منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

ولكن هذا الجواب مندفع بوجود الفرق بين المقامين ، إذ خصوصية السؤال أو السائل أو المسئول عنه من زمان أو مكان أو غير ذلك تلازم عرفا معرفة خصوصية الحكم ، وعليه فمن يخبر بان السائل مدني ـ مثلا ـ يخبر بالملازمة عن ان موضوع الحكم هو الرطل المدني للملازمة العرفية بينهما ، فخبره في المدلول الالتزامي هو الحجة لأنه إخبار عن موضوع الحكم الشرعي فيصح التعبد بحجيته.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، إذ الفرض عدم حجية الخبر عن الإجماع في المدلول الالتزامي ، لأنه خبر عن أمر حدسي لا تشمله أدلة حجية الخبر ، والخبر عن المدلول المطابقي وهو نفس الإجماع ليس خبرا عن حكم ولا موضوع حكم فلا يصح التعبد بحجيته لعدم الأثر العملي المترتب عليه. فالتفت وتدبر. هذه خلاصة البحث في الإجماع المنقول.

ويبقى الكلام في جهات :

الأولي : قد عرفت اختلاف طرق استكشاف قول الإمام عليه‌السلام من الإجماع المحصل وهي مردودة بأجمعها كما يذكر في محله.

وعمدة الوجوه ما يقال من : ان اتفاق جمع غفير من العلماء في العصور المتعاقبة مع العلم بأنهم لا يفتون من غير علم يكشف بالكشف القطعي عن وجود دليل معتبر في الواقع وان لم يصل إلينا.

وهذا الوجه مردود ، لأن اتفاق الجمع الغفير كمائة من العلماء لو كان في عرض واحد لقربت هذه الدعوى ، اما إذا كان بنحو التعاقب وفي الأزمنة المتعددة فلا ينفع ما قيل ، إذ لا يكشف الاتفاق المزبور عن وجود دليل معتبر واقعا ، لأنه من الممكن استناد القائلين في العصر المتأخر إلى إجماع العصر السابق اما لقاعدة اللطف ، بنظرهم أو للملازمة الاتفاقية أو نحوهما ، وهكذا حتى تصل النوبة إلى أسبق العصور ، وهم لا يشكلون عددا كبيرا ، وإجماع مثلهم لا

٢٤١

يكشف عن دليل معتبر ، إذ من الممكن استناد كل منهم إلى دليل لا يكون حجة بنظرنا لو اطلعنا عليه ، كرواية ضعيفة قطع بمضمونها لقرائن قطعية بنظره ونحو ذلك ، بل لو علم استنادهم إلى دليل واحد فلا نستطيع استكشاف حجيته ، إذ من الممكن انه رواية ظاهرة في معنى عندهم وهو ما أجمعوا عليه ، ولكنها غير ظاهرة عندنا فيما استظهروه لو اطلعنا عليها.

وبالجملة : فهذا الوجه مع انه أمتن الوجوه المذكورة في حجية الإجماع.

غير ناهض لإثبات حجيته. إذن ، فلا دليل على حجية الإجماع فتدبر.

الثانية : لو تعارض نقل الإجماع ، فنقل ففيه الإجماع على حكم ، ونقل غيره الإجماع على خلافه ، فالتعارض بينهما انما يكون بلحاظ المسبب وهو الكشف عن قول الإمام عليه‌السلام ، إذ يمتنع ان يكون كل منهما كاشفا قطعيا لاختلاف مضمونهما.

واما بلحاظ السبب ، فلا تعارض ، إذ من الممكن ان يذهب طائفة إلى حكم بمقدار يحقق الإجماع بنظر الناقل ، ويذهب طائفة أخرى إلى خلافه بمقدار يحقق الإجماع بنظر ناقل آخر.

ولكن كلا منهما لا يصلح لأن يكون سببا للمنقول إليه بعد وجود نقل الخلاف على غيره ، بل ولا جزء سبب ، لأن أحدهما يبعد الحكم عن نظر المنقول إليه بالمقدار الّذي يقربه الآخر بنظره ، إلاّ ان يشتمل أحدهما على خصوصية توجب الجزم برأي الإمام عليه‌السلام ولو مع اطلاعه على الخلاف ، مثل كون المجمعين من أهل الدقة والتدبر وكونهم من القدماء. ونحو ذلك.

هذا محصل ما ذكره في الكفاية بتوضيح منا (١) ، والمطلب لا يتحمل أكثر من ذلك وانما ذكرناه تبعا.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٢

الثالثة : لا يخفى ان الحديث في نقل تواتر الخبر كالحديث في نقل الإجماع في عدم شموله لأدلة حجية خبر الواحد من حيث المسبب ، لأنه نقل قول المعصوم عليه‌السلام بالملازمة الحدسية غير القريبة للحس غالبا.

نعم لو علم ان مقصود الناقل نقل التواتر الّذي يلازم الجزم بقول الإمام عليه‌السلام عرفا لكل أحد بالملازمة الواضحة كان حجة من ذلك الباب لكنه نادر.

وهكذا من حيث نفس السبب ، فانه ذكر في الكفاية : انه يكون حجة بالمقدار الدال عليه نقل التواتر ، فقد يكون تمام السبب لدى المنقول إليه وقد يكون جزءه كما تقدم في الإجماع المنقول.

ولكن تقدم منا الاستشكال في شمول أدلة حجية الخبر لنقل الإجماع من جهة انه ليس بحكم ولا موضوع حكم. وهذا الإشكال بنفسه يجري في نقل التواتر وإثبات جزء السبب أو تمامه به تعبدا ، فراجع وعليك التطبيق. والله ولي التوفيق.

٢٤٣
٢٤٤

الفصل الثالث

في الكلام عن حجية الشهرة.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أمورا ثلاثة :

الأول : ان المراد بالشهرة المبحوث عنها الشهرة الفتوائية أعني اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء ، لا الشهرة الروائيّة التي هي اشتهار الرواية بين الأصحاب المبحوث عنها في باب الترجيح.

الثاني : ان الحديث في حجية الشهرة انما هو في طول البناء على حجية الإجماع ، وإلاّ فمع نفي حجية الإجماع لا مجال للالتزام بحجية الشهرة كما هو واضح جدا.

الثالث : ان البحث عن حجية الشهرة تعبدا ، وذلك يختص بصورة عدم حصول اليقين أو الوثوق الشخصي بالحكم من الشهرة ، وإلاّ فلا إشكال في حجية الوثوق واليقين.

إذا عرفت ذلك ، فقد ادعي حجية الشهرة واستدل عليها بوجوه :

أحدها : دلالة أدلة حجية أخبر الواحد على حجيتها بالفحوى ، إذ ملاك حجية الخبر ـ وهو الظن ـ موجود في الشهرة بنحو أقوى.

ثانيها : مرفوعة زرارة حيث قال : « قلت جعلت فداك يأتي منكم الخبران

٢٤٥

والحديثان المتعارضان فبأيهما نعمل؟. قال عليه‌السلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك ... » (١) ، فان مقتضى عموم الموصول لزوم الأخذ بكل مشهور ، والمورد وان كان خصوص الخبرين لكنه لا يخصص الوارد.

وثالثها : مقبولة ابن حنظلة حيث جاء فيها : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ... » (٢) تمسكا بعموم التعليل بضميمة ان المراد بالمجمع عليه هو المشهور لإطلاق المشهور عليه في قوله : « ويترك الشاذ ... ».

وقد استشكل صاحب الكفاية في هذه الوجوه ، وانتهى من ذلك إلى عدم حجية الشهرة لعدم الدليل.

اما الوجه الأول ، فقد استشكل فيه :

أولا : انه لا دليل على كون ملاك التعبد بالخبر هو الظن. نعم ذلك مظنون ، ولا دليل على حجية مثل هذا الظن.

وثانيا : انه يمكن القطع بعدم كون الملاك هو الظن ، ودعواه غير مجازفة لوضوح ان كثيرا من الموارد التي يثبت بكون الخبر فيها حجة لا يفيد الظن.

واما الوجه الثاني ، فاستشكل فيه : بان الظاهر كون المراد من الموصول في قوله : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » هو الرواية المشهورة لا مطلق المشهور ، ولو كان فتوى مجردة (٣).

وقد ساق الشيخ لإثبات ذلك الأمثلة المتعددة الظاهرة في رجوع الموصول إلى مورد السؤال ، وهذا واضح عرفا بلا ريب. فإذا سألت شخصا عن

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ ـ ١٣٣ ، الحديث : ٢٢٩.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ ـ ٣٠١ ، الحديث : ٥٢.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٦

أكل أي الطعامين فقال كل أكثرهما دهنا ، أو ما دهنه أكثر. فلا يتوهم أحد بأنه امر بأكل كثير الدهن في مطلق الموارد من باب ان المورد لا يخصص الوارد.

وبعين هذا الإشكال استشكل في الوجه الثالث ، فذهب إلى ان المراد بالمجمع عليه هو الرواية فقط.

واستشكل فيه الشيخ ـ مع غض النّظر عن بعض المناقشات التي يأتي التعرض إليها في مبحث التعادل والترجيح ـ : بان المراد بالمجمع عليه ما اتفق عليه الكل فلا يشمل المشهور الاصطلاحي ، وإطلاق المشهور على المجمع عليه لا يرجع إلى إرادة المشهور الاصطلاحي منه ، بل هو بلحاظ إرادة المفهوم العرفي للشهرة وهو الظهور والوضوح ، إذ الشهرة الاصطلاحية من المعاني المستحدثة بين المتأخرين ، فلا معنى لأن تراد في رواية (١).

فإشكال الشيخ يرتكز على نفي مشمول لفظ المجمع عليه للمشهور الاصطلاحي ولو كانت العلة عامة وإشكال صاحب الكفاية يرتكز على نفى عموم العلة ولو شمل المشهور اصطلاحا.

وبالجملة : الإشكال في دلالة الروايتين واضح فلا حاجة إلى إطالة الكلام فيه فتدبر.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٦٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٧
٢٤٨

الفصل الرابع

في الكلام عن حجية خبر الواحد (١).

وهذه المسألة من مهمات المسائل الأصولية ، وهو مما لا إشكال فيه ، انما الّذي وقع الكلام فيه هو كيفية إدراجها في علم الأصول مع انه لا يتلاءم مع تعريف موضوع علم الأصول بأنه الأدلة الأربعة ، إذ خبر الواحد ليس منها ، فكيف يكون البحث عن حجيته بحثا عن عوارض موضوع الأصول الّذي هو شرط كون المسألة أصولية؟.

وقد تصدى الشيخ رحمه‌الله لحل هذه المشكلة بإرجاع البحث فيه إلى ثبوت السنة الواقعية ، وهو قول الإمام المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره بخبر الواحد ، وعدم ثبوته ، فيكون البحث عن عوارض السنة (٢).

واستشكل فيه في الكفاية في مبحث موضوع علم الأصول (٣) ، وفي هذا المبحث (٤) بما يرجع إلى ان الثبوت التعبدي المبحوث عنه هاهنا ـ إذ لا يبحث عن الثبوت الواقعي قطعا ، وان جعله طرفا للترديد في الإشكال في ذلك المبحث

__________________

(١) ابتدأنا بهذا الفضل يوم الاثنين ١٦ ربيع الأول ١٣٨٩ ه‍ ـ. ق.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٦٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٣ و ٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٣ و ٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٩

ـ ليس من عوارض السنة الواقعية ، بل من عوارض الخبر ، وما هو مشكوك السنة ، ولذا يدور مداره وجودا وعدما كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ان الملاك في كون المسألة أصولية هو ملاحظة نفس عنوانها المحرر لا ما هو لازم ذلك العنوان وما يرجع إليه في اللب ، والمفروض ان عنوان هذا المبحث ليس من مسائل الأصول.

وقد تخلص صاحب الكفاية عن هذه المشكلة بعدم التزامه بان موضوع الأصول هو الأدلة الأربعة ، بل التزم بأنه الكلي المنطبق على موضوعات مسائله ، وفي الوقت نفسه التزم بان المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط ، فيندرج مبحث حجية خبر الواحد في مسائل الأصول على ما تقدم بيانه في أول الأصول.

وقد تقدم منا بعض الاستشكال في تعريف صاحب الكفاية للمسألة الأصولية ، كما تقدم منا الإشكال في تعريفها بأنها ما تقع كبرى قياس الاستنباط الّذي ذكره بعض الأعاظم المحققين.

وقد اخترنا في ضابط المسألة الأصولية : انها المسألة النظرية التي يتوصل بها إلى رفع التحير في مقام العمل بلا واسطة نظرية.

وهذا الضابط يشمل مسألة خبر الواحد بلا كلام.

ونعود فنقول : ان كون مسألة خبر الواحد من مسائل الأصول لا ريب فيه ، وانما يؤول الخلاف إلى تحديد ضابط المسألة الأصولية بنحو يشمل هذه المسألة ، بل من طرق معرفة صحة الضابط وسقمه ملاحظة شموله لهذه المسألة وأمثالها. فتدبر.

وبعد هذا يقع البحث في أصل الموضوع.

وقد حدّد الشيخ رحمه‌الله جهة البحث في حجية خبر الواحد ببيان : ان حجية الخبر تتوقف على جهات ثلاث :

٢٥٠

الأولى : إحراز ظهوره وإرادته. الثانية : إحراز كون الكلام صادرا لبيان الحكم الواقعي. الثالثة : إحراز صدوره من المعصوم عليه‌السلام. فإذا اختلت إحدى هذه الجهات لم يكن الخبر حجة.

والّذي يتكفل الجهة الأولى من المباحث ، هو مبحث الظهور الّذي تقدم إيقاع الكلام فيه.

واما الجهة الثانية ، فيتكفلها الأصول العقلائية الجارية في تنقيح صدور الكلام لبيان الواقع لا صدوره عن تقية ونحو ذلك ، ويصطلح عليها بأصالة الجهة.

واما الجهة الثالثة ، فهي التي يتكفلها هذا البحث. فالبحث في حجية خبر الواحد بحث عن إثبات صدور المضمون عن المعصوم عليه‌السلام بخبر الواحد.

وقد وقع الخلاف في ذلك : فذهب فريق إلى عدم حجيته. وذهب فريق آخر إلى حجيته.

واستدل من ذهب إلى عدم حجيته بالأدلة الأربعة.

الأول : العقل ، وهو ما ينسب إلى ابن قبة من استلزام التعبد به تحليل الحرام وتحريم الحلال. وهذا ما تقدم البحث فيه في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية.

الثاني : الكتاب المجيد ، ويدل على عدم حجيته ما ورد من الآيات الكريمة المتكفلة للنهي عن اتباع الظن وغير العلم كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١). وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٣٦.

(٢) سورة يونس : الآية : ٣٦.

٢٥١

الثالث : السنة الشريفة ، فقد وردت الروايات الدالة على رد ما لا يعلم انه قولهم عليهم‌السلام (١) ، لما ورد ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله تعالى (٢) ، ورد ما لم يكن موافقا للقرآن إليهم (٣) وبطلان ما لا يصدقه كتاب الله وان ما لا يوافق الكتاب زخرف باطل (٤) ، وغير ذلك.

الرابع : الإجماع ، الّذي حكاه السيد رحمه‌الله في مواضع من كلامه ، بل حكي عنه انه جعل عدم العمل بخبر الواحد معروفا لدى الشيعة كعدم العمل بالقياس عندهم (٥).

واستشكل في هذه الوجوه الثلاثة :

اما الآيات الكريمة : فناقش صاحب الكفاية دلالتها على المدعى بوجوه :

الأول : انها ظاهرة في النهي عن اتباع غير العلم في أصول الدين كما يتضح ذلك بملاحظة سياقها.

الثاني : انها لو لم تكن ظاهرة في ذلك ، فالقدر المتيقن منها ذلك ، فانها تكون مجملة لا ظهور لها في العموم للفروع.

الثالث : انه لو سلم عمومها لفروع الدين ، فما دل على حجية خبر الواحد يكون مخصصا لعمومها كما لا يخفى (٦).

ولكن المحقق النائيني قدس‌سره التزم بان دليل الحجية يكون حاكما على هذه الآيات ، لأنه يتكفل جعل الطريقية وتنزيل الخبر منزلة العلم ، فيخرجه

__________________

(١) مستدرك وسائل الشيعة ١٧ ـ ٣٠٦ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٠ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٨.

(٣) مستدرك وسائل الشيعة ١٧ ـ ٣٠٤ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٥.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٢.

(٥) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٦٩ ـ الطبعة الأولى.

(٦) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٢

عن موضوع هذه الآيات تنزيلا (١).

والّذي يبدو للنظر دعوى الحكومة ، وذلك لأن النهي الوارد في الآيات الكريمة ليس نهيا نفسيا ذاتيا عما موضوعه غير الحجة وغير العلم كي يرتفع في المورد المنزل منزلة العلم. وانما هو نهي تشريعي يقصد به نفي الحجية عن غير العلم ، فما يثبت الحجية يكون مصادما لنفس الحكم مباشرة. وبعبارة أخرى : ان مفاد الآيات ان غير العلم ليس بحجة فما يتكفل ان خبر الواحد حجة لا يكون حاكما عليها ، بل يكون مخصصا كما لا يخفى.

ثم ان الحكومة على تقدير تسليمها تبتني على فرض كون المجعول في باب الأمارات هو الطريقية ـ كما عليه المحقق النائيني ـ ، اما بناء على كون المجعول هو المؤدى كما قربناه ، فتصوير الحكومة مشكل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى لذلك مزيد توضيح فانتظر.

واما الروايات الشريفة ، فقد ناقش صاحب الكفاية الاستدلال بها بما حاصله : انه لا مجال للاستدلال بكل واحدة منها ، لأنها أخبار آحاد فلا معنى للاستدلال بها على عدم حجية خبر الواحد ، وليست هي متواترة لفظا ولا معنى.

نعم هي متواترة إجمالا للعلم الإجمالي بصدور إحداها ، ولكن مقتضى ذلك هو الالتزام بأخص هذه الروايات من حيث المضمون للقطع بصدوره من المعصوم عليه‌السلام ، ولازمه عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة لأنه مما توافقت عليه الروايات. وهو لا ينفع في نفي حجية خبر الواحد بنحو السلب الكلي الّذي هو محط الكلام ، والالتزام به غير ضائر بل لا محيص عنه في مقام المعارضة (٢).

أقول : لا بد من التنبه لأمور :

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٦١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٣

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية أخيرا ، من انه لا محيص عن الالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في مقام المعارضة ، أجنبي عما نحن فيه ، إذ يفرض حجية كل من المتعارضين في نفسه في مقام المعارضة ، كما يوضح هناك ، ويقال هناك ان فرض التعارض يلازم فرض تمامية حجية كل من المتعارضين في نفسه بحيث يجب العمل به لو لا المعارضة. والبحث فيما نحن فيه عن أصل الحجية ، اذن فالالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في مقام التعارض لا يعني الالتزام بعدم حجيته في نفسه ، ولا يقرب هذا المعنى ، فتدبر.

الثاني : لا بد من التعرض للاخبار المشار إليها بنحو مفصل وسيأتي إن شاء الله تعالى عند التعرض لما استدل به من الأخبار على الحجية.

الثالث : ذكر الشيخ رحمه‌الله ان المراد بالمخالفة غير المخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، بل المراد بها المخالفة بنحو التباين أو بضميمة المخالفة بنحو العموم من وجه.

واستند في ذلك إلى عدم صدق المخالفة عرفا على التخصيص أو التقييد. وإلى القطع بصدور التخصيص والتقييد لعمومات الكتاب ومطلقاته ، بضميمة إباء عمومات النهي عن العمل بالمخالف للكتاب عن التخصيص (١).

وهذا المطلب وان لم يذكره صاحب الكفاية ولكن من الممكن ان يكون أشار إليه بقوله : « والالتزام به يعني عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة غير ضائر » (٢) ، إذ يمكن ان يكون مراده غير ضائر لقلة الاخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، ولو كان يرى عموم المخالفة للتخصيص والتقييد لكان نفي حجيته ضائرا لكثرة الأخبار المخالفة بنحو الخصوص.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٦٩ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٤

وعلى كل حال ، فالذي نريد ان ننبه عليه ، الإشكال في الوجه الثاني الّذي استند إليه الشيخ رحمه‌الله ، وذلك لاحتمال ان لا يكون العموم أو الإطلاق في نفسه مرادا في المورد الّذي يقطع فيه بورود الخاصّ أو المقيد ، بحيث يكون ورود الخاصّ أو المقيد كاشفا عن عدم العموم أو الإطلاق واقعا ، وانما كنّا نتخيل ثبوت العموم أو الإطلاق.

وبعبارة أخرى : كما يمكن ان يكون مجيء الخاصّ القطعي كاشفا عن عدم إرادة مخالفة التخصيص من الروايات المزبورة ، كذلك يمكن ان يكون كاشفا عن عدم انعقاد العموم أو الإطلاق من أول الأمر لقرينة مقالية أو حالية لا نلتفت إليها فيبقى ظهور المخالفة على حاله.

وبالجملة : فلا قطع بثبوت التخصيص ، وقد عرفت ان القطع بورود الخاصّ لا يلازم القطع بالتخصيص. فتدبر.

نعم ، دعوى ان مخالفة التخصيص لا تعد مخالفة عرفا ، شيء آخر.

فلاحظ.

وأما الإجماع ، فقد نوقش في الاستدلال به : ان المحصل فيه غير حاصل ، والمنقول منه لا يصلح للاستدلال كما تقدم خصوصا في مثل هذه المسألة التي يحتمل استناد المجمعين إلى بعض الوجوه القابلة للمناقشة. مع ان دليل حجية الإجماع المنقول ـ لو سلم هو دليل حجية خبر الواحد ، فلا يصلح نقل الإجماع لنفي الحجية لأنه خبر واحد.

هذا مع معارضته بمثله ووهنه بذهاب المشهور إلى خلافه.

هذا تمام البحث في أدلة النافين لحجية خبر الواحد.

٢٥٥

« الاستدلال على حجية خبر الواحد »

وفي قبالهم استدل المثبتون بالأدلة الأربعة : الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

اما الكتاب ، فبآيات متعددة :

منها : آية النبإ ، وهي قوله عزّ من قائل : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١).

وقد ذكر في الرسائل للاستدلال بها على المدعى تقريبين :

أحدهما : الاستدلال بها بمفهوم الوصف ، فان مقتضى تعليق الحكم على وصف الفاسق انتفاؤه عند انتفائه ، فيدور الأمر في خبر العادل بين الرد مطلقا أو القبول مطلقا ، والأول يستلزم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق فيتعين الثاني وهو المطلوب (٢).

وقد بين الشيخ رحمه‌الله هذا الوجه بصورة دقيقة علمية. وأوضحها المحقق الأصفهاني قدس‌سره بما لا يهم التعرض إليها. كما انه قدس‌سره

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية : ٦.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٧١ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٦

ناقش احتياج الاستدلال إلى المقدمة الأخيرة ، وذكر انها انما يحتاج إليها لو فرض ان وجوب التبين نفسي ، ولكنه ليس كذلك بل هو شرطي ، بمعنى انه يجب شرطا للعمل بخبر الفاسق.

وعليه ، فمجرد انتفائه عند انتفاء الفسق يستلزم جواز العمل بخبر العادل بلا تبين ، بلا احتياج إلى المقدمة المزبورة والترديد المذكور (١).

وعلى أي حال فالجواب عن هذا الوجه لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فانه يتلخص بما تم تحقيقه من عدم ثبوت مفهوم الوصف ، وان إثبات الحكم لوصف ما لا يستلزم انتفاؤه عند انتفائه ، إذ أساس المفهوم على فهم العلية المنحصرة من التوصيف ، وطريق ذلك ليس إلاّ لغوية ذكره لو لم يكن علة منحصرة ، وهذا مخدوش بإمكان فرض ما يخرج ذكر الوصف عن اللغوية مع عدم الانحصار كأهميته أو وقوعه مورد السؤال ونحو ذلك. ومن الممكن ان يكون الغرض من ذكر الوصف في الآية الكريمة التنبيه على فسق الوليد ( لعنه الله ) وانه لا يتجنب عن الكذب وان كان مسلما.

وانما المهم في البحث هو الكلام عن الوجه ..

الآخر : وهو الاستدلال بالآية الكريمة بطريق مفهوم الشرط ، فانه علق وجوب التبين عند العمل على مجيء خبر الفاسق. فينتفي إذا انتفى الشرط ، فلا يجب التبين عند العمل بخبر العادل (٢).

وقد وقع الكلام بين الاعلام في ثبوت المفهوم للشرط في هذه الآية وعدمه ، مع فرض تسليم أصل مفهوم الشرط وثبوته في نفسه.

وقد ذهب الشيخ رحمه‌الله إلى ان المفهوم هاهنا من باب السالبة بانتفاء

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٧٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٧١ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٧

الموضوع إذ الشرط هو مجيء الفاسق بالنبإ ، ومن الواضح ان عدم التبين عند عدم مجيئه من باب عدم ما يتبين ، إذ لا خبر حتى يتبين فيه ، فالشرط هاهنا من الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع ، ولأنه مما يتقوم الموضوع به عقلا بحيث لا يتصور بقاء الموضوع بانتفائه نظير قوله : « ان رزقت ولدا فاختنه » و: « ان ركب الأمير فخذ ركابه » ، وقوله تعالى : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) (١) وغير ذلك من الأمثلة ، وقد تقرر في محله ان مثل هذه الشروط لا يثبت لها مفهوم ، إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم بانتفاء الشرط عن الموضوع الّذي ثبت له الحكم عند وجود الشرط. ومن الواضح ان هذا يستدعي ان يكون الموضوع موجودا عند انتفاء الشرط كما كان موجودا في حال وجوده ، فإذا فرض ان الشرط كان مقوما للموضوع عقلا كان انتفاؤه ملازما لانتفاء الموضوع فلا مفهوم (٢).

ولكن صاحب الكفاية رحمه‌الله خالف الشيخ وذهب إلى ثبوت المفهوم للآية في حد نفسه ، وذلك باعتبار انه فرض موضوع الحكم هو النبأ وفرض الشرط هو جهة إضافته للفاسق ، ومن الواضح ان الشرط على هذا لا يكون مقوما للموضوع ، إذ النبأ كما يضاف إلى الفاسق يضاف إلى غيره ، ثم ذكر قدس‌سره انه لو كان الموضوع هو طبيعي النبأ وكان الشرط مجيء الفاسق بنحو يكون المجيء دخيلا في الشرط لم يكن للقضية مفهوم ، أو كان مفهوما بنحو السالبة بانتفاء الموضوع (٣).

وتحقيق الكلام ان يقال : ان المحتملات الثبوتية في الآية الكريمة ثلاثة :

الأول : ان يكون الموضوع هو خبر الفاسق.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية : ٢٠٤.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٧٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٨

الثاني : ان يكون الموضوع هو طبيعي الخبر والنبأ ، والشرط مجيء الفاسق به ، بحيث يكون كل من المجيء به وإضافته إلى الفاسق دخيلا في الشرط.

الثالث : ان يكون الموضوع طبيعي النبأ ، والشرط جهة إضافته إلى الفاسق.

فان كان الموضوع نبأ الفاسق ، فلا مفهوم للشرط أي شيء كان هو الشرط ، إذ كل شرط يفرض يكون مسوقا لبيان تحقق الموضوع ، ومما يتقوم به الموضوع عقلا. وهذا واضح لا غبار عليه.

وان كان الموضوع ذات النبأ والشرط جهة إضافته إلى الفاسق ، فقد عرفت ان القضية تكون ذات مفهوم لعدم كون الشرط من مقومات الموضوع. وفي هذا كلام سيتضح بعد حين.

وان كان الموضوع ذات النبأ وكان الشرط مجيء الفاسق به ، فهو محل الكلام والنقض والإبرام.

وقد عرفت ان صاحب الكفاية ذهب إلى إنكار المفهوم على هذا التقدير ولم يبين السّر فيه.

ولعل الوجه في ذلك : هو أن النبأ والإنباء متحدان ولا فرق بينهما الا نظير الفرق بين الإيجاد والوجود.

ومن الواضح ان المجيء بالنبإ عبارة أخرى عن الإنباء والإخبار.

وعليه ، فالمجيء بالنبإ ليس شيئا مغايرا في الواقع للنبإ ، فيكون الشرط من مقومات الموضوع ، وقد عرفت عدم المفهوم في مثل هذه الشروط.

وقد وافق المحقق الأصفهاني صاحب الكفاية وقرب عدم المفهوم : بان مجيء الفاسق به من مقومات الموضوع ، وذلك فانه وان أمكن تحقق النبإ بمجيء العادل به إلاّ انه عند تحققه بأي منهما يكون مقوما للموضوع ، وذلك لأنه لا يمكن فرض وجود الموضوع مع انتفاء مجيء الفاسق وبديله ، بخلاف مثل : « ان جاءك

٢٥٩

زيد فأكرمه » ، فان زيدا يمكن فرض وجوده مع انتفاء مجيئه وما يمكن ان يكون بديلا له من درسه وسنّه وغير ذلك ، فان المجيء ونحوه ليس من مقومات الموضوع ، بل هو عوارضه الطارئة عليه ، وليس كذلك مجيء الفاسق بالنبإ أو مجيء العادل ، فانه من مقومات وجوده (١).

أقول : هذان البيانان اللذان يرتكزان على فرض كون مجيء الفاسق بالنبإ من مقومات الموضوع ، لا ينفعان في نفي المفهوم ، وذلك إذ لم يرد في آية أو رواية ان الشرط المقوم للموضوع لا مفهوم له كي يتمسك بإطلاقه ، وانما عرفت ملاكه وهو عدم بقاء الموضوع مع انتفاء الشرط ، وإذا فرض ان ملاك عدم المفهوم في موارد الشرط المقوم للموضوع هو هذه الجهة فهي غير متحققة فيما نحن فيه ، إذ انتفاء مجيء الفاسق لا يلازم انتفاء الموضوع وهو ذات النبأ لتحققها في ضمن خبر العادل. فلاحظ.

ولكننا وان لم نتفق مع المحققين المزبورين في هذا البيان ، الا اننا نتفق معهما في أصل المدعى وهو عدم المفهوم على هذا التقدير. وذلك لوجهين :

الوجه الأول : ان ما هو عمدة الملاك في ثبوت أصل المفهوم للشرط على تقدير تسليمه لا يتأتى في المقام. بيان ذلك : ان عمدة الملاك هو التمسك بإطلاق الشرط بلحاظ تأثيره في الجزاء بقول مطلق سواء قارنه أو سبقه شيء آخر أو لا. وهذا كما قيل يلازم العلية المنحصرة ، إذ لو كان غيره شرطا كان التأثير له لو سبقه ولهما أو للجامع بينهما لو قارنه. وهذا ما ينفيه الإطلاق.

ولا يخفى ان هذا المعنى انما يتم لو فرض ان تأثير غير الشرط المذكور في الكلام في تحقق الجزاء ينافي تأثير الشرط المذكور فيه بقول مطلق ، اما لو فرض عدم منافاته لذلك ، بل كان تأثير غيره في الجزاء لا ينافي تأثيره فيه ولو

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٧٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٠