منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

احتمال أعم من صورتي الرجاء والخوف ، وسواء كان مدخولها مكروها أو محبوبا ـ ويكون مرادفها في الفارسية « شايد » ـ. وهذه الدعوى لا بأس بالالتزام بها (١) ، وقد أشار إليها المحقق العراقي أيضا (٢).

هذا ولكنه لا يوجب الاختلاف في تقريب دلالة الآية على المدعى بالوجه الأول المتقدم.

وذلك ، لأنه كما يمتنع الترجي من الله سبحانه لاستلزامه الجهل والعجز ، كذلك يمتنع منه تعالى الاحتمال لملازمته للجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فلا بد من صرف : « لعل » عن هذا المعنى وحملها على إبداء المحبوبية أيضا ، لمناسبة ان وقوع المدخول موقع التوقع واحتمال الوقوع يتلاءم هاهنا مع محبوبيته ، إذ ليس المورد من الموارد المكروهة قطعا ، فحملها على إرادة بيان المحبوبية بنظير ما يقال في تقريب دلالة الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب على الوجوب.

وإذا ثبت إرادة بيان المحبوبية عاد التقريب السابق. فتدبر.

ثم انه قد أشرنا إلى ان المحقق الأصفهاني قرب دلالة الآية الشريفة ، بوجوه ثلاثة آخر وهي :

الأول : ان كلمة « لعل » تفيد ان مدخولها واقع موقع الاحتمال.

وعليه ، فمفاد الآية يكون احتمال تحقق الحذر عند الإنذار ، ومن الواضح ان هذا ملازم لحجية الإنذار ، إذ لو لم يكن الإنذار حجة كان العقاب مقطوع العدم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا معنى لاحتمال الحذر لأنه متفرع عن الخوف من العقاب ، ولا خوف من العقاب مع عدم كون الإنذار حجة للبراءة العقلية.

الثاني : ان الإنذار لا يتحقق إلاّ مع التخويف ومن الواضح ان إبلاغ

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٨٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ١٢٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٨١

المنذرين لو لم يكن حجة لم يصدق عليه الإنذار لعدم تحقق التخويف به ، إذ لا يترتب الخوف عليه ، فنفس إيجاب الإنذار كاشف عن حجية إبلاغهم حتى يصدق التخويف والإنذار ، وإلاّ لم يصدق الإنذار أصلا.

الثالث : انه من الواضح ان الإنذار واجب على كل فرد متفقه بنحو العموم الاستغراقي والمفروض ان الإنذار واجب مقدمي لتحقق الحذر الواجب. ومقتضى إطلاقه انه يجب الإنذار سواء أفاد العلم أم لم يفد.

وبضميمة ما تقرر في محله من تبعية الوجوب المقدمي لوجوب ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط ، يستكشف ان وجوب ذي المقدمة هاهنا ـ وهو الحذر ـ مطلق من جهة حصول العلم وعدمه ، لإطلاق وجوب المقدمة غير المنفك عن إطلاق وجوب ذيها بقاعدة التبعية.

ولم يرتض قدس‌سره الوجه الأخير إذ الإشكال فيه واضح كما بينه قدس‌سره ، فان ما ذكر من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها الناشئ عن ترشح وجوب المقدمة عن وجوب ذيها انما يتأتى فيما كان فاعل المقدمة نفس فاعل ذي المقدمة ، إذ الترشح يتصور في هذا النحو. اما مثل ما نحن فيه من فرض كون المقدمة فعل غير فاعل ذي المقدمة ، فان الإنذار من شخص والتحذر من شخص آخر ، فلا معنى لأن يكون وجوب أحد الفعلين مترشحا عن وجوب الآخر ، ولا يتأتى فيه حديث التبعية المزبور ، فهذا الوجه واضح البطلان (١).

والّذي يظهر من كلامه بناؤه على الوجهين الأولين.

ولا يخفى انهما يبتنيان على فرض الحذر النفسيّ من العقاب لا من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، كما احتمله صاحب الكفاية في الآية. وإلاّ لم يتم

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٢

الوجهان كما لا يخفى.

ولكن الظاهر كما ذكره قدس‌سره كون الآية في مقام التحذير من العقاب لا من فوات المصلحة ، إذ لم يكن يرد هذا المعنى في أذهان العامة في الصدر الأول ، إذ الالتفات إلى وجود المصالح كان متأخرا عن ذلك الزمان.

هذا ولكن الوجهين مخدوشان :

اما الثاني : فلان مقتضى التدقيق العقلي في معنى الإنذار هو ما ذكره من عدم صدقه في مورد لا يتحقق فيه الخوف ، ولكن المعنى العرفي والمفهوم العرفي له ليس ذلك ، بل يصدق الإنذار ولو لم يتحقق الخوف ، بل ولو علم المنذر انه لا يتحقق الخوف لديهم كما يشهد بذلك موارد الاستعمالات العرفية كما في موارد استعمال الإنذار في إنذار الكفار الذين لم يكونوا يبالون بكلام الرسل ( عليهم الصلاة والسلام ). وكما في قولك : « أنذرته فلم ينفع » أو « أنذرته وأنا أعلم انه لا ينفع فيه الإنذار » ، ولعل السر في ذلك هو كون الإنذار عبارة عن التنبيه وبيان تحقق ما هو مكروه على فعل المنذر ، أو عبارة عن الكون في مقام التخويف والتهديد لا عبارة عن التهديد والتخويف الفعلي.

واما الأول : فلان احتمال تحقق الحذر لا يلازم حجية الإنذار ، إذ لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على تقدير عدم حجية الإنذار ، إذ يكون المورد من موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص والاحتياط فيها لازم بلا كلام ، فيترتب الحذر على الإنذار لإيجاده احتمال التكليف بالنسبة إليهم فيلزمهم الحذر لقاعدة دفع الضرر المحتمل ، ولا يلازم ذلك حجية إنذارهم.

ومن هنا تعرف : انه يمكن ان يخدش في الوجه الثاني ، ولو فرض ان الإنذار هو التخويف الفعلي ، إذ يتحقق الخوف من العقاب فعلا عند تحقق الإنذار ولو لم يكن الإنذار حجة ، لاندراج المورد في موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص ، فلا يتوقف صدق الإنذار على حجية الإبلاغ.

٢٨٣

وجملة القول : ان ما أفاده قدس‌سره في توجيه حجية الإنذار لا يمكننا الالتزام به.

فالعمدة في تقريب استفادة حجية الإنذار من الآية الكريمة ، هو ما قيل من : ان المفروض كون التحذر غاية للإنذار بضميمة مقدمتين أخريين :

إحداهما : كون وجوب الإنذار ثابتا في حق كل متفقه بنحو العموم الاستغراقي.

والثانية : ثبوته بالنسبة إلى كل فرد مطلقا سواء أفاد العلم أم لم يفده.

فإذا تمت هاتان المقدمتان ، وضمت إليها المقدمة الأخيرة وهي انحصار فائدة الإنذار في التحذر ، ثبت وجوب التحذر عند تحقق الإنذار ولو لم يفد العلم ، وإلاّ لكان الإنذار لغوا.

فالدليل مؤلف من مقدمات ثلاث ، ونتيجته ثبوت وجوب التحذر بقول مطلق ولو لم يفد الإنذار العلم.

والمقدمة الأولى لا مناقشة لنا فيها. وان ادعى إرادة العموم المجموعي من الآية الكريمة ، لكنه خلاف ما حقق من ان ظاهر العموم الأولي هو العموم الاستغراقي.

والمهم هو الكلام في المقدمة الثالثة ، ومنه يظهر الحال في المقدمة الثانية.

وقد وقع الكلام في ان الفائدة والغاية من وجوب الإنذار المطلق هل هو التحذر نفسه كي يتم الدليل. أو هو ظهور الحق وإيضاح الواقع والدين ، ليترتب عليه التحذر ، وهو يتحقق بإنذار عدة بحيث يكون إنذار كل منهم جزء للمؤثر؟. وقد أشار إلى هذا الاحتمال صاحب الكفاية ، وبه يبطل الاستدلال ، إذ يخرج وجوب الإنذار عن اللغوية ولو لم يكن حجة لترتب أثر تكويني مرغوب عليه (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٤

ولكن قد يناقش هذا الاحتمال : بأنه ليس له في الآية عين ولا أثر وانما رتب التحذر على الإنذار مباشرة.

وهنا احتمال ثالث وهو كون الغاية والفائدة من وجوب الإنذار هو الاعداد للتحذر لا نفس التحذر الفعلي.

وهذا ظاهر في عدم حجية الإنذار ولو لم يفد العلم ، بل لا يجب التحذر الا عند حصول العلم ، وتكون فائدة إنذار كل منذر دخالته في حصول العلم.

وهذا الاحتمال نستطيع ان تجزم به من ظاهر الآية الكريمة. وذلك إذ لم يرتب نفس الحذر على وجوب الإنذار بل رتب احتمال الحذر ، إذ لم يقل : ( ليحذروا ) بل قيل : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وقد عرفت ان ظاهر : « لعل » كون مدخولها واقعا موقع الاحتمال. وهذا لا يتناسب الا مع فرض الاعداد للتحذر هو الغاية والفائدة من إنذار كل منذر ، ليتحقق الحذر الفعلي عند حصول العلم.

ومثل هذا الاستعمال شايع في الموارد التي يعلم عدم كون الغاية نفس الفعل بل الاعداد له ، كما يقال : « ليبذل كل فرد منكم من ماله شيئا لعلنا نبني هذا المسجد ».

وإذا ظهر ان الغاية هو الاعداد للحذر لم تكن ملازمة لحجية الإنذار ، بل يمكن ان يكون ذلك من باب دخالة كل إنذار في حصول العلم بالمنذر به.

ومن هنا يظهر ان ذلك لا ينافي وجوب الإنذار مطلقا ولو لم يحصل به العلم ، لكونه جزء المؤثر في حصوله. نعم لو علم بعدم حصول العلم بالمنذر به أصلا لعدم إنذار غيره ، لم يجب عليه الإنذار لكونه لغوا ، كما لو علم الشخص ان غيره لا يبذل المال أصلا لبناء المسجد ، فلا يجب عليه بذل ما وجب عليه ، إذ لا يؤثر بذله شيئا.

وبهذا البيان ظهر حال المقدمة الثانية ، وهي التمسك بإطلاق وجوب الإنذار في إثباته ولو لم يحصل به العلم ، إذ عرفت انه تام لو علم انه يحصل العلم

٢٨٥

بواسطة انضمام إنذار غيره ، وإلاّ لم يجب عليه لكونه لغوا.

وبالجملة : لا وجه لدلالة الآية الكريمة على حجية إنذار المنذر.

واما ما ذكره في الكفاية في مناقشة إطلاق وجوب التحذر ، وبيان انه مشروط بالعلم ، من ان موضوعه هو الإنذار بما تفقه به ، فمع عدم العلم بكون الإنذار إنذارا بما تفقه به لا يمكن التمسك بإطلاق وجوب التحذر لكون الشك في موضوع الحكم (١).

ففيه ما لا يخفى : فان ما ذكره لا يقتضي إلاّ ان يكون الموضوع الواقعي هو الإنذار بما تفقه به من أمور الدين ، والعلم ليس شرطا للحكم ، بل هو شرط لتنجزه كسائر الأحكام المرتبة على الموضوعات الواقعية ، فالتوقف عن التمسك بالإطلاق ليس من جهة اشتراط الموضوع بالعلم ، بل من جهة الشبهة المصداقية ، وذلك أجنبي عن الاشتراط.

وبالجملة : ما ذكر لا يصلح وجها لما ذكر من اشتراط الموضوع بالعلم. فلاحظ.

ثم انه أشكل على دلالة الآية على حجية الخبر بان : غاية مدلولها هو حجية الإنذار ، وهو يختلف عن الاخبار ، إذ الإنذار هو الاخبار المشتمل على التخويف المتوقف على فهم معنى للكلام كي يخوف به.

وهذا أجنبي عن حجية الخبر ، إذ المراد به حجية نقل ما صدر عن المعصوم عليه‌السلام ولو لم يكن المخبر ممن يفهم المراد من الألفاظ.

وأجاب عنه في الكفاية : بان الرّواة في الصدر الأول كانوا ممن يفهمون معاني الكلمات الصادرة ، نظير نقلة الفتاوى في هذا العصر.

وعليه ، فيتحقق التخويف والإنذار بإخبارهم ، فيكون خبرهم حجة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٦

لصدق الإنذار عليه ، وإذا كان خبرهم حجة مع انضمامه إلى التخويف ، كان حجة أيضا مع عدم انضمامه لعدم الفصل بينهما جزما (١).

أقول هذا الإشكال ذكره الشيخ رحمه‌الله. وهو بالبيان الّذي ذكرناه يندفع بما ذكره صاحب الكفاية ، لكن نظر الشيخ قدس‌سره إلى جهة أخرى وهي : ان الإنذار فيه جهتان :

إحداهما : جهة التخويف الحاصلة من فهم المعنى واستظهار شيء من كلام المعصوم عليه‌السلام.

والثانية : جهة نقل الألفاظ الصادرة عن المعصوم عليه‌السلام (٢).

ودليل الحجية انما يتكفل حجية الخبر بلحاظ جهة التخويف المتوقفة على الاستنباط ، ولا يتكفل حجية الخبر من باب انه نقل لألفاظ المعصوم عليه‌السلام.

ومن الواضح ان دليل الحجية إذا لوحظت فيه جهة التخويف المتوقفة على فهم معنى الكلام ، لم يكن دليلا على حجية الخبر غير المشتمل على هذه الجهة ، بل كان مجرد نقل لما صدر عن الإمام عليه‌السلام ـ كما هو الحال في نقلة العصور المتأخرة ـ لفقدان ملاك الحجية فيه ، فليس الإشكال من باب ان الخبر لا يصدق عليه الإنذار ، كي يقال انه يصدق عليه في بعض الأحيان وبضميمة عدم الفصل تثبت حجية غير المشتمل على التخويف. بل الإشكال من جهة ان ظاهر الآية كون ملاك الحجية هو الاشتمال على جهة الإنذار. فمع فقدانها يفقد ملاك الحجية فكيف يدعى عدم الفصل جزما؟.

ونتيجة القول : ان الآية لا تدل بوجه من الوجوه على حجية خبر العادل.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٨٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٧

ومنها : آية الكتمان ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (١) وتقريب الاستدلال بها : ان حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا عند الإظهار للزوم لغوية الحرمة لو لم يثبت وجوب القبول.

وأورد عليه في الكفاية : بمنع الملازمة ، إذ لا تنحصر فائدة حرمة الكتمان بوجوب القبول تعبدا ، بل يمكن ان تكون فائدة حرمة الكتمان وضوح الحق بسبب كثرة من يبينه ويفشيه فيترتب وجوب القبول حينئذ لحصول العلم بالواقع (٢).

وقد أورد عليه الشيخ بما أورده على الاستدلال بآية النفر من الوجهين الأولين وهما :

الأول : دعوى إهمال الآية وعدم تعرضها إلى وجوب القبول مطلقا ولو لم يحصل العلم ، فيمكن ان يكون المراد ما هو القدر المتيقن منها ، وهو لزوم القبول عند حصول العلم.

والثاني : دعوى اختصاص وجوب القبول في الأمر الّذي يجب إظهاره ويحرم كتمانه ، وهو الحق والواقع. بتقريب (٣) : ان ظاهر الأمر هاهنا وفي أمثاله كون

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٥٩.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) يختلف ظاهر كلام الكفاية الّذي نقلنا عن كلام الشيخ ، فان ظاهر الكفاية اشتراط الموضوع بالعلم واقعا ، الّذي عرفت الإشكال فيه ، وان العلم شرط التنجز ، اما الشيخ فهو يقصد ان مدلول الآية الكريمة أجنبي عن جعل الحجية ، بل المنطوق فيها حيث كان عمل المكلفين بالواقعيات ، إذ الظاهر من مثل هذا التركيب ذلك ، فإذا قال المولى لشخص : « أخبر فلانا بأوامري لعله يمتثلها » لا يفهم أحد انه في مقام جعل الطريق إلى أحكامه ، بل في مقام إيصال أحكامه بالوصول الواقعي ليعمل بها المكلف ، فمع الشك في ان هذا هو حكمه الواقعي لا يحرز موضوع الحكم ، بالقبول ، فلا يجب لعدم تنجزه عليه.

٢٨٨

المقصود فيه عمل الناس بالحق ، وليس المقصود به تأسيس حجية قول المظهر تعبدا. وعليه فمع عدم إحراز الواقع لا يحرز موضوع وجوب العمل فلا يثبت وجوب القبول (١).

وقد استشكل فيه في الكفاية : بأنه بعد تسليم الملازمة لا مجال للإيراد عليه بهذين الإيرادين ، إذ دعوى الإهمال أو الاختصاص تنافي الملازمة ، فالمتعين إنكار الملازمة في مقام الرد (٢).

أقول : ذكر الشيخ رحمه‌الله هذين الإيرادين في مقام الرد على الاستدلال بآية النفير بالوجوه الثلاثة الأولى التي ذكرناها عن الكفاية.

ومن الواضح انهما يرتبطان بنفي الإطلاق المتخيل ، فهما يرتبطان بالوجه الأول والثالث.

اما الوجه الثاني الراجع إلى الاستدلال على وجوب الحذر بلزوم اللغوية فلا يتمان له بصلة ، إذ هذا الوجه لا يرجع إلى التمسك بالدلالة اللفظية والإطلاق.

ولكن الحق انهما بعنوانهما وان لم يرتبطا به ، إلاّ انه بملاحظة ملاكهما وما ينتهيان إليه يمكن نفي الاستدلال باللغوية لأنهما ينتهيان إلى ان الغاية هي ظهور الحق والعمل به فلا تنحصر الفائدة في وجوب القبول تعبدا.

وعليه ، فلنا ان نقول ان الشيخ رحمه‌الله في مقام نفي الملازمة هاهنا. وتقريبه لنفيها بهذين الوجهين بملاحظة ملاكهما.

ويشهد لذلك ما ذكره بعد ذلك بقوله : « نعم ، لو وجب الإظهار على من

__________________

ـ وبالجملة : الآية الشريفة كسائر ما ورد في مقام تبلغ الحقائق للناس لا يقصد به الا وصول الناس للحقائق لا جعل الطريق إلى الحقيقة. ( منه عفي عنه ).

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٨١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٩

لا يفيد قوله العلم غالبا أمكن جعل ذلك دليلا على ان المقصود العمل بقوله وان لم يفد العلم ، لئلا يكون إلقاء هذا الكلام كاللغو » (١). فانه ظاهر جدا في كون محط نظره إلى نفي الملازمة في الآية الكريمة ، وبيان ان هذه الآية ليست كآية تحريم كتمان النساء ما في أرحامهن ، اللاتي لا يترتب العلم غالبا على إظهارهن ما في الأرحام ، فتدل بالملازمة العقلية على قبول قولهن في ذلك فلاحظ جيدا.

ثم انه لا يحق لأحد ان يورد على صاحب الكفاية : بأنه قدس‌سره ذكر هذين الإيرادين على آية النفر ، فكيف ينفي ورودهما هاهنا؟.

وذلك لأنه انما ذكرهما إيرادا على دعوى إطلاق وجوب التحذر ، لا على دعوى وجوب القبول للزوم اللغوية ، وقد عرفت تعدد وجوه الاستدلال بآية النفر دون هذه الآية.

وقد استظهر المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من هذه الآية معنى أجنبيا عن حجية الخبر بالمرة ، فذهب إلى انها ظاهرة في حرمة كتمان وستر ما فيه مقتضى للظهور لو لا الستر ، بقرينة قوله : ( بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ ... ) ، فلا نظر فيها إلى وجوب الاعلام ، بل غاية ما تدل على لزوم كشف الحجاب عما بينه الله تعالى وأظهره ، ولا تدل على لزوم إعلام ما هو مستور في نفسه لو لا الاعلام ، فتدبر (٢).

وهذا الاستظهار لا بأس به قريب إلى الذهن والذوق.

ومنها : آية السؤال وهي قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٣).

وتقريب الاستدلال بها : ان وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول عند الجواب وإلاّ لكان لغوا ، وبضميمة العلم بعدم دخالة خصوصية السؤال في وجوب

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٨١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٨٩ ـ الطبعة الأولى.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٤٣ سورة الأنبياء ، الآية : ٧.

٢٩٠

القبول ، بل الموضوع هو نفس الجواب بذاته لا بما هو جواب ، يثبت وجوب قبول الخبر الابتدائي غير المسبوق بالسؤال.

وأورد على الاستدلال بها بوجوه :

الأول : ان ظاهرها في سورة النحل بحسب المورد والسياق هو كون المراد من أهل الذّكر علماء اليهود فهي أجنبية عن حجية الخبر.

الثاني : انّ ظاهر بعض النصوص كون المراد من أهل الذّكر أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الثالث : ان ظاهر الآية لزوم السؤال لأجل تحصيل العلم لا للقبول تعبدا ، كما يقال عرفا : « سل ان كنت جاهلا » ، فانه ظاهر في كون السؤال طريقا لحصول العلم المرغوب فيه. ويقوى ذلك بملاحظة ان مورد الآية معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلاماته ، فلا يعقل تكفلها جعل الحجية لقول المخبر ، فانه لغو مع الشك في النبوة. هذا مع انه لا يكتفي في مثل ذلك بغير العلم لأنه من أصول الدين.

الرابع : ان موضوع السؤال هم أهل الذّكر وهم أهل العلم ، وبمناسبة الحكم والموضوع يستكشف ان وجوب القبول من باب انهم أهل علم ولجهة علمهم ومعرفتهم ، فلا تدل على حجية خبر الراوي الّذي لا يحاول سوى رواية ما صدر عن المعصوم عليه‌السلام بلا ان يكون له معرفة بكلامه عليه‌السلام.

وبهذا البيان يظهر ان ما ذكره صاحب الكفاية في مقام الجواب عن هذا الإيراد : بان كثيرا من رواة الصدر الأول يصدق عليهم انهم أهل العلم ، كزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما ، فإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية غيرهم لعدم الفصل جزما (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩١

غير سديد ، وذلك لأن موضوع القبول ليس رواية العالم كي يقال بعدم الفصل بين روايته وغيره ، بل عرفت ان موضوع القبول هو جواب أهل العلم بملاحظة جهة علمهم ومعرفتهم ، بحيث يكون لذلك دخل في القبول ، ومعه لا قطع بعدم الفصل بينهم وبين ما لا يكون من أهل الذّكر ، لعدم ثبوت ملاك القبول في خبره.

وقد حاول المحقق الأصفهاني رحمه‌الله رد هذا الوجه : بأنه من الواضح ان العلم بالحكم لا يحتاج في بعض الأحيان إلى إعمال نظر وروية ، فقبول قوله في مثل ذلك يتمحض في جهة خبريته ، وبضميمة عدم الفصل بينه وبين غيره يثبت المطلوب (١).

وفيه : ان مرادنا بالعلم الّذي يكون دخيلا في وجوب القبول ليس النّظر والروية والدقة ، بل مطلق الرّأي والاعتقاد ، فقبول رأيه لو كان ناشئا عن حس ظاهر بلا أي مقدمة حدسية لا يلازم قبول خبره بما هو خبره. وبعبارة أخرى :

الآية الكريمة بمنزلة ان يقال : الفتوى حجة ، فهل يتصور دلالة هذا القول على حجية الخبر بملاحظة ان الفتوى تنشأ أحيانا عن غير نظر وإعمال حدس؟. فلاحظ تعرف.

تنبيه : قد يستشكل فيما ورد من النصوص في تفسير أهل الذّكر من انهم الأئمة عليهم‌السلام ، فانه ينافي مورد الآية الكريمة المطلوب فيها معرفة معاجز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونبوته ، إذ لا معنى للسؤال عن نبوته ( صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأئمة عليهم‌السلام الذين تتفرع إمامتهم عن النبوة (٢).

والجواب : ان التفسير بمثل ذلك يرجع إلى بيان المصاديق لا بيان المعنى

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٩٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ١٨٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٢

المراد على سبيل الحصر ، ففي زمانهم عليهم‌السلام يكونون هم مصداق أهل الذّكر الّذي ينبغي السؤال منهم. ومثل ذلك كثير في تفسير الآيات الوارد في النصوص ، فراجع ، وهو امر متداول عرفا فقد سال أحد آخر عن شيء فيجيبه بالإشارة إلى أحد مصاديقه. فتدبر.

ومنها آية الأذن وهي قوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١).

وتقريب الاستدلال بها : انه سبحانه مدح رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في انه يصدق المؤمنين وقرنه بتصديقه.

وأورد عليه أولا : أن الأذن سريع القطع بحيث لا يكون لديه تأمل كي يورثه التشكيك ، ومدحه بأنه سريع القطع لا يرتبط بأخذ قول الغير تعبدا.

وثانيا : ان المراد بتصديقه المؤمنين ، هو تصديقهم فيما ينفعهم ولا يضر غيرهم كما يشعر به التعبير باللام الظاهرة في الغاية والنّفع. لا المراد تصديقهم في ترتيب جميع آثار الخبر كما هو المطلوب في باب حجية الخبر. ويشهد لذلك انه صدّق النمام بأنه لم ينم عليه في الوقت الّذي أخبره الله تعالى بأنه نمّ عليه ، فلا معنى لتصديقه الا عدم ترتيب آثار النميمة الشخصية ، فالتصديق هاهنا بمعنى التصديق الوارد في الخبر : « يا أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال قولا وقال لم أقله فصدّقه وكذّبهم » (٢) يراد به التأكيد على جهة أخلاقية اجتماعية.

والأمر أوضح من ان يحتاج إلى مزيد بيان ، فلاحظ.

وخلاصة الكلام : انه لم يثبت لدينا من الآيات الكريمة حجية خبر

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٦١.

(٢) الكافي ٨ ـ ١٤٧. الحديث : ١٢٥.

٢٩٣

الواحد. فالتفت.

واما السنة الشريفة : فقد ادعي وجود الاخبار الدالة ـ على حجية خبر الواحد ـ. ولا يخفى ان الاستدلال بكل واحد واحد لا محصل له ، لأنه دوري كما لا يخفى.

وانما الاستدلال بها بلحاظ تواترها ، وليس المقصود من التواتر هو اللفظي منه ، لعدم اتفاقها على لفظ واحد ، بل المراد منه التواتر المعنوي ، لاتفاقها على حجية خبر العادل أو الثقة ، أو التواتر الإجمالي ـ كما ذكره صاحب الكفاية ـ للقطع الإجمالي بصدور بعض هذه الاخبار ، فيؤخذ بأخصها مضمونا للعلم بثبوته.

ثم إذا تكفل أخصها حجية ما هو أعم منه أخذ به.

وبنظير هذا البيان ومقداره اكتفي صاحب الكفاية (١).

وأهمل المحقق الأصفهاني البحث في ذلك بالمرّة.

وقد أطال الشيخ رحمه‌الله البحث فيها ، فصنف الروايات إلى أصناف متعددة.

فمنها : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور والتخيير عند التساوي (٢). مما يظهر منه حجية الخبر غير المقطوع صدوره.

ومنها : ما دل على إرجاع بعض الرّواة إلى بعض أصحابهم عليهم‌السلام كإرجاعه إلى زرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وزكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن والعمري وابنه (٣).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٥ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ ـ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤ و ١٩ و ٢٣ و ٢٧ و ٣٣.

٢٩٤

ومنها : ما دل على وجوب الرجوع إلى الرّواة والثقات والعلماء ، كرواية الاحتجاج وغيرها (١).

ومنها : ما دل على الأمر بحفظ الحديث وكتابته وتداوله (٢) (٣).

أقول : بعد ملاحظة جميع هذه النصوص ، لم نستطع ان نستفيد منها حجية خبر الثقة أو غيره ، كما ادعي.

فانّ العمدة التي يمكن ان يستفاد منها ذلك ، هو طائفة الإرجاع إلى الثقات المعنيين كزرارة وغيره ، فانه يكشف عن حجية خبر الثقة ، وما ورد من مثل : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرد به منا ثقات شيعتنا » (٤) ـ اما ما دل على حسن حفظ الحديث وكتابته ، فلا دلالة له بوجه على الحجية ـ ، إذ من المحتمل قريبا ان يكون الأمر بذلك لأجل ما في الحفظ والكتابة والتداول من إبقاء الحق وحفظ الأحكام عن الزوال. واما ما دل على ترجيح أحد المتعارضين فهو أجنبي عن إفادة الحجية ، وانما هو متفرع عن كون كل من الخبرين حجة في نفسه ، ومع قطع النّظر عن المعارضة. وهذه الطائفة ـ أعني ما دل على الإرجاع إلى بعض الثقات ـ لا تنفع في إثبات حجية خبر الثقة تعبدا.

بيان ذلك : ان وثاقة الشخص ، بمعنى تحرزه من الكذب ..

تارة : تحرز بالوجدان بواسطة المعاشرة ، أو بواسطة شهادة من يطمئن بشهادته واصابتها للواقع.

وأخرى : تثبت بواسطة حسن الظاهر الّذي جعل طريقا للعدالة شرعا.

وثالثة : تثبت بشهادة البينة العادلة التي يجوز في حقها الاشتباه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٠١ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٩.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ روايات باب : ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٨٤ ـ الطبعة الأولى.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٠٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٠.

٢٩٥

ولا يخفى ان اخبار الصنف الأول يلازم الجزم بصدقة وتحقق المخبر به لفرض انه ممّن يقطع بعدم كذبه ، نعم قد يحتمل في حقه الاشتباه المنفي بأصالة عدم الغفلة.

واما الصنفان الآخران فهما ممن يجوز في حقهما الكذب ، إذ حسن الظاهر لا يلازم الوثاقة واقعا ، وهكذا شهادة البينة بالنحو الّذي عرفته.

وعليه ، فالتعبد بالصدق وإيجاد التصديق الّذي هو واقع حجية الخبر المبحوث عنها إنما يصح بالنسبة إلى الصنفين الآخرين لا بالنسبة إلى الصنف الأول للاطمئنان بعدم كذبه كما هو الفرض.

وعليه ، فلا معنى لحجية خبر الثقة بالمعنى الأول.

ومن الواضح ان موضوع الإرجاع في رواياته من الصنف الأول ، فان شهادة الإمام عليه‌السلام بالوثاقة لمن يرجع إليه تلازم القطع بوثاقته لعدم جواز الاشتباه في حقه عليه‌السلام ، فيكون من قبيل تحصيل الجزم بالوثاقة من المعاشرة.

وفي مثل ذلك لا يتوقف قبول قوله على التعبد ، بل يجزم بصدقة بلا تردد ، فالنصوص المزبورة لا تتكفل التعبد بخبر زرارة أو غيره ، بل تتكفل الإرشاد إلى وثاقته ، فيترتب عليها القبول عقلا للجزم بصدقة لا تعبدا ، فما نحتاج فيه إلى التعبد بخبره لا تتكفله النصوص المزبورة.

وهكذا الحال في مثل : « لا عذر لأحد ... » ، لأنّ رواية الثقة مستلزمة للجزم ، فلا يعذر تارك العمل بها عقلا ، فهي لا تتكفل جعل الحجية لخبر الثقة إذ الا معنى لذلك ولا محصل له. هذا أولا.

وثانيا : ان المشهور على ان خبر الواحد ليس حجة في الموضوعات ، بل لا بد فيها من قيام البينة ولعله لاستنادهم إلى خبر مسعدة بن صدقة الّذي

٢٩٦

فيه : « والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك أو تقوم به البينة » (١).

وعليه ، فالاخبار عن الخبر لا يكون حجة ، لأنه خبر عن الموضوع لا الحكم الشرعي الكلي.

وليس في هذه النصوص ما يدل على حجية الخبر عن الواسطة ، إذ كلها ظاهرة في حجية الخبر عن الحكم رأسا ـ كما لا يخفى ـ.

وعليه فالخبر الواحد عن الواسطة لا يكون حجة بمقتضى التزام المشهور بعدم حجية خبر الواحد عن الموضوع.

والاخبار التي بأيدينا كلها من هذا القبيل ، فلا تنفع هذه النصوص في إثبات حجيتها ـ لو سلمت دلالتها على الحجية في حد نفسها ـ.

وثالثا : ان هذه النصوص معارضة لما تقدمت الإشارة إليه من الاخبار المتواترة الدالة على عدم جواز العمل بالخبر غير العلمي ، وانه لا بد في العمل بالخبر من وجود شاهد عليه من كتاب الله تعالى شأنه.

وجملة القول : انه لا نستطيع الجزم بحجية الخبر من هذه النصوص وما شاكلها. ولعلنا نعود إلى تفصيل الحال إذا سمح لنا المجال إن شاء الله تعالى.

واما الإجماع ، فيقرب بوجوه :

الوجه الأول : الإجماع القولي الحاصل من تتبع فتاوى العلماء بحجية الخبر ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية ، فانه يستكشف به به رضا الإمام عليه‌السلام بذلك.

واستشكل فيه في الكفاية : بان فتاوى العلماء في حجية الخبر مختلفة من حيث الخصوصيات التي يعتبرونها فيما هو حجة ، ومعه لا يمكن استكشاف رضا الإمام عليه‌السلام لعدم اتفاقهم على امر واحد.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ ـ ٦٠ باب : ٤ ، الحديث : ٤.

٢٩٧

نعم لو علم انهم يقولون بأجمعهم بحجية خبر الواحد في الجملة ، ثم يختلفون في الخصوصيات المعتبرة فيه ، بحيث يكون القول بحجية الخبر الخاصّ بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ـ لو علم ذلك ـ ، تم ما ذكر ولكن دون إثباته خرط القتاد (١).

الوجه الثاني : إجماع العلماء العملي ، بل المسلمين كافة على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

واستشكل فيه في الكفاية بما استشكل في الوجه الأول ، وبأنه لم يعلم ان اتفاقهم على ذلك بما انهم متدينون ، بل يمكن ان يكون بما انهم عقلاء (٢) فيرجع إلى ..

الوجه الثالث : وهو قيام سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممن لا يلتزم بدين على العمل بخبر الثقة ، واستمرت هذه السيرة إلى زمان المعصوم عليه‌السلام ولم يردع عنه المعصوم ، إذ لو كان لاشتهر وبان وعدم الردع يكشف عن تقرير الشارع للسيرة وإمضائه لها ، فتثبت حجية الخبر في الشرعيات.

وقد يستشكل بأنه يكفي في ثبوت الردع وجود الآيات الكريمة الناهية عن العمل بغير العلم واتباع الظن ، كقوله تعالى ـ في سورة الإسراء ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقوله تعالى ـ في سورة يونس ـ : ( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) فانها بعمومها تشمل هذه السيرة.

وردّه صاحب الكفاية بوجوه ثلاث :

الأول : انما واردة لبيان عدم كفاية الظن في أصول الدين.

الثاني : ان المنصرف من إطلاقها إرادة الظن الّذي لم يقم دليل على حجيته واعتباره.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٨

الثالث : ان تكفلها للردع عن العمل بخبر الواحد دوري ، لأن الردع عن السيرة بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وعدم التخصيص يتوقف على رادعية الآيات عنها وإلاّ لكانت مخصصة.

ثم أورد على نفسه : بان السيرة لا تصلح للتخصيص الا على وجه دائر أيضا ، إذ تخصيص السيرة يتوقف على عدم الردع بها عنها ، وعدم الردع يتوقف على تخصيصها للآيات.

وأجاب : بأنه يكفي في اعتبار خبر الواحد بالسيرة عدم ثبوت الردع عنها ، لا عدم الردع واقعا عنها ، وتخصيص السيرة وان كان دوريا كالردع بالآيات ، لكنه يكفي في عدم ثبوت الردع. فتدبر (١).

أقول : ما ذكره صاحب الكفاية بتمامه محل إشكال وتحقيق :

اما أصل قيام السيرة على حجية خبر الثقة ففيه : ان القدر الثابت من بناء العقلاء وعملهم هو العمل بخبر الثقة الّذي يعلم بتحرزه عن الكذب بحيث يطمئن بخبره. وقد عرفت ان العمل بخبر مثل ذلك لا يحتاج إلى التعبد ، ولم يثبت في مورد من الموارد عمل العقلاء بخبر الثقة إذا لم يحصل لهم الاطمئنان بصدقة وكان احتمال الكذب في حقه موجودا.

اذن فلم تثبت السيرة على العمل بخبر الثقة تعبدا ، بل على العمل به إذا أوجب القطع أو الاطمئنان ، وهو خارج عن محل الكلام.

واما دعوى ان الآيات الناهية عن العمل بالظن وغير العلم مختصة بأصول الدين. فيدفعها : عدم الشاهد عليها أصلا بل يمكننا ان نقول بان القدر المتيقن من الآية الأولى فروع الدين ، لورودها في سياق الآيات المتكفلة لجعل الأحكام. واما الآية الثانية ، فصدرها وان كان ظاهرا في نفسه في أصول الدين ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٩

إلاّ ان قوله تعالى قبل ذلك : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) ، ظاهر في الفروع لظهور الاتباع في المتابعة في الأحكام والعمل ، فيكون قرينة على ان المراد من الصدر وهو قوله : ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ... ) (١) ، هو الشريك في العبادة لا الخلق فيكون ناظرة إلى العمل لا الاعتقاديات. ولو غضضنا النّظر عن ذلك ، فقوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، بمنزلة العلة للتوبيخ على اتباع الظن فيتمسك بعمومه ، والمورد لا يخصص الوارد.

وبالجملة : فدعوى اختصاص الآيات بأصول الدين بلا شاهد ، بل الشاهد على خلافها.

واما دعوى انصراف الآيات إلى الظن الّذي لم يقم على اعتباره دليل ، فلم يذكر لها شاهد مع ان المناسب لمقام الاستدلال ذلك.

وعلى كل فيمكن توجيهها بأحد وجهين :

الأول : ان بناء العقلاء على كون الخبر علما وطريقا إلى الواقع يستلزم خروجه عن ما دل على النهي عن العمل بغير العلم ، وان كان هو في الحقيقة من افراد غير العلم.

الثاني : ان العمل بخبر الواحد استنادا إلى السيرة الارتكازية المعلومة يكون عملا بالعلم بلحاظ السيرة ، وان كان بلحاظ نفسه عملا بغير العلم ، فلا يكون العمل بالظن استنادا إلى ما دل على حجيته من الأمور القطعية عملا بغير العلم عرفا ، وينصرف العموم المذكور عنه.

وفي كلا الوجهين نظر :

اما الوجه الأول : فلان نظر العقلاء ورويتهم تارة يكون بمعنى بنائهم

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٣٥.

٣٠٠