الغضبية للنفس.

وعليه : فيشكل القول باستحقاق العبد العقاب على مخالفة التكليف المولوي ، إذ المراد بالعقاب هو العقاب الأخروي ، وهو مما لا يترتب عليه أثر عملي من كفّ الشخص نفسه أو كفّ غيره عن العمل ، لانتهاء دور التكليف في الآخرة ، والتشفي مستحيل في حقه تعالى ، بل في حق كل عاقل كما عرفت ، فالالتزام باستحقاق العبد العقاب من الله تعالى ، التزام بصدور اللغو منه جلّ اسمه وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وبالجملة : لا يحكم العقل باستحقاق العقاب بمعنى المجازاة على العمل للتأديب.

وبما ان النقل دل على ثبوت العقاب فهو ينحصر بأحد طرق ثلاثة.

الأول : الالتزام بتجسم الأعمال وانه من لوازمها الذاتيّة ، بمعنى ان نفس المعصية يتجسم بالعقاب ، بلحاظ اقتضاء ذاتها لذلك ، نظير تكوّن الشجرة من الحبة. وقد التزم بذلك بعض.

٢٧

الثاني : انه طريق لتكميل النّفس وإيصالها إلى المرتبة الكاملة ، كما يقال في المرض في دار الدنيا.

الثالث : كونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الأخروي ، كاختلاف الأشخاص في دار الدنيا في الأحوال ، لكونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الدنيوي.

ومن الواضح ان العقاب بأحد هذه الوجوه الثلاثة لا دخل لحكم العقل فيه ، بل هو يدور سعة وضيقا وتحديدا لموضوعه مدار الدليل النقلي ، إذا لا طريق للعقل إلى إدراك ما يكون من الأعمال سببا ذاتيا للعقاب ، أو إدراك ما هو من طريق كمال النّفس ، وما هو على طبق المصلحة النوعية ، فقد يعاقب المطيع لإكمال نفسه ـ كما يبتلي المؤمن في دار الدنيا ـ أو لأجل المصلحة النوعية وكيف يحكم العقل في عالم يجهل شئونه وخصوصياته.

وجملة القول : ان العقاب الثابت بعنوان التأديب ـ كالعقاب الدنيوي ـ لا يحكم العقل بثبوته في الآخرة لأنه لغو محض ، والثابت بعنوان آخر من العناوين الثلاثة لا طريق للعقل إليه ولا يكون من موارد حكم العقل.

ومن هنا يظهر : بطلان الالتزام بحكم العقل باستحقاق العقاب ومنجزية القطع ، خصوصا ممن يلتزم بان استحقاق العقاب من باب تطابق آراء العقلاء حفظا للنظام ، إذ لا معنى لبناء العقلاء عملا على استحقاق العقاب في الآخرة كما هو واضح جدا. ويقوي الإشكال على من يلتزم بذلك مع تقريبه لكون العقاب من لوازم الأعمال. إذ تجسم الأعمال لا يرتبط بحال ببناء العقلاء عملا ونظرهم ، كما هو أوضح من ان يبين.

كما ان القول بان مرجع الحكم باستحقاق العقاب ان العقاب لو وقع لكان في محله ، غير صحيح ، إذ بعد ان كان العقاب بأحد الطرق الثلاثة التي لا دخل للعقل في إدراك مواردها ، فكيف يحكم ان العقاب في هذا المورد في محله؟! إذ

٢٨

كيف يدرك تجسم العمل في هذا الموضوع أو احتياج هذا الشخص للكمال النفسيّ أو ان عقابه يلائم المصلحة النوعية للنظام الأخروي؟!. فتدبر.

كما انه ظهر مما ذكرناه انه لا وجه حينئذ لدعوى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ـ في باب البراءة ـ ، إذ العقاب ليس بحكم العقل كي يكون هو المحكم في تحديد مورده ، بل المدار على الدليل النقلي ، فإذا دل على ترتب العقاب على المعصية كان مورده المخالفة العمدية مع العلم ، لظهور المعصية في ذلك ، واما إذا دل على ترتبه على مطلق المخالفة كما قد يستظهر من قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (١) ، كان العقاب محتملا في مورد الجهل البسيط بالحكم ، وقد تحمل المخالفة على المعصية. وتمام الكلام موكول إلى محله.

وينتج مما ذكرنا : ان الأثر العقلي الثاني للقطع وهو المنجزية لا أساس له ، وان كان أمرا مفروغا عنه في الكلمات والأذهان. فالتفت ولا تغفل.

ثم ان الشيخ قدس‌سره استدل على وجوب متابعة القطع والعمل على وفقه : بأنه بنفسه طريق إلى الواقع (٢).

وقد يورد عليه : بان المراد من كونه طريقا ، انه واجب الاتباع ، فهو نفس المدعى فلا معنى لجعله تعليلا.

ويدفع هذا الإيراد : بان لدينا كبرى مسلمة ، وهي وجوب إطاعة حكم المولى وحرمة معصيته ، وغرض الشيخ رحمه‌الله تطبيق هذه الكبرى على مورد القطع. ومن الواضح تعارف تعليل ثبوت الحكم في مورد باندراجه تحت كبرى معلومة. فمثلا لو ثبت وجوب إكرام الفاضل ، صح ان يقال : أكرم زيدا لأنه مشتغل ذكي بلحاظ ملازمة ذلك لكونه فاضلا.

وبالجملة : القطع وان كانت حقيقته الانكشاف والطريقية ، ولكن لا يمتنع

__________________

(١) سورة النور الآية : ٦٣.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٩

ان يعلل وجوب اتباعه ببيان حقيقته وإيضاحها لغرض درجة في الكبرى العقلية. وقد أشار إلى هذا الدفع المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (١).

ثم انه لا إشكال في ان طريقية القطع غير قابلة للجعل أو الرفع ، لأنها من ذاتيات القطع أو عين ذاته ، ومن الواضح امتناع جعل الذاتي لما هو ذاتي له كما يمتنع رفعه عنه.

وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان كما ارتكبه البعض.

واما وجوب الإطاعة ومنجزية القطع ، فهي على مسلك المحقق الأصفهاني قابلة للجعل لأنها من الأمور الجعلية كما عرفت (٢).

واما إذا كانت من الأحكام العقلية الواقعية ، فلا تقبل الجعل لأنها من لوازم القطع ويمتنع الجعل التأليفي بين الشيء ولوازمه ـ كما ذكر في الكفاية (٣) ـ ، كما انه يمتنع رفع ذلك بعد ان كان من لوازم القطع ، لامتناع التفكيك بين الشيء ولوازمه. فإشكال المحقق الأصفهاني انما يرد على صاحب الكفاية لتعرضه للمنجزية وعدم قابليتها للجعل. ولا يرد على الشيخ ، لأنه لم يتعرض لمنجزية القطع وإنما ذكر طريقيته وعدم قابليتها للجعل والرفع أمر لا يقبل الإنكار.

ثم ان المنع المبحوث عنه ، تارة هو التكويني. وأخرى التشريعي ، وهو يرجع إلى رفع الحكم الّذي تعلق به القطع. والمحذور الّذي فيه هو استلزامه اجتماع الضدين. وسيأتي تعرض صاحب الكفاية إليه في الأمر الثالث والرابع ـ ونتعرض له فيما بعد إن شاء الله تعالى تبعا للكفاية ـ.

اما هنا فقد تعرض للمنع التكويني وقد عرفت عدم صحته ، ولا يخفى ان اجتماع الضدين لا يرتبط بالمنع التكويني.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٥. الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٠

وعليه ، فذكره قدس‌سره هاهنا وجها لعدم صحة المنع خلط بين المنع التكويني والمنع التشريعي.

ومما يشهد إلى ان نظر الكفاية إلى إرادة المنع التكويني ، انه لم يتعرض لمحذور استلزام الجعل لاجتماع المثلين ، مع انه سيأتي ذكره محذورا للجعل التشريعي ، كذكر اجتماع الضدين محذورا للمنع التشريعي. والأمر سهل.

الجهة الثانية : في كون المسألة أصولية أو لا.

وقد أشار الشيخ رحمه‌الله إلى عدم كونها أصولية ، بما ذكره من عدم صحة إطلاق الحجة عليه بمعنى الوسط في القياس ، فليس ما ذكره مجرد بحث لفظي ، بل يشير فيه إلى هذه الجهة ، وسيتضح ذلك في طي البحث.

ومن هنا يظهر أن صاحب الكفاية لم يغفل هذه الجهة في كلام الشيخ ، ولكنه اكتفي بالإشارة إليها بما ذكره من عدم كون المسألة أصولية (١).

وعلى كل فتحقيق الكلام : ان الحجة لها مصطلحات ثلاثة :

الأول : ما يحتج به المولى على العبد وبالعكس ، وبتعبير آخر : ما يكون قاطعا للعذر وهو المعنى اللغوي لها.

الثاني : ما يكون وسطا في القياس وهو المعنى المنطقي لها.

الثالث : ما يقع في قياس الاستنباط ، أو كبرى القياس ، وهو الاصطلاح الأصولي.

ولا يخفى ان القطع الطريقي بالمعنى الأول يكون حجة ، كيف؟ وإليه تنتهي سائر الحجج.

واما بالمعنى الثاني فليس حجة لأن الوسط اما ان يكون علة للأكبر أو معلولا له أو معلولين لعلة ثالثة والجامع وجود التلازم بين الوسط والأكبر. ومن

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١

الواضح ان القطع لا ملازمة بينه وبين الحكم واقعا ، فليس هو علة له وليس معلولا ، كما انهما ليسا معلولين لعلة ثالثة ، بل قد يوجد القطع ولا حكم وقد يوجد الحكم ولا قطع.

واما بالمعنى الثالث فكذلك ليس القطع حجة ، إذ ليس القطع طريقا للاستنباط بحيث تترتب عليه معرفة الحكم ، بل هو عين انكشاف الحكم. هذا بلحاظ إطلاق الحجة عليه.

واما عدم كون المسألة أصولية ، فواضح ان قلنا بان المسألة الأصولية ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط لما عرفت من ان القطع لا يقع في قياس الاستنباط لعدم كونه طريقا لإثبات الحكم بل هو عين معرفة الحكم. وان قلنا بأنها ما تكون نتيجتها رافعة للتحير في مقام الوظيفة العملية فالامر كذلك أيضا ، إذ بالقطع يرتفع التحير موضوعا وحقيقة ، فليس نتيجة مسائله رفع التحير الموجود ، بل لا تحير مع القطع.

وبالجملة : نفي الحجية للقطع بالمعنى المنطقي يلازم نفي أصولية المسألة ، ومنه يظهر نظر الشيخ في تعرضه لنفي إطلاق الحجة عليه ، وانه ليس مجرد بحث لفظي وبيان لحكم من أحكام القطع وان لم يكن مرتبطا بالأصول. وهذا المعنى مغفول عنه في الكلمات ممن علق على الرسائل أو تعرض للبحث مستقلا.

هذا بالنسبة إلى القطع الطريقي ، واما الموضوعي فعدم كونه من مسائل الأصول واضح جدا ، إذ هو كغيره من الموضوعات ، فكما لا يتوهم فيها انها من مسائل الأصول كذلك الحال فيه. فلاحظ والتفت.

الجهة الثالثة : في الاطمئنان وان حجيته من باب حجية العلم أو من باب حجية الأمارات.

اما أصل حجيته فهو ليس محل تشكيك وبحث ، وذلك لأن السيرة من البشر جميعا في أعمالهم ، سواء ما يرتبط بتشخيص الأحكام أو الموضوعات جارية

٣٢

على الأخذ بالاطمئنان ، إذ قل وندر مورد يحصل لهم العلم الجزمي ، الّذي لا يقبل التشكيك ، بل كل مورد يرتبون آثار الواقع فيه عملا ، ناشئ عن حصول الاطمئنان دون القطع ، لإمكان إثارة التشكيك فيه ، فلو لا الاطمئنان لتوقف العقلاء ، بل غيرهم في أغلب أمورهم العملية ، إذ لا طريق لديهم إلى حصول القطع.

وإذا ثبت هذا المعنى لدى أهل السيرة ، وثبتت حجيته بنظر الشارع أيضا إذ لو كان له طريق آخر غير الاطمئنان ، جعله لتشخيص أحكامه التكليفية والوضعيّة وموضوعات أحكامه. في جميع موارد العمل والحكم والقضاء وغير ذلك لكان عليه نصبه وبيانه وهو امر مقطوع العدم ، وبدونه يختل نظام الشرع الشريف ويقف العمل.

ومنه يظهر ان حجية الاطمئنان لو كانت جعلية بان كانت ببناء العقلاء وأمضاها الشارع لم تصلح الآيات الناهية عن العمل بغير العلم للردع عنه ، كما يدعى ذلك في خبر الواحد ، إذ لم يسنّ الشارع طريقا غير الاطمئنان ، ولا معنى للنهي عنه وعدم جعل غيره ، بخلاف مثل خبر الواحد لوجود غيره من الطرق وعدم الاختلال وتوقف الأعمال بدون حجيته ، فحجية الاطمئنان كحجية الظهور لا تصلح الآيات الناهية للردع عنه ، لعدم نصب غيره من الطرق لتشخيص مراد المتكلم ، فيلزم من الردع التوقف عن جميع الخطابات الشرعية وهو مما لا يمكن الالتزام به ، بل ما ندعيه من العمل بالاطمئنان لا إشكال ولا ريب انه كان في زمان الشارع بعد ورود الآيات الناهية ولم يظهر النهي عنه.

وإذا ثبتت حجية الاطمئنان بلا كلام ، فيقع الكلام في ان حجيته بحكم العقل كالقطع ، فلا يمكن الردع عنه ، أو ببناء العقلاء كالأمارات فيمكن الردع عنه. وان لم يثبت كما عرفت ، فالبحث علمي صرف. نعم لا مانع من الردع عن بعض افراده.

٣٣

ولا يخفى ان هذا الترديد والبحث لا يتأتى على مسلك المحقق الأصفهاني القائل بان حجية القطع ببناء العقلاء (١).

وانما يتأتى على المسلك الآخر القائل بان حجيته عقلية.

وقد عرفت انه ذكر للقطع حكمان : أحدهما : وجوب الاتباع ، والآخر : المنجزية بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة.

والكلام يقع بلحاظهما معا بناء على ثبوتهما ـ وإلاّ فقد عرفت إنكار المنجزية فلا موضوع لإلحاق الاطمئنان بالقطع فيها ـ فنقول :

اما وجوب الاتباع : فهو في الحقيقة حكم منتزع عن حكمين أحدهما حسن الموافقة والآخر قبح المخالفة. اما حسن الموافقة : فموضوعه ذات الموافقة من دون دخل للعلم فيه ، ولذا يحسن الاحتياط مع الجهل بالواقع بلا كلام. وعليه فلا موضوع للبحث في إلحاق الاطمئنان بالعلم بلحاظ هذا الأثر ، لأنه ليس من آثار العلم.

واما قبح المخالفة : فلا يمكننا ان نقول بان موضوعه ذات المخالفة ، لضرورة وجود الأحكام الظاهرية ونصب الطرق الظاهرية حتى عند العرف ، وهو لا يتلاءم مع قبح ذات المخالفة لإمكان خطأ الطريق والأمارة ، مع انها معذرة بلا إشكال ، بل موضوعه اما المخالفة المعلومة [١] أو ذات المخالفة مع عدم الترخيص من المولى.

ولا يخفى انه انما يحسن البحث في ان الاطمئنان كالقطع أو كالأمارة بناء على الأول دون الثاني ، إذ الحكم بالقبح على الثاني ليس من آثار العلم ، بل من

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المقصود بالمخالفة التي قامت عليه الحجة ، فيقع الكلام ان القبح الثابت في مورد الاطمئنان هل هو بحكم العقل بحيث يترتب عليه هذا الأثر بنفسه ، كالعلم ، أو بتوسط جعل الشارع كالأمارة؟ ( منه عفي عنه ).

٣٤

آثار الواقع وهو المخالفة وعدم الترخيص بها من المولى.

واما المنجزية واستحقاق العقاب على المخالفة : فهي أيضا غير مترتبة على ذات المخالفة الواقعية ، بل اما هي مترتبة على المخالفة المعلومة أو المخالفة في فرض عدم ثبوت الترخيص ، فيكون حكم العقل حكما تعليقيا ، يعني معلق على عدم ثبوت الترخيص.

والبحث المزبور في الاطمئنان يتأتى على المبنى الأول دون الثاني ، كما عرفت.

فيقع البحث في ان المنجزية الثابتة للاطمئنان هل هي بحكم العقل كمنجزية العلم أو بتوسط جعل الشارع كالأمارات؟.

ثم ان لازم المبنى الأول عدم الحاجة إلى إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في نفي العقاب في صورة الجهل ، للعلم بعدم العقاب لعدم موضوعه وهو العلم.

كما ان لازم الثاني عدم ثبوت هذه القاعدة ، لعدم ترتب العقاب على البيان ولا يدور مداره ، بل يدور مدار الترخيص وعدمه.

وعليه ، فما لم يثبت الترخيص شرعا لا تجري البراءة العقلية ، ومع ثبوته لا حاجة إلى القاعدة لانتفاء موضوع العقاب جزما ، ومنه يعلم التسامح فيما صرح به هاهنا من ان استحقاق العقاب مترتب على العلم والالتزام بإجراء البراءة العقلية في محله. فليكن هذا المطلب على ذكر منك حتى يأتي وقت بيانه مفصلا إن شاء الله تعالى.

ثم انه لو كان موضوع قبح المخالفة والمنجزية هو المخالفة مع عدم الترخيص ، يقع الكلام في إمكان الترخيص شرعا فالمخالفة مع العلم ، وعلى تقدير عدم إمكانه فهل الاطمئنان كالعلم أو لا ، فيصح الترخيص مع وجوده أو لا يصح؟. وسيأتي الكلام في ذلك ، وانما أخرناه تبعا لصاحب الكفاية. لأنه أخّر

٣٥

البحث عن إمكان الردع الجعلي التشريعي عن القطع كما أشرنا ذلك فانتظر.

الجهة الرابعة : في التجري.

والبحث عن ان المخالفة الاعتقادية هل يترتب عليها ما يترتب على المعصية والمخالفة الواقعية أو لا؟

وهذه المسألة يمكن ان تحرر بأنحاء ثلاثة ، وتكون بإحداها أصولية وبالأخرى كلامية وبالثالثة فقهية.

اما تحريرها بنحو تكون أصولية فبوجهين ـ ذكرهما المحقق النائيني ـ :

الوجه الأول : ان يكون الكلام في أن مقتضى الإطلاقات المتكفلة لثبوت الأحكام للعناوين الواقعية هل هو شمول الحكم لمقطوع العنوان ولو لم يكن مصادفا للواقع كمقطوع الخمرية في مثل لا تشرب الخمر أو لا؟.

ولا يخفى ان المقصود تأسيس قاعدة كلية ، والبحث عن أمر عام يستنبط بضميمة الصغرى لها حكم كلي. لا البحث عن شمول إطلاق دليل معين خاص ، كي يقال : ان البحث يكون حينئذ فقهيا ، إذ أغلب المسائل الفقهية يقع البحث فيها عن شمول الدليل الحالة معينة. وعدم شمولها. فالبحث هاهنا نظير البحث في ظهور صيغة افعل في الوجوب ، لا نظير البحث عن ظهور صيغة معينة فيه بلحاظ قرائن المقام ، ونظير البحث في ان مقتضى إطلاق الجملة الشرطية ثبوت المفهوم وعدمه.

وعلى كل فقد يتوهم شمول الإطلاقات الأولية لعنوان المقطوع ، فيشمل إطلاق لا تشرب الخمر مقطوع الخمرية.

وقد قرب المحقق النائيني ـ كما في أجود التقريرات (١) ـ منشأ التوهم ودليله بمقدمات ثلاث :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٦

الأولى : ان القيود المأخوذة في الدليل إذا لم تكن اختيارية فلا بد من أخذها مفروضة الوجود وبنحو القضية الحقيقية ، وما يؤخذ في متعلق التكليف هو القطعة الاختيارية ، فمثل الخمر في « لا تشرب الخمر » يؤخذ مفروض الوجود فلا يثبت الحكم الا على تقدير ثبوته ، لعدم قابلية الأمر الخارج عن الاختيار لتعلق التكليف به.

الثانية : ان تمام المؤثر والعلة في حصول الإرادة التكوينية هو العلم والصورة النفسيّة ، لاستحالة تحقق الانبعاث أو الانزجار عن الوجود الخارجي بدون العلم ، فالعطشان يستحيل ان يتحرك نحو الماء إذا لم يعلم بوجوده لديه ، وقد يموت عطشا والماء عنده لجهله به ، وبالعكس يتحرك نحو الماء إذا علم بوجوده ولو لم يكن له في الخارج عين ولا أثر ، اذن فما يوجب الحركة هو العلم وحضور الصورة في النّفس من دون مدخلية للخارج فيها.

الثالثة : إن شأن التكليف هو تحريك الإرادة التكوينية من قبل العبد وإيجادها ، فهو بالنسبة إلى إرادة العبد نظير مفتاح الساعة بالنسبة إلى حركتها. ويترتب على ذلك : ان التكليف بحسب لسان الدليل وان كان يتعلق بنفس الموضوع الخارجي وهو الخمر مثلا ، إلا انه حيث انه انما يحرك إرادة العبد واختياره ، وقد عرفت ان الإرادة لا تكون الا في صورة العلم. فما يتمكن منه العبد هو ترك ما قطع بخمريته ـ مثلا ـ ، فيكون هو متعلق التكليف ، وإصابة الواقع وعدمها أجنبيتان عن الاختيار والإرادة.

وبالجملة : يشترك العاصي والمتجري في الجهة الاختيارية فيشتركان في التكليف.

هذا تقريب الاستدلال على المدعى ، وقد ناقشه المحقق النائيني قدس‌سره بان المقدمة الأولى وان كانت صحيحة لا مناص عن التزام بها كما حقق في الواجب المشروط ، لكن المقدمتين الأخريين ممنوعتان :

٣٧

اما الثانية : فلان الإرادة وان كانت تنشأ عن العلم والصورة النفسيّة إلاّ انه انما تنشأ عنه بما انه طريق إلى الواقع لا بما ان له موضوعية ، فان القاطع بوجود الماء انما يتحرك باعتبار انكشاف الواقع لديه لا باعتبار وجود صفة نفسانية بما هي صفة ، فالتحرك عن الموجود الخارجي بعد الانكشاف.

واما الثالثة : فلان الإرادة التشريعية والتكليف وان كانت محركة للإرادة التكوينية كحركة المفتاح بحركة اليد ، إلا ان حركة الإرادة التكوينية غير مرادة استقلالا وبنحو المعنى الاسمي ، بل مرادة تبعا وبنحو المعنى العرفي ، فالمراد هو الفعل الصادر بالإرادة ، لأنه هو الّذي تترتب عليه المصلحة والمفسدة اللتان هما مناط التكليف.

وبمنع إحدى هاتين المقدمتين يبطل الاستدلال كما لا يخفى.

وببعض اختلاف في بيان أصل الاستدلال ومناقشته جاء هذا المطلب في تقريرات المرحوم الكاظمي (١).

والّذي يبدو للنظر عدم خلو ما جاء في كلام التقريرين من مناقشة ، ولوضوح بعض ذلك نتعرض أولا إلى ما يمكن به تقريب المدعى ومناقشته ، فنقول : الّذي يمكن به تقريب دعوى شمول الإطلاقات لعنوان المقطوع هو ان يقال : ان الإرادة لا تتحقق إلاّ بتحقق العلم وهو تمام المؤثر فيها والموضوع لها ، وبدونه لا تتحقق الإرادة ، وبما ان شأن التكليف تحريك الإرادة التكوينية للعبد وإيجادها ، كان التكليف ثابتا في فرض العلم ، إذ الإصابة وعدمها خارجان عن متعلق التكليف ولا يرتبطان به بأي ارتباط ، وانما المرتبط به هو العلم بالواقع سواء أصاب أم لم يصب فحقيقة التكليف حيث انها طلب الإرادة والاختيار ، وهي لا تتحقق الا في فرض العلم ، كان العلم مأخوذا في موضوع التكليف ولم يتحقق

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٣٩ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٨

التكليف إلا في فرض العلم ، فقول المولى لا تشرب الخمر ، يرجع في الحقيقة إلى طلب اختيار ترك شرب معلوم الخمرية.

هذا ما يصلح لتقريب الدعوى ويناقش :

أولا : بان ما ذكر من ان التحرك والانبعاث والإرادة مما يتوقف على العلم ، وان العلم تمام الموضوع بالنسبة إليها ، غير صحيح ، إذ الإرادة تتحقق في صورة الاحتمال فالعطشان لو احتمل وجود الماء لديه تحرك نحوه باحثا عنه في مظان وجوده ، ومن أقدم على فعل مع الاحتمال وتبين مصادفته للواقع ، يرتب عليه آثار الفعل الاختياري ، فلو رمى شخص شبحا بالرصاص محتملا انه إنسان كما انه يحتمل ان يكون شجرة ، فتبين أنه إنسان وقتل بالرصاص ، رتب على قتله آثار القتل الاختياري.

نعم الإرادة تتفرع عن الالتفات ولو لم يكن جزم ، فمع الغفلة عن شيء يستحيل التحرك نحوه ، ومن هنا لا يتحرك العطشان مع غفلته عن وجود الماء في الغرفة وقد يموت عطشا والماء لديه لغفلته عن وجوده.

وبالجملة : دعوى عدم تأثير الخارج في الإرادة والحركة وان كانت صحيحة ، بل قام عليها البرهان ، لأن الإرادة من صفات النّفس ويستحيل تأثير ما هو خارج عن أفق النّفس فيما هو من صفاتها ، وإلاّ لانقلب الخارج نفسا والنّفس خارجا. إلاّ ان دعوى عدم تحققها الا في صورة الإحراز غير صحيحة لتحققها مع الاحتمال كما عرفت ، ويترتب على الفعل آثار الفعل الاختياري ، ولذا يترتب على الانقياد المصادف للواقع أثر الإطاعة.

وثانيا : ان ارتباط الإرادة بالعلم وعدم ارتباطها بالخارج ، لا يعني عدم صحة أخذ الخارج في موضوع التكليف ، بل هو مأخوذ فيه ، وذلك لأن المطلوب ليس مطلق الإرادة وانما إرادة الفعل الخاصّ ، فالفعل الخاصّ مرتبط بمتعلق التكليف ، فإذا فرض عدم أخذه في المتعلق لعدم اختياريته فيكون مأخوذا في

٣٩

الموضوع وبنحو فرض الوجود. فالإصابة بمعنى الخمرية الواقعية ـ مثلا ـ دخيلة في موضوع التكليف لارتباط متعلق التكليف بها ، إذ المطلوب إرادة الخمر لا مطلق الإرادة فتدبر.

وما ذكرناه في مقام بيان الدليل ومناقشة يظهر بعض موارد الإشكال والمؤاخذة في كلام المحقق النائيني قدس‌سره وهي موارد كثيرة نذكر بعضها لعدم استحقاق المطلب أكثر من ذلك :

الأول : ذكره المقدمة الأولى في تقريب الاستدلال ، مع انها غير دخيلة في إثبات الدليل ، إذ عرفت تقريبه بالمقدمتين الأخريين ، بل يمكننا ان نقول ان المقدمة الأولى مضرة بالدليل ، إذ مفادها ان كل قيد مأخوذ في لسان الدليل ولم يكن اختياريا يكون مأخوذا في الموضوع مفروض الوجود ، ومن الواضح ان متعلق العلم كالخمرية مأخوذ في لسان الدليل فلا بد ان يكون مأخوذا في الموضوع ، فان الخطاب ورد مترتبا على الواقع ، بل الواقع حتى بلحاظ ان المطلوب ترك معلوم الخمرية يكون مأخوذا لأنه قيد القيد.

الثاني : ظهور تسليمه المقدمة الثانية القائلة بدوران الإرادة مدار العلم ، بل تصريحه بذلك ، وانما ناقشها بان العلم مأخوذ بنحو الطريقية مع انك عرفت الإشكال فيها وعدم صحتها.

الثالث : مناقشته للمقدمة الثانية بان العلم مأخوذ طريقا إلى الواقع ولم يكن بنحو الموضوعية ، وهذه المناقشة غير تامة ، إذ أي منافاة بين كون مدار العلم ومدار الإرادة وكون ذلك بلحاظ طريقيته للواقع؟ إلاّ ان يريد ما سيأتي منه من منافاة أخذ العلم طريقا لكونه تمام الموضوع كما أشار إليه المقرر الكاظمي ، فانه عبر بالصفتية والطريقية. ولكن هذا تبعيد للمسافة وإيراد مبنائي لا يحل الإشكال ولا يدفع الدعوى.

الرابع : مناقشته للمقدمة الثالثة بان المطلوب هو الفعل الاختياري لا

٤٠