منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

وجد متأخرا عن غيره لم ينفع الإطلاق في إثبات العلية المنحصرة كما لا يخفى.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانه لو فرض انه يجب التبين عن خبر العادل فهذا لا ينافي وجوب التبين عن خبر الفاسق ولو وجد بعد خبر العادل ، لأن كلا منهما موضوع مستقل.

وبعبارة أخرى : ان وجوب التبين في الآية الشريفة كناية عن عدم الحجية ، ومن الواضح ان نفي الحجية عن خبر العادل لا ينافي نفي الحجية عن خبر الفاسق سواء كانا معا أو كان أحدهما متقدما والآخر متأخرا.

وعليه ، فلا ينفع التمسك بإطلاق الآية الشريفة في إثبات انحصار الشرط. فالتفت ولاحظ.

الوجه الثاني : وقبل ذكره لا بد من التنبيه على شيء وهو : ان إرادة الشرط لها استعمالان :

أحدهما : فيما يساوق معنى الشرطية والترتب والتعليق.

والآخر : فيما يساوق الفرض والتقدير بحيث لا تفيد أكثر من وقوع مدخولها موقع الفرض والتقدير.

ولا يخفى ان الالتزام بالمفهوم انما يكون في موارد النحو الأول للاستعمال.

اما لو استعملت في معنى الفرض والتقدير فلا تفيد المفهوم ـ كما تقدم في مبحث المفهوم ـ ، بل تكون القضية الشرطية نظير القضية الحملية المرتب فيها الحكم على الموضوع المفروض الوجود ، ومن هذه الموارد قوله عليه‌السلام : « ان الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه » (١) فانه لم يدع أحد في ان لهذه القضية مفهوما محصله : « ان الله إذا لم يحرم شيئا لم يحرم ثمنه » ، بل لم يستفد منها سوى بيان الموضوع لتحريم الثمن ، فهي نظير قوله : « ان الله حرام ثمن الحرام » ، ويعبر عن : « إذا »

__________________

(١) العوالي اللئالي ٢ ـ ٣٢٨ الحديث ٣٣.

٢٦١

هذه بالتوقيتية في قبال الشرطية منها. ومن ذلك أيضا الشروط المقومة للموضوع المسوقة لبيان تحققه ، نظير : « ان ركب الأمير فخذ ركابه » ، فان الإرادة مستعملة في معنى الفرض والتقدير لا معنى الشرطية والتعليق.

وإذا ظهر ذلك نقول : ان المفهوم انما يتحقق ويثبت في مورد يكون الموضوع قابلا لطرو حالتي الشرط وعدمه عليه كي يكون اشتراط الحكم بشيء ظاهرا في انتفائه عند انتفاء الشرط ، وذلك نظير : « ان جاءك زيد فأكرمه » ، فان الموضوع وهو زيد محفوظ في كلتا حالتي الشرط وعدمه.

والسر في ذلك ما عرفت من : ان المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء شرطه.

والوجه فيه هو : ان الموضوع إذا كان قابلا لطرو الحالتين عليه مع انحفاظه في كل منهما أمكنت دعوى استعمال الأداة في التعليق والشرطية التي هي أساس المفهوم. اما إذا لم يكن الموضوع قابلا للانقسام لكلتا الحالتين ، بل كان لا يقبل إلاّ إحداهما ، فهو يقبل الترديد بينهما لا الانقسام إليهما معا ، لم يصح استعمال الأداة الداخلة على إحدى الحالتين في معنى التعليق ، بل انما تستعمل في معنى الفرض والتقدير ، نظير ما لو رأى المولى شبحا فقال لعبده : « ان كان هذا زيدا فأكرمه » فان الشبح لا يقبل عروض الزيدية عليه تارة والعمرية أخرى ، بل هو اما زيد أو عمرو ، فالأداة تستعمل في معنى الفرض والتقدير لا في معنى الشرطية ، إذ ليس هناك جامع بين الحالتين يتوارد عليه النفي والإثبات ، كي يعلق الإثبات على شيء ، بل الشبح يدور بين متباينين.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، وذلك لأن الموضوع وان كان ذات النبأ وطبيعته ، إلاّ ان الموضوع في الأحكام هو الطبيعي الموجود في الخارج ، وتكون الذات مأخوذة مفروضة الوجود ، وليس الحال فيه كالمتعلق.

وعليه ، فموضوع الحكم هو النبأ الموجود. ومن الواضح ان النبأ الموجود

٢٦٢

لا يخلو الحال فيه اما ان يكون نبأ فاسق أو نبأ عادل ، ولا يقبل الانقسام إلى كلتا الحالتين ، ولازم ذلك هو استعمال الأداة الداخلة على مجيء الفاسق في معنى الفرض والتقدير ، نظير مثال الشبح.

وقد عرفت ان استعمال الأداة في معنى الفرض والتقدير لا يمكن استفادة المفهوم منه.

فنكتة الوجه هي : انّ الأداة هاهنا مستعملة في معنى الفرض والتقدير فلا يمكن استفادة المفهوم منها ، ونستطيع ان نبين هذا الوجه ببيان آخر ، فنقول :ان الموضوع اما ان يفرض طبيعي النبأ ، أو يفرض شخص النبأ الموجود في الخارج.

فان كان المفروض طبيعي النبأ في أي فرد تحقق ، كان اللازم وجوب التبين عن خبر العادل إذا ورد خبر فاسق ، إذ خبر العادل وجود لطبيعي النبأ وهو موضوع وجوب التبين إذا تحقق الشرط وهو اخبار الفاسق كما هو الفرض.

وان كان المفروض النبأ الموجود خارجا ، كان الشرط مستعملا في الفرض والتقدير لا في معنى الشرطية والترتب ، كما عرفت لعدم قابلية النبأ الموجود للانقسام إلى كلتا الحالتين.

وقد أجاب المحقق الأصفهاني عن هذا الإشكال : بأنه يمكننا اختيار كلا الشقين فنختار الشق الأول ونقول : ليس المراد من الطبيعة المطلقة بنحو الجمع بين القيود حتى يكون المراد هو الطبيعة المتحققة في ضمن خبر العادل والفاسق ، فيلزم التبين عن خبر العادل وانما المراد هو اللابشرط القسمي وبنحو رفض القيود ، بمعنى ان الموضوع هو الطبيعة بلا دخل لخصوصية نسبة العادل أو نسبة الفاسق.

وعليه ، فتعليق الحكم على الشرط يستلزم قصر الحكم على حصة خاصة من الطبيعي ، وهي الحصة المتحققة في ضمن خبر الفاسق. ونختار الشق الثاني

٢٦٣

ونقول بان شأن الأداة جعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وهو كما يجتمع مع كلية الموضوع كذلك يجتمع مع جزئيته ، وان كان وجود بعض افراد الموضوع الجزئي ملازما لأحد طرفي المعلق عليه كما فيما نحن فيه (١).

وهذا الجواب غير تام.

اما ما ذهب إليه من ان تعليق الحكم على الشرط يستلزم قصره على الحصة الخاصة. فهو دعوى خالية عن البرهان وخلف فرض كون الموضوع هو الطبيعي بما هو.

واما ما ذكره في جواب الشق الثاني. فهو نفس ما ادعيناه ونفس ما انتهينا منه إلى إنكار المفهوم.

والمتحصل : انه لا يمكننا الالتزام بالمفهوم على هذا التقدير للوجهين المذكورين.

ثم ان المحقق العراقي ذهب إلى : ان الشرط إذا كان مركبا مما هو قوام الموضوع وما هو ليس كذلك يكون الشرط ذا مفهوم بالإضافة إلى الجزء غير المقوم للموضوع ، فمثلا لو قيل : « ان ركب الأمير وكان اليوم الجمعة وكان لابسا الأبيض فخذ ركابه » فان ركوب الأمير وان كان محققا للموضوع ، إلاّ ان لبسه البياض ان كون اليوم الجمعة ليس من مقومات الموضوع ، فيثبت المفهوم بلحاظها وان كان بالإضافة إلى نفس الركوب لا مفهوم له.

وبالجملة : مثل هذا الشرط ينحل إلى شروط متعددة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الشرط هو المجيء بالنبإ وإضافته إلى الفاسق ، والمجيء بالنبإ وان كان من مقومات الموضوع ، لكن إضافته إلى الفاسق ليست من مقوماته فيثبت المفهوم بلحاظها (٢).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٧٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ١١١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٦٤

وقد تابعة في هذا البيان السيد الخوئي ( حفظه الله ) (١).

وهذا البيان مخدوش بما تقدم منا قبل قليل من : ان استعمال الأداة في مورد المفهوم يختلف عن استعمالها في غير موارده ، فهي تستعمل في ما يحقق الموضوع في معنى الفرض والتقدير وفي موارد المفهوم في معنى الشرطية والتعليق.

وعليه ، فلو أردنا ان نلتزم بثبوت المفهوم بالإضافة إلى الجزء غير المقوم للموضوع دون المقوم له كان علينا ان نلتزم باستعمال الأداة في معنيين وهو محال كما حقق في محله.

وعليه ، فلا بد ان نلتزم بأنها مستعملة في الفرض والتقدير بالنسبة إلى المجموع ومعه ينتفي المفهوم بالمرة.

ودعوى : ان الواو تفيد العطف وهو بمنزلة تكرار الأداة ، فلا يكون اختلاف المعنى مستلزما لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى.

مندفعة : بأنه على تقدير تسليم كون العطف في قوة التكرار لا ينفعنا فيما نحن فيه ، إذ لا عطف في الآية الكريمة وانما أخذ الشرط مقيدا ، والتركب نشأ من تحليله إلى جزءين عقلا فلاحظ.

وبعد ان عرفت عمدة الوجه في نفي المفهوم على هذا التقدير ، تعرف انه لا وجه للقول بالمفهوم على تقدير أخذ الموضوع هو الطبيعي والشرط إضافته إلى الفاسق.

إذ الوجهان المتقدمان يتأتيان عليه أيضا.

فانه لا ينفع التمسك بإطلاق الشرط في إثبات الانحصار ، إذ لا يضر ترتب عدم الحجية على خبر العادل في ترتبه على خبر الفاسق بقول مطلق ، كما ان الموضوع الخارجي لا يقبل الانقسام إلى الحالتين ، بل يقبل الترديد لا غير ،

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ١٥٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٥

فتكون الأداة مستعملة في معنى الفرض والتقدير ، فلا يثبت المفهوم.

هذا مضافا إلى انه مجرد احتمال ثبوتي لا يمكن الالتزام به إثباتا ، إذ صريح الآية الكريمة كون مدخول الأداة مجيء الفاسق ، فإلغاء المجيء عن الشرطية وقصر الشرط على جهة الإسناد إلى الفاسق فقط لا شاهد له أصلا.

ثم انه لو فرض ثبوت المفهوم للآية الكريمة في نفسه وبلحاظ الشرط ، فقد يدعى إنكاره من طريق آخر وهو : العلة المذكورة فيها ، أعني قوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) وتوضيح ذلك : ان المقرر هو ان العلة التي تذكر في الكلام للحكم توجب التصرف في موضوعه سعة وضيقا ، ففي مثل قول الطبيب للمريض : « لا تأكل الرمان لأنه حامض » يكون موضوع الحكم هو الحامض مطلقا فيخرج الرمان الحلو ويدخل الحامض من غيره ، فموضوع الحكم يدور مدار العلة.

وهذا الظهور لا شك فيه عرفا ، فكل واحد من افراد العرف يفهم من المثال المتقدم ما ذكرناه.

وفي الآية الكريمة قد أخذ الشرط مجيء الفاسق إلاّ انه علل ذلك بإصابة القوم بجهالة ، ومقتضاه كون الشرط يدور مدار العلة ، فيكون الشرط مطلق موارد عدم العلم لانطباق الجهل عليها. ولازم ذلك عدم حجية خبر العادل إذا لم يفد العلم ـ كما هو المفروض فيما نحن فيه ـ لأنه مشمول للمنطوق.

وبالجملة : ظهور العلة في العموم يكون موجبا للتصرف في الشرط فلا يثبت المفهوم المدعى.

وبهذا التقريب يندفع ما قد يتوهم من : ان مقتضى مفهوم الشرط عدم حجية خبر العادل ، وهو أخص من العلة فيخصصها كما هو المقرر من جواز تخصيص العام بالمفهوم.

وجه الاندفاع : ما عرفت من ان عموم العلة يستلزم إلغاء المفهوم

٢٦٦

بالتصرف في موضوعه وهو الشرط ، فلا ثبوت للمفهوم بملاحظة العلة ، فلا تصل النوبة إلى التخصيص.

نعم لو كانت العلة في كلام منفصل أمكنت الدعوى المزبورة. ولكن الأمر ليس كذلك إذ العلة متصلة بالكلام.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه نذكر وجهين منها لكونها المهم منها :

الوجه الأول : ان المراد بالجهالة ليس الجهل وعدم العلم ، بل السفاهة وعدم كون العمل عقلائيا ومما يجري عليه العقلاء في أمورهم.

وعليه ، فلا تعم العلة العمل بخبر العادل ، إذ ليس العمل بخبر العادل سفهيا وغير عقلائي ، فلا يتغير الشرط عن كونه مجيء الفاسق بالنبإ ، فيثبت المفهوم المدعى.

أقول لم يرد في اللغة تفسير الجهالة بالسفاهة. نعم تستعمل عرفا في العمل الصادر عن عدم روية وبصيرة والتثبت الّذي هو من شئون الجهال المتسرعين في أمورهم وغير الجارين فيها مجرى العقلاء من التبصر والتروي في الأمور ، فهي تستعمل بما يلازم السفاهة ـ ويعبر بالفارسية : « كار جاهلانه » ويقابله : « كار عاقلانه » ـ.

ومما يشهد لإرادة هذا المعنى من الجهالة في الآية الكريمة دون مطلق عدم العلم ، هو : ان اقدام المسلمين على محاربة من أخبر الوليد ( لعنه الله ) بكفرهم لم يكن مع الترديد والتشكيك في ردتهم وإلاّ لتوقفوا في حربهم ، بل كانوا واثقين من ذلك بسبب اخبار الوليد ( لعنه الله ) ، بسبب غفلتهم وبساطتهم بحيث كانوا يصدقون كل أحد بمجرد كونه مسلما أو نحو ذلك ، ففي الآية تنبيه على هذا المعنى وانه ينبغي التروي والتبصر في الأمور وعدم الإقدام على ما لا ينبغي ان يقدم عليه العقلاء في أمورهم ، وهو الاعتماد على خبر الفاسق المتهم بالكذب في اخباره.

٢٦٧

ومن الواضح ان الاعتماد على خبر العادل غير المتهم بالكذب في الإقدام على عمل لا يعد عملا بلا ترو وتبصر ، بل عملا عقلائيا جاريا على موازين العقلاء في أمورهم وشئونهم ، فلا يعمه عموم التعليل.

هذا ، ولكن ينبغي لتتميم ذلك من إحراز عمل العقلاء بما هم عقلاء بخبر العادل وحجيته لديهم ، فتكون الآية متكفلة لإمضاء هذا الحكم ، ولا تكون متكفلة لبيان حجيته بالتأسيس في قبال ما يدل على حجيته من غيرها.

وإلاّ فلو لم يثبت عمل العقلاء بخبر العادل ، فكيف نحرز ان العمل به جاريا على طبق الموازين العقلائية كي لا يشمله عموم التعليل.

والوجه الآخر : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من حكومة المفهوم على عموم العلة. ببيان : ان غاية ما يدل عليه التعليل هو لزوم التبين عن غير العلم ، ولا يتعرض إلى بيان ما هو علم وما هو غير علم ، إذ الحكم لا يتعرض إلى إثبات موضوعه بنحو من الأنحاء ، بل هو ثابت على تقدير موضوعه ، والمفهوم بما انه يتكفل حجية خبر العادل وبما ان الحجية ترجع إلى جعل الطريقية والوسطية في الإثبات فهو يتكفل بيان ان خبر العادل علم فيخرجه عن موضوع التعليل فيتقدم عليه لحكومته عليه لكونه متصرفا في موضوعه. ولا يمكن ان يتقدم العموم على المفهوم إلاّ بنحو دوري كما لا يخفى.

وبالجملة : لا تنافي بين مفاد المفهوم ومفاد التعليل ، ويكون العمل على المفهوم لكونه حاكما على التعليل (١).

وهذا الجواب مردود : لأن لم يدع تقديم عموم العلة على المفهوم من جهة تنافي الدليلين وأقوائية ظهور عموم العلة أو قرينيته ـ نظير قول القائل : « رأيت أسدا يرمي » ، فان ظهور أسد في الحيوان المفترس ينافي ظهور الرمي في رمي

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٧٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٦٨

النبل ، ويقدم ظهور يرمي للقرينية ـ ، حتى يقال انه لا تنافي بين المفهوم والعموم ، لأن المفهوم يرفع موضوع التعليل والتعليل لا يتعرض لا ثبات موضوعه ، فيكون المفهوم حاكما على عموم التعليل. بل المدعى ان العلة تقتضي التصرف في المعلل عموما وخصوصا بالظهور العرفي للكلام ، فلا تنافي بين ثبوت الحكم لمطلق الرمان ولمطلق الحامض في قول القائل : « لا تأكل الرمان لأنه حامض » ، إلاّ ان التعليل يوجب قصر الحكم على الرمان الحامض ، لأجل ان العرف يفهم ان الحكم يدور مدار العلة ، فالتصرف في ظهور « الرمان » ليس من جهة التنافي بين الظهورين ، بل من جهة فهم العرف ان موضوع الحكم هو العلة لا غير.

وعليه ، فعموم التعليل يوجب التصرف في الشرط الّذي هو موضوع المفهوم ، كما ان المفهوم في حد نفسه يوجب التصرف في عموم التعليل وإخراج خبر العادل عن موضوعه ، فيكون كل من المفهوم والتعليل رافعا لموضوع الآخر فيتحقق التحاكم بينهما. ومقتضى ذلك تحقق التساقط بينهما وعدم الأخذ بأيهما والنتيجة تكون مع إنكار المفهوم.

ونتيجة ما ذكرناه هو : عدم ثبوت المفهوم للآية الكريمة في نفسه ومن جهة القرينة الخاصة على عدمه في المقام.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر انه لو التزم بان الشرط في الآية سيق لبيان تحقق الموضوع أمكن ان يقال بالمفهوم هاهنا وعدم وجوب التبين عن غير خبر الفاسق (١).

ووجّهه المحقق الأصفهاني بما ملخصه : ان أداة الشرط لما كانت تفيد الحصر لم يختلف الحال بين ان يكون مدخولها شرطا أو موضوعا ، فكما تفيد حصر الشرط بمدخولها لو كان شرطا فكذلك تفيد حصر الموضوع به لو كان

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٩

موضوعا ، ولازم ذلك عدم ثبوت الحكم لغير مدخولها ولو كان موضوعا (١).

ولكن لا يخفى ان أساس هذا الوجه ، وهو دلالة الأداة على الحصر هو محل إشكال ، بل منع كما تقدم ، ولعله لذلك لم يجزم به صاحب الكفاية وانما ذكره بعنوان ما يمكن ان يقال. فلاحظ.

ثم انه على تقدير دلالة الآية على حجية خبر العادل ، قد يستشكل في شمولها للخبر عن الإمام عليه‌السلام بواسطة أو وسائط كالأخبار المتداولة بيننا ، فانها أخبار عن الحكم الصادر عن الإمام عليه‌السلام بوسائط عديدة.

والإشكال فيها من وجوه :

الإشكال الأول : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله وغيره من : ان الخبر الأخير المتصل بنا حين يخبر عن اخبار غيره المخبر عن اخبار غيره وهكذا حتى يصل إلى الاخبار عن الحكم الشرعي الصادر من المعصوم عليه‌السلام انما يكون حجة في مفاده ، وهو خبر غيره بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المخبر به لأن المخبر به بنفسه ليس حكما مجعولا بل امرا خارجيا. فمرجع الأمر تصديقه وحجيته إلى وجوب ترتيب الأثر على المخبر به وهو خبر غيره. ومن الواضح انه لا أثر للمخبر به غير نفس وجوب التصديق والحجية ، فيلزم اتحاد الحكم والموضوع بعبارة ، وأخذ الحكم في موضوعه بعبارة أخرى. فان الأثر المأخوذ موضوعا لوجوب ترتيب الأثر هو نفس هذا الوجوب لا غيره. وذلك خلف واضح (٢).

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية : بان الملحوظ في الموضوع طبيعي الأثر بنحو القضية الطبيعية ، وليس الملحوظ هو شخص هذا الأثر ـ أعني وجوب

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٧٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٧٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٠

تصديق العادل ـ.

وعليه ، فيختلف الحكم عن الموضوع ، إذ وجوب التصديق بلحاظ طبيعي الأثر لا بلحاظ نفسه فلا اتحاد (١).

ولا يخفى ان هذا الكلام بظاهره واضح الإشكال ، فان القضية الطبيعية ما كان الحكم فيها واردا على نفس الطبيعة بما هي بملاحظة تجردها عن الوجود الخارجي بحيث لا يسرى المحمول إلى الخارج ، كالنوعية في مثل : « الإنسان نوع ». وقضايا الأحكام ليست كذلك ، إذ هي ترتبط بالماهية بلحاظ وجودها الخارجي ، والحكم يعرض على الموضوع الموجود في الخارج.

وقد يوجه كلامه قدس‌سره : بأنه ليس مراده ملاحظة الطبيعة بما هي في قبال ملاحظة الطبيعة الموجودة في الخارج ، بل مراده ملاحظة الطبيعة السارية في الوجودات الخارجية المتفردة ، ولكن بلا لحاظ خصوصيات الافراد في الموضوع ، إذ للطبيعة وجود في ضمن كل فرد هو الجامع بين الافراد. فالملحوظ هو ذات الطبيعة الموجودة في ضمن كل فرد في قبال ملاحظة الخصوصيات المفردة.

وإذا أخذت الطبيعة بهذا النحو في موضوع الحكم بوجوب التصديق ووجوب ترتيب الأثر تعدد الموضوع والحكم ولم يؤخذ الحكم في موضوع نفسه ، وترتيب نفس وجوب التصديق من باب انطباق طبيعي الأثر عليه ، وهو بحكم العقل ، لا من باب أخذه بنفسه في موضوع الحكم.

هذا غاية ما يبين به كلام صاحب الكفاية ويستفاد بعضه من كلام المحقق الأصفهاني رحمه‌الله (٢).

وتحقيق الكلام في المقام بنحو يتضح به الحال في كلمات الاعلام ( قدس

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٧٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٧١

سرهم ) ، هو بان يقال : ان للحكم الثابت بنحو القضية الحقيقية مقامين : مقام الجعل ومقام الفعلية.

اما مقام الجعل ، فهو ليس إلاّ إنشاء الحكم على تقدير وجود الموضوع ، فليس في ذلك المقام حكم حقيقي ، بل مرجعه إلى بيان الملازمة بين ثبوت الحكم حقيقة وثبوت الموضوع.

ولذا لا يعتبر وجود الموضوع في هذا المقام ، فلا حكم ولا موضوع بلحاظ هذا المقام ، بل ليس هناك إلاّ الملازمة بين الحكم والموضوع.

واما مقام الفعلية ، وهو مقام ثبوت الحكم حقيقة ، وذلك انما يكون عند تحقق الموضوع خارجا ، فيثبت له الحكم ، فثبوت الحكم لموضوعه هو مقام فعليته.

وعليه فنقول : إشكال اتحاد الحكم والموضوع في خبر الواسطة ، انما يتأتى بلحاظ هذا المقام ، لأنه مقام وجود الحكم والموضوع لا مقام الجعل ، إذ لا وجود للحكم فيه كما عرفت. فيقال ان حجية خبر الحر عن خبر الصدوق انما هي بلحاظ ما يترتب على خبر الصدوق من أثر ، ولا أثر له الا نفس الحجية ، فيتحد الحكم والموضوع على جميع المباني في معنى الحجية كما لا يخفى ، فيكون المجعول هو الطريقية إلى نفس هذه الطريقية أو المنجزية إلى نفس هذه المنجزية أو الحجية على نفس هذه الحجية أو الحكم المماثل لنفسه. وكله محال بلا إشكال.

ولكن جواب هذا الإشكال واضح جدا ، بحيث نستطيع ان نقول انه لا إشكال بملاحظة هذا المقام ، وذلك لأن الحكم المجعول ـ وهو الحجية ـ وان كانت بإنشاء واحد ، إلاّ انها تنحل إلى أحكام متعددة بتعدد الاخبار.

وعليه ، فما يترتب على خبر الصدوق غير ما يترتب على خبر الحر ، لأنه فرد من الحجية غير الفرد المترتب على الخبر الآخر ، فلا يتحد الموضوع والحكم ، بل فرد من المنجزية ينجز فردا آخر منها ، وفرد من الطريقية يكون إلى فرد آخر منها وهكذا.

٢٧٢

ودعوى الانحلال بديهية لا تحتاج إلى بيان ، إذ لا يتوهم أحد ان الحجية المجعولة حكم واحد ثابت لجميع الاخبار العرضية والطولية ، بل كل خبر له فرد من الحجية غير ما للخبر الآخر.

وإذا كانت دعوى الانحلال بهذا الوضوح ، واندفاع الإشكال بها كذلك من الوضوح بمكان ، أمكننا ان نقول : انه لا إشكال بملاحظة هذا المقام ، وذكر القوم له وتصديهم لدفعه بالوجوه المختلفة تطويل بلا طائل.

واما جواب صاحب الكفاية عن هذا الإشكال فهو لا يغني ولا يسمن من جوع.

وذلك لما عرفت من ان الحكم الفعلي انما يترتب عند وجود موضوعه ، فالملحوظ في الحكم الفعلي هو وجود الموضوع وواقعة لا مفهومه.

وعليه ، فنقول : اما ان يؤخذ طبيعي الأثر بنحو يشمل الحجية ، أو بنحو لا يشملها ، أو مهملا.

اما الإهمال ، فهو ممتنع ثبوتا كما تقرر مرارا.

واما أخذه بنحو لا يشمل الحجية ، فلازمه عدم ثبوت الحكم إذا كان الأثر هو الحجية ، إذ هو خارج عن دائرة الموضوع ، فكيف ينطبق عليه الموضوع عقلا؟.

واما أخذه بنحو يشملها ، فيكون الحكم مترتبا عند ترتبها ، كما هو الحال في كل حكم وموضوعه ، ولازم ذلك اتحاد الحكم والموضوع في مثل ما نحن فيه كما عرفت.

وعلى كل حال فالذي يهون الخطب انه لا إشكال بحسب هذا المقام أعني ـ مقام الفعلية ـ إلاّ بحسب الصورة ، وانما الإشكال في مقام الجعل بملاحظة مقام الإثبات لا الثبوت.

بيان ذلك : ان الحجية وان كانت انحلالية لبا وثبوتا ، لكنها تفاد في مقام

٢٧٣

الاستعمال بمفهوم واحد جامع بين الافراد ، فالملحوظ في مقام الاستعمال امر واحد حاك عن جميع الافراد ومشير إليها بالإشارة الإجمالية ، وبيان جميع افراد الحجية المترتبة على افراد الخبر تكون بواسطة هذا المفهوم الجامع الملحوظ بلحاظ واحد. فحجية خبر زرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وغيرهم كلها بدليل واحد وبلحاظ واحد.

وعليه ، فإذا فرض ان حجية خبر الحر عن خبر الصدوق تجعل بملاحظة حجية خبر الصدوق ، فلا بد من ملاحظة حجية خبر الصدوق في مرحلة سابقة عن حجية خبر الحر لأنها بمنزلة الموضوع ، وهو يلحظ في مرحلة سابقة على الحكم في مرحلة الجعل.

وهما وان تعددا ثبوتا لكن دليلهما واحد ، كما عرفت ، فالحجية الثابتة لخبر الحر عن الحجية الثابتة لخبر الصدوق في مقام الاستعمال واللحاظ.

وعليه ، فيلزم ملاحظة الحجية في مقام الاستعمال في مرحلة سابقة على نفسها ، وهو خلف.

فواقع الإشكال : هو ان بيان كلتا الحجتين بمفهوم واحد يستلزم ملاحظة الحجية في مرحلة سابقة على نفسها وهو محال. نعم ، لو أنشئتا بإنشاءين ارتفع المحذور كما لا يخفى.

ولا يخفى ان العمدة في الإشكال هو ما ذكرناه ، وهو لا يرتبط باتحاد الحكم والموضوع ، إذ لا حكم حقيقة ولا موضوع هاهنا ، وانما هو يرتبط بمقام الاستعمال وهو مقام الإثبات لا الثبوت.

والتخلص عن هذا الإشكال يكون بالالتزام بان الموضوع الملحوظ في مقام الإثبات ليس هو خصوص الحجية كي يلزم لحاظ الشيء في مرحلة سابقة على نفسه ، بل هو طبيعي الأثر بلا ملاحظة خصوصيات افراده ، بل هو يشير إليها إجمالا ـ كما صور ذلك في مثل الوضع العام والموضوع له الخاصّ ـ. وهذا المقدار

٢٧٤

من التغاير ـ أعني التغاير بين الطبيعي وفرده ـ يكفي في رفع المحذور الإثباتي ، إذ الطبيعي غير الفرد ، فملاحظته في مرحلة سابقة على الفرد لا تستلزم ملاحظة الشيء في مرحلة سابقة على نفسه كما يتحقق التخلص عنه بالالتزام بالتغاير بنحو الإجمال ، والتفصيل ، نظير ملاحظة الجزء بنفسه وملاحظته في ضمن المركب المشتمل عليه ، فان ملاحظة الكل ملاحظة للجزء إجمالا. فيقال : ان الحجية الملحوظة في طرف الموضوع ملحوظة بنحو الإجمال من طريق ملاحظة طبيعي الأثر ، وذلك بملاحظة ان نسبة الطبيعي لافراده نسبة الكل إلى اجزائه.

وبالجملة : بأحد هذين الطريقين يرتفع محذور ملاحظة الشيء في مرحلة سابقة على نفسه للتغاير بين الموضوع والحكم إثباتا فلاحظ وتدبر.

الإشكال الثاني : هو ان موضوع الحجية هو الخبر ، ومن الواضح ان ثبوت خبرية خبر الصدوق الّذي يخبر عنه الحر انما هو بنفس الحجية ووجوب التصديق ، فيمتنع ان يثبت له الحجية ، إذ يلزم إثبات الحكم لموضوعه ، وهو محال لأن الحكم يتفرع على موضوعه فيستحيل ان يتكفل إثباته.

وهذا الإشكال وسابقه يشتركان في جهة ويختلفان في جهة ، فيشتركان في انهما يتأتيان معا بالنسبة إلى الاخبار المتوسطة بين الخبر الواصل إلينا والخبر المتصل بالإمام عليه‌السلام. ويختلفان في ان الأول يتأتى في الخبر الواصل إلينا كما عرفت ، ولا يتأتى في الخبر المتصل بالمعصوم عليه‌السلام ، لأن المخبر به فيه هو الحكم الشرعي غير الحجية فيصح التعبد به بلحاظه ، وفي ان الثاني لا يتأتى في الخبر الواصل إلينا لأنه وأصل إلينا وجدانا لا بواسطة الحجية ، ويتأتى في الخبر الأخير المتصل بالمعصوم عليه‌السلام لأن خبريته بنفس الحكم بالحجية فلو كان حكمه هو الحجية لزم إثبات الحكم لموضوعه وهو محال.

والجواب عن هذا الوجه من الإشكال بأمرين :

أحدهما : ان كل خبر له فرد من الحكم غير ما لغيره ، على ما عرفت

٢٧٥

سابقا من انحلال الحكم بالحجية إلى افراد بعدد افراد الخبر.

وعليه ، فلا يكون الحكم متكفلا لإثبات موضوعه ، بل يكون فرد من الحكم متكفلا لإثبات موضوع فرد آخر وهو ليس بمحال.

والآخر : ان الموضوع للحكم بالحجية هو الخبر بوجوده الواقعي كسائر الموضوعات لا بوجوده التعبدي ، فالحجية متفرعة عن الوجود الواقعي للخبر ، فلا مانع من ان تتكفل إثبات الوجود التعبدي له.

وقد يشكل : بأنه قد تقدم ان الحجية تتقوم بالوصول والإحراز ، ولذا كان الشك فيها مساوقا للقطع بعدمها.

وإذا كانت كذلك فليس موضوعها الخبر بوجوده الواقعي ، بل بوجوده الواصل ، فيكون إثبات الحجية للخبر تعبدا من إثبات الحكم لموضوعه.

ولا يخفى انه على هذا لا ينفع الوجه الأول من الجواب ، وهو المبتني على دعوى الانحلال ، وذلك لأن الحكم وان لم يثبت موضوعه بل موضوع غيره ، إلاّ انه إذا كان الموضوع هو الخبر بقيد الوصول ، ولم يكن ذات الخبر موضوعا ، لحكم لم يصح التعبد به بذاته لعدم ترتب الأثر عليه لأنه جزء الموضوع ، فيتوقف التعبد به على فرض أثر له بالاستقلال ، ومع غض النّظر عن التعبد كي يكون التعبد به بلحاظه ، ثم يترتب الحكم بالحجية على المجموع. والمفروض انه لا أثر يترتب عليه سوى الحجية التي فرض ترتبها عليه بقيد الوصول.

والجواب عن هذا الإشكال : ما عرفته في مبحث تأسيس الأصل بالنسبة إلى الحجية ، من ان الحجية لا تتقوم بالوصول والإحراز ولو كان تعبديا ، بل تتقوم بكونها في معرض الوصول. فقد عرفت كفايته في ثبوت الحجية والمنجزية ، ولا يكون الشك والحال هذه مساوقا للجزم بعدمها. وإذا كان الأمر كذلك ، فموصوف الحجية هاهنا في معرض الوصول ولو تعبدا ، فلا يكون التعبد بموضوعها قواما لها. فلاحظ جيدا وتدبر.

٢٧٦

الإشكال الثالث : هو ان التعبد لا بد وان يكون بلحاظ الأثر العملي للمتعبد به وإلاّ كان لغوا فلو فرض تصحيح التعبد بخبر الواحد عن خبر الصدوق بلحاظ ما يترتب على خبر الصدوق من أثر شرعي وهو الحجية ، لم ينفع ذلك ما لم يترتب على الحجية أثر عملي وهو غير موجود ، إذ لا أثر عملي يترتب على حجية خبر الصدوق.

نعم الأثر العملي يترتب على حجية الخبر المتصل بالإمام عليه‌السلام لتكفله حكما شرعيا عمليا.

والجواب عن هذا الإشكال : بان وجوب التصديق تارة يتعلق بالتصديق الجناني ، وأخرى بالعملي. في غير محله ، إذ ليس في أدلة الحجية حكم بوجوب التصديق وانما المجعول هو الحجية بمعانيها المختلفة.

نعم ، يشار بهذا العنوان ـ أعني وجوب التصديق ـ إلى حجية خبر الواحد ، لا انه هو المجعول في هذا المقام.

فالصحيح ان يقال : ان الأثر العملي ليس مقوما للجعل بحيث لا يمكن عقلا تحققه بدونه ، بل هو معتبر من باب خروج التعبد عن اللغوية القبيح في حق الحكيم.

وعليه ، فيصح التعبد بمجرد فرض جهة تترتب عليه تخرجه عن كونه لغوا.

وما نحن فيه كذلك ، فانه وان لم يترتب على حجية كل خبر من اخبار الوسائط أثر عملي له خاصة ، إلاّ ان جعل الحجية لهذه الاخبار يكون دخيلا في ثبوتها للخبر المتصل بالإمام عليه‌السلام الّذي عرفت انها ذات أثر عملي ، إذ لو لا حجية اخبار الوسائط لم تصل النوبة إلى الخبر المتصل بالإمام عليه‌السلام لعدم وصوله إلينا وجدانا كي تترتب عليه الحجية مع غض النّظر عن الواسطة.

٢٧٧

وهذا المقدار من التأثير يكفي في عدم كون جعل الحجية لكل خبر لغوا فحجية الاخبار الوسائط تكون دخيلة في ثبوت قول الإمام عليه‌السلام الّذي يترتب عليه الأثر العملي. فلاحظ وتدبر.

ومنها آية النفر ، وهي قوله تعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١).

وقد قربت دلالتها على حجية الخبر بوجوه عديدة :

الأول : ان كلمة : « لعل » لا يمكن ان يراد بها الترجي الحقيقي لاستحالته على الله سبحانه ، فيراد بها الدلالة على محبوبية العمل ، وعليه فالآية تدل على محبوبية الحذر ، وهو ملازم لوجوبه شرعا لعدم الفصل ، فان كل من قال بمحبوبيته قال بوجوبه. وعقلا لأنه اما ان يكون هناك مقتض للعقاب أو لا ، فان كان مقتضى للعقاب وجب الحذر وإلاّ لم يحسن أصلا.

وهذا التقريب مشترك بين من يذهب إلى ان : « لعل » موضوعة للترجي الحقيقي ، وقد أريد بها هنا المحبوبية مجازا كما هو ظاهر الشيخ (٢). وبين من يذهب إلى انها موضوعة للترجي الإيقاعي الإنشائي ، والاختلاف في مرحلة الداعي ، وهو هاهنا ليس الترجي حقيقة وانما مجرد المحبوبية ، فاستعمالها هاهنا يكون حقيقيا لعدم استحالة الترجي الإيقاعي في حقه تعالى ، كما هو ظاهر الكفاية (٣).

الثاني : ان الإنذار واجب بظاهر الآية الشريفة ، لأنه غاية للنفر الواجب بالآية بمقتضى أداة التخصيص ، وإذا لم يجب التحذر عند الإنذار كان وجوبه لغوا.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١٢٢.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ـ ٧٨ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٨

الثالث : ان التحذر قد جعل غاية للإنذار في الآية الكريمة ، وهو واجب ، وغاية الواجب واجبة ، فيكون التحذر واجبا.

وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها الشيخ وصاحب الكفاية. واستشكل فيها صاحب الكفاية متفقا مع الشيخ في بعض مناقشاته :

اما الأول : فاستشكل فيه بما يحتمل وجهين :

أحدهما : ان التحذر عبارة عن الخوف النفسانيّ ، وهو لا ينحصر متعلقه بالعقاب ، بل يمكن ان يكون الخوف من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، ومحبوبية الثاني لا تستلزم وجوبه كما يشهد لذلك موارد حسن الاحتياط وعدم وجوبه.

وبالجملة : لم يبين في الآية متعلق الحذر ، واحتمال إرادة الثاني يكفي في إبطال الدليل.

والآخر : ان المراد بالتحذر التحذر العملي الخارجي ، بمعنى ان يعمل عملا كعمل المتحذر عن العقاب ، وهذا لا يلازم احتمال العقاب كي يدعى وجوبه ، ومن الواضح ان إرادة التحذر بالعملي بالمعنى الّذي عرفته ومحبوبيته لا تستلزم وجوبه كما في موارد حسن الاحتياط غير الواجب ، فانه عمل كعمل المتحذر عن العقاب مع انه غير واجب.

اذن فلا دليل على وجوب التحذر هاهنا ، إذ لا دليل على ان التحذر من العقاب ، أو لا دليل على ان المراد به الخوف النفسانيّ وإذا لم يثبت وجوبه لم يكن دليلا على حجية الإنذار.

واما الثاني : فاستشكل فيه بأنه لا تنحصر فائدة الإنذار بوجوب التحذر تعبدا ولو لم يحصل العلم ، بل يمكن ان تكون فائدته هو حصول التحذر عند حصول العلم بالمنذر به.

واما الثالث : فاستشكل فيه بأنه لا إطلاق يقتضي وجوب التعذر مطلقا

٢٧٩

سواء حصل العلم أو لا ، إذ ليس المتكلم في مقام بيان غايتية الحذر كي يتمسك بإطلاق الكلام من هذه الجهة ، بل في مقام بيان وجوب النفر ، فلا ينفع في إثبات الإطلاق في الغاية إذ انعقاد مقدمات الإطلاق من جهة لا ينفع في إثباته من جهة أخرى ، فمن المحتمل ان تكون الغاية هو الحذر عند حصول العلم. هذا مع وجود القرينة على التقييد بحصول العلم ، إذ الإنذار المطلوب هو الإنذار بأمور الدين التي تفقه فيها وتعلمها بواسطة النفر ، وهذا هو موضوع وجوب التحذر ، فان شك في انه صادق في خبره أو لا ، شك في كون اخباره عن أمور الدين أو لا ، ومعه يشك في ثبوت موضوع وجوب الحذر ، فلا يمكن الحكم بوجوبه ، لأنه تمسك بالعموم في الشبهة المصداقية. فتدبر (١).

هذه هي مؤاخذات صاحب الكفاية لهذه الوجوه ، وسنعود إلى تحقيق الحال فيها بعد قليل فانتظر.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني قدس‌سره وجوها ثلاثة أخرى لتقريب دلالة الآية على حجية إنذار كل منذر.

وقبل ذكرها نشير إلى ما حققه قدس‌سره في معنى : « لعل » ، فقد توقف في كون معنى : « لعل » ، هو الترجي أو كون مدخولها واقعا موقع الرجاء ـ بتعبير أصح : لأنها أداة ليست موضوعة لمفهوم الترجي ـ ، إذ هي تستعمل في موارد لا تتناسب مع إرادة الرجاء الّذي هو عبارة عن توقع المحبوب ، بل تتناسب مع إرادة الخوف من مكروه متوقع ، كما في قول الإمام عليه‌السلام في دعائه : « لعلك وجدتني في مقام الكاذبين » ، وكقول القائل : « لعل زيدا يموت غدا » في مقام بيان احتمال موته المكروه لا في مقام تمنيه. وغير ذلك.

ولأجل ذلك فالأنسب : ان يقال انها موضوعة لإفادة وقوع مدخولها مع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٠